سعت كتاباتٌ متعددة في مجال الدراسات الموسيقية ونظرية الموسيقى لتعريف مفهومي الصمت والصوت. يعتبر المؤلف الموسيقي وعازف التشيللو يويوما أن الموسيقى هي بنية تنظيم الصمت والصوت، أما الكتابات النظرية والشعرية والمؤلفات الموسيقية للأمريكي جون كيج فقد ركزت على الغنى والكثافة الكامنة في عمق الصمت، فالصمت بالنسبة له مليء بالاحتمالات وكثيف سماعياً حتى ليذهب إلى استحالة وجود الصمت المطلق. ماذا لو نقلنا أسئلة الصمت والصوت إلى الأدب؟ كيف يعبر النص المؤلف من الكلمات عن الصمت والصوت السماعيين؟ مفردتا «صمت» أو «صوت» في النص الأدبي غير كافيتين للتعبير عنهما. ما هي المعاني التي يمكن للصمت والصوت أن يحملاها داخل النص الأدبي؟ لا يتوقف كلٌّ من الصمت والصوت في الأدب عند حدودهما السماعية، أو الموسيقية أو الصوتية، بل يمنح الأدب هذين المفهومين أبعاداً سياسية واجتماعية وفلسفية. سنجد أن دراسة مفهومين سماعيين مثل الصمت والصوت في الأدب السوري الذي تركز عليه هذه الورقة، ستعكس كامل التجربة السياسية، الاجتماعية، والثقافية التي يعيشها المجتمع والفنانون والفنانات السوريات في المرحلة الراهنة. في النص إذاً، تنويعات على حضور الصمت والصوت في الأدب السوري في التعبير عن القمع، البروباغندا، الحرب والحصار والموت.
الصمت والصخب من الفلسفي إلى السياسي
ما الحياة إلا ظل يمشي، ممثل مسكين يتبختر ويستشيط غضباً على المسرح، ثم لا يسمعه أحد.
إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء.من مسرحية ماكبث، شكسبير، 1606
هذه الفقرة التي ترد على لسان ماكبث في مسرحية شكسبير هي التي ألهمت الروائي الأمريكي وليم فوكنر في العام 1929 عنوان روايته البارزة في عالم الأدب: الصخب والعنف. اكتسبت هذه الرواية مكانة عالمية في تاريخ الأدب لعدة أسباب، كتجديدها في أساليب السرد وأسلوب المونولوج الداخلي، لابد من التوقف عن رواية فوكنر السابقة، عند قراءة العنوان الذي قدم فيه الروائي نهاد سيريس واحدة من أبرز الروايات السورية التي عالجت موضوعة الصمت والصوت، رواية الصمت والصخب (2004)، التي يقول الروائي بأنه استلهمها: «من حادثة مشاهدته على جدار مستشفى التوليد في حلب، وقرب غرفة الأجنة، مكبر صوت ضخم، يبث أغاني صاخبة وتافهة»، ليتضح تالياً بأنها أغاني تمجيدية بالقائد والحزب.
الصمت في نص ماكبث وكذلك في رواية فوكنر يحمل بعداً فلسفياً، ذلك أن «الحياة حكاية معتوهة ملؤها الصخب والعنف»، لكن الصمت والصخب في رواية نهاد سيريس يأخذان بعداً سياسياً. مم يتألف الصمت السياسي و مم يتألف الصخب السياسي؟ وما هي خصوصية الصمت والصوت السياسيين في هذه الرواية؟ غالباً ما يرتبط الصوت مفاهيمياً في الأدب بحرية التعبير، بقول الرأي. «ارفع صوتك» عبارة تعني بأن الصوت هو حرية الإنسان وقدرته على التعبير. لكن هذا المفهوم يحضر معكوساً في رواية سيريس. فالصمت هو حرية الفرد وهروبه إلى ذاته والسكون بعيداً عن الضجيج المتشكل من أصوات السلطة المفروضة على الأفراد. في هذه الرواية الصمت هو حرية الفرد، والصخب هو كل صوت يحمل في مضمونه تمجيداً، تخليداً، تأبيداً للسلطة الحاكمة ويخترق صمت الأفراد. الصمت هو تشكل الفرد بالتأمل، والصخب هو الأصوات الساعية لتغييب عقل المواطن، الصخب هو الهتافات والمظاهرات والشعارات التي تسعى إلى تشكيل وعي المستمع-المواطن وفقاً لأيديولوجيات السلطة.مم يتألف الصخب السياسي؟
عن البروباغندا الصاخبة فوق صمت الأفراد
في بداية الرواية يتجلى الصخب بالأصوات التي تأتي من الشارع لتخترق غرفة نوم الشخصية الرئيسية، الرواي، الذي يخبرنا من الافتتاحية، وبطريقة تهكمية، كيف اعتاد التعامل مع الضجيج المخترق لفراشه: «اعتقد أن الإنسان يشعر بالضجيج بشكل مضاعف وهو في وضع أفقي. لهذا السبب اعتدت على النهوض من الفراش فور استيقاظي»، أما مضمونها فهو تمجيد الحاكم: «كانت معاني الكلمات تضيع لأن مكبر صوت آخر يضج بأغان حماسية، بينما كان تلاميذ المدارس يرددون كلمة: عاش عاش». الصخب هنا هو صوت غير منظم يخترق العزلة المنزلية، ليبث خطاب التمجيد ومقولات السلطة المفروضة على فكر الأفراد، وهو التعريف الأدق للبروباغندا. يعتمد أسلوب نهاد سيريس على السخرية فالهتافون والمداحون لا يسمعون أشعار وعبارات بعضهم البعض، وتستمر الكوميديا حين يضطر الراوي إلى إغلاق الباب على نفسه في الحمام، ليحمي سمعه من الأصوات، كمشهد رمزي في الرواية، يوضح أن الضجيج يعيق الصوت الداخلي للفرد. ثم يفقد الراوي القدرة على القراءة، ورويداً رويداً يعجز عن التفكير، لتصبح صورة المواطن في الرواية هو ذلك العاجز عن القراءة، عن التفكير، والمفروض على سمعه وفكره ضجيج التطبيل والمديح.
يقول الراوي: «الضجيج كلمة قبيحة، وأفضل الصخب عليها»، لكن النص -الوصف الروائي سيحتاج كلتا المفردتين. على أي حال، كل الصوتيات والسماعيات في الرواية تتحول إلى ظواهر أخرى، فالضجيج في الرواية ليس صوتيات مختلة البنية أو سمعيات تزعج الحواس، بل الضجيج هنا هو سلوكيات جماهيرية أو ظواهر سياسية واجتماعية: «كانت الشوارع ممتلئة بالحشود وهي تتماوج وتتدافع بينما المئات من صور الزعيم تتحرك كأمواج البحر فوق رؤوس الجماهير».
عن نظرية الموسيقى السلطوية
الشخصية الرئيسية في الرواية هي الكاتب فتحي شين، وهو نقيض للجماهير التي تملأ الشارع وتحتل الفضاءات العامة في الرواية، نقيض أولئك القادرين على قيادة مسيرات، فهو يسعى إلى الصمت، ويصرح بوضوح أنها غاية في نفسه، وهو واع لمضمون الضجيج الترويضي: «أعتقد أن للحزب مركز دراسات خاصة لإنتاج الشعارات الموزونة، فيردد الكلام الذي بلا معنى لمجرد أنه يتضمن القافية». ويسخر الكاتب بعمق من علاقة الشعب العربي مع الشعر، وكيف تتناوب بين المقولات الفنية وبين البروباغندا. تستعيد الرواية بين الفقرة والأخرى تلك اللعنة التي تحول الشعر إلى هتاف، وتظهر أكثر عمقاً حين ينشأ النقد من كاتب: «نحن قوم نحب الشعر، حتى أننا نحب ما يشبه الشعر، وربما نكتفي بالسجع بغض النظر عن محتوى الكلام». الضجيج هو الشعارات التي يردهها التلاميذ: «عظيم عظيم يا زعيم»، وهو اللغو الخالي من المعنى في نشرات الأخبار، الضجيج هو كل الأصوات الساعية إلى تشكيل السيل النفسي والفكري للجمهور، فمهمة الضجيج في الرواية هي إبعاد المواطنين عن الهدوء والسكينة التي تسمح بالتفكير، ليصبح جر الجماهير كل فترة إلى مسيرات الصخب ضروري لغسل الأدمغة. يتشكل الصخب أيضاً من الصور التي تمجد الزعيم، المعلقة على الأبنية والساحات، يحمِّل الروائي الضجيج أفقاً بصرياً. الصخب أيضاً هو الشعر المسطر والملقى في تمجيد الزعيم: «الجماهير تحمد الزعيم لأنها ولدت في عصره، عصر الكرامة والحرية، قدنا إلى النصر المبين».
الموسيقى في الرواية لا تحضر إلا في المارشات العسكرية التي تهدف إلى بث الحماسة. لنقرأ نظرية الزعيم في الرواية عن الموسيقى: «على الموسيقى أن تلعب دورها في تحفيز الجماهير». ويصف الراوي كيف تراجعت موسيقى الطرب والموشحات، وآلات التخت الشرقي لم تعد مسموعة أمام المارشات الحماسية، أما الآلات الوترية مثل الكمان فهي أصبحت سخيفة وهزيلة، أما من يترنم بالأغاني العاطفية فلا يمكنه أن يكون من بطانة الزعيم، لأن على كل المشاعر أن تتوجه للزعيم، الذي يلعب أيضاً دور نجوم فرق موسيقى الروك بالنسبة للشبان والشابات، فيغيبون عن الوعي لمجرد لمسه.
لكن مم يتألف الصمت السياسي؟
الصمت رفض التمجيد مع الجوقة
للصمت معان متعددة وأشكال مختلفة.
نصمت عندما لا نعرف ماذا نقول، ونصمت إن قيل كل ما نريد قوله.
نصمت عندما يفهمنا الآخرون، ونصمت إن لم يفهمنا أحد.من المجموعة القصصية الصمت، عدي الزعبي، 2015
عادة ما يرمز الصمت في الأدب إلى السلبية، إلى التغاضي عن الحق أو التقاعس عن النضال، لكن الصمت هو غاية الكاتب فتحي شين في رواية الصمت والصخب، الذي يحذره أصدقاءه باستمرار: «هم لا يريدونك صامتاً، يريدون منك أن تتكلم، ولكن في مصلحتهم، أن تصبح جوقتهم»، هنا يتحول الصمت إلى الفعل الإرادي بالرفض للانضمام إلى أناشيد الجوقة، تقول إحدى الشخصيات في الرواية: «الصمت حكمة إن كان الكلام مديحاً للزعيم. للكلام وجهان إن أردت واحد في مدح الزعيم وآخر في مدح الحقيقة». ومع تقدم أحداث الرواية يصبح الكاتب فتحي شين مضطراً للاختيار بين صمت السجن وبين ضجيج السلطة، معادلة يفضل عليها الرواي صمت الموت: «شعرت أن الصمت المشتهى هو واحد، سواءً كان السجن أو القبر». على المستوى الإنساني، يعتبر الكاتب فتحي شين أن الصخب يقضي على جمال الأصوات المسحوقة بالضجيج، كما الفرد مسحوق بخطاب أيديولوجيا السلطة.
أصوات الحرب والعنف: صمت القذيفة، أنين الركام
مازالت رواية الصمت والصخب والمكتوبة في التسعينيات تحمل مضامينها في الراهن السوري اليوم. لكنه، منذ العام 2011، وانتشار العنف في المجتمع بدأ الصمت والصوت يتشكّلان في حضورٍ جديد في الأدب السوري. في ديوانه الشعري حدث ذات مرة في حلب (2017) يوثق الشاعر فؤاد فؤاد تجربة الحرب والحصار في حلب بين عامي 2012-2015. وفي قصيدته «يوميات» يوصف حالة الصوت والصمت في مدينة تحت الحصار والقصف: «البارحة واليوم النت كان مقطوعاً، والاتصالات الهاتفية إلى حد كبير. في الشوارع هدوء موحش ومريب. طنين في أذني». الصمت هنا هو السكون، الاقتراب من الموت المفروض على المدينة، وهو ممتلئ بأنين المأساة: «كومة الركام هذه…هي مقهى… لم أكن أدري أن المقاهي تُقتل أيضاً كالبشر. أرواحنا التي نسيناها مسنودة على الكراسي، تئن تحت الركام». وفي ديوانه الشعري «أدرينالين، 2018» يخصص الشاعر غياث المدهون قصيدة لمفاهيم الصمت والصوت في الحرب أيضاً، في قصيدة «في اللحظة التي تسبق القذيفة»، يمثل الصمت التواصل الإنساني تحت أصوات القصف، والذكريات التي تعبر الذهن قبل لحظات وقوع صوت الموت: «في اللحظة التي تسبق عقرب الثواني، حين تكون القذيفة لا تزال معلقة في الهواء، يتوقف القتلى عن الرقص، يتوقف البيت عن الاتكاء على الإسمنت في بيت الجيران، تتوقف فناجين القهوة عن التجمع بعضها بجانب بعض في خزانة المطبخ. في اللحظة التي تسبق تحول الـ TNT من حالة صلبة إلى حالة هوائية أسمع سكوتك بوضوح، إنه خليط من المطر والذكريات، ألمس صوت القذائف عن طريق السكايب».
صمت المجتمع الدولي = صوت الحرب
يصمت البعض خوفاً، أو مللاً، أو تجنباً للإحراج.
يصمت البعض ترفعاً، والبعض الآخر تواضعاً.
نصمت أحياناً مع الأصدقاء، ومع الخصوم، ومع الغرباء.الصمت، عدي الزعبي، 2015
كلا الشاعرين، فؤاد والمدهون، يضمِّنان قصائدهما معنى سياسياً للصمت باعتباره عاراً على المجتمع الدولي الأصم عن استغاثة الشعوب المعرضة للعنف والحرب. يكتب الشاعر فؤاد فؤاد في التعبير عن الصمت الدولي: «لا مجيب، نهز أكتاف العالم أن يصحو، نصرخ يا سكان الأرض إننا نموت، لكننا نعرف أن صوتنا صامت، هو مجرد كلمات نكتبها ولا تخرج من حنجرتنا، وهي رغبة وليست استغاثة». أما في قصيدة غياث المدهون فصوت كل قذيفة يقابله صمت المجتمع الدولي، صوت الحرب وصمت الضمير متلازمان: «في تلك اللحظة التي تسبق الصمت، أهز أشجار الخبر، لكيلا يجوع أصدقائي، أهزها فيسقط وجهك، ويسقط وجهي، وتسقط الأمم المتحدة يسقط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتسقط اليونيسكو والصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية، وتسقط حرية التعبير، يسقط العالم الأول والديمقراطية، يسقط كل شيء، وينتصر الذئب».
الصمت والصوت في مدن الحرب والحصار
الصمت يكون تلميحاً أو تصريحاً؛
إجابة أو سؤالاً؛
ويكون شوقاً، وتعباً، وخيرةً؛
وقد يكون فرحاً أو حزناً؛
تفكراً أو ذهولاً.الصمت، عدي الزعبي، 2015
في كتابه «كمن يشهد موته، 2014» يصف الكاتب محمد ديبو سماعيات الحصار وصوتيات الحرب من خلال العلاقة مع الحمام. فهديل الحمام ينبه المحاصر إلى اقتراب القذيفة، ما يطلق عليه الكاتب وصف «وكالة أنباء الحمام»، فيكتب: «من منزلي حيث تقف الحمامة معي، كلانا يتأمل القذيفة النارية اللون وهي تخرج من الطائرة باتجاه الأرض. تقف الطائرة فوق المنزل تقريباً، لتقصف منطقة أخرى في الجهة المقابلة، تهدل الحمامة، يئن قلبي، أمد يدي لأمنع القذيفة». أما الشاعر أحمد الباشا في قصيدته «الخيال المسكون بالرصاص» (2014) فيزاوج بين صخب الطائرات التي تطغى على المشاعر، وبين سكون النسيان والموت للراحلين إلى الغياب:
السماء الصافية حد الأرق
تكبر مثلنا
تأخذ من سني عمرنا
كما لو أنها ظل للماء الذي سرنا عليه يوماً
ويبقى صمتُ أهلنا
وخوفهم
من توحد نبض ذواكرنا مع صوت الماء…
صخب الطائرات جعل من أروحنا سماءً بعيدة
سكنها الغيب
وصار كل من نشتاقهم عنوةً، أهلها.
في سلسلة الشهادات التي كتبتها وجدان ناصيف عن مدينة دمشق في العام 2015، تحت عنوان رسائل من سورية، يظهر السير في شوارع المدينة كتجربة صوتية مع القصف والرصاص، بينما يضج صمت دمشق بآهات المعذبين في المعتقلات، بازدحام النازحين، بصخب الموت: «عندما تخرج من بيتك تذكر أن تودع أسرتك، فقد تموت بانفجار سيارة مفخخة، أو برصاص قناص من على أحد المباني، أو برصاص عشوائي من جنود، ما عادوا يعرفون العدو من الصديق. دمشق التي ظلت صامتة وقتاً طويلاً، ولم تغير من عاداتها اليومية، برغم موت الآلاف، وآهات المعذبين في أقبية السجون. دمشق ازدحمت بالنازحين من المحافظات المنكوبة، وها هي ذي الآن تزدحم بالموت». أما نصوص علي جازو بعنوان يوميات وقصائد (2015) فتنقلنا إلى الصمت والصوت في مدينة حمص. في قصيدته «مخدتان إلى عائلة حمصية» الصمت في النص هو صمت الخوف، والصوت الوحيد هو لسيارة رفع القمامة التي يتمنى الشاعر أن تتمكن من رفع خوفه:
مضى أسبوعان، أصل الليل بالنهار، أتخيل وأتذكر وأنسى. شخص آخر يحيا معي، ليس ظلاً ولا طيفاً ولا روحاً. نومي لا يشبه النوم في شيء. أرى كوابيس مفزعة، وإذ ينتشر ضوء النهار ويتسرب إلى حجرتي، عبر نافذة مربعة جامدة الأضلاع، أحسني خائفاً من النهار أيضاً. يصلني صوت محرك جرار البلدية، مازال له قلب ذلك الجرار الهرم، والدواليب العتيقة المنهكة تجرجر خلفها شوارع ضيقة، إنهم يرفعون القمامة الآن، آه لو يرفعون عني الخوف معها.
في قصيدة أخرى للشاعر بعنوان «لا حياة دون قائد»، يذكرنا الصوت الوحيد المنتشر في المدينة، بالضجيج في رواية الصمت والصخب، حيث الصوت الوحيد المسموح له بالإنتشار هو صوت الرشقات النارية التي تعلن عن سيطرة حامل السلاح على سامعي الصوت: «طلقات نارية تصوب إلى الأعلى، في ليال جليدية، هي الصوت الوحيد يدخل بيوتنا المعتمة. مسلحو البي ك ك، يتسلون، يحمون الشعب، يهددونه، يخيفونه».
الصمت الشعري والصراخ التعبيري وصوت الموت
نصمت في حضرة الجمال، وفي حضرة الشر. نصمت أمام البحر والنهر والجبل والسهول المفتوحة؛
ونصمت في ضوء حزن القمر. نصمت خشية أن نجرح الآخرين. نصمت عندما نسمع الموسيقى، وعندما نقرأ الشعر، وفي السينما. نصمت دائماً في القُبل. الموتى، وحدهم، لا يصمتون.الصمت، عدي الزعبي، 2015
يكثف الكاتب رامي العاشق في افتتاحية نصه بعنوان «هارب من الجنة» (2016) من تدافع الصور الشعرية المتعلقة بالصمت، بالصراخ، وبالأعضاء الإنسانية المتعلقة بها، أي الأفواه والحناجر، وتقارب صوره الشعرية اللوحات التشكيلية التي تجسد الصراخ التعبيري للأفواه البشرية المفتوحة. وكما يصور ويرسم الموت في الفن التشكيلي، فإن الموت في نص الشاعر يمتلك صوتاً:
«حقائب محشوة بالخوف، ثياب برائحة الخذلان، أحذية لأقدام مبتورة، صور لعائلة كاملة لم تعد كذلك، وجوه هزيلة إلا من غضبها، عيون تقذف ملحاً ناشفاً، أفواه تصرخ بلا حناجر، الحناجر التي تركت هناك محزوزة، آذانٌ لا تعرف إلا موسيقا الجنائز وصوتَ الموت».
ثم يتابع النص الوصف التخييلي لصوت الموت. فالموت يتألف سماعياً من صوت الانفجار، الصراخ، والصمت المليء بالصور المؤلمة للضحايا، يكتب الشاعر:
«للموت صوتان: الأول يتمثل بالانفجار والصراخ وملحقاتهما، والثاني هو الصمت، الصمت صوت الموت المكثف، أبصارٌ لا تبصر إلا الخراب، معمورات لم تعد كذلك، دم أكثر من الهواء، وهواء مطعون برماد جثث محروقة».
زعيق الطائرات والأغاني التمجيدية وغايات الترهيب
ينقلنا نص موازييك الحصار (2013) للكاتب عبد الوهاب عزاوي إلى مدينة أخرى عايشت تجربة الصمت والصوت في ظل الحرب والحصار، فالمشروع الأدبي انطلق بالأساس من رغبة الكاتب في توثيق الحصار الثاني لمدينة دير الزور في العام 2012. فبينما توقظ في التسعينيات الأغاني التمجيدية الكاتب فتحي شين من نومه في رواية نهاد سيريس، يستيقظ الرواي في كتاب دير الزور العام 2012 على صوت زعيق الطائرة الخارقة لجدار الصوت. لكن كلا الضجيجان، يسعيان إلى الغاية ذاتها. فضجيج الأغاني التمجيدية هي الترويض والأدلجة، وغاية زعيق الطائرة الخارقة لجدار الصوت هو الترهيب وإثارة الخوف: «أيقظني زعيق الطيارة الخارقة لجدار الصوت (ففكرة الجدار وخرقها عنيفة فعلاً رغم أنها شاعرية)، لم أعرف بم فكرت وقتئذ، فكرت بما يشبه حيواناً أسطورياً يقترب، قد يكون متألماً، هذا الزعيق المرادف للألم حتماً، لا أفهم هذا التناقض، فالمقصود بخرق جدار الصوت إرعاب الناس وليس إثارة شفقتهم». وتتفرد تجربة الرواي السمعية والصوتية في موزاييك الحصار بأنها تحدث آلاماً فيزيولوجية، عضوية، ومؤثرة مباشرة على جسد المستمع-الراوي، لكن هذا الألم العضوي في الآذان ناتج عن التفكير بالضحايا المحتملين ومشاهد الألم الناتجة عن أصوات انفجار القذيفة: «آلام الأذنين باتت مألوفة، السبب العلمي هو تشنج عضلة الركابة للحد من اهتزازات غشاء الطبل بعد كل انفجار، وقد يكون السبب أننا نفكر فيمن ستقع عليهم القذيفة».
صوتيات الحرب التي تشكل سماعيات الجيل القادم
كما يصف العازف الياباني يويوما الموسيقى بأنّها تناوبٌ بين الصوت والصمت، فإن العالم الصوتي في نص موزاييك الحصار يتشكل بالتناوب بين سقوط القذيفة وصدى المأساة، فيصف الكاتب سقوط القذيفة بدقة، يشكل خطرها على الحياة وعلى القارئ عبر الوصف السماعي: «صوت القذائف الآن يحمل صدىً مدوياً في البداية، وفترة صمت قد تشهق فيها القذائف أحياناً وهي تسير فوقنا في البداية، ثم يعود الصمت، بعدها يأتي دوي السقوط، وسيل من الصور المتعلقة بالألم تعبر البال بشكل دموي أثناء الصحو، وبشكل سريالي أثناء النوم». ومهما التبست الأصوات في المدينة، فإن لأي صوت في مدن الحرب والحصار مرجعيتان: إما إنها أصوات ندب وتعبير عن الألم، أو أصوات الخوف. الألم والخوف منبع الصوت في مدينة موزاييك الحصار: «من أصعب اللحظات التباس الأصوات، أن نسمع تداخلاً للعديد من الأصوات الحادة وسط صمت مريب، ونحار فيما إن كانت ندباً من نساء في البعيد، أو حشد كلاب تعوي من الخوف هي أيضاً». ويتفرد نص عبد الوهاب عزاوي بالقلق على تعود الأصوات، وتربية جيل جديد في عوالم صوتية من الحرب والقصف. يشرح لنا الكاتب-الأب خشيته على علاقة ابنته مع هذه الأصوات وينبه الكاتب إلى إمكانية تكريس ثقافة أصوات المعارك والحروب في حساسية ووعي الجيل الحالي. يقع الأب في خيار صعب أن يزيل خوف ابنته من الأصوات وبالوقت عينه ألا تعتاد عليها لتألفها: «من أكثر الأشياء التي أتضايق لأجلها خوف ابنتي من أصوات القذائف، لكن ما يزعجني أكثر هو تعودها عليها حتى أنها باتت تضحك على القطة التي تفزع من صوت القذيفة، وأنا أحار بين حزني وفرحي لضحكها».
ومع هذا القلق عند عبد الوهاب عزاوي بانتقال التجربة السماعية والصوتية من حولنا إلى الجيل القادم، نسعى أن نختم نصنا. يبقى أن القاص عدي الزعبي اختار في العام 2015، عنوان «الصمت» لمجموعته القصصية التي يتطلب الكتابة عنها الانطلاق من مفاهيم نقدية مغايرة عما هي عليه في هذا النص، لكنه يدمج في مقدمة مجموعته القصصية مقدمة شعرية فلسفية عن مفهوم الصمت، وهي التي تخللت بعض عباراتها الفقرات في هذا النص، الذي استعرض حضور الصمت والصوت في الأدب السوري، ومحاولاته أن ينقل عبر المفردات السماعية والمفاهيم الصوتية، كامل التجربة السياسية، الاجتماعية، والثقافية التي عايشها الكتاب والكاتبات السوريات في السنوات الأخيرة.