في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينات، لم يكن من الصعب على شخص لا يمتلك درجة أكاديمية، رجلاً أم امرأة، أن يجد عملاً ويحمي عائلته من الجوع. على مدى العقود الأربعة الماضية، تضاعفت فروقات الدخل بين شريحتين اجتماعيتين: خريجي المدارس الثانوية ممن لم يتمكنوا من دخول الجامعة والحصول على درجة أكاديمية (حملة البكالوريا بلغة التعليم السورية)، وخريجو الجامعات وأصحاب الشهادات الأكاديمية. يسمي الاقتصاديون هذه الظاهرة بـ«مكافأة الجامعة». في أميركا عام 1979، كان خريجو الجامعات يقبضون أكثر بـ40 بالمئة من جماعة «البكالوريا»، وفي عام 2000 ارتفع الفارق إلى 80 بالمئة.كل الأرقام الواردة في النص مأخوذة من كتاب وفيات اليأس ومستقبل الرأسمالية لكل من آن كيس وأنغوس ديتن، والصادر حديثاً عام 2020، ص51 وكذلك كتاب الأميركيون المنسيون: أجندة اقتصادية لأمة مقسمة للكاتبة إيزابل سوهيل، والمنشور عام 2018، ص60. ولأمانة القول، لم أقرأ شخصياً كل الكتابين، ولكن اطلعت على ما يلزم لاستخلاص بعض المعلومات والأرقام.
وعلى الرغم من أن العولمة الاقتصادية فتحت أبواباً واسعة لحملة الشهادات الأكاديمية من أجل الارتقاء الاقتصادي، إلا أنها أضرت كثيراً بالعمال العاديين خريجي التعليم الثانوي. من عام 1979 حتى عام 2016، انخفض عدد الوظائف في قطاع التصنيع في أميركا من 19.5 مليون إلى 12 مليون، مع العلم أن خريجي التعليم الثانوي يشغلون هذه الوظائف بالعادة. ورغم ازدياد الإنتاجية بالمعنى الكمي، إلا أن حصة «العمال على الأرض» كان تقل أكثر وأكثر، في حين تضاعفت حصص المسؤولين التنفيذيين والمساهمين الأفراد. في عام 1979 كانت حصة المدير التنفيذي تفوق بـ30 مرة حصة العامل على خط الإنتاج في شركته. في عام 2014 صار الرقم مضحكاً: 300 مرة. وبالإمكان معرفة مدى عمق المشكلة في أي نظام اقتصادي-اجتماعي من خلال استخدام «مؤشر الازدهار» المعروف في فلسفات الاقتصاد السياسي. مؤشر الازدهار هو مقارنة متوسط دخل الفرد العادي، مع الرقم الذي سينتج عن تقسيم الدخل القومي الإجمالي على عدد السكان. في أميركا مثلاً، بقي متوسط دخل الفرد العادي ثابتاً لمدى نصف قرن، رغم أن الدخل القومي الإجمالي ارتفع بنسبة 85 بالمئة.
طبقة عاملة مستاءة
هذه الأرقام التي تكشف فوارق الدخل والصعوبات الاقتصادية ليست المشاكل الوحيدة التي ولدتها العولمة الاقتصادية. فقد أدى شيوع ثقافة «الجدارة» إلى مشكلة أكثر ألماً وخطورة، وهي تقويض كرامة العمل بالمعنى المعنوي للكلمة. فمن خلال التركيز على «التميُز الفردي» و«القدرات العقلية» في امتحانات القبول إلى الجامعات، تم إقصاء والحط من شأن من لا يحصِلون علامات متقدمة في هذه الاختبارات. صار هؤلاء الناس يشعرون بأن عملهم أقل قيمة في السوق من عمل حملة الشهادات الأكاديمية، خصوصاً أن وظائفهم صارت منبوذة ولا تحظى بنفس السعي الفردي والتقدير الاجتماعي. ولد هذا الشعور إحساساً بضعف المساهمة في الصالح العام. الفارق بين حملة الشهادات الثانوية وخريجي الجامعات ليس فقط فارقاً اقتصادياً فقط، بل صار اجتماعياً أيضاً.
الفارق الاجتماعي تشكل نتيجة الافتراض الكارثي بأن القيمة السوقية للوظيفة هي مقياس المساهمة في الصالح العالم. والافتراض خاطئ جملة وتفصيلاً. فكري مثلاً في تاجر الآثار ذي الأجر الجيد، ومعلم الرياضيات في المدرسة الثانوية ذي الدخل المتواضع. فكرة أن الأموال التي نجنيها شهرياً تعكس مساهمتنا الفردية في الصالح العام تكرست بعمق في العقود القليلة الماضية، وصار صداها يتردد في كل أنحاء الثقافة العامة. النسخة النيوليبرالية من العولمة تم تبنيها فعلياً من قبل أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط في أوروبا والولايات المتحدة منذ ثمانينات القرن الماضي، والنتيجة نراها: تقويض لكرامة العمل وازدياد السخط والاستياء ضد النخب السياسية والثقافة السائدة.
منذ عام 2016، كُتبَت الكثير من الأبحاث والدراسات التي حاولت فهم ظاهرة الشعبوية. لعل أفكار الكاتب الألماني إكسيل هونيثيعتمد هذا النص بشكل أساس أفكار الفيلسوف إكسيل هونيث، وكتابه المشهور الاعتراف: تاريخ فكرة أوروبية الصادر عام 2018. يُعتبَر هونيث من ممثلي الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت، والتي كان من مؤسسيها في الجيل الأول أدورنو وهوركهايمر، وكذلك تلميذاً مباشراً لممثل الجيل الثاني الأبرز هابرماس. حول فلسفة الاعتراف (anerkennung) تساعد على بناء مقاربة جديدة. فعلياً، كان السؤال الشاغل يدور حول إذا ما كانت الشعبوية رد فعل على فقدان الوظائف والأجور المنخفضة، أم ظاهرة ثقافية و«انحرافات أيديولوجية» في الرؤوس. هذا السؤال خاطئ لأنه يختصر ظاهرة معقدة مثل العمل البشري بالأجر المحقَق أو الراتب الشهري. العمل البشري ليس فقط شأناً اقتصادياً، بل «ممارسة ثقافية». صحيح أن العمل هو طريقة لكسب العيش، لكنه أيضاً مصدر لنيل اعتراف الآخر والتقدير الاجتماعي، ومن هنا زاد الغضب والاستياء في أوساط الطبقة العاملة البيضاء في أوروبا وأميركا. كان العمال يكافحون من أجل البقاء، في حين يحصل الآخرون ذوو البدلات الرسمية وحواسيب آپل على كل شيء. أضيفي أن عملهم لم يعد يحظى بأي احترام اجتماعي، لأنه لم يعد يقدم أي مساهمة في الصالح العام، في عيون المجتمع، وربما في عيونهم أيضاً.
في أميركا، غالبية رجال الطبقة العاملة البيضاء بدون شهادة جامعية صوتوا لترامب. انجذابهم هو ليس إلى يمينية ترامب فقط، فالحزب الجمهوري محافظ من يوم يومه. الانجذاب هو لشخصيته الاستثنائية الخارجة عن تقاليد الطبقة السياسية السائدة. وهذا يدل أن المشكلة ليست اقتصادية ولها علاقة بالأجور فقط، بل هي مشكلة معنوية مع الاعتراف، وعلى تناقُض مع مفهوم الصالح العام نفسه. في عام 1971 كان فقط 93 بالمئة من رجال الطبقة العاملة البيضاء في أميركا يعملون. في عام 2018 صارت النسبة 80 بالمئة. لقد خرج الـ20 بالمئة العاطلون من سوق العمل تماماً واستسلموا ببساطة. صار ترك العمل شائعاً جداً عند من لا يمتلكون شهادات جامعية. من بين الأميركيين الذين كان أعلى مؤهل أكاديمي لهم هي درجة الثانوية، فقط 68 بالمئة كانوا يمتلكون وظيفة في عام 2017.
اعتقد المحافظون في أميركا بأن كرامة العمل ستستعاد من خلال تخفيف دور الدولة الاجتماعي، لأن قطع الدعم الاجتماعي سيجعل الحياة أصعب على العاطلين عن العمل، وسيُجبرهم على العمل واختبار «إحساس الراتب». وزير الزراعة في عهد ترامب قالها علناً: «الحد من قسائم الطعام من شأنه أن يعيد كرامة العمل إلى جزء كبير من السكان». المحافظون مقتنعون أن كرامة العمل تعني الراتب الشهري. ترامب بذات نفسه تحدث عن كرامة العمل حين أقر قانوناً من أجل تخفيض الضرائب على الشركات في عام 2017، حيث صرح: «على كل أميركي أن يتذوق كرامة العمل… فخر الراتب».
في الطرف المقابل، سعى الليبراليون إلى تحقيق كرامة العمل من خلال عدة نقاط، كتقوية شبكان الأمان الاجتماعي وزيادة القوة الشرائية للفرد، ورفع الحد الأدنى للأجور، وحل كارثة التأمين الصحي، وسن قوانين لإجازة الوالدين (الأبوة والأمومة)، وتخصيص دعم حكومي لنفقات الأطفال، وحققوا فعلاً تقدماً في هذا المجال. لكن سياسة الليبراليين فشلت في تحقيق أهدافها، لأن كل هذه المقترحات السياسية الجوهرية لم تتمكن من تخفيف استياء الطبقة العاملة البيضاء. في عام 2016 وجدت الكثير من النخب السياسية الليبرالية الأمر محيراً: كيف يقوم عدد كبير من الأشخاص، كانوا سيستفيدون حتماً من الإصلاحات الاقتصادية، بالتصويت لمرشح كان ضدهم.
الإجابة المعروفة هو أن ناخبي الطبقة العاملة صوتوا لترامب بـ«إصبع الوسط». أزعم بأن هذه الاستجابة متسرعة، وترسم خطاً حاداً للغاية بين المصالح الاقتصادية والوضع الثقافي للفرد. كرامة العمل لا تقتصر فقط بالأموال الموجودة في جيبك، وإنما بالاعتراف بالاجتماعي بـ«نوعية» عملك. المهم ليس فقط موقعك في الخريطة الاقتصادية، وإنما الدور الذي تلعبه في البناء الاقتصادي. بعد أربعة عقود من العولمة، صارت الطبقة البيضاء العاملة الأميركية والأوروبية (وخصوصاً في القسم الشرقي تاريخياً من ألمانيا) تعاني ليس فقط من تزايد اللامساواة وركود الأجور، بل صاروا يخافون أن يتم نسيانهم. المجتمع الذي يعيشون فيه لم يعد يعترف بالمهارات التي يستطيعون تقديمها.
المساواة أمام وخلف الاقتصاد
أثناء بحثي لكتابة هذا النص، وجدت أن المسؤول الأميركي الوحيد الذي أدرك هذه الإشكالية هو روبرت ف. كينيدي روبرت كينيدي هو الأخ الأصغر للرئيس الأميركي جون كينيدي، ويعتبر رمزاً من رموز الليبرالية الأميركية الحديثة. كان مرشحاً للحزب الديمقراطي إلى الرئاسة، وامتلك شعبية ضخمة في أوساط السود والفقراء والشباب. وقد اغتيل في 5 حزيران (يونيو) من عام 1968. أثناء ترشحه للرئاسة في عام 1968. ففي تصريحات صحافية له في لوس أنجلس، قال كينيدي أن البطالة «مؤلمة للغاية»، ليس لأن فقط لأن العاطلين عن العمل يفتقرون إلى الدخل، بل لأنهم يفقدون إحساسَيْ الاعتراف والمساهمة في الصالح العام. وفي مقابلة صحافية معه، قال: «البطالة تعني أنه ليس لديك ما تفعله، مما يعني أنه لا علاقة لك بالآخرين. أن تكون بلا عمل هو أن تكون بلا فائدة لمواطنيك. وهذا يعني أنك ’لامرئي‘ كما كتب رالف إيلسون».اللامرئي رواية معروفة للكاتب الأميركي الأسود رالف إيلسون، الذي ترك تأثيراً في الحركة الأدبية الأميركية بالقرن العشرين.
ما لاحظه كينيدي هو بالضبط ما لم يلتقطه الليبراليون في عصرنا. صحيح أن الليبراليين قدموا للطبقة الوسطى والعاملة مستوى أعلى من العدالة التوزيعية، وحققوا وصولاً أكثر إنصافاً إلى ثمار النمو الاقتصادي، وهذا أمر لا شك فيه، وخصوصاً في أوروبا الغربية وجناحها الإسكندنافي. ولكن الفشل هو في تحقيق المساواة في المساهمة ببناء الاقتصاد؛ المساواة ليست فقط «أمام» الاقتصاد لحظة التوزيع، بل «خلف» الاقتصاد لحظة الإنتاج؛ المساواة ليس فقط لحظة قطف الثمار، بل أثناء كل عملية الزراعة. غياب الاعتراف بـ«نوعية» العمل البشري يشير إليها كارل ماركس بشكل واضح في رأس المال أثناء تحليله لظاهرة الاغتراب. فحين يستمر العامل، جنباً إلى جنب مع الآخرين، في إنتاج ما يحتاجه الآخرون ويقدرونه، فإن عمله يكتسب الاحترام الاجتماعي.
من كوارث أحزاب يسار الوسط في أوروبا وأميركا هو التهاون مع السياسات الاقتصادية التي لا تهدف إلا لرفع الناتج المحلي الإجمالي. القناعة كانت بأن رفع الناتج الإجمالي سيؤدي لرفع مستوى الازدهار العام في البلاد، وسينعكس فوراً على دخل الأفراد. لتحقيق هذا الهدف، حصل انفلات في اتفاقيات التجارة الحرة، وبدأت هجرة الشركات من داخل الدول الغربية الصناعية إلى خارجها (خصوصاً إلى آسيا) من أجل الاستعانة بقوى عاملة منخفضة الأجر. وبذات الوقت، كانت الخطة أن تُصاغ سياسات ضرائب على الأرباح المتزايدة لهذه الشركات متعددة الجنسيات، والمستفيدة بشكل أساسي من العولمة؛ سياسات كانت ستوفر المزيد من الأموال لتعزيز شبكات التضامن الاجتماعي وتعوّض العمال المسرَّحين عن وظائفهم بدفع تكاليف إعادة تدريبهم. بمعنى آخر، السماح للعولمة الاقتصادية والنمو الاقتصادي الذي تخلقه، بشرط اقتطاع جزء من أرباح النمو لتعويض خسائر العمال المحليين. الخطة كانت ببساطة بأن الفائزين يجب أن يعوّضوا الخاسرين.
نظرة إعادة سريعة إلى الأرقام المذكورة في بداية النص تُظهر بأن هذه السياسة فشلت بشكل ذريع. وسبب الفشل بسيط: العولمة حققت فعلاً نمواً اقتصادياً هائلاً، ولكن الفائزين لم يعوّضوا الخاسرين. العولمة النيوليبرالية فاقمت من اللامساواة بين البشر بسرعة ضوئية، وتكدست الأرباح بيد من هم في القمة. بيرني ساندرز كتب على تويتر أن ثروة كل من إيلون ماسك رئيس شركة تسلا، وجيف بيزوس رئيس شركة أمازون، تعادل ثروة 40 بالمئة من الشعب الأميركي. لقد فَشِلَ المشروع بسبب النظرة البسيطة إلى المال وافتراض حياديته السياسية. المال ليس فقط قيمة تبادلية يتوسط عمليات التبادل بين السلع. المال «المتحجر» تنشأ فيه شهوة التنمية، إذ سيصبح «المال لأجل ذاته» (geld für sich selbst). «المال لأجل ذاته» يشكل حتماً طاقة سياسية، كما يفترض ماركس. «أوليغارشيا المال» تستطيع أن تختطف المؤسسات الديمقراطية مثل الأوليغارشيا العسكرية.
ثمة مشكلة إضافية في سياسة التركيز على زيادة الناتج المحلي الإجمالي، لأن الحديث يكون دوماً على الاستهلاك لا الإنتاج. سيكون مطلوباً دوماً أن نرى أنفسنا كمستهلكين لا كمنتجين. ولكن في الممارسة العملية، الإنسان لا يقبل أن يكون مستهلكاً فقط. كمستهلك، يريد المرء الحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال لشراء السلع والخدمات بأرخص سعر ممكن، وكمنتج، يقوم الإنسان بعمل مُرضٍ يحتاجه الآخرون لينال جزاءه من الاعتراف الاجتماعي. في الاستهلاك: تعترفين بالآخرين، وفي الإنتاج: يُعترَف بكِ. خلْق التوفيق في هوية البشر بين الاستهلاك والإنتاج هي مهمة سياسية، بحسب أكسيل هونيث. مشروع العولمة عظّم فعلاً من رفاهية المستهلك، لكنه لم يُبدِ أي اهتمام بتقوية النزعة الإنتاجية واحترامها.
التناقض بين الاستهلاك والإنتاج
لشرح التناقض بين الهويتين الاستهلاكية والإنتاجية، يجب التمييز بين توجهين فلسفيين مختلفين: آدم سميث وجون ماينراد كينيسكينيس هو عالم رياضيات واقتصادي إنكليزي، وضع نظريات حول الاقتصاد الكلي، وحاول المشاركة في صياغة المؤسسات الدولية الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها رُفِضَت من قبل الوفد الأميركي. من جهة، وهيغل وأكسيل هونيث من جهة أخرى. المدرستان تعرّفان الصالح العام بأسلوبين مختلفين جذرياً.
آدم سميث يعرّف الصالح العام كمجموعة من الخيارات والمصالح لجميع الأفراد. وحده النمو الاقتصادي وزيادة الناتج الإجمالي قادران على تحقيق الصالح العام، وذلك من خلال زيادة مروحة الخيارات أمام المستهلك. في هذه الحالة، الطريقة الوحيدة للمساهمة في الصالح العام هي عن طريق تلبية حاجات المستهلك. حاجة المستهلك لها الأولوية على العمل البشري بذاته، والأجر السوقي للعمل هو مقياس المساهمة في الصالح العام. من هذا المنظور، من يجنون أكبر كمية من المال من خلال تلبية رغبات المستهلكين، هم أصحاب المساهمة الأكثر قيمة في الصالح العام. الغاية الأساسية والأولى للاقتصاد السياسي هنا هي الاستهلاك. سميث يعلنها: «الهدف والغرض من كل إنتاج هو الاستهلاك». ويضع مصلحة المستهلك أمام مصلحة المنتج بالقول: «تُؤخذ مصالح المنتج بعين الاعتبار، إذا ما كانت تعزز مصالح المستهلك».انظري الفصل الثامن من الكتاب الخامس من ثروة الأمم.
أكسيل هونيث يرفض تعريف الصالح العام اعتماداً على الاستهلاك. دورنا الأهم في الاقتصاد هو كـ«عمال منتجين لا كمستهلكين سلبيين». كلمة «العمال» هنا تشير إلى العمل البشري كظاهرة معقدة. العمل البشري بحسب ماركس هو الأيض – الاستقلاب (wechselstoff) بين الروح البشرية ومادة الطبيعة. العمل البشري «يصل روحنا بالمادة» ويحولها من حالة إلى حالة. وعن طريقه نطور مهاراتنا ونقدم خدمات وسلعاً للآخرين، ونحصل مقابل ذلك على الاعتراف الاجتماعي. الصالح العام عند هونيث ليس سوقاً وفضاءً لممارسة النشاطية الاقتصادية وتلبية رغبات المستهلكين فقط، بل هو عقد اجتماعي قائم على «فضائل» أخلاقية أولاً. العقد الاجتماعي هو من يحدد السوق، وليس العكس. ما يقرر إذا ما كان العمل البشري يقدم مساهمة في الصالح العام أم لا ليس الأجر السوقي له، بل موقعه الأخلاقي المحدد عن طريق العقد الاجتماعي. مرة أخرى: الأجور والرواتب، كما هو معروف في علم الاقتصاد السياسي، خاضعة فقط لفوضى العرض والطلب الاعتباطية، ولا يمكن أن تكون مقياساً للمساهمة في الصالح العام. المساهمة في الصالح العام هو حكم أخلاقي، ولا يمكن أن يكون نشاطاً اقتصادياً فقط، لأن السوق دوماً حيادي أخلاقياً.
يشرح هونيث تعقيد فكرة هيغل المذكورة في كتابه أصول فلسفة الحق.انظري نقد فلسفة الحق، لمقاطع: 199ff، 207، 235-256. المجتمع ليس سوقاً مهمته إشباع حاجات المستهلك، بل نظام يجب أن يؤمن الاعتراف أولاً. هيغل الذي عاش بدايات ظهور النظام الرأسمالي، اقترح مؤسسات أخلاقية مستقلة لها مهمة دقيقة: ضمان نيل العمل البشري للاعتراف، لأن غياب الاعتراف يولّد الاغتراب. وهذا بالضبط دور المجتمع المدني. في فلسفة هيغل، العمل البشري ليس مجرد حركة اقتصادية أو «وسيلة لتحقيق غاية»، بل هو نشاط للتكامل الاجتماعي وساحة للاعتراف.
كل المقترحات السياسية حول معالجة اللامساواة من خلال زيادة القوة الشرائية لأسر الطبقة العاملة والمتوسطة لم تخفف من حدة الغضب والاستياء حتى الآن. مثير فعلاً للتساؤل أن يكون شخص مثل بيرني ساندرز مكروهاً في بيئات ربما هو الأقرب لمصالحهم. لا يمكن إنكار القوة الشرائية للفرد على مزاجه وتوجهاته طبعاً، ولكن استياء العمال قادم بالدرجة الأولى من التهاب هويتهم الإنتاجية. المشكلة ليست إذاً اقتصادية، بل تتعلق بفقدان الاعتراف العام والتقدير الاجتماعي. لقد تفاقمت هذه الظاهرة تاريخياً إثر الجمع بين العولمة الاقتصادية وثقافة الجدارة في ظل السوق. المشروع السياسي الوحيد القادر على معالجة هذا السخط هو الذي يسعى إلى استعادة كرامة العمل من خلال دعم الهوية الإنتاجية للأفراد، لأن الأزمة الحالية هي أزمة اعتراف في جزء كبير منها.
في خطاب له أمام جامعي القمامة بولاية تينسيتي، ربط مارتن لوثر كينغ كرامة العمال بمساهمتهم في الفضاء العام، قائلاً: «إذا كان مجتمعنا يريد أن يبقى على قيد الحياة، فيجب أن يحترم جامعي القمامة. الشخص الذي يجمع القمامة لا يقل أهمية عن الطبيب، لأنه إذا لم يفعل فسينتشر المرض ويموت الجميع… كل عمل له كرامة».