يمكن تلخيص الأهداف الرئيسية التي أعلنتها القيادة الروسية لحربها في سوريا بـ«القضاء على الجماعات الإرهابية»، و«الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية». أما الترجمة الواقعية لهذه الأهداف فهي إنقاذ نظام الأسد من السقوط، وإلحاق الهزيمة عسكرياً وسياسياً بالسوريين المعارضين لحكمه. وقد تم إنجاز هذين الهدفين بقوة سلاح الجو الروسي، إذ لم يعد سقوط النظام على يد المعارضة وارداً، ولم يعد لدى أي من قوى المعارضة العسكرية والسياسية فعالية مستقلة تُذكر. غير أن هناك هدفاً ثالثاً هو الأهم، وهو ما لا تكفي القوة العسكرية وحدها مهما بلغت لإنجازه.
ستبقى النجاحات الروسية في سوريا متواضعة الأهمية، بالمعنى الجيوسياسي، ما لم تساهم في تعزيز النفوذ الروسي على نحو قابل للاستمرار، وقابل للاستثمار فيه على شتى المستويات. ويتطلّب هذا ترميم الدولة السورية ونظامها السياسي، بحيث يكفّ الملف السوري عن كونه عبئاً اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، ويستعيد النظام السوري استقراره والاعتراف العالمي بشرعيته، ما سيعني اعترافاً بمحورية النفوذ الروسي في الشرق الأوسط والنظام العالمي.
لكن إنجاز هذا الهدف لا يزال بعيد المنال بعد ست سنوات من التدخل الروسي المباشر: الاستقرار مفقود في سوريا، ويتدفق السوريون والسوريات إلى الخارج لاجئين ومهاجرين من أي طريق مُتاح، فيما لا يزال النظام فاقداً لاعتراف أغلب دول العالم بشرعيته، وتتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مناطق سيطرته نتيجة تراكب العقوبات الغربية مع الفساد المعمم ودمار البنية التحتية ونزيف رؤوس الأموال والقوة العاملة. تشير هذه الأوضاع إلى فشل في تحويل الهزيمة التي لحقت بقوى الثورة والمعارضة السورية إلى نصر ناجز للنظام وحلفائه، وخاصة روسيا.
يساهم الموقف الغربي، والأميركي خصوصاً، مساهمة أساسية في عرقلة إنجاز هذا الهدف، إذ تواصل الولايات المتحدة دعم قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على معظم الجزيرة السورية، بما فيها أهم حقول النفط في البلد، ويستمرّ موقف الدول الغربية الرافض لرفع العقوبات وتمويل إعادة الإعمار ما لم ينخرط النظام جدياً في حل سياسي وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254. تحاول روسيا أن تتجاوز هذه العقبة بإصرار، باذلةً في سبيل ذلك جهوداً إعلامية وسياسية واستخباراتية، ويبدو أنها تحقق اختراقات بسيطة هنا وهناك عبر نفوذها في مجلس الأمن، وعبر دفع دول إقليمية إلى المساهمة في كسر عزلة النظام السوري.
غير أن نجاح هذه المساعي يتطلب من القيادة الروسية إيجاد حلّ للعائق الثاني الذي يعترض طريقها في سوريا، وهو النظام السوري نفسه، الذي لا يزال مستعصياً على إدخال أي تعديلات عليه.
لا يوافق الأسديون على مشاركة أي سوريين في الحكم، بينما لا يبدو ممكناً فرض الاستقرار وإدماج النظام السوري مجدداً في المنظومة الدولية دون هذه المشاركة. تحتاج روسيا إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي تشترك فيها قوى سورية معارضة كي يكون ممكناً الإعلان عن تنفيذ القرار 2254، ومن ثم تحصيل الاعتراف العالمي بالنظام الناشئ عن هذه الهيئة. لكن النظام يرفض مجرد نقاش هذه المسألة حتى اللحظة، ولا يبدو أنه سيوافق في المدى المنظور حتى لو كانت المعارضة المشاركة في هذه الهيئة مصنوعة روسياً بالكامل. كذلك يجب أن تكفّ سوريا عن كونها بلداً مُصدِّراً للّاجئين من أجل إقناع العالم بأهلية النظام السوري، وهو ما يتطلب تقنين القمع وضبطه وتراجع النظام عن كونه مصنعاً منفلتاً للتعذيب والقتل، ويتطلب حداً أدنى من الظروف الملائمة لتشغيل عجلة الاقتصاد، بحيث لا تظلّ مقدرات البلد كلّها مجرّد غنيمة لمحاسيب النظام.
لسنا قريبين من إنجاز أشياء كهذه. وحتى إذا نجحت روسيا في دفع بعض دول العالم إلى الاعتراف بالنظام السوري والتعامل معه دون إنجاز هذه الأشياء، وانسحبت قوات التحالف الدولي والقوات التركية كلياً من البلد، وتم تخفيف العقوبات الغربية على النظام السوري؛ حتى إذا تحقق كل هذا، وهي أمورٌ لا تزال بعيدة جداً، فإنه لن يكون كافياً لجعل سوريا بلداً مستقراً.
التمزق الاجتماعي الذي أحدثه مقتل ما لا يقل عن نصف مليون شخص وتهجير الملايين، والفساد الرهيب، والإقطاعيات الأمنية التي تشكّلها أجهزة المخابرات وبعض وحدات الجيش والميليشيات، والنفوذ الإيراني الذي يستثمر في ضعف الدولة؛ سيحول كل ذلك دون عودة سوريا بلداً يمكن التعاون معه والاعتراف به، والأهم أنه سيحول دون تمويل إعادة الإعمار. تحتاج سوريا إلى صيغة معقولة من المصالحة والتغيير السياسي، وإلى مليارات إعادة الإعمار التي لا يستطيع النظام وحلفاؤه تأمينها. وقد يراهن النظام وحلفاؤه على أن مليارات إعادة الإعمار كافية وحدها دون المصالحة والتغيير، لكن الأرجح أن دول العالم لن تنفق هذه المليارات من أجل لا شيء، أو لدعم نظام لا يفعل شيئاً سوى التسبب بالأزمات واللاجئين والتبشير بحروب قادمة.
ليس هناك ما يؤكد أن روسيا تحاول فعلاً دفع النظام إلى إشراك سوريين آخرين في الحكم، لكن المؤكد أن المصالح الروسية تقتضي إجراء تغييرات في النظام بحيث يمكن إعادة تسويقه وتسويق رؤيتها من خلاله، وهو ما تبدو روسيا عاجزة عن فرضه حتى لو أرادت ذلك اليوم.
يعرف الأسديون أن قبولهم بإشراك أي معارضة في الحكم هو بداية النهاية لنظامهم، فالقوام الرئيسي للنظام السوري اليوم هو بضعة مئات من القادة الأمنيين وقادة الميليشيات والاقتصاديين المتورطين في جرائم لا تحصى، ولا ضمانة لعدم تصفيتهم أو محاكمتهم سوى بقاء النظام على حاله. وعلى رأس هؤلاء بشار الأسد نفسه، الذي لن يجد ملاذاً آمناً خارج كرسي الرئاسة بعد جرائمه الموثقة جيداً جداً.
ما الذي تستطيعه روسيا إذا أرادت أن تفرض على بشار الأسد مساراً يؤدي إلى زواله من السلطة، فيما الزوال من السلطة يكاد يساوي الموت بالنسبة له ولأعوانه؟ لا تستطيع شيئاً سوى قتله أو احتجازه، والخياران غير مأمونين، لأن كلاهما سيقود إلى فوضى قد لا تستطيع روسيا التحكّم في نتائجها، وكلاهما يحتاج قوة تنفيذية تابعة لروسيا ومستقلة عن الأسديين. وحتى إذا اعتبرنا أن اللواء الثامن في درعا، التابع لروسيا والمكّون من مقاتلين معارضين سابقين، محاولةٌ لتأسيس نواة هذه القوة التنفيذية، فالواضح أن هذه المحاولة لا تزال بعيدة جداً عن النجاح، حتى أن مقاتلي هذا اللواء غير قادرين على القيام بأي تحرّك جدي خارج بصرى الشام ومحيطها دون موافقة مخابرات النظام.
ستتكفل السنوات القليلة القادمة بإعلان ما إذا كانت روسيا ستنجح في تجاوز هذه المعضلة، وبانتظار ذلك، فإنها ربما تنجح في استعادة بعض الاعتراف السياسي بالنظام والعلاقات الاقتصادية معه، لكنها لن تستطيع استكمال انتصارها في سوريا بغير ترميم الدولة وتعديل النظام الذي ما يزال عصياً على التعديل. لا يزال النظام متماسكاً جداً إذن، لكن تماسكه هذا ليس ناتجاً عن ذكاء شديد أو قوة عسكرية ضاربة، بل عن وحشية لا حدود لها تخدم هدفاً واحداً: الاستفراد بالحكم وتقديم كل التنازلات اللازمة من أجل ذلك، باستثناء أي تنازلات قد تقود تدريجياً إلى مغادرة الحكم، فهذه دونها الموت لأنها الموت نفسه بالنسبة للأسدية.