مرت سنوات حتى أصبح أبو سليم موضع مديح في شعر مغني الزجل وليد سركيس، بعد أن كان والده سليم دعبول، شاعر الزجل المعروف في بلدة دير عطية السورية شمال دمشق، هو الذي يمدح وجهاء البلدة في أغانيه خلال الأعراس. كانت سنوات طويلة، شهدت ولادة أسطورة صاحب الصوت الأشهر في هواتف المسؤولين السوريين.

في العام 1935، في بداية شهر آذار شديد البرد في منطقة القلمون السورية، ولد طفل لشاعر الزجل محمد سليم دعبول. ورغم أنّ عائلة دعبول من أكبر عائلات البلدة، وأكثرها رخاءً، إلا أنّ أسرة سليم الصغيرة لم تحصل على الوفرة التي حصل عليها أولاد عمومتها. ظلّ سليم يغني لدير عطية ويتغنى بجمالها في الأعراس والسهرات على كلّ الأحوال، أما الطفل ديب دعبول فهو لم يعايش أباه كثيراً حتى يتأثر به، إذ سريعاً ما ترك الشاعر سليم أسرته وتزوج مرّة أخرى، واضعاً الأطفال الذين تعتني بهم فاطمة رزق زوجته الأولى في أوضاع أشدّ فقراً من التي عاشوها سابقاً.

قررت الأم ومعها الإخوة والأخوات الأكبر أن نجاتهم من هذه الظروف تتمثل في تعليم أحدهم، فوقع الاختيار على ديب، وبدأ أخوه وأخته الأكبر وأمّه العمل من أجل أن يُكمل ديب تعليمه بعد انتقاله إلى دمشق ليدرس البريفيه (المرحلة المتوسطة) إثر تخرجه من مدرسة الضيعة.

تخرَّج ديب من البريفيه ثم حصل على الشهادة الثانوية ليسجل في كلية الحقوق، وبدأ العمل كمحاسب لدى البطريركية الأرثوذوكسية في دمشق، وذلك بواسطة من قريب بعيد له اسمه سليم بيطار. وهذا السليم، الذي قدمّ كلّ الدعم اللازم لديب، سيكون السبب في تسمية ابنه البكر سليم وتكنيه بلقب أبو سليم لاحقاً، وليس لأنه اختار اسم أبيه الذي هجر أسرته مبكراً.

تعلم ديب منذ عمله محاسباً أهمية الصمت والعمل بجد. كان الدافع الحاضر دوماً هو تحسين أوضاع العائلة الرثة التي تنتظر من ينقذها. في دمشق، وبين الشوارع التي كانت قد بدأت تزدهر في الخمسينات، تعلّم الرجل أن يكون «شامياً»، فقد تحدّث باللهجة الشامية هناك بينما كان يتحدث لهجة مخففة جداً من لهجة أهالي دير عطية عندما كان يزور البلدة.

لم تكن تلك الرحلة فريدة من نوعها، فقد تعرض القلمون منذ عشرينات القرن الماضي إلى موجات جفاف أثرت على الإنتاج الزراعي، كما ضربت الأزمة المالية العالمية نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات بشكل كبير الفئات الأفقر من الفلاحين أصحاب المساحات الصغيرة الصالحة للزراعة، مما زاد حركة الهجرة من المنطقة. وبعد عقود من التوجه نحو أميركا اللاتينية، تركزت الهجرة في الأربعينات والخمسينات نحو دمشق، لتتبعها موجات أخرى نحو الخليج بعد ذلك. الأب سليم نفسه جرّب العمل في الكويت خلال الخمسينات، لكنه عاد بعد أقل من عام إلى قريته السعيدة، فهو لم يكن يريد سوى غناء الزجل والتغني باخضرار الأراضي هناك.

في منتصف الخمسينات كان هناك قريب آخر لديب، الذي لم يكن قد أصبح أبو سليم بعد، يدعى أحمد دعبول «أبو مروان»، يعمل في أمانة المجلس النيابي. توسط أبو مروان لديب دعبول كي يعمل مدقق حسابات في مبنى السراي الحكومي، لينفتح باب الترقي الوظيفي أمام الشاب ديب نتيجة إدمانه العمل وكتمانه الشديد الذي تعلمه من عمل المحاسبة بين أهل دمشق.

وفي حين أطاحت الانقلابات وقبلها الوحدة بالنخب السياسية المدنية التي كان أبو سليم ينظر إليها كقدوة له، تعلّم الرجل الدرس الصعب ضمن ظروف سوريا في تلك الأوقات، فتخلّى عن أي تدخل في السياسة متحولاً إلى موظفٍ مطيع لكلّ حاكم جديد، موظف نشيط يُسيّر أعمالاً لا تجد من يسيّرها من المسؤولين المشغولين بالصراع على الحكم. وهكذا احتفظت كل الحكومات التي تعاقبت بأبي سليم موظفاً رئيسياً في أمانة مجلس الوزراء، حتى عام 1968 عندما ساعده حافظ الأسد على الانتقال إلى القصر الجمهوري ليكون في مكتب الرئيس نور الدين الأتاسي. كان ديب دعبول قد غدا في ذلك الوقت أبو سليم، بعد زواجه من ابنة قريته ازدهار الحاج إبراهيم وإنجابها لأكبر أولادهم سليم أواخر عام 1959، مستمرين بالعيش في بيت مستأجر في شارع بغداد، الحي الذي سيشتري فيه أبو سليم لاحقاً أول بيوته.

لماذا ساعد حافظ الأسد ديب دعبول على الانتقال إلى القصر الجمهوري؟ وكيف بقي هذا الرجل في منصبه كل هذه السنوات؟ لسنا في بلد عادي يمكننا فيه الحصول على المعلومات والوصول إلى المصادر بسهولة وأمان، ولكن حسب ما يتم نقله بين أفراد العائلة وفي أجواء البلدة، فقد تعاون أبو سليم مع حافظ الأسد منذ ذلك الحين وقدّم له كل تحركات نور الدين الأتاسي إلى حين الإطاحة بهذا الأخير، وهو ما جعله صاحب حظوة عند الأسد الذي سيبقيه في منصبه حتى آخر يوم من حياته.

ومع مرور السنين، أصبح أبو سليم أكثر من مجرد مدير مكتب عادي، فقد عمل لدى دكتاتور يخشاه أقرب المقربين، ما جعل من صوته الذي ينقل رسائل معلمه إلى المسؤولين الحكوميين صوتاً شديد الرهبة لديهم، فهو من يستدعيهم لمقابلة حاكم سوريا الذي بطش بخصومه ومعارضيه كما لم يفعل حاكم قبله، والذي لم يكن يتسامح ولو مع خطأ واحد.

يُقال إنه في العام 1984، خلال الأزمة الصحية الكبيرة التي داهمت حافظ الأسد، وإثر الصراع الذي بدأ بينه وبين أخيه رفعت على السلطة، لم يعد أبو سليم إلى المنزل طوال أربعين يوماً. ظلّ الرجل يحرس مكتبه ومكتب معلمه أياماً طويلة، إلى أن عاد حافظ الأسد إلى الدوام في مكتبه، منتصراً على أخيه ومثبتاً حكمه «إلى الأبد» على ما بدأت تقول شعارات التأييد له أثناء «تجديد البيعة» عام 1985.

في العام ذاته كانت منظمة الفاو تدعم مشروعاً لغرس الأشجار الحراجية في سوريا في المناطق التي تشهد تصحراً، وذلك للمساعدة على محاربة الجفاف في البلاد. وعلى الرغم من أنّ المشروع لم يكن يشمل دير عطية، إلّا أن صوت أبو سليم المسموع دفعه ليشملها. لكنّ هذا المشروع الذي سيساعد المنطقة لم يكن بلا ثمن على الأهالي، إذ قام أبو سليم من خلال الوعود والترغيب، وبدفع شخصيات محترمة إلى دعمه، بالاستيلاء على أراضي جبل البلدة بحجة التشجير، لتستملكها البلدية دون تعويضات حقيقية لأصحابها. تبرَّع البعض بالأراضي، فيما استولى رجال أبو سليم ومن بينهم رئيس البلدية أخو زوجته على بعضها، وبدأ المشروع الذي يفترض أن تدعمه الفاو على الأراضي التي استملكتها البلدية من أصحابها. كذلك، كان يجب على كل فرد من القرية أن يزرع شجرة باسمه في هذا الجبل.

كان هذا المشروع بداية عودة ديب دعبول إلى الضيعة، إذ كان يقضي سهرة يوم الخميس ونهار يوم الجمعة من كل أسبوع فيها، وهي عادة لم تتغير حتى توفي. أما في دمشق، فقد أصبح أبو سليم مفتاح الوصول إلى باب حافظ الأسد،  لكنه لم يتحدث يوماً أمام أحد عن رئيسه بأي شكل من الأشكال. لم يسمعه أيّ ممّن حضروا جلساته في دير عطية يوماً يذكر حافظ الأسد أو بشار، كأنه كان يعيش في عالمين منفصلين تماماً لا علاقة لأحدهمها بالآخر، لكننا نعرف مما جرى لاحقاً أنّ شخصية الخادم المطيع في العالم الأول هي التي جعلته زعيماً في العالم الثاني.

مع الوقت وتقدمه بالسن، أصبح أبو سليم ينادى بالعم أبو سليم، وهذا العم رجل شديد الدماثة واللطف لمن يقابله أو يتحدث معه، محاولاً تقديم صورة معاكسة تماماً لمن يحرس بابه في القصر الجمهوري. وكان الجميع يتصلون بأبو سليم أو يلتقون به إن دعت الحاجة؛ مدير التلفزيون الذي يشتكي من تقرير كيدي كتبه وزير الإعلام عنه، أو رجل أعمال يريد تجاوز تضييق بعض ضباط الأمن بالتواصل مع القصر بشكل مباشر، أو وزير يريد لقاء حافظ الأسد أو لاحقاً بشار الأسد (لم يحصل أغلبهم على أكثر من مقابلة قسم التعيين) للحصول على رأي أو تقديم تقرير في منافسيهم… كان مفتاح كل هذا العم أبو سليم، الذي يرفع السماعة لنقل الرسائل والتعليمات، أو يرفعها ليطلب الطلبات منهم جميعاً شارحاً بشكل شديد الوضوح أنّ طلبه هذا طلب شخصي وليس تعليمات من «المعلم»، وإن كانت تلبية هذا الطلب كما يعرف الجميع قد تمنح الشخص فرصة للوصول إلى القصر الذي لا يمكن الوصول إليه إلّا بصعوبة بالغة.

أما في دير عطية، فقد انقلب العم أبو سليم خاصة منذ بداية التسعينات إلى عراب مافيا أو زعيم محلي. لم يكن ليحدث أي شيء في القرية من دون إذنه ورأيه، ولم يكن ليبدأ أي مشروع دون رعايته، هذه الرعاية التي اكتفت بالدعم المعنوي في غالب الأحيان فيما كان رجال الأعمال من القرية وأهاليها  يدفعون ثمن تلك المشاريع من أموالهم وأراضيهم. المشفى الوطني في القرية كان قد تبرع ببنائه رجل الأعمال نسيب سعد في ذلك الوقت على سبيل المثال، لكنّ كل شيء في مجالس القرية كان يجب أن يُنسب لأبو سليم، العم اللطيف في دمشق الذي أراد أن يكون حافظ الأسد في دير عطية، وهي رغبة تؤكدها أشياء كثيرة، منها على سبيل المثال أنّ أبو سليم طلب من نحاتة مشهورة أن تصنع تمثالاً لطفل وأمه. وقد جاءت ملامح الأم مماثلة تماماً لملامح والدة أبو سليم خلال ذلك الوقت، ليبدو واضحاً أنّ ما عُرِفَ في البلدة باسم «تمثال الأم» ليس إلّا تصويراً له ولوالدته فاطمة التي أحبها حباً كبيراً. في سوريا، وفي الثمانينات بالذات، كان أمراً شديد الخطورة أن تصنع تمثالاً لأحد غير حافظ الأسد، وقد جلب أبو سليم نحاتين ليصنعوا تمثالاً لحافظ الأسد في البلدة أكبر من كل التماثيل الأخرى، حتى أنّهم احتاجوا لطائرة مروحية لنقله من مكان النحت بالقرب من النبع إلى مكان نصبه في البلدة.

عاش الرجل بصمت طوال حياته، لم يعرف أسراره حتى أقرب المقربين إليه، ولا يستطيع حتى إخوته اليوم أن يحصوا كل أملاكه، فما عدا الظاهر منها كجامعة القلمون وفيلّا في دير عطية، لا يبدو أنّ أحداً يعرف الكثير. كان مكتبه في المنزل مغلقاً حتى في وجه عائلته، وهو ما زاد من هالة الغموض حول الرجل الذي كان يقيم العلاقات مع رجال الأعمال والمتنفذين في البلاد من دون ضجيج. ليس الأمر مزحةً مع أبو سليم، إذ تفاجأ كثير من المقربين من أنّ رجل الأعمال هاشم العقاد كان صديقاً مقرباً للرجل، عندما بقي ملازماً له في مرضه الأخير، وبكاه بكاءً شديداً خلال الجنازة. كذلك، تفاجأ أيضاً أهالي دير عطية من غياب المسؤولين الرسميين في الجنازة التي لم يحضرها إلا قائد الشرطة والمحافظ، فالرجل بالنسبة لهم كان من أعمدة الحكم.

لكن ليس الأمر كذلك في واقع الحال، بل كان أبو سليم، الذي فعل كل شيء حتى يصل إلى ما وصل إليه، أمين سر حافظ الأسد المثالي، يعرف بالفعل الكثير من الأسرار، لكنّه لا يمتلك من القوة والسلطة الفعلية أكثر من العناصر الأربعة الذين يرافقونه لحراسته وربما لمراقبته أيضاً، فيما امتلك القوة والسلطة أشخاص لا يطّلعون على أسرار حافظ الأسد. هكذا حكم الدكتاتور البلاد قرابة الثلاثين عاماً.

ظلّ الخادمُ المطيع أبو سليم في مكانه حتى بعد رحيل الأسد الأب وتولي ابنه، إذ لم تُطِح به رياح التغيير التي أنزلت كثيرين من الحرس القديم من مواقعهم العالية، هل كان موقعه عالياً بالفعل؟ ربما نعم وربما لا، إذ إن أحداً لا يعرف بالضبط شخصية أبو سليم أو العم أبو سليم أو ديب دعبول، وكلّ من حوله يعرفون وجهاً واحداً فقط لرجل يبدو أنّه عرفَ الحيلة التي دفعته إلى أن يكون في منصبه إلى الأبد. أما صمت أبو سليم، فقد استطاع أن يرسم للرجل أسطورة بين أهالي منطقته ومن عرفوه، أسطورة عن رجل قوي لم يكن أكثر من سكرتير مطيع لآل الأسد.