في مقصده الأساسي يصبو رومنطيقيو المشرق العربي، كتاب حازم صاغية الذي صدر للتو عن رياض الريس للكتب والنشر، إلى أن يكون «دفاعاً عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدماً وعدالة بالإمكانات والأدوات التي يوفرها هذان الواقع والعالم». عدم التطابق هو الرومنطيقية التي يتعقبها حازم في التفكير والسياسية المشرقيين منذ ما بعد التنظيمات العثمانية، لكن بصورة خاصة بعد استقلال بلدان المشرق وقيام دولة إسرائيل في الوقت نفسه تقريباً. الكتاب مستحق لقراءة متمعنة، ييسِّر من أمرها الأسلوب السلس الرشيق الذي تميز به حازم على الدوام.
في نحو 560 صفحة، يستعرض المثقف والصحفي اللبناني تخلل الموقف الرومنطيقي (أو الرومنسي) عموم التيارات الفكرية والسياسية المشرقية: من القومية إلى الماركسية إلى الإسلامية، سنيةً وشيعية، إلى ما بعد الكولونيالية محمولاً على «جائحة نقد الاستشراق»، وصولاً إلى الطائفية التي يجري التكتم عليها أو تأويلها على نحو يحجبها (أو فصلها كلياً عن تشكلات عصبوية قرابية أسبق)، متقصياً النزعة أو الحساسية الرومنطيقية في طروحاتها النظرية، إن وجدت، وفي ممارساتها السياسية. وليس بعيداً عن مقصد حازم القول إن الرومنطيقية تعطي «أولوية للمذهب» على الواقع، أي أنها مثالية بالمعنى الذي كانت أشاعته الماركسية؛ معنى أولوية الأفكار على الواقع. ويمكن تصور أنه لو ألف الكتاب في سبعينات القرن الماضي فلربما حضر في عنوانه مدرك المثالية بدل الرومنطيقية، وربما مدرك اللاواقعية في الثمانينات والتسعينات. على أن للرومنطيقية ميزة أنها تدرج تنويعاتنا من أولوية المذهب في تراث أوسع، عابر للثقافات.
ينضوي تحت مفهوم الرومنطيقية «العداء الحاسم للرأسمالية وللتنوير، والحدة التعبيرية، والصوت الخاص، وضعف الحفول بالواقع وممكناته لمصلحة تصعيد الذات وطاقاتها المفترضة، ثم الإفضاء إلى خلاصات قصوى، إن لم تكن عدمية». وفضلاً عن ذلك، يعبد الرومنطيقيون الجذور والأبطال، وبالتالي الأنبياء، ويُعلون من شأن الإرادة.
والرومنطيقية عموماً هي ما عولت عليه مشاريع متنافرة، منها صهيونية وقبلها نازية، أما في الإطار العربي فتحضر الرومنطيقية «كسد لنقص فادح في الواقع الموضوعي». هذه عبار تستوقف. فنقص الواقع هو تصور يحيل ضمناً إلى تصور معياري للتاريخ كشيء متحقق أو كامل في مكان ما، يتعين التطابق معه، أو كمسعى يسير في اتجاه محدد، معروف سلفاً. هناك روح هيغلية في هذا التصور للتاريخ، حيث على الشيء أن يطابق مفهومه المتحقق عبر عملية تحقق الفكرة المطلقة التي بلغت وعي ذاتها في فلسفة هيغل بالذات. وجدت هذه التاريخانية انعكاسها كمذهب عمل في شيوعية القرن العشرين عبر مفهوم «سمة العصر»، وقد كانت السمة – كما هو معلوم – الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. اكتمال الواقع بتحقق هذه السمة وفر معياراً لتقييم الوعي والسياسة، ما يسير في الاتجاه الصحيح للتاريخ وما يسير بعكسه، وتالياً تحديد من ينجو ومن يُلعَن. النقطة مهمة في كتاب يتحدث عن الرومنطيقية، لأنها يمكن أن تكون قناة لكثير من الرومنطيقية، ولكثير من العنف أيضاً، مما ارتبط دوماً بمعرفة اتجاه التاريخ الذي هو اتجاه اكتمال الواقع و«سد نقصه». فما دمنا نعرف محطة الوصول، وهي بحسب حازم الحداثة والتنوير والرأسمالية، فلمَ لا يكون كل مسعى من أجل الوصول مقبولاً؟ يبدو هذا غريباً في كتاب لحازم صاغية، العقلاني الليبرالي، الذي لا يؤمن بالخلاص والناقد لعقائد الخلاص. لكن التاريخانية في تداولها العربي (وغير العربي) مذهب خلاص. سبق للعروي، وقد كان للتاريخانية حضور أساسي في فكره، أن وصفها بأنها الترياق الذي يحرر المثقف العربي من شياطينه الداخلية.
وعلى أرضية نقص الواقع، كيف يستقيم في سياق الكلام على السلطنة العثمانية المتأخرة نقد حازم لـ«التدخل الإرادي لمثقفين ذوي تكوين إيديولوجي معين» بغرض صنع القومية والأمة، ما دام هذا التدخل «نيابة عن تطور اجتماعي أو اقتصادي ما»؟ أو التحفظ على «إضفاء الرمنطقة على العلم ذاته»؟ ومن باب تقليب هذه القضية على وجه إضافي، يمكن مثلاً تصور عبارة من نوع أن الرومنطيقية مهرب من واقع مُذِلّ ولا يطاق (بدلاً من واقع ناقص). ودون أن تكف عن أن تكون رومنطيقية بقدر ما، فإن السياسة التي يمكن تصورها حيال واقع مُذِلّ هي أقل انغلاقاً من السياسة الغائية لواقع ناقص، دون أن تكون حتماً سياسة كرامة بالمعنى الذي ينتقده حازم (وستجري العودة إلى هذه النقطة). الواقع أن الوجهة العامة للاعتراض الديمقراطي في بلدان مثل سورية ومصر وتونس وغيرها جمعت بين مقاومة واقع مُذِلّ وبين مطلب الكرامة الذي شغل موقعاً بالغ الأهمية في «الربيع العربي».
وجد المنزع الرومنطيقي للنخبة المشرقية في العقود الأخيرة من الحكم العثماني في نزعة قومنة السلطنة العثمانية على غرار القوميات الأوربية، مع مركزية تركية، لم تمتنع عن أعتى التهويلات المميزة للدعاة القوميين على ما يوضح الكتاب. كان هذا استجابة «للشعور بفداحة الدور الأوروبي»، وقد حضر بوصفه «إخضاعاً واحتلالاً»، ومع ذلك فهو يشغل هنا «الدور الذي أدته الرأسمالية والتنوير في أوروبا». لكن ألا يبدو ذلك تقليلاً من شأن «الإخضاع والاحتلال»، أي الاستعمار؟ كانت الرأسمالية والتنوير داخليَّي المنشأ في أوروبا، غيّرا المجتمع بمجمله ومن تحت، ومع ذلك أثارا ردود فعل محافظة مثّل عليها إدموند بورك بين آخرين، على ما يرد في الكتاب. ومن المفهوم أن تكون هذه الردود أكبر في مجتمعات جاءها «الدور الأوروبي» من فوق ومن خارج، وبعنف غالباً. في تناول حازم، تبدو الاستجابات في جهتنا من العالم ضرباً من معاندة للعالم، «تتنيح» غير عقلاني بالمرة، أو تغليب للكرامة على الموضوعية كما يقول حازم، وليس استجابة متعثرة على مشكلة صعبة بالفعل: الجهة التي يأتي منها الاستعمار هي ذاتها الجهة التي تأتي منها حضارة كاملة، بالغة الديناميكية والتجدد، وحّدت العالم لأول مرة، بل «اخترعته» بعد أن لم يكن موجوداً. في وقت لاحق، وبخاصة في سبعينات القرن العشرين وما بعد، لم يعد الميل الانكفائي أو الممانع نتاجاً للرضّة الاستعمارية على ما قد تقول دراسات ما بعد الاستعمار، بل صناعة سياسية، يرفع القائمون عليها الصوت ضد الغرب الاجتماعي والثقافي أكثر من السياسي والعسكري. تطورت على يد أنظمة ما بعد السبعينات منازع خبيثة تجمع بين تغذية هذا الميل الانكفائي المرتاب بالعالم، وبالغرب بخاصة، وبين التكيف السلبي التام مع أوضاع السيطرة الدولية، فلم تكد تبقى لدينا أنظمة غير ممانعة. وقلما انحصرت الخيارات خلال نصف القرن السابق بين قبول بالواقع الدولي والتحرك وفق معطياته، وبين رفضه الممانع الكاذب. لقد جرى الجمع بين الأسوأين: التسليم السلبي بالواقع الدولي، ومنه استثنائية إسرائيل وعنصريتها، بل وأولوية أمنها، ثم تحريم الحياة السياسية في الداخل وتغذية نظريات المؤامرة والارتياب بالغرب، ودوماً مع إرساء شر الغرب في الليبرالية والحريات المدنية والسياسية، فضلاً عن «الجمعيات النسوية»، على ما أمكن لشيخ سوري قوله مؤخراً. والحال أن مقاومة عقلانية للأشكال الأشد عدائية من السيطرة الغربية وغير الغربية ممكنة وعقلانية، لو استندت إلى تركيب معاكس: تعدد فكري وسياسي في الداخل، وسياسات وطنية جدية على المستوى الدولي.
هذه بدورها نقطة مهمة لأنها وثيقة الصلة بمجمل منظور حازم في الكتاب. تبدو المشكلة كامنة في سياسات واهمة تتجاوز القدرات الفعلية، رومنطيقية سياسية لا تعترف كثيراً بمبدأ الواقع أو هي ضعيفة «الحفول بالواقع وممكناته». ربما كان هذا صحيحاً أيام عز القومية العربية والجيل الأول بعد الاستقلال في خمسينات القرن العشرين وستيناته. المزايدة، أي الشعارات المنفصلة عن الواقع والقدرات الفعلية، والمستسلمة لضرب من «مبدأ اللذة» الإيديولوجي، وقد برع فيها بعثيو سورية أكثر من غيرهم، كانت هي التعبير الأصدق عن الرومنطيقية واللاواقعية. لكن هذا لم يعد صحيحاً منذ سبعينات القرن الماضي على الأقل. جيل حافظ الأسد وأنور السادات وحسني مبارك وصدام حسين، وبعدهم بقليل معمر القذافي، لا يختلف عن ملكيات الخليج في مزيج من إلغاء الحياة السياسية بذريعة الخصوصية و/أو مواجهة المخاطر الخارجية، ومن تفاهمات ضمنية مع القوى المسيطرة بغرض ضمان بقاء النظام. فهل تكون هذه اللاواقعية من طرف حازم ضرباً من رومنطيقية معكوسة؟ لا يكاد يبدو في الكتاب أن هناك اعتراضات على سياسات أميركية وغربية ليست هوياتية ورومنطيقية في دوافعها، وهو ما يعطي لموالاة القوى المسيطرة وحدها زعم الواقعية. يؤخذ على ثائرين سوريين مثلاً أنهم كانوا غير راغبين بتدخل أميركي في بلدهم. والحال أنهم يؤخذ عليهم العكس كذلك، بما في ذلك تسمية إحدى جُمع المظاهرات الأسبوعية «جمعة الحماية الدولية»، على ما هو مذكور في الكتاب بالفعل. لكن في أي جهة نجد الواقعية هنا؟ في تسمية إحدى الجمع بالتدخل الدولي، وقت كان المسؤولون الأميركيون والأطلسيون لا يفوّتون أسبوعاً أو اثنين دون القول إنه لا نية لهم للتدخل في سورية، أم في توريط النفس بالترحيب بتدخل غير وارد رغم كل شيء؟ ومن هو الرومنطيقي: من يحل أمنياته بتدخل دولي يُسقط النظام رغم كل المؤشرات المعاكسة، أم من يتشكك ويتحفظ؟
وليس اعتبار الكرامة وحده وراء التشكك والتحفظ، ولا الكرامة مجرد مفهوم رومنطيقي يتقابل مع الموضوعية والواقعية، كما في تناول حازم. الكرامة قيمة حقوقية وسياسية أساسية، عليها يتأسس مفهوم حقوق الإنسان، وعليها قامت بقدر كبير الثورات العربية، وأخذت في السياق السوري دلالات محددة لا رومنطيقية فيها: ألا يُضرَب الناس ويُهانوا ويعذَّبوا من قبل المخابرات وما شابه، وألا يُضطروا طوال الوقت للرشوة والواسطة من أجل تسيير أبسط مصالحهم اليومية. إنكار الواقع وممانعة العالم المميِّزان لكل من التفكير القومي والإسلامي، ولقدر طيب من التفكير الماركسي، ليسا متولدَين عن مفهوم الكرامة، بل عن تفريغه من مضمونه ورده إلى كبرياء كاذب موجه ضد الغرب. الإسلامية يحفزها نازع الكرامة بالفعل، لكن في انفصال عن الثورات الفكرية السياسية والحقوقية والأخلاقية في عالم اليوم، بل في رفض مجرد أخذ العلم بها، فترتد كرامتها إلى تكبُّر أجوف، أو إلى منزع عدائي عدمي، مؤذ للذات قبل الغير. مثل ذلك يصح بخصوص القوميين، الذين استطاعوا الجمع بين عداء ثقافي واجتماعي للغرب وبين التبعية لقوى مثل إيران وروسيا. حازم يميّز في موقع من الكتاب بين الكرامة وبين «العنجهية» التي هي تفريغ للكرامة من مضامينها. هذا جاء في سياق التعليق على قول متكبِّر لقاسم أمين في مرحلته المبكرة: «ليس لدى مصر ما تحسد الغرب عليه، بل ربما كان لدى الغرب، بالعكس، ما يحسد مصر عليه». البطلان الواضح لهذا القول هو إهانة ذاتية، وليس فعل كرامة.
يميز حازم بين تركيبين فكريَّين سياسيَّين كانا مرتعَين للرومنطيقية، و«طريقتين للتعبير عن صعوبة الدخول في الحداثة الرأسمالية والديمقراطية»: قومي ديني، أو عربي إسلامي، ثم قومي اشتراكي. وقد تجسدا في الناصرية، حيث «راح الحكام الجدد يطبّقون النسبية الثقافية قبل عقود من صعودها في الجامعات ومراكز البحث الغربية». وهذا عبر فرادة قوميتنا وفرادة اشتراكيتنا. لقد جرى عبر هذين التركيبَين الفوقيَّين «قضم الواقع» من قِبَل السلطة، مقابل ضرب من «الاطمئنان السعيد وتوهم السيطرة على الدنيا». هذا التركيبان مستمران بالفعل، وبخاصة القومي الديني. وليست الخصوصية الإسلامية، أي امتناع ديار المسلمين وعقيدتهم على أي وجهة عالمية عامة، غير شكل محافظ من الرومنطيقية والحنين إلى الماضي، كان وجد تعبيره من قبل في فكرة الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة.
تحضر ثنائية الشرعية والسيادة في الكتاب مرتين، لكن دون توضيح كاف. يبدو أن المقصود شرعية وجود الدول (وليس شرعية حكمها) وسيادتها (حيال بعضها، وليس قدرتها على أن تكون قوى سيدة في العالم)، ويرى حازم أنه جرى الإعلاء من شأن معيار الشرعية والتهوين من شأن السيادة. لكن خارج الدلالات المحددة لهذه التعابير في منظور قومي عربي يتحفظ على شرعية وجود الدول ذاتها، وبقدر ما إسلامي، يمكن التساؤل: أين المشكلة في اعتبار الشرعية أهم من السيادة؟ في سياق ديمقراطي ليبرالي، شرعية الدولة، وشرعية عنفها بالتالي، تتصادم مع سيادتها التي تتظاهر بتعليق القانون وفرض حال الاستثناء أو الطوارئ بحسب كارل شميت، وعلى ما يذكر حازم في الكتاب. دولنا تنظر إلى مجتمعاتنا بعين السيادة الواحدية، وليس بعين السياسة التعددية، هذا بينما تتعامل مع قوى السيطرة الدولية، الغربية وغير الغربية، بعين السياسة لا بعين السيادة. هذا السياق المختلف يغير معنى دالَّي الشرعية والسيادة (والسياسة)، بما كان يدعو إلى مزيد من التحديد والتوضيح.
يُعجَب المرء بتحليلات حازم كثيراً وبمذهبه أقل، وهذا كلام قاله عبدالله العروي يوماً عن ريمون آرون. للعروي حضور إيجابي في كتاب حازم، يكاد يشاطره إياه ياسين الحافظ. هذان اسمان من بين عشرات آخرين يوفر رومنطيقيو المشرق العربي نظرات نافذة في أعمالهم: من نامق كمال وضيا غو كالب في العقود الأخيرة من حياة السلطنة العثمانية، إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وحسن البنا وسيد قطب، إلى باقر الصدر وأخته نور الهدى، إلى ميشيل عفلق، أدونيس، إلياس مرقص، برهان غليون، إدوارد سعيد وجوزف مسعد ووائل حلاق، إلى أسامة مقدسي وعزمي بشارة، إلى عادل عبد المهدي الذي كان ترجم يوماً بعض عمل سمير أمين قبل أن يصير رئيس وزراء شيعياً في العراق (حازم يجد استمرارية وجيهة بين ريفية الماوية وبين أصالية قومية وإسلامية في منطقتنا)، إلى أنطون سعادة وجبران ومهدي عامل وفواز طرابلسي، مع حضور إيجابي لكل من أحمد بيضون ووضاح شرارة.
رومنطيقيو المشرق العربي شديد الإيجابية حيال الربيع العربي، والثورة السورية بخاصة، وهذه نقطة بالغة الأهمية. لمؤلف الكتاب ملاحظات نقدية هنا وهناك، لكن الجملة الختامية من الكتاب تقول بوضوح لا لبس فيه أن أول شروط انكسار «الدائرة الرومنطيقية» التي كانت داعش أحدث تجسداتها هو «أن ترحل الأنظمة السياسية وتصطحب معها عدداً هائلاً من الأفكار والقناعات التي تحكمت بأهل هذه المنطقة». لا ريب في ذلك. وهذا ليس لأن رحيل الأنظمة «هو الحل» – بحسب ما يرى الشعبويون، الذين يقول حازم في أحد هوامش الكتاب أني أعفيهم من النقد خلافاً للثقافويين – ولكن لأنه ليس هناك فرصة لأي معالجات أو حلول في ظل أنظمة تمنع محكوميها من الاجتماع والكلام وتخوض حرباً مستمرة ضد المستقبل. حازم شريك في هذا التصور. وتعليقي على النقد الخاص بامتناعي عن نقد الشعبوية أنه يغفل الشروط السياسية للكتابة في بلد مثل سورية، حيث وجدت تنويعة الثقافوية العلمانية التي أنتقدها نفسها على قرب من النظام وأجهزة مخابراته بخاصة، وتطوعت للنيل من معارضيه، بينما كانت «الشعبوية»، أياً يكن المقصود بها، بالكاد قادرة على الكلام. نتكلم ضمن حقول سياسية وإيديولوجية مستقطَبة بعينها، وليس من فوق الاستقطابات والصراعات الاجتماعية والسياسية.
حازم من جيل من المثقفين خَبِر في حياته الشخصية وفي حياة بلده لبنان والعالم العربي القضايا والتيارات الفكرية والسياسية التي يتناولها في الكتاب. هذا يلون صفحات ما يكتب – مثلما يحدث لأكثرنا وربما لجميعنا – بسخط معتق، لا يخفيه مؤلف رومنطيقيو المشرق العربي، ولا يستسلم له. وهو من قلة في المجال العربي كله اليوم ممن يمكنهم تغطية شؤونه مسلحين باطلاع واسع وبمعرفة غنية، حتى ليمكن وصفه بالقومي العربي الأخير دون أن يكون هذا مزاحاً بالكامل.