حالت قذارته بيننا كجدار، اضطررت إلى مواجهة خوفي وتحميمه. قيدته إلى شجرة الكافور ثم وقفت على مسافة محسوبة وفي يدي خرطوم طويل، انطلق الماء فانتفض وظل يقفز كالملدوع، جحظت عيناه وابيضتا كالموت، دارتا بقوة كأنهما ستنخلعان من محجريهما، ومن حنجرته خرجت صرخات رفيعة، متحشرجة، متألمة، مهددة، مخيفة، كان يتحول لشيء آخر عدا كلب يستحم، جسد مسكون بشياطين، بأشباح غاضبة، بروح ملعونة ارتكبت خطيئة مميتة وعوقبت بالعودة إلى الحياة ممسوخة ككلب. أغلقت الصنبور مذعوراً كي أمنع تحرر المسخ من عقاله والتهامي انتقاماً. استعاد ببطء هيئته ككلب ضعيف منكمش ومبتل. تبخر رعب كلينا فأدركت البداهة، برودة الماء المندفع بقوة من الخرطوم هي السبب في صراخه الهستيري، أما ما رأته عيناي فلم يكن إلا الهلاوس ليقيني المترسب أن تلك الكائنات الهمجية غير العاقلة التي طالما أذاقتني المذلة لابد أنها تملك أصلا شيطانياً.
في اليوم التالي قيدته ثانية. ضبطت حرارة الماء في سطل وربت على ظهره عدة مرات لأطمئنه كما تعلمت من فيديوهات تحميم الكلاب، صببت الماء فوقه برفق ثم سكبت قطرات من شامبو اشتريته له خصيصاً، دعكت جسده بفرشاة كبيرة، أبدى مقاومة ضعيفة تلك المرة. أنعشني نجاحي ولم أبال بحاجتي إلى الاغتسال. فككت قيده وفكرت أن الخطوة التالية هي نزع القرادة الضخمة البارزة من جبينه بملقاط، كان منظرها يثير قرفي. جفف نفسه ثم ركض نحوي، دار حولي عدة دورات كذئب يحوم حول فريسته ثم وثب فوقي، دفعته بقوة، أمسكت حجراً بالفناء ولوحت به مهدداً، ابتعد منكمشاً حول نفسه، مخفياً ذيله بين ساقيه.
أمر بديهي آخر فاتني، كالطبيعة المرحة لدورانه حولي وسعادته بتحميمي إياه، فقد كانت تلك اللحظة وحدها هي التي نلت فيها اعترافاً أني مالكه وسيده، لا مجرد مضيف حتى تعود أسما، أما عشرات المرات التي تناول فيها الطعام من يدي وإنقاذي له من مصيره ككلب شارع، فلم تعن هذا الجاحد في شيء. أحزنني هول ما ضيعته. احتضنته ونافقته بالحلوى والطعام، التهم كل شيء ثم جلس بعيداً عني ورفض الاستجابة لأي أمر.
بعد أقل من ساعة نسي ما حدث، مُنح الغفران لكن بشرطين، أولهما ألا يظل لقربي لفترة طويلة والثاني هو أن يتذكر خرطوم الماء كأداة في يد جلاده، فكان يفر كلما رآني أمسكه. لا أنكر استغلالي للأمر كطريقة منحرفة للمرح وضمن ألعاب هوسي الطفولي بمراقبته وتسجيل ردود أفعاله وفهمها، لأجتث خوفي منه من جذوره.
* * * * *
رغم تراوح علاقتنا بين القرب والإبعاد، سوء الفهم وطلب الغفران، كنت أقضي معه أغلب وقتي، نسهر طيلة الليل في التدريب الذي أتعلمه من الفيديوهات. علمته بعد عناء أمر «تعال»، ترجمت سعادتي بالطريقة التي لا أعرف سواها، إفساده بالطعام والحلوى وهو ما لم تكن باربرا لتسمح لي أن أفعله أبداً مع آدم.
اقتصرت لغتنا المشتركة على الكلمات السحرية الثلاث، تشبثت بها كوسيلتي الوحيدة للتأكد من أن علاقتنا حقيقية وموجودة ويمكن تلمسها كشيء محسوس وصلب، دونها لا أراه أكثر من كائن ممل عديم الفائدة، لكن ما أن يستجيب حتى تتملكني الحيرة فأكرر الأوامر إلى ما لانهاية. عند نقطة معينة كان يبدي عدم فهمه لمغزى التكرار، فيصم أذنه عنها، ثم يتخذ ركناً قصياً عند بقعة من حشائش مهملة، فضلها لأنها أكثر راحة من أرض الفناء الترابية.
كان ذلك يدفعني للجنون، فكنت أفعل أي شيء لأغريه بالجلوس بجواري، أهدهد، أشيد، أشرح، أتفهم، أغضب، أتوسل، أتودد، أنافق، أهدد عاجزا بحرمانه من الطعام أو تركه وحيدا في الفناء. لم أكن أتحمل البقاء عنه بعيدا أكثر من عشر دقائق، فينتهي كل شيء بالانصياع لإرادته والجلوس بجواره في البقعة التي اختارها ومداعبة بطنه ورقبته بعد أن أملأ طبقه الكبير.
* * * * *
قررت نقله إلى الفناء الخلفي لأن جدرانه ستسترني عن أعين وآذان العائلة الريفية المتلصصة على نداءاتي باسم الكلب مصحوبة بأمر كل بضع دقائق، لا بد أنهم يسخرون من هزيمتي أمامه وفشلي في تدريبه على أوامر جديدة، رغم حرصي على تكرار الخطوات التي أقرأها على مواقع تدريب الكلاب بالضبط.
كانت الوسيلة الأسرع هي أن يمر عبر المنزل، وكنت قد رفضت بحسم كل محاولات دخوله إلى هناك من قبل، ففضلاً عن كونه ملجأي الأخير ومتنفس حريتي الوحيد من وطأة رعاية كائن آخر طيلة اليوم، فقد كنت أخشى سيناريوهات كابوسية، كأن ينهش خصيتي أثناء نومي.
ما أن دخل حتى تشبث بسجادة صغيرة، رقد فوقها وغرس فيها أظفاره القذرة فأفسدها ثم جابهني بعينين عنيدتين ومتحديتين باغتتاني كسكين يشق نصله الظلام، فهو لم يستعملهما تجاهي من قبل إلا للتهرب أو التوسل، كان يثبت ملكيته لموضع ساقيه، حتى أنه رفض تلك المرة رشوة الطعام فاضطررت إلى حمله عنوة.
تركته وذهبت إلى المقهى، عدت بعد نصف ساعة لأجده قد مزق الاسكتشات وأدوات الرسم التي تركتها في غرفة الخوص الصغيرة بالفناء الخلفي، نسيت بشأنها تماما، صرخت وسببت وهددت، فانكمش بعيداً، احتجت إلى ساعات ليستجيب لوجودي.
كان الفناء الخلفي يفضي إلى السطح، أحب ونيس الصعود إليه والبقاء فيه أثناء غيابي ونومي. رأيت في الأمر صفقة رابحة لكلينا، فقد كسب مكانين بدلاً من واحد، كما أن جمع البراز المتحجر بفعل الشمس من على السطح الإسمنتي كان أسهل علي بعد اختلاطه بتراب الفناء الأمامي.
أملت عبر استبقائه هناك أن أوقف هوسي به الذي اكتسح تفكيري وجفف كوابيسي إلا من حضوره الطاغي، والذي لم ينافسه إلا تخيل أسما، لكنها لم تكن أكثر من حيلة خائبة، فقد كنت أواصل مراقبته عبر الشباك المطل على الفناء، وما أن يتجاهلني حتى أفتح الباب لأجلس بجواره.
* * * * *
كان يهب مهرولاً على السلالم ما أن يشعر بدخولي ثم يقفز فوقي نابشاً أظفاره الطويلة في لحمي، كان ذلك يؤلمني، فعلمته الإقلاع عن تلك العادة عبر إبداء النفور، فصار يستقبلني بلا حماس أو روح، ينظر إلي بعينين ملولتين ثم يعود إلى رقدته الحريصة على البعد.
شجعته على استعادة تحيته العنيفة، ضارباً عرض الحائط بما قرأته على مواقع تدريب الكلاب، أن أحد الشروط الهامة كي يطيعك كلبك هو ألا تتناقض أوامرك، عليه أن يفهم ما تريده بوضوح، ففضلا عن أن ذلك التناقض يشوش عالمه المطمئن للثبات والنمطية، فقد يصنفك كشخصية ضعيفة مترددة، مما يصعب قيادته مستقبلا.
أرعبني ما قرأته عن قدرة الكلاب على تصنيف أصحابها، طمأنت نفسي أن ونيس ليس ذكيا إلى هذا الحد، كيف يمكن له أن يفهم ما يجابهه البشر من مخاوف تبتلعهم، حتى تصير هي كل حقيقتهم فتتحكم في توجيه أفعالهم ومصائرهم.
وفقاً لتلك المواقع، فقد كنت أرتكب كل الأخطاء بثبات مذهل. ذكرتني بكتب التربية التي استعملتها باربرا كحجة دامغة لتحول أبوتي إلى عاري. كانت تحوي عشرات الطرق والتفسيرات المتناقضة لسلوك الكلاب وطرق تربيتهم، لكنها جميعاً تستند إلى الفكرة ذاتها، ضغوط رهيبة وسعي قاس إلى كمال مستحيل.
فلتذهب تلك الكتب والمواقع إلى الجحيم. كل ما بإمكاننا فعله في مواجهة أعين أبنائنا الذكية، البريئة والوحشية عندما يتعلق الأمر بانكشاف حقيقتنا هو أن نتنكر كآباء جيدين.
* * * * *
لا أعرف حقاً ما الذي أريد أن يكونه، مفعماً بالحياة، أم ميتاً، أم كلاهما في آن. استسلمت أمام الشيخوخة المفزعة التي سرت في جسده. قلت: «سنخرج في الصباح، ربما نلتقط بعض الصور». أطعمته ثم خرجنا من البيت، بيد تقبض على القيد وأخرى ترتجف.
في البداية سرنا معا خطوة بخطوة. ساق ترافق أختها كظل ملازم وحميم، تهتز الأرض لرقصتنا السرية على إيقاع أقدامنا الخفيض المتناغم، تماما كما تخيلت في حلم ينقصه طيف امرأة، بالضبط كما شاهدت الكلاب وهي تتبع أصحابها، بأعين وحواس يشدها وثاق غير مرئي إلى كل خلجة تصدر عنهم.
سرعان ما أدركت أنه لا يشبه الكلاب في شيء، فقد ناضل من أجل الخروج، حدد هدفه بعزم وثبات، لم يلن ولم يساوم، ومثله ناضلت خوفي وأوهامي لألبي له ما أراد. ارتبكت بين الانزعاج من عصيانه، وبين شعور ساذج بالفخر لتفردنا.
هزمتني رجفة السعادة، تحت وطأتها، تجرأت وحللت القيد.
تحطم حلمي بعد أقل من مترين عندما لمح قطة سوداء تعبر بجوار سور منزل، طاردها من شارع جانبي إلى آخر، صم أذنه عن نداءاتي اليائسة والمحرجة من سخافة اسمه وعدم استجابته.
لاحقته ركضاً فتعثرت بحجر، جلدتني ضحكات لسيدتين تجلسان أمام مصطبة بيت، قمت لأنفض التراب والإهانة، فقدت أثره، واصلت الجري بأنفاس لاهثة وصدر مجروح، عثرت عليه بجوار كومة قمامة وقد غرس فيها خطمه الشره مبتلعاً كل شيء دون تمييز حتى ظفر بهيكل دجاجة، انتهزت انشغاله، وركبت طرف القيد في طوقه برأس تغالب الغضب وجوف يقاوم القيء، جذبته فتثاقل.
سرنا معا بخطوات متعرجة، يجرني إلى كل شيء يثير انتباهه، مهما كان تافهاً، كأنه من يقبض حقا على طرف القيد.
توقفت ثم انحنيت لتصير رأسي في مواجهة عينيه، غرست فيهما نظرة تدعي التفهم والهدوء صوبتها كرصاصة مخدرة، هدهدت رأسه، قائلا:
«أنت لا تفعل شيئا سوى إحراجي، تأكل القذارة كأني لا أذيقك إلا الجوع، أنا الذي لا أفعل شيئا على مدار اليوم أكثر من إطعامك، تهرول في كل مكان كأسير معذب، لا كائن يدور كل شيء تحت سقف بيتي، بل في حياتي بأكملها حول وجوده».
حدجني بعينين خاليتين من أي شعور بالخطأ، مفعمتين ببراءة اللؤم وادعاء الغباء.
ازداد حقدي وعزمت على العودة إلى البيت كي يفهم خطأه الكبير، لولا أن رآنا الكلب القزم العدائي المجنون ليثير بنباحه كلاب الناصية، انصب غضبهم على ونيس، حتى أن الكلبة البيضاء المرقطة شاركت في الهجوم وهي تعتذر لي قائلة:
«إنه القانون».
انكمش ونيس، التصق بجسدي محتمياً به من العصبة المتربصة، أمسكت بحجر، تلك المرة لم يكن للتهويش، كنت سأقذفه حقاً لو مسه أحدهم، تبينوا صدق عزمي من عيني المتصلبتين والمتوعدتين بما هو أكثر فابتعدوا.
عاد سيرنا للتناغم بعد أن أدرك أني حصنه الآمن من الشر. بددت قدرتي على حمايته غضبي من عصيانه. كان حب هذا الهمجي الجاحد يغوص عميقاً في روحي، مع كل خطوة نخطوها.
* * * * *
استيقظت برأس مسمومة بصورة خائن وصدر ينخسه الحقد. غادرت البيت وأنا أرسم في ذهني خططا خيالية معقدة للتخلص منه، لكني انتهيت إلى شراء كرة مخصصة للعب مع الكلاب، من محل وعيادة بيطرية تملكه امرأة أربعينية نحيلة ومحجبة بملامح بيروقراطية وحيادية أمام المآسي كتلك التي لموظفة في هيئة حكومية، لكني علمت أنها الطبيبة الأكثر خبرة في المدينة.
كدت أن أنصرف سريعا لولا أني وقفت لأراقب بحسد خضوع الكلاب في العيادة لأصحابها. في البيت فعلت كل شيء لتدريبه على التقاط الكرة لكنه ظل يرقبها بالعين الباردة للعجائز دون أن يحرك ساكناً.
كلما زاد عناده كلما تعاظم هوسي، لم أذق النوم لأسبوع كامل إلا لسويعات قليلة، فما أن استلقي على فراشي يائسا حتى تصعق دماغي فكرة، ربما شيئا ما قد فاتني أو أني قصرت في اتباع خطوة ما، فأراجع فيديوهات التدريب ثم أطبق الفكرة الجديدة، دون أن أعبئ إن كانت تتناقض مع أسلوب جربته سابقاً.
عقب ظهيرة يوم حار، كنت جالساً برفقته أضرب الكرة في الحائط بذراع يائسة مخدولة، متأملاً بغيظ سكونه كجثة.
انتفضت، صرخت في وجهه:
« لقد سأمت ابتزازك.. لقد منحتك كل شيء.. لا مزيد من التدليل.. بقائك في البيت مرهون بالطاعة».
انقلب على ظهره واضعا ساقيه فوق عينيه كي أداعب بطنه ورقبته، قرأت في موقع ما أنه بتلك الحركة يستدعي حنان صاحبه، رغم ذلك فتحت مواقع أخرى على هاتفي حتى توقفت عند رابط لم أره من قبل، وكان يذكر تفسيراً مغايراً:
« إشاحة الكلب للنظر أو تعصيب عينيه بساقيه الأماميتين عندما يستلقي على ظهره، تهدف لإيقاف التواصل البصري مع سيده لتجنب الأوامر، كالأطفال عندما يغمضون أعينهم فيظنون أن من يقف أمامهم قد اختفى».
أيظن أنه عبر تلك الحركة البلهاء ينزع عني وجودي؟ أنا من اخترع تلك اللعبة لمحو كل ما أغضبني، أغمضت عيني في المقابل لكنه لم يختف، أرأيت؟ إنها ليست حيلة ناجعة، نحن الاثنين هنا، محاصران بالوجود سوياً في مصير واحد، وحيلك الملتوية لقلب العلاقة رأسا على عقب لن تنجح، لست أنت من يروض صاحبه ويدربه على طاعته، الآن أفهم، لقد أجبرتني على الاعتناء بك، إطعامك، تحميمك، تفعل ذلك بصبر ولؤم الشياطين لأنزلق دون وعي إلى الخضوع لرغباتك، والمقابل: ثلاثة أوامر بائسة تنفذها فقط عندما تشاء، تخدرني بها كمن يلقي عظاماً إلى كلب فأتوهم أني سيدك.
واصلت إلقاء كلماتي السحرية الثلاث لكن دون جدوى. مكدوداً غاضباً دون أن أعرف إلي أين علي أن أوجه هذا الغضب استسلمت، رقدت بجواره قائلا بنبرة المذنب الذي يكشف للمرة الأولى اعترافاً رهيباً يثقل كاهله:
«كل ما أريده هو الحب».
* * * * *
لا أعلم إن كانت الشفقة أو الحب أو شعوراً مراً بالإهانة هو ما جعلني أصعد إلى السطح لأراقبه.
لم يرفع نظره ولو مرة إلى أعلى، انتهى من أكل خرائه ثم دخل إلى شارع جانبي فاختفى عن مرمى بصري، لم أصدق أنه هجرني هكذا بتلك البساطة.
لعدة ساعات كنت أصعد إلى السطح كل عشر دقائق على أمل أن يعود.
ارتديت ملابسي وخرجت بحجة الابتعاد عن البيت أطول وقت ممكن، بينما أخفي عن نفسي أمل أن ألقاه فأعيده، وصلت على المقهى، جلست لنصف ساعة ثم عدت دون أن أراه.
استوقفتني الكلبة البيضاء المرقطة، رمقتني بلؤم، قلت:
– أعطيت كل شيء ولم أحصل إلا على المذلة والخداع.
– فلتتحل بالمزيد من الصبر.
– لا تعرفين أي شيطان لئيم سكن معي تحت سقف واحد.
– لقد أفسدتك عزلتك، فصرت عاجزا عن الاتصال بحقيقة مشاعرك أو فهمها، وعندما أتاك أخيرا من يستنطقها من بئرها العميقة المعطلة، رأيت في أقل عطاء لك شيئاً ضخماً، ما يربكك هو الرفض الناتج عن المبالغة في تقدير منحتك.
– أنا لم أرد إلا الحب.
– بل اليقين في الحب ولن تناله، لقد ضرب هوسك باخضاعه جذوره في روحك بعمق ورسوخ، هذا ما يفسد عليك كل أمل ويسمم تلك العلاقة، وما نوبات الاستسلام والتفهم أو رفع راية غاية نبيلة كتصحيح سلوكه إلا محض تصنع وادعاء. لقد صارت الطاعة المطلقة العمياء، أن تكونا معا كجسد وظله هي مرادفك الوحيد للحب، ضمانتك الوحيدة كي تكف عن الشك.
– يا للحذلقة، لقد فسد عقلك تماما بسبب القراءة.
– لست من أنا من يكلم كلباً في خياله ويحاكي فعل الحب لدى كلب آخر.
* * * * *
توقفت في وسط الشارع، صرخت:
«لا أفهم، كيف تعتبرني مالكك إن كنت ترفض طاعتي؟»
رمقني بعينيه الخاليتين من وجودي.
* * * * *
كنا في بطن الليل، وحيدين في البيت، في العالم، يلفنا صمت موحش، يمحو كل أثر لسوانا، عناده نهائي، وشروطي للتيقن من الحب كذلك.
وقفت في مواجهته متوسلاً أن يجد حلاً نهائيا للأزمة، طلب واحد ينفذه مرتين متتاليتين فأغمره بطوفان من الحنان، لكنه تشبث باضطجاعه البارد وحدجني بعينين هازئتين غير مكترثتين بطاعتي أو بتحقيق أساطير الحب والوفاء كما عُهد بالكلاب، كل ما يعنيه هو احتلال البيت، موقنا أن خادمه لا يملك الإرادة الكافية للتخلي عنه، أنه أضعف من إيذائه أو التوقف عن إطعامه وتدليله.
ارتفعت قدمي تلقائياً لتركله في وجهه، ظننت أن صرخته سيعقبها غضب وانتقام، وأنه سيغرس أنيابه في ساقي، لكنه بخضوع عجيب اتخذ وضع الجندي أمام قائده، ثابتاً منضبطاً ينتظر الأمر التالي، ربما اختلس نظرة خسيسة بحثاً عن مهرب، لكنه لما أيقن تمام الحصار تسمر ذليلاً.
كانت لحظة كالسحر أفسدها الذنب، لكني أقسم أن خلف ضبابه الأسود كدت أن أمسك بلذة عظيمة، كأن باباً مهيباً قد انفتح لي، نداء لخوض الغمار المجهولة لهذا الكائن وفك مغاليق روحه العصية.
بعد دقائق كررت الركلة، لكنه ابتعد إلى ركن قصي مظلم.
* * * * *
في كل يوم كنت أخبر نفسي أنها ستكون الأخيرة وأني سأتوقف، لكن لطمة تلت أخرى.
في أقل من عشر لطمات تعلم أمر «داون»، وخلال أسبوع حشوت رأسه بالمزيد من الأوامر، لم يعد يجرؤ على الابتعاد عني أثناء سيرنا خارج المنزل أو التحرك بعيداً عن موضع قدمي أثناء جلوسي على المقهى، لقد كلفني ذلك ساعات من الإحراج بضربه أمام الجميع.
كنت أعلم تماما إلى أي هوة أنزلق لكن لم يعني ذلك أني قادر على إيقاف المأساة- أليس هكذا تتحقق؟ – فقد جرفني السحر، هُزمت أمامه، بعد أن منحني ونيس أخيراً كامل حضوره وانتباهه.
كان سوط يدي أسرع وأبلغ من أي لغة.
تلك اليد، التي طالما عانت التردد، التي شققها الضعف، التي كادت أن تتلاشى، الآن تجسدت، أشعر بها حية، كما لم تكن من قبل، ما أن تنغرس في جسد ونيس الهزيل، الذي يشبه بعد الضرب فأراً ضخماً ذليلاً.
تركزت قوة جسدي كله في اليد، فصارت ثقيلة كحجر، سريعة كنصل مقصلة، أعادت رسم وجودها واكتسبت ذاكرة جديدة. كنت أتأملها بانبهار طفولي، هل كانت دائماً هكذا؟ صغيراً، كنت سريع الغضب، وكانت تلك اليد جاهلة لكن جسورة، ما أن يعجزني الكلام حتى تقفز قبلي لتصفع، لتبين في بلاغة ودقة ما تحشرج في حنجرتي.
هذا ما نحن عليه. مسوخ وحيدون في بطن الليل، بحوزتهم فرائس مثالية للأفخاخ البشرية المنصوبة بأسماء مختلفة، كالغرام والصداقة والأبوة، فقط عبر الحب يخفي الذئب غباره في مسوح الجدة الطيبة.
ظننت واهماً أني طردت شيطانه المتمرد لكنه كان هناك كامنا ينتظر الفرصة ليسخر مني ويحيل كل ما أنجزته إلى هباء منثور.
عندما خرجنا استغل انشغالي للحظة وأفلت مني، هاجم المارة وركاب الدراجات والقطط والسيارات من جديد، طوقته فعاد للسير بجواري خاضعا، اختبرته بإلقاء الأوامر المتتابعة، كل دقيقة تقريباً، فنفذها جميعاً، لكني لم أكف عن الشك.
دخلت السوبر ماركت وألقيت بأمر الانتظار الذي فتنت به بعد أن رأيت كلاباً تقف في أماكنها كتماثيل لا تلتفت أعينها عن باب السوبر ماركت حتى يخرج أصحابها.
لم يكن تدريبنا على أمر الانتظار قد اكتمل بالشكل الأمثل، كان يقف لثوان معدودات، قبل أن يتحرك أو يلاحقني داخل السوبر ماركت وكنت أعاقبه حينها. لم أكن أعلم على وجه اليقين ما الذي آمله بتعريضه لهذا الاختبار، هل كنت أرغب في أن يطيع الأمر أم أن يعصاه فأجد الفرصة لإثبات سوء سلوكه، بل والفرصة لضربه؟
خطوت إلى داخل السوبر ماركت ثم استدرت بعينين متأهبتين، لقد تحرك، عدت إليه، لطمته، ورفعته من قفاه كمذنب ذليل، ثم جررته إلى البيت.
أدخلته ركلاً وصفعاً، حاول عضي، لم يجرؤ على غرس أنيابه للنهاية، ما الذي يخيفك، فلتفعلها إن استطعت.
* * * * *
تفننت في عقابه بكل الطرق، ارتكبت ما لا أقوى على ذكره.
لم يعد بإمكاني التوقف، في البداية كان الهدف واضحا، طرد كل أثر لتمرده، لكنه ما أن يخضع تماماً حتى يصيبني الجنون، فأتعمد إرباكه وإيصاله إلى اليأس كي أدفع الشيطان للظهور من جديد، كنت لأفعل أي شيء لإرواء لذة يدي الملعونة.
كان قلبي يرتجف مع كل ضربة، لا من وطأة الذنب، بل من هول اللذة، فمن عمقها المجوف كبئر غائرة، من قلب ظلمتها العمودية، أضاءت روحي، كأني ولدت من جديد، بعثت. في مواجهة عينيه الخاضعتين خضت الباب المهيب، كسوت إرادتي لحماً، من عظام الهوس بكسر إرادته شيدت عرشاً. من طاعته الذليلة عرفت أن بإمكاني السيطرة على الحياة، من محوه بالكامل رممت نقصي لأصير عملاقا بجناحين، في تلك المأساة الضحلة كوجهه وجدت الرضا، واعتنقت الكراهية كمحب جسور.
عدت بكلبي إلى البيت، أدخلته إلى غرفة نومي. تركته ثم عدت وبحوزتي سكين، مررتها أمام عينيه فارتجف وأشاح برأسه، فأجبرته على التحديق، تنفست عميقاً.
تأملت ندبته الأولى التي صنعتها عندما شججت جبينه بدراجتي، وقد صارت جافة ومضيئة وأبدية، داعبتها بحنان، وعند موضع مماثل برأسي حفرت بالسكين جرحاً، طأطأ برأسه كمذنب حقيقي، احتضنته كقديس، سالت دموعي مختلطة بدمي، لكن تلك المرة ليس عن شعور بالذنب، فجراحه الآن في مقابل جراحي. ندبة مشتركة، كعهد مقدس، لا يمكن فصمه، لقد كتب بالدم.