متنوعة هي الآداب التي لجأ إليها السوريون لكتابة تراجيديتهم، وعبر أكثر من مكان ونوع، قص السوريون حكاياتهم، وسردوا أفكارهم وقدموا معانيهم. طغت الرواية قليلاً، وكان للمسرح أيضاً حضور ملفت، وبالطبع، أُنتج الكثير من الشعر تحت مسميات مختلفة. وحدها القصة القصيرة بقيت في الظل، كتابها قلائل، وقراؤها ربما، لكنها ما زالت تُكتب، بل تكاد تعبّر عن نفسها كأحد الأشكال القادرة على التعامل مع السردية السورية الكبرى، فهي مثلها، مكثفة، سريعة، ومؤلمة أحياناً، وذلك ما كانت عليه المجموعة القصصية كتاب الحكمة والسذاجة للكاتب السوري عدي الزعبي، والصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع. في الكتاب ذي القصص الاثنتي عشرة، يقدم الزعبي أقاصيص سورية من فضاءات مختلفة، اختلاف أماكن السوريين وتواجدهم. سيتحرك القص كالمكوك بين سوريا ولبنان تركيا وأوروبا، يروي حكايا السوريين ومشاهد من حياتهم اليومية منذ «أول صيف في الألفية الثانية» في دمشق إلى اليوم.
نسوة
تطفح القصة الأولى المعنونة بـ«ملكة الأبراج» بالذكورة، الراوي ذكر أجوف متباهٍ: «كنتُ دائماً أسخر من غدير لإيمانها بالأبراج. لم أترك مناسبة إلا وسخرت بها منها. أمام الغرباء والأصدقاء والعائلة». أما غدير، ملكة الأبراج وحبيبة الراوي السابقة فهي «شابة بريئة ساذجة»، ولأنها كذلك، كانت محط تهكم الراوي، ومثار سخرية المجتمع الجامعي (التقدمي) الذي يجمعهما. بين التسعينات، زمن مصاحبة الراوي لغدير، والآن، زمن روي القصة، يجد الراوي نفسه يقف موقفاً مغايراً تماماً عما وقفه وقتها، فقد علمته الحياة بسذاجتها، وروّضتْه، وهدمت حكمته الواهية. سابقاً كان يجد أن جَرح امرأة بسيطة تؤمن بالأبراج فعل انتقامي من دور المرأة الضعيفة، كرهها لأنها «تؤمن بالغيبيات وبكل أنواع الخرافات والترهات؛ تحترم دور المرأة الطيبة وذكورية الرجل وسيادته». لاحقاً سيكتشف أن هذا الوصف ذكوري بدوره أيضاً، وأنه أصبح بعد الثورة والشتات وكل ما حصل « يؤمن بالتعاويذ، وبالحسد، وبالأبراج».
في قصة «قسمة ونصيب» ضرب من السذاجة الطريفة بوصف العملية الجنسية في بدايتها لشابين نصف محافظين: «في المرة الأولى غادرَتْ بعد خمس دقائق. في المرة الثانية، بعد أن أرتني ثديَيها، بكَت طويلاً. في المرات التالية، ساعدتني على أن أصل، لكنها رفضت أن تخلع بنطالها. كان التقدم بطيئاً ولكن جيداً». لكن تلك الطرافة المتعقلة بالراوي، ولحظات عشقه المسروقة في بيت جده الخالي، ليست هي قوام القصة، بل يدخل النص إلى تفصيل درامي في حياة العوائل السورية المتوسطة. دون تنظير أو تفلسف، يروي النص قصة الخالة أم النور، المرأة التي بقيت مع أمها دون أن تتزوج، لكن بعد حين، تقف العائلة كاملة في سؤال تزويج الخالة بعد وفاة الأم: «انقسم أفراد العائلة إلى حزبين: ’حزب عم يضحك عليها‘ ويضم أمي وأبي وخالي، وحزب فلنزوجها له (..) ينادي الحزب المحافظ بأن الأمور يجب أن تستمر قبل الفضيحة، في حين يدعو الحزب الأكثر تقدمية إلى انقلاب الأوضاع عاليها سافلها». مسألة تزويج الخالة/العمة التي لم تتزوج، وبقيت جليسة أمها أو أبيها، هي إحدى المسائل الاجتماعية الحاضرة دوماً في العائلة السورية. الإخوة يقنطون من تزويجها، المجتمع يطلق عليها الوصف العنصري «عانس»، وتمر الأيام. «لم تولد خالتي عانساً، بالطبع، بل أصبحت عانساً بالتدريج، مع مرور الزمن…». كذلك يصف عامر قصة خالته أم النور، يروي بعض حكاياها البريئة، وكم الضغط العائلي (الذكوري والأنثوي) عليها، وينهيها كما هي نهاية الكلاسيكية لهاتي الحكايا: تتزوج الخالة بعد وفاة الأم بمن هو أكبر منها بكثير، ويباع منزل العائلة بالملايين، والراوي يردد حكمة أمه الأزلية «كله قسمة ونصيب».
«لك يسلملي الباندا اللي لابس أحمر» من جملة قذرة تخرج من فم سائق تكسي متحرش، يصور النص كيفية تعاطي المجتمع مع البدينة. كم التنمر والتهكم على الآخر هائل في حالة البدانة، وجارح دوماً. يدخل الكتاب إلى العالم النفسي للبدناء في «قصة بحث كرة الشحم عن ذاتها والتغييرات التي طرأت عليها في الحرب الأهلية السورية». يبدأ النص بالحديث عن «غالية» وعلاقتها بالبدانة، يقدم لذلك بمقدمة نظرية ويخاطب قارئه مباشرة: «لا يعرف الكثير من الناس رعب البدانة. البدين، أيها القارئ-ة الكريم-ة، يعيش حياة مزدوجة. باستثناء قلة تتفاخر بالكميات الهائلة التي تأكلها يومياً، يدعي معظم البدناء والبدينات، أنهم-ن لا يأكلون كثيراً، وأن طبيعة جسمهم تجعلهم بدناء. ليس صحيحاً، ليس صحيحاً على الإطلاق. هم بدينون لأنهم يأكلون كثيراً، ببساطة». إلا أن القص لن يتوقف هنا، عند حدود التنظير الجاف، بل سيرصد درامية التحولات التي أصابت «كرة الشحم» في الانفجار السوري الكبير.
اليهود يحكمون العالم
لا يغيب السياسي عن قصص الزعبي، بل هو يجعل السياسي من جنس القص اليومي الذي يقدمه، ففي «قصة كرة الشحم» ينتقل من النساء والبدناء إلى السياسي المباشر، لنقرأ عبر تحولات «غالية» تحوُّل بلد بأكمله، وخرابه الاجتماعي. لا يُدخِل الكاتب قصصه بسؤال الهوية، هي قصص سورية بوضوح، وذلك من ميزاتها، هي تجري في سوريا أو مع السوريين، بلغتهم، وبحساسية تركيب مجتمعهم الذي نَثَره الانفجار وتحول إلى ملايين القصص القصيرة. في «الفيديو الذي أبكى الملايين» يلتقط مشهداً سورياً من تركيا، التيه السوري وضغط العوائل بعضها ببعض، وما يفجره من كوميديا وتراجيديا، بينما يرسم في قصة «سامر الوحش» ملامح الثائر السوري المعاصر، الوحيد في عليائه ذي «الابتسامة الصادقة التائهة المرتبكة التي تقفز إلى أعماق كل من يشرب القهوة، لتستقر هناك طيلة الحرب، وما بعدها أيضاً». تَرشَح قصة «قضاء وقدر» ألماً وحسرة، وتأتي من سردية الاعتقال السوري التي لم تنتهِ. حكاية معتقل شاب وأمه المنتظرة «لم تنم في غرفتها يوم اعتقاله. تنتظر كل يوم قدومه. يوم وصلها خبر وفاته لم تعرف أين تنام: هل تعود إلى غرفة النوم، أم تنتظره في غرفة الجلوس؟».
«في ساعات الليل هذه تشعر أن المصاعب قد اختفت من وجه البسيطة. هكذا يبدو أول صيف في الألفية الثانية إذاً، يا عدي»، بهذه الكلمات يخاطب الراوي نفسه في قصة «اليهود يحكمون العالم»، وهو يشرب الشاي في محل ميكانيكي على تخوم دمشق. ستزول هذه الهناءة الصيفية، وصوت أم كلثوم الذي يزيدها ألقاً، حينما تداهم المكان مجموعة شبيحة تطالب أبو محمد بالأموال. ينشر رجال الأمن أولئك الفوضى في المكان، يُذلون أبو محمد، ويحتجزون هوية الراوي ويضربون الطفل الشغيل النائم في زاوية معتمة من المحل، لا لشيء إلا من أجل المرح واللعب. تستفز القصة القارئ، تعيد إلى أذهانه – إن كان سورياً بالطبع – قذارة أجهزة الأمن السورية وأذرعها المنفلتة، ليس أيام الثورة فقط بل في «أول صيف من الألفية الثانية»، صيف يردد في آخره صاحب المحل بخنوع، وبعد كل فعله العناصر من امتهان لكرامته: «المشكلة نحنا ما منحب بعض، مافي محبة بقلوب العالم. اليهود يا عدي، اليهود زرعوا كل هالكره فينا».
حكمة وسذاجة
يبني الكتاب قصصه على الثنائية المفاهيمية التي يقدمها في العنوان الكبير «الحكمة والسذاجة». تختلف تمظهرات المفهومين بين قصة وأخرى، ويتخذان أشكالاً وهيئات مختلفة. في بعض القصص تظهر الحكمة والسذاجة كمفارقة حياتية، وفي بعضها الآخر يُلوى عنق النص ليلائم المفهوم ويقاربه، لكن بعض القصص تتمرد على كاتبها، وتتجاوز ثنائيته المفاهيمية، لتقدم سردها الحر، دون حدود مفهومية تثقلها. مثال ذلك قصة «هوتيل كالفورنيا».
تأخذ الحكمة شكل البراءة في قصة «هوتيل كاليفورنيا»، أو هكذا يظن الكاتب في بداية كتابتها. تأتي القصة في ثلاث أصوات: سلمى المحبوبة، زيد الحبيب، وبينهما الكاتب على الدرب يجلس مع الشهرزوري. «هل ستجد من يتزوجها إن تجاوزت الثلاثين؟ تقول ضحى إن بعض الشباب اليوم يَقبلون بالزواج ممن فقدت عذريتها، تشكّك سلمى في صحة هذا الرأي». ذلك ما كانت تفكر فيه سلمى وهي تنتظر حبيبها في غرفة فندق في اسطنبول. هذه المرة الأولى التي تُقْدم فيها على فعل كهذا، ورغم سنواتها التي تقارب الثلاثين، وحبها لزيد وثِقَتها به، إلا أنها تخشى أن تخذلها خبرتها القليلة بالجنس: «كيف تصبح المرأة خبيرة؟ أليس هذا عهراً؟ هل على المرأة أن تكون خجلى في السرير؟». على المقلب الآخر، يحث زيد الخطى نحو الفندق ويفكر: «عليه ألا يقسو على سلمى، يقول لنفسه. ولكن سلمى أحياناً تُغضبه. تسأله إن كانا سيتزوجان كل شهر، وفي كل مشوار لطيف. دائماً يقول أجل، بالطبع». لقاء عاطفي لشابين بريئين، ومونولوجات ذاتية توحي بحب جارف، ولحظات سورية حلوة مسروقة في اسطنبول / درب الشتات السوري؛ ذلك الدرب الذي يقف فيه الكاتب في منتصف القصة، وعلى أنغام أغنية «هوتيل كالفورنيا» يكشف مطبخ نصه، ويروي مونولوجه هو الآخر: « ربما كل حياتنا نقضيها على الدروب: درب اللجوء، ودرب العودة، ودرب التصوف، ودرب الترحال الدائم، ودرب العلم، ودرب الحب!».
في قصته «كافكا في الهافانا»، يضع النص نفسه أمام واحد من عمالقة القصة وحِرَفييها. يستحضر فرانز كافكا في مقهى الهافانا الشهير وسط دمشق. ربيع شامي رائق، معرض دمشق الدولي للكتاب، والشاعر وزبانيته يجلسون في المقهى. يأخذ القص هيئة الكاميرا، يرصد تفاصيل مختلفة من المكان تجري في الوقت نفسه، ويصور شخصياته المختلفة. يجتمع حول الشاعر ثلاثة شبان: «الكردي يعامل اللغة بأسلوب مختلف، أثر سليم بركات واضح جداً، سيتخلص منه قريباً، الفلسطيني على الرغم من ذكائه المتوقد، إلا أن غضبه يسيطر على ما يكتبه، الحلبي لا يكتب الشعر: يريد أن يدرّس الشعر السوري الحديث من وجهة نظر اجتماعية، ربما لو خفف من غلوائه الماركسية سيقدم قراءة جيدة». ستأتي المجموعة على ذكر كافكا سريعاً، الفلسطيني يقف عند سؤال سطحي حول قراءة كافكا عبر علاقته الملتبسة مع الحركة الصهيونية، الكردي والحلبي لا ينهمان بالحديث، بينما الشاعر يطلق حكمه على أدب كافكا بأنه «يعبر عن حضارة غربية مهترئة متأزمة». في الغرفة الداخلية للمطبخ، تقبع مسوخ كافكا، عمال المقهى وندّاله يضحكون بين حين وآخر: «ضحكات مضبوطة على مساحة المقهى: لا تعلو لتصل إلى الزبائن، ولا تنخفض لتموت بلا أثر: يسمعها المدير الذي يقبع على البوابة الفاصلة بين العالمَين».
هناك نسق مرتفع تبنيه قصص الزعبي منذ البداية، ترفع أفق قارئه وتجعله يطالب بالمزيد، هذا النسق يتأثر حينما يلعب الكتاب لعبته مع كافكا وعوالمه. الشخصيات الحية تموت وتغدو أنماطاً (الشاعر، الفلسطيني، النادل…) على عكس ما يحدث عند كافكا، حيث الشخصيات القصصية تغدو شخصيات كونية. يقف النص عند حدود مسخ كافكا، يجعل من عمال المقهى وندّاله «مسوخاً بشرية تعمل بإيقاع ميكانيكي لا يمكن كسره»، ويغلق السرد على باقي المسوخ الموجودة في القصة، وعلى رأسها الشاعر الذي يزِلُّ حُكْماً على هيئة حكمة: «لطالما كره الشباب الذين يهاجمون كل شيء، أولئك الذين يحطمون الأيقونات ليل نهار».
مَن الراوي؟
تتنوع أصوات الرواة في كتاب الحكمة والسذاجة، وتختلف مستويات الروي وضمائره، لكن الخاص فيه هو الالتباس الذي يقاربه الكاتب حينما يجعل من ذاته راوية، حيناً بالتدخل المباشر كما في قصة «هوتيل كاليفورينا» والحديث بأنا الكاتب، والتوجه للقارئ بالقول الجلي «عزيزي القارئ»، أو عبر استخدام ذات الاسم «عدي» كبطل للقصة كما في قصة «ضريبة الشهر»، أو حينما يرفع هذا الالتباس حتى أقصاه ويستخدم اسمه الكامل «عدي الزعبي» كما في قصة اليهود يحكمون العالم. كان من الممكن أن يكون لهذا التجريب في الروي أثر في إبهام القصص، لولا أن بنية القصص ذاتها كانت تجريبية هي الأخرى، لا تركن إلى شكل ولا تستقر في هيئة واحدة، شخصياتها حرة، تروي وتتحاور بمستويات لغوية متمايزة (مثال ذلك التوصيف المختلف للانفجار السوري: حرب، ثورة، حرب أهلية) دون أن تهيمن عليها لغة أحادية هي لغة الكاتب. قالت القصص ما تريد، قدّمَت معناها، وضَخَّ فيها التجريب حيوية وحياة، حيوية يحتاجها النص الأدبي السوري اليوم، وهو يبحث عن المعنى؛ معنى ما لكل ما حصل.