كنت محتاجة إلى كتابة هذه السطور ولكن بكل الصراحة، لا أعرف ماذا أقول. بدأ ارتباطي باللغات منذ الصغر، فبذل والداي جهداً مالياً بالغاً لتسجيلي في مدرسة يدرَّس بعض المواد فيها في اللغة الإنكليزية، غير أن هذه المادة لا تهدف إلى الحديث عن اللغات وتعلمها، بل حول دور اللغة والترجمة في عملية التكوّن الذاتي فيما يتعلق بالعملية الثورية في سوريا.
منذ عدة أسابيع، وبعد فترة استغرقت عشر سنين أو ربما كم شهر أقل، توقفت عن النشر في مدونة رافقتني خلال كل هذا الوقت، ولها الفضل في تكوين ذلك الشخص الذي أصبحته اليوم. ولكن ليس هذا النص محاولة للمديح الذاتي أو لإبراز نشاط شخص معين، بل وراء هذه المادة السعي إلى فهم ما حدث عبر عقد مضى من الترجمة الملتزمة.
لست أدري لماذا بدأت الكتابة في هذا الصباح المبكر باللغة العربية، وقد لا يكون لذلك أي سبب غير أن علاقتي بسوريا بدأت خلال دراستي لهذه اللغة. من الساذج جداً أن يظن الفرد أن العلاقات التي نقيمها خلال حياتنا لا تؤثر على شخصيتنا التي ربما ظنناها مكتملة بعد سن البلوغ، ومن غير المنصف ألا نعترف بتلك التجارب التي تغيّرنا وتحوّلنا إلى أشخاص لن نقول آخرين ولكن بكل تأكيد مختلفين. وها أنا أحاول بقدر لا بأس به من السذاجة والإنصاف أن أكتب عن قصتي مع سوريا والثورة واللغة والترجمة.

من أين أبدأ؟ قد يكون من الأفضل أن نرجع إلى سنة 2005، حين بدأت دراساتي الجامعية في قسم اللغة العربية في الجامعة المستقلة في مدريد. لم يكن لدي أي ارتباط سابق بلغة الضاد، فكان جوابي على سؤال لماذا اخترتِ اللغة العربية صعباً جداً. وفي الحقيقة السبب الوحيد وراء قراري ذلك هو أنني تصفحت برامج الدراسة في كلية الآداب واللسانيات، فكنت متأكدة من أن أفضل خيار لي هو التعمق في لغة ما، ووجدت أن ما عُرف بفقه اللغة العربية أوسع من الدراسات اللغوية البحتة، بل فيها مواد مختلفة تتطرق إلى تاريخ المنطقة وعلم الاجتماع وما إلى ذلك، ما قد يعطيني فكرة أكثر تكاملاً عن العالم الناطق باللغة العربية. خرجت من غرفتي وقلت لأمي: ماما، سأدرس فقه اللغة العربية. نظرتْ إليّ باستغراب وقالت: طيب، إن كان ذلك ما تريدينه، فليكن. كانت عندي منحة دراسية للسنة الأولى تتكلف برسوم التسجيل، فتَخميني أن أمي لم تعارض الفكرة لأن تكلفة تَركي المحتمل لتلك الدراسات رخيصة جداً. وعلى رغم مفاجأة القرار، بعد السنة الأولى اكتشفت أنني قد وقعت في حب هذه اللغة. ربما يعتبر القارئ هذا الاعتراف نوعاً من الاستشراق الذي طالما حاولت مواجهته كلما لاحظته في كتابات الآخرين، وإن كان لا بد من الإقرار بأن لا أحد بريء منه، ولكن ما أقوله صحيح مئة بالمئة، وأقمت علاقة عاطفية بهذه اللغة لم أقمها بأي لغة أخرى درستها سابقاً.
ومثل غياب أي ارتباط سابق باللغة، لم تكن لدي علاقة سابقة بالدول العربية. كان من العادي نسبياً أن يزور الإسبان في تلك الفترة ثلاث دول عربية، وهي مصر وتونس والمغرب، إلا أنني لم أكن بين هؤلاء المحظوظين قبل بداية دراساتي. ولا بد أن نتقدم حتى سنة 2009، بعد تخرجي من الجامعة، لنشهد أول مرة وضعت قدميّ على أرض سوريا فيها. لقد قررت السفر والإقامة هناك لفترة سنة للاستمرار بتعلم اللغة، وهذا ما فعلته من خلال الالتحاق بالمعهد الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق. قد يتسأل المرء لماذا اخترت معهداً فرنسياً كوني إسبانية تريد أن تتقن العربية؟ والجواب هنا أسهل بكثير: كان هناك برنامج لغة عربية لكل من يريد أن يستخدمها كلغة بحث، وكان هدفي آنذاك القيام بدراسات الدكتوراه. ولماذا سوريا؟ لست فخورة بجوابي اليوم، ولكن بكل بساطة، لأنني، بعد مقارنة براغماتية، رأيتها المكان الأنسب لدراسة اللغة وتطبيقها في حياتي اليومية. كانت سوريا، باستثناء رحلة قصيرة لم تتجاوز مدة ثلاثة أيام إلى المغرب سنة 2008، أول دولة عربية أزورها وأستقر بها. ولنكن صريحين، لم أعرف الكثير عنها وكذلك لم يعرف معظم أصدقائي ومعارفي شيئاً عنها. أتذكر ردة فعل إحدى رفيقاتي لما أخبرتها بأنني سأسافر إلى سوريا وأقيم هناك لسنة دراسية كاملة: دعيني أبحث عنها في الخريطة. ويا للسخرية لما صرخت بتوتر عبر التلفون: سوريا؟ هي بين فلسطين والعراق والقصف شبه يومي هناك! ضحكت وقلت لها جملة لطالما كررتها: لا تقلقي، فسوريا آمنة جداً ولن يحدث شيء.

لن يحدث شيء. ما زالت تلك العبارة تطاردني حتى اليوم…
لن أطيل الحديث عن تلك السنة في سوريا، فيكفي أن نقول إنها مرت دون أي حدث يُذكَر في حين كان كل شيء قد تغير، وصرت أسمي ذلك البلد وطني الثاني، ليس طبعاً بفضل ذلك الأمن الذي استفدت به تبريراً لسفري أمام عائلتي وأصدقائي غير المقتنعين بما كانوا يصفونه بالمغامرة، ولكن بفضل كل هؤلاء الناس الذين تعرفت عليهم هناك. وأريد هنا أن أذكر الأستاذ حسان عباس الذي تركنا هذه السنة والذي كان عضواً في كوادر التدريس في المعهد. من حسن حظي، استفدت من دروسه الجماعية والفردية، وخلالها تحدّثنا كثيراً عن الأدب المعارض للنظام وقرأنا عدد لا بأس بها من الروايات والمسرحيات، وأوضح لي كيفية بناء العلاقات بين الكلمات، مما جعلني أتعمق أكثر في معاني المفردات. وبالإضافة إلى ذلك، حان وقت الاعتراف بأنه من قادني، بعد ذكره لها خلال أحد دروسنا الفردية، إلى مكتبة يمكن فيها الحصول على رواية القوقعة لمصطفى خليفة التي سأترجمها لاحقاً إلى الإسبانية سنة 2017 مع الأستاذ إغناثيو غوتيريث دي تيران. كانت هذه العملية من أصعب الأمور التي واجهتها في علاقتي باللغة العربية، وأعتقد أن لا حاجة لشرح ذلك. وما زاد من صعوبته هو أنه كان أمراً ضرورياً لنقل جزء صغير من الرعب الذي استولى على سوريا خلال حكم حافظ الأسد إلى لغات أخرى، لعله يساعد على إظهار الصورة الحقيقية للطغمة الحاكمة في سوريا. كان من واجبنا التأكد من دقة المفردات التي استخدمناها كي نكون وفيين للنص الأصلي الفظيع المضمون. تعلمت خلال الترجمة مئة كلمة للمعاناة والألم والتعذيب تمنيت لو لم تُخترع أصلاً. ولكن عدة سنوات قبل بداية الترجمة، كان خوفي هو أن تعرف المخابرات أن لديّ نسخة عن الرواية، ما جعلني أخبئها في حقيبتي داخل الخزانة في بيتي الدمشقي وأستبعد فكرة قراءتها حتى رجوعي إلى إسبانيا. أعرف أن الحديث عن هذا الخوف من موقعي كأجنبية سخيف وساذج، ولكن كان النظام قد نجح في إقناعي بأن الحيطان لديها ليس فقط آذان وإنما عيون أيضاً.
وبالعودة إلى الأستاذ عباس، كما كنت أناديه، ذلك المواطن النبيل، كانت وفاته ما كسّر روحي نهائياً وأخرج كل الحزن المتراكم في داخلي خلال عشر سنين من الثورة. لماذا؟ لا جواب عندي ولكن ربما لأن غيابه قطع إلى حد ما الحبل السري الذي كان يربطني بأمل أن تصبح الأمور على ما يرام. قد يبدو هذا سطحياً ومبالغاً فيه، إذا أخذنا بعين الاعتبار كل ما حدث خلال هذا العقد، ولكن كان الأستاذ عباس أول شخص تعرفت عليه خلال إقامتي في سوريا واستمر تواصلنا بعد مغادرتي لها، ولو بشكل متقطع، قد فارق الحياة لسبب غير متعلق بالثورة وعواقبها المترتبة، وإن توفى خارج وطنه. إحساسي بالفقدان هذا جعلني أتأمل بعمق في تطورات العقد المنصرم، ونقاشاتها وأحداثها، وبطريقة غير مباشرة إلى كتابة هذه المادة الناقصة الترتيب.
لما انطلقت الثورة السورية في منتصف شهر مارس 2011، كان من المخطط أن أرجع في صيف تلك السنة إلى دمشق لأقوم بفترة تدريب في إطار برنامج الماجستير الذي كنت قد سجلت فيه بعد عودتي إلى مدريد، غير أن السفارة الإسبانية أغلقت أبوابها في مرحلة مبكرة، مما أدى إلى إلغاء رحلتي بالكامل. لن أنكر أنني ندمت أكثر من مرة على خوفي من السفر بدون ستر السفارة، ولست فخورة بالبوح بهذا الشعور الذي خبأته في داخلي منذ ذلك الوقت: كانت آخر فرصة لي لزيارة ذلك البلد الذي احتضنني خلال إقامتي قد مرّت بدون رجوع. ومن مدريد، تابعت الأحداث بمزيج من الحماس والأمل والخوف، فطبعاً خلال تلك السنة التي كانت مدينة دمشق قد أصبحت بيتي، تعلمت الكثير عن سوريا والمعاناة والعيش تحت قبض السلالة الأسدية، والمذلة وسنين الرعب التي مرت بها البلاد في عقود مضت، ويعود الفضل في ذلك إلى أكثر من شخص تحدثت معه هناك ووثق بي حتى يتكلم عن تلك الأشياء في مملكة الصمت.
وفي الحديث عن الصمت، بعد قيام الثورة، بات واضحاً أن حاجزاً قد رُفع بين العالم الناطق باللغة العربية والعالم الناطق بغيرها. كان السؤال الذي طرح نفسه باستمرار هو التالي: كيف يتم التواصل مع مجتمعات أجنبية كانت تتابع الثورات العربية عبر الإعلام دون فهم أصولها العميقة ومدى إرهاق الحشود من الذل والاستحمار؟ في الحالة السورية، جاء الجواب بشن حملة ترجمة مستعجلة وكثيفة قام بها مترجمون مجهولو الهوية في موقع المترجمين السوريين الأحرار. قام هؤلاء بترجمة نصوص عديدة، أكثرها بيانات وشهادات، إلى اللغة إنكليزية. وربما حدت مواقع أخرى حدوهم بلغات مختلفة، ففي مرحلة تاريخية لا سابقة لها أصبحت الترجمة سلاح كفاح جديد وصارت اللغة ذخيرتها، وفي هذا الإطار جاء دور عدة مستعربين ومستعربات، من بينهم من يتحدث إليكم عبر هذا النص.
قلنا في البداية إن هذا النص ليس عبارة عن سيرة ذاتية، ولكن كيف أفصل تجربة الترجمة في إطار الثورة وحياتي وتجاربي الشخصية؟ قبل أيام قليلة من قيام الثورة السورية في إطار ما سمي بالربيع العربي، كنت قد انضممت إلى صفوف هؤلاء المستعربين الذين أصروا على أن شيئاً لن يحدث في سوريا وذلك لسبب واضح وبسيط: كان الناس يعرفون أن النزول إلى الشوارع يعني الموت، وأن النظام الوحشي الذي كان قد سيطر على الدولة منذ أربعين سنة في ذلك الوقت لن يدخر جهداً في إجهاض أي محاولة لإسقاطه. فعدت إلى العبارة الأصلية: لن يحدث شيء في سوريا.

ولكن المستحيل حدث، وانفجرت ثورة عبّت الشوارع والساحات خلال زمن قياسي رغم بطش النظام الذي لم يبخل به منذ اللحظة الأولى. في ذلك الوقت، اقترح عليّ شخص إسباني كنت حينئذ في علاقة معه أن نقوم بترجمة فيديوهات ومقالات وشهادات وأي مادة توثيقية أخرى عما يحدث في سوريا، من أجل نقل صوت السوريين إلى الناطقين باللغة الإسبانية، لا غير. لم نكن مدركين آنذاك درجة الوساخة التي ستبلغه مقالات عدة نشرت في مواقع ذات طابع يساري في لغتنا الأم، هدفها الدفاع عن النظام وتكرار روايته المؤامرتية، وكم من هجوم سيُشن ضد موقعنا البسيط الذي ولد باسم «تراجم الثورة السورية».
كي لا نلف وندور كثيراً، لأسباب لا علاقة لها بموضوع هذه المادة، بعد شهرين تقريباً، انفردت في إدارة المدونة والقيام بالترجمات، حيث دخلت في عجلة سريعة جداً من الترجمات شبه اليومية والرد على التعليقات التي نشرها أولئك الذين اعتبروا أن السوريين قاصرون ولا يصح لهم الانتفاضة ضد نظام سلطوي ووحشي، وأن الحركة التي انطلقت من درعا (وإن كانت هناك محاولات خجولة في مدن أخرى مثل دمشق وحلقة «عيب يا شباب» الشهيرة) وأن كل ما نشر في الإعلام كان نتيجة مؤامرة دبرتها الولايات المتحدة وإسرائيل كممثلتين رئيسيتين لشر العالم. كنت أحاول مراراً فهم ذلك المنطق الذي يرفض أن يكون للسوريين الحق في الحق، وهي العبارة التي كررها ياسين الحاج صالح أكثر من مرة في المقابلات التي أجريت معه في زيارته إلى مدريد سنة 2018 بمناسبة نشر كتابه الثورة المستحيلة باللغة الإسبانية، بعد ترجمتي له، في محاولة جديدة لمواجهة الجبهة المدافعه عن طابع النظام الممانع بتحليل عميق لعدة جوانب من الثورة السورية وإصراره على أن أقوم أنا المترجمة وليس شخصاً آخر.
وفي الحقيقة، مثل في حالة كتاب الحاج صالح، كان اختيار المقالات والنصوص التي ترجمتُها يعتمد على نية واضحة وهي الرد على كل هؤلاء اللئام الذين أضروا بصورة الثورة السورية وبيّضوا صورة النظام الذي وصفوه بالممانع، وكانت ردات الفعل تأتي بسرعة كلما نشرتُ مادة جديدة أو كتاب جديد، وإن لم تكن رسائلهم والمعلومات التي احتوت عليها تمت للحقيقة بصلة. وبخصوص المدونة، كان المقصود زرع الشك والحيرة عند قراء قد لا يعرفون شيئاً عن سوريا من قبل. تجاوزت التعليقات حدود النقاش شبه الجدي كي تصل إلى مستوى المسبات ضد المترجمة، التي وصفت بالعميلة والمسيئة لشهرة الدولة السورية واستقرارها والمغرضة، وأخيراً وليس آخراً، الشرموطة. وأصفه بالنقاش شبه الجدي لأن هؤلاء الأشخاص الشجعان من وراء الشاشة لم ينتهزوا فرصة زيارة ياسين الحاج صالح إلى مدريد لمناقشة أفكارهم وروايتهم معه. أتذكر الدقائق القليلة قبل بداية التقديم عندما دار ياسين وجهه إليّ وسأل بسخرية: أين رفاقنا الممانعون؟
رغم إقتناعي بأن جهودنا لن تجد آذان صاغية، استمرت عملية الترجمة خلال مدة زمنية لم أتوقع أن تطول عشر سنين، وإن انخفضت وتيرة النشر بشكل ملحوظ بعد سنة 2014 عندما بدأت مسيرة الثورة تتعثر أمام بطش النظام وتجاهل العالم وتخاذل القوى التي تباهت بكونها صديقات الشعب السوري. خرج مصير سوريا من إطاره الوطني ولم يعد هناك أمل بإسقاط النظام بإرادة سوريا بحتة. ورغم ذلك أيضاً، استمررت في حركة الترجمة لِما اعتبرتُه أهمية نقل صوت كل من شاركوا في الثورة السورية وآمنوا بها.
وفي إطار تخاذل العالم، سنة 2013 استخدمت اللغة العربية مرة أخرى أداة في نشاطي المؤيد للثورة وذلك بُعيد الهجومات الكيميائية على الغوطة الشرقية، والتي وصفتها سميرة الخليل في يومياتها التي كان لديّ الشرف في ترجمتها إلى الإسبانية عام 2016، بهجومات أرحم من هجومات صواريخ الهاون لأنها أبقت أجساد الأولاد كاملة الأطراف (وهي إحدى الصور الموجودة في كتاباتها التي أحسستها أكثر دقة وألماً في الوقت نفسه). بعد رسم الإدارة الأمريكية خطوطها الحمراء التي لم تتردد في مسحها على حين غرة، شُنت حملة في عدة دول شعارها لا للحرب ضد الشعب، وكانت مجموعات يسارية في إسبانية مشاركة فيها وكانت قد نظمت وقفه في ساحة سول المدريدية القريبة من المكان الذي كنت أسكن فيه في تلك الفترة. خرجت من البيت وفي يدي اللافتة التالية باللغة العربية: لا لحرب الإبادة الأسدية ضد الشعب. وقفت في وسط الحشود المكون بنسبة علية جداً من الإسبان وأربعة أو خمسة أشخاص من السفارة السورية ومخبريها. كان إعجاب الإسبان باللافتة واضحاً، واقترب منى أكثر من شخص للسؤال عن أصولي. كذبت عليهم وقلت إنني من أصل سوري وإسباني، وكانوا فعلاً مهتمين بالحديث معي. كان عدد لا بأس به من الأسئلة سخيف جداً من نوع: مسكينة أنت، ما كان عليك لبس الحجاب من قبل، أليس كذلك؟ حاولت الجواب بطريقة ملتبسة لا تكشف عن موقفي، وبدأ الشك يظهر على بعض الوجوه، إلا أن رجال السفارة كانوا قد لاحظوا وجودي. بالصدفة ظهر شاب سوري كان في رحلة سياحية في إسبانيا، واقترب مني سائلاً هل أنا مع النظام مثل معظم الموجودين في الساحة أو ضده. قلت له الحقيقة، فأخرج من جيب شخص آخر علم الثورة وصرح بإسقاط النظام، مما أدى إلى مهاجمته من قبل مجموعة من الإسبان، من بينهم شاب طويل القامة نظر إلي وقد اكتشف الورطة، فجاء إلى جانبي ناصحاً بالمغادرة قبل أن تتدهور الأمور، وهذا ما فعلته. لم أفعل الكثير ولكن فعلتي ونشر القصة في مدونة باللغة الإسبانية للرفيق ياسين السويحة نجحا في إقناع صحفي قد شهد كل شيء في نشر القصة الكاملة ومقابلة ذلك الشاب. قلت أكثر من مرة بعد ذلك إن اللغة العربية على لافتتي حمتني خلال الوقت الكافي لإعلاء صوت ذلك الشاب.

خلال سنة 2018، تطورت علاقتي بسوريا والثورة واللغة العربية والترجمة بعد التحاقي بفريق المترجمين الرسميين في مكتب اللجوء في مدريد. بطبيعة الحال قد انخفضت كثافة العمل ووتيرته بالمقارنة بسنتي 2015 و2016 خلال ما سُمْي بأزمة اللاجئين في أوروبا، غير أن تلك الشهور أعادت الترجمة إلى موقعها البارز بين أولوياتي التي لم تكن قد غادرتُها وإنما شاركتُها أنشطة أخرى الأهمية، مثل المشاركة في مظاهرات وإلقاء محاضرات عن الوضع في سوريا ونشر المقالات في الصحافة الإسبانية. كان دور المترجم، وخاصة مترجمو اللغة العربية، في مكتب اللجوء متعدد الأوجه، فكنا نقوم بالتواصل الثقافي وبمعالجة سوء التفاهمات وبطلب المواعيد التي لا بد من طلبها عبر الانترنيت في مواقع لم تحتو على أبسط التوجيهات باللغة العربية. تعلمت كلمات جديدة، خاصة تلك التي تعبر عن مشاعر الإهانة، والحنين، والرغبة بمستقبل أفضل والخوف من الترحيل، وبدوري علّمت طالبي اللجوء كلمات وعبارات قد تفيدهم لتدبير أمورهم.
كنت في أول الثورة قد أمعنت النظر في معنيّ الحرية والكرامة ليس فقط من وجهة نظر لغوي، بل إنساني واجتماعي أيضاً. خلال الشهور التي أمضيتها في ذلك المكتب، تأملت كثيراً في الفروق الواضحة في فهمنا لمصطلح الكرامة ومعناه بالنسبة لمن عاشوا الذل المطلق. تعود إلى ذاكرتي خلال الكتابة مرأة، لا أتذكر إن كانت سورية أم ليبية، سألتْ عن المترجمة وطلبت حضورها قبل مغادرتها بأوراقها الجديدة لتقول لها، وهي مبتسمة: شكراً لك على تعاملك اللطيف معي. كما أتذكر ذلك اليوم الذي جاءت مرأة سورية عجوز إلى المكتب لإخراج بطاقة إقامتها وهي برفقة ابنها الذي لم يسمح له بالدخول بسبب ضيق المكان. لم تتكلم المرأة لغة البلد وكان ابنها يحاول أن يشرح بلغة إسبانية صلبة أنها تحتاج إليه للقيام بالإجراءات اللازمة لأنها أمية. نظرت إليه المترجمة ووعدت له أن كل شيء سيسير بسهولة. وفور خروجها من المكتب ببطاقتها ابتسم ابنها من جانب الباب وقال بصوت غير مسموع :أشكرك. حينها أدركتُ مدى إحساس الكثير من طالبي اللجوء بقلة الأمان في غياب لغة مشتركة بينهم وبين من أصبحوا مسؤولين عن مصيرهم في دول الهجرة. وأدركت أيضاً أن عدد السوريين الموجودين في المهجر منذ سنين كان كبيراً ولم تملك دولتي على الأقل الأدوات والخدمات اللازمة لتعليمهم اللغة، فكان المترجم صلتهم بحياتهم الماضية والمستقبلية.
بعد أشهر قليلة، تركت منصبي لأبدأ عملي في مكان آخر حاملة معي تجاربي هناك. كان اليأس ملحوظاً: لم تكن سوريا بخير ولم يكن السوريون اللاجئون حول العالم بخير. سنة 2020 انخفضت وتيرة نشاطي مثل ما انخفضت وتيرة الحياة في معظم الدول بسبب جائحة الكورونا. ورغم ذلك، خلال شهور الحجر المفروض علينا الذي منعنا تقريباً عن كل شيء غير التفكير، ترجمت رواية باص أخضر يغادر حلب لجان دوست الذي لم أعرفه قبل ذلك، والذي وثق بي لترجمة كتابه ذلك الذي اخترته لتركيزه على تلك الصورة التي لم تغادر ذاكرتي بعد وهو مشهد قافلة الباصات المنتظرة لمغادرة مدينة حلب، بدون أدنى ضمانات لسلامة المغادرين الذين على كل حال قد نسيوا معناها. وكذلك، لم أتوقف طوال تلك الفترة عن متابعة الأحداث في سوريا وفكرت مليئا في المستقبل، وفي فرص التغيير، وفي اقتراب ذكرى الثورة العاشرة، ورمزية ذلك الرقم، كل ذلك مستفيدة من وقتي في البيت نتيجة الإجراءات التي تم اتخاذها في إسبانيا لوقف انتشار الفيروس. خشيت أن يطلب مني أن أكتب مادة عن العقد الذي مر بسرعة فلم يعد عندي ما أقوله وما أفيد الجمهور الناطق بالإسبانية به. لم أرد أن أكرر البديهيات، فكرّست نفسي لقراءة دراسات عديدة حول تكوين الذاكرة وتسجيل الروايات وذلك بالمقارنة بين الحرب الأهلية الإسبانية والحرب في سوريا، خاشيةً أن يحدث في سوريا ما حدث عندنا من كتابة رواية رسمية بدأ مناقشتها ومعارضتها متأخراً نوعاً ما وذلك لأسباب سياسية واجتماعية كثيرة لا مجال للحديث عنها هنا. ليست هذه بالطبع المرة الأولى التي يتم المقارنة بين كلا الحربين، ولكن لم تتوقف التشابهات من مفاجأتي وربما ذلك ما شجعني كل هذه السنين على الاستمرار. وفوق كل شيء آخر، خشيت الوقوع في اليأس.
وجاءت ذكرى الثورة العاشرة عاملاً مشدداً للألم واليأس. وما أصعب الكتابة عن وجعي وعملية معالجته وما أغربها وأنا مدركة تماماً أن لا خسارة حقيقية لي. أقصد بألمي ذلك الشعور الذي أحس به في الحديث عن سوريا والمعانة المتراكمة والجهود المبذولة من أجل انتصار الثورة، ومن باب الأنانية، كل الأنشطة والترجمات التي قمنا نحن المؤيدون الأجانب للثورة بها.
خلال شهر مارس الماضي، نشرت عدة مقالات متنوعة المضمون ولكن مرتبطة ببعضها البعض من خلال عامل زمني فكلها تتعلق بطريقة ما بإحياء ذكرى ثورة 2011 والتفكير فيها وفي مستجداتها وتطوراتها ومساراتها وفي هزيمتها أيضا. وهنا بدأت عملية تأمل ثانية تتعلق بالدور الذي لعبته مدونة تراجم الثورة السوريا خلال العشر سنين الماضية وحركة الترجمة بشكل عام.
بعد ترجمة نص لصادق عبد الرحمن نشر في موقع الجمهورية.نت في شهر مارس الماضي عن التفكير في ما بعد الثورة، أدركت أن الاستمرار في هذه التجربة قد يكون مضراً إلى حد ما، فالإصرار على التمسك بالثورة كما عرفناها في 2011 وحتى تقريباً 2014 لن ينفع إلا لتعميق النظرة النوستالجية ونقلها إلى الجمهور الناطق بالإسبانية، وأن الوقت قد حان لنظرة جديدة تتعلق بالتفكير ليس فقط في المستقبل، وإنما في حاضر الذي يعيشه الشعب السوري أيضاً. كان هذا التحول في مضمون الترجمات قد بدأ منذ فترة، وكانت مواد منى رافع في نفس الموقع قد ساهمت في ذلك، فهي لا تتحدث عن الثورة، بل عن العيشة في قبضة النظام من جديد. وبعد عملية طويلة من مساءلة الذات، قررت أن توديعاً ذا كرامة لحركة ترجمة الثورة السورية قد يكون أفضل تمجيد لهؤلاء الذين ضحوا بحياتهم من أجل حياة كريمة، فمرحلة 2011 قد انقضت وكان لا بد من توجيه الجهود إلى أوجه أخرى.

لقد سُميت كاتبة هذه السطور مرة «مترجمة الثورة السورية»، اسم أفتخر به بكل التواضع رغم المفارقة الضمنية في هذا الاعتراف، فسمحت لي هذه المسيرة بالتعرف على أشخاص أصبحوا جزءاً من عائلتي المختارة حتى وإن لم يتسن لي التعرف عليهم شخصياً، مثل سميرة الخليل التي أثّرت فيّ كثيراً من خلال كتاباتها، وما كتب ياسين الحاج صالح إليها. قد غيرتني هذه التجربة خلال مدة زمنية أطول مما كنت أتوقعه، وستبقى هذه التحولات معي، فأنا متأكدة من أن لولا الثورة السورية لما كنت لأصبح المترجمة شبه المحترفة التي أنا اليوم. لن أتخلى عن الترجمة فالترجمة لن تتخلى عني: قمت بما بمستطاعي لمساندة الثورة السورية وهي كانت عاملاً مكوناً لشخصيتي المهنية دون إرادة. لغة وقعت في حبها أصبح جزءاً لا يتجزأ عن تفسيري للواقع وحياتي اليومية. ليس هذه المادة الأولى التي أكتبها باللغة العربية، ولكنها أول مادة ذات طابع شخصي أكتبها بها وبعد وصولي إلى نهايتها لم أعرف بعد لماذا بدأت الكتابة بها إلا أنني ما كنت لأستطيع كتابتها بأي لغة أخرى.
قلت من عشر سنين جملتي الشهيرة لن يحدث شيء في سوريا، وحدثت أشياء. قلت مرة إنني لن أصبح مترجمة أبداً لأنني لم أكن مهتمة بتلك المهنة، فأصبحت ترجماتي كثيرة. قد يكون من الأفضل ألا أحاول معرفة المستقبل وأن أكتفي بكتابة هذا النص عن مرحلة قد انقضت وتأثيراتها المستمرة عليّ.