وجهتُ عصا المكنسة الخشبية إلى زاوية الحائط الأرضية، كأنها رمح محارب.

وقفتُ مذهولاً، أحدق بالأسفل في صمت، يدي ترتعش وتحكم قبضتها على العصا بصعوبة. برودة يناير وصمت الثالثة بعد منتصف الليل والبول الذي يملأ مثانتي، ضاعفوا قلقي واضطرابي، فسقطت العصا من يدي عدة مرات، لكنني عدتُ وتلقّفتها سريعاً من الأرض، واقفاً في وضعية الاستعداد لتصويبها في أية لحظة.

يبلغ طول العصا متراً تقريباً، طرفها مكسور لأسباب غامضة فبدا مثل نصل خشبي مدبب، من المرجح أن المكنسة كُسرت في حملة تنظيف قبل دخول أحد الأعياد، لكنهم احتفظوا بها في متحف أدوات التنظيف في الحمام.

حدقتُ في الزاوية بعينين يثقل جفونهما الأرق.

كنت في طريقي للنوم أخيراً بعد يومين من الاستيقاظ المتواصل، لكن الزاوية جذبتني، حدقت بعيني، فكدت أن أشخ على روحي.

عليّ البقاء مستيقظاً حتى الصباح ممسكاً بالعصا، لأنبه من يخرج للحمام أو يدخل المطبخ ليحصل على كوب ماء أو ثمرة برتقال، أن الزاوية تحدق بنا جميعاً.

أمي المسكينة، ماذا ستفعل عندما تعلم صباحاً؟ لن تحتمل، سيسقط قلم الإنسولين من يدها قبل غرزه في لحم فخذها. ستصرخ صرخة مدوية وتجهش بالبكاء. أستطيع توقع رد فعلها قبل حدوثه، لأنّ لها رد فعل واحد تجاه كل الأزمات الكبيرة.

لا. لن أدع تلك المهزلة تستمر حتى الصباح، سأضع حداً لها قبل استيقاظ أختي.

أخشى استيقاظ أختى الصغرى أكثر من أمي، هي ليست بطفلة يمكننا إقناعها أن الزوايا وجدت لتحدق بالبشر أو أن الله جعلنا من عباده المختارين فسلط علينا زواياه ليختبر مدى إيماننا، لا يمكننا إطعام شابة في الحادية والعشرين من عمرها هذا الهراء الديني.

عندما تستيقظ، ستسألني وهي تتثاءب: أما زلت مستيقظاً حتى الآن؟ وعندما تحدق الزاوية الأرضية بها، ستقف مكانها داهشة، ثم تبدأ في حركة متوترة حول نفسها: تحضر سكينة من المطبخ ثم تتركها وتحضر جردل ماء، ثم منفضة السجاجيد الخيزران، ثم تترك كل ذلك وتجلس على كرسي السفرة بجوار أمي، تأخذها في حضنها وتمسد على شعرها الرمادي وعينيها تتأرجح كالبندول بين الزاوية والعصا الخشبية في يدي.

ضغط البول أكثر وأكثر على مثانتي، فوضعت خطة سريعة للذهاب إلى الحمام. تحركت خطوات محسوبة للوراء بظهري موجهاً نصل العصا ناحية الزاوية، معتمداً على ذاكرة عمرها سبعة وعشرين عاماً من الحياة في هذه الشقة. رسمت على وجهي علامات غضب وعصبية مصطنعة تحذيراً للزاوية وإشارة لها بأنني سأعود مجدداً، لم أستسلم بعد.

وصلت الحمام، خبط الباب بظهري ومؤخرتي فاصطدم مقبض الباب بالحائط السيراميكي محدثاً ضجة هائلة في أنحاء الشقة وشرخاً بسيطاً في السيراميك الأبيض. وضعتُ العصا تحت إبطي، تبولت ورأسي مُلتفاً للخلف حتى لا تفلت الزاوية من مراقبتي، فتناثر البول على الأرضية وبنطالي القطني وقاعدة الحمام.

رفعت بنطالي سريعاً وجريت حاملاً العصا، وعندما اقتربت من الزاوية وقفت في وضعية التصويب لأسفل، ثم تراجعت.

سحبت نفساً عميقاً لكبح صرخات نبضات قلبي المتسارعة، التي تنبهني من اقتراب إحدى نوبات هلعي المعتادة. تنفست بانتظام وهدوء محاولاً تنظيم أفكاري وتهدئة نفسي قدر الإمكان، وبناء جسر متماسك بين أفكاري ومشاعري وانفعالاتي.

تفصلني ساعة واحدة عن استيقاظ الوغد الكبير، أبي.

الأباء أوغاد منحطون، بالطبع.

سيستيقظ لصلاة الفجر كما يفعل كل يوم تلبيةً لنداء ربه الأعمى، وبعد الانتهاء من الصلاة، سيتجه إلى المطبخ  لتحضير وجبة خفيفة لكرشه الجائع دائماً. حينها سيراني ممسكاً بالعصا ويدي اليمنى ترتعش، سيقترب مني، وعندما تحدق الزاوية به، لن يندهش كثيراً.

سيحدق بالزاوية كما يحدق بالتلفزيون أو بقطة في الشارع أو بصحن الأرز على الغذاء.

توقف أبي عن الاندهاش منذ زمن، توقف عن الشعور حتى أكون أكثر دقة، تتساوى جميع مشاعره تحت طبقات سميكة ومتراكمة من التبلد والغباء.

سينتقل بصره بين الزاوية الأرضية ووجهي، مرتين على الأقل، ثم يتجه إلى السفرة ويجلس على أحد الكراسي، يشعل سيجارة ويجري مكالمات هاتفية مع أصدقائه في العمل ليسألهم عن أرخص الشركات ومراكز الصيانة المتخصصة في التعامل مع زوايا الحائط المحدقة. يحصل منهم على مجموعة من أرقام الهواتف والخطوط الساخنة ويدونها في ورقة بيضاء نزعها من دفتر استقر في منتصف السفرة بجوار فازة الزهور الاصطناعية، يتصل بهم وتبدأ وصلة تمتد لساعة من الشجار والفصال في الأسعار، يشكك خلالها في مصداقية قدرتهم على التعامل مع هذه الظاهرة الفريدة، بعدها يسألهم إذا كانت خدماتهم تقدم مع ضمان لمدة سنة على الأقل، ثم يغلق الهاتف في وجوههم، يطفئ سيجارته بغضب، يبصق في منديله «تفووو»، بصقة تطرد البلغم من صدره وكناية عن غضبه على حال الزمان، ثم يتجه لغرفته ويخلد للنوم حتى صلاة الظهر.

اللعنة على كل أولاد القحبة النائمين في هذا المنزل، سأترك الزاوية تحدق لهم حتى يغشى عليهم.

نعم، عليهم مواجهة مصيرهم والصمود أمام الزاوية، بل واعتياد وجودها إذا تطلب الأمر.

تذكرت الآن أنني قضيت نصف ساعة منذ حوالي خمس سنوات، أرى خلالها باب الشقة يحدق بي. أرجعت الأمر يومها إلى سبب هش وساذج لكنه يندرج تحت تصنيف الأسباب المنطقية التي تضع حداً للتساؤل: أرق منعني من النوم لمدة أربعة أيام متواصلة. يومها رغم استيقاظ الجميع، لم يلاحظ أحد شيئاً، حتى الوغد الكبير الذي مر يومها عدة مرات من أمام الباب، بل وفتحه للخضري والمكوجي.

اليوم، لا داعي للبحث عن أسباب خرائية منطقية وإنكار الحقيقة الصارخة: الزاوية تحدق بي، وأحدق بها. لا داعي لإهمال كل الإشارات والغرق في بركة ضحلة من الاستسهال والتحليلات الجاهزة، التي تثير الإعجاب في جلسات المقاهي مع الأصدقاء القدامى والتجمعات العائلية.

ليس الإرهاق والأرق هما السبب، استيقظوا من النوم حتى تروا الحقيقة بأعينكم التي تكذب كل الحقائق.

ما أريد فهمه هو لماذا أتخذ وضعاً دفاعياً من الزاوية رغم عدم مبادرتها بأي شر؟ هي فقط حدقت بي، بنظرة، حتى أكون صريحاً، فيها شيء من الإيروتيكية والإغواء.

لن أنخدع بتلك السهولة والسذاجة. الزاوية تنصب الأفخاخ لعقلي حتى أتركها وأخلد للنوم، وفي الصباح يعود كل شيء كما كان، تعود الزاوية مجرد ناتج التقاء الحائطين.

لكن هل العقل إلا مجموعة من الأخطاء والأوهام والحقائق المبتورة، تتراكم مع بعضها لتنتج تصورات عن العالم؟

هذا السؤال سؤالي، لكنه أحد أفخاخ الزاوية في نفس الوقت.

أحكمتُ قبضتي على العصا، وبصقت على الزاوية بغضب.

شعرت بهشاشة وجودي، فصرخت معلنا عنف حضوري الظاهري، محاولاً إخفاء مشاعري الحقيقة للحفاظ على توازن القوى بيني وبين الزاوية.

أغمضت عيني لتهدئة نفسي وامتصاص غضبي، فرأيت الزاوية تحدق بي داخل رأسي. رأيتها في الظلمة والنور وما بينهما، فأدركت تعقيد الموقف واستحالة التعامل معه بهذه الطريقة.

يراودني الآن شعور حقيقي للغاية مثل برودة السيراميك التي تلسع باطن قدمي الآن: أنا لا أبحث عن حل أو مهرب منذ البداية. تبدو اللحظة أبدية، رغم عدم قدرتي على التنبؤ بما سيحدث بعد عشر دقائق.

فكرت في الاتصال بأختي الكبرى لطلب المساعدة، لكنها ستخبرني ببساطة أنه من الأفضل هدم الحائط تماماً، أو ستعطيني رقم سمسار للبحث عن شقة إيجار جديد بسعر مناسب في أحد المدن الجديدة، ثم تغلق المكالمة سريعاً لحضور اجتماع عمل مهم بعد خمس دقائق.

مزّق نسيجَ أفكاري المضطربة صوتُ أحد الأبواب يفتح ببطء.

شعرتُ وقتها أن الوقت قد حان. أحكمتُ قبضتي على العصا مرة أخيرة وسدّدتُها بعنف، فاصطدمتْ بالزاوية الأرضية واستقر نصلها الخشبي للحظات كأنها انغرزت في لحم حي، ثم سقطت على الأرض في النهاية.