كنت قد سمعت حكاية عم رجائي عن إمبابة من قبل، مرتين على الأقل منه في زياراته السابقة، وأكثر من مرة على لسان والدي، ولم تكن أعجوبته الصغيرة وحدها هو ما يتم تكراره في الزيارات العائلية، ففي زمن كان لا يحدث فيه الكثير، ولا يُرتجى أن يحدث به الكثير، لم تكن لدينا سوى موضوعات قليلة للحديث مع الضيوف؛ شكاوى محفوظة من صعوبة العيش وضيقة يوماً بعد يوم، وقليل من ذكريات الطفولة والأزمنة الأجمل التي لن تعود، ورثاء يتجدد لقريبة أكلتها قرحة الفراش في مستشفى التأمين الصحي، وبعد هذا كله، لم يكن هناك بد من العودة إلى الطرائف المكررة، والاستماع إليها بنفس دهشة المرة الأولى، وبكثير من الطمأنينة التي تفيض بها عودتها الموسمية.

«استنى يا رجائي، أجيب الكاسيت».

قفز الوالد من كرسيه وهو يصفق بيديه في ابتهاج، وبقفزات سريعة صعد درجات السلم، قاصدًا غرفته في الدور الثاني، وكما توقعت، تبادلت أمي مع طنط هيلانة نظرة بها القليل من الاستخفاف. كان المسجل التوشيبا هو لعبة الوالد الجديدة، وأقصى رفاهية يمكن لموظف حكومي صغير ومسرف أن يتمتع بها، كانت البيوتات الأخرى قد استبدلت التلفزيون الأبيض والأسود بتلفزيونات ذات شاشات أكبر وبالألوان، وكان البعض قد اقتنى الفيديو أيضاً، وأحيانًا ما وصلتنا دعوات من المعارف لقضاء سهرات حوله لديهم. وتفرجنا حينها على أفلام، كنا نعرف معظمها أو ربما حتى شاهدناها بالصدفة في التلفزيون قبلها بأيام. إلا أن هناك ما أثار غيرة والدي، ودفعه إلى شراء الكاسيت من محل التقسيط وبستة وصولات أمانة، يساوي كل منها نصف راتبه الشهري. وكانت هي تلك القدرة المذهلة التي اكتشفها في التسجيل المنزلي، التحكم في الزمن. الحركة على مسطرة الوقت ذهاباً وإياباً، وإعادته أكثر من مرة، والتوقف عند واحدة من النقاط طويلاً إن أردنا على الضد من الطبيعة، وتحريكه ببطء بغية استساغته في صبر وتروٍ، أو تسريع حركة ما لا يعنينا منه توفير للحظات من فرصة الحياة القصيرة.

غاب بابا في الأعلى، كان هناك صوت خربشة بلاستيكية وتقليب لأجسام صلبة تصطدم ببعضها بعض، وصدر صرير مزعج لباب الدولاب وهو يفتح، وبعدها سمعنا خطواته وهو يقطع الغرفة فوقنا، ثم صمت دام لبضع دقائق. وكان هذا وقتاً أطول من اللازم لإحضار الكاسيت. وتلاقت عيون ماما وطنط هيلانة مرة أخرى، وارتفعت ضحكة عالية وحادة بينهما. «تلاقيه بيتسبسب قدام المرايا» قالت ماما بدلع، ومسدت شعرها بأطراف أصابع يديها الاثنتين، متظاهرة بتصفيفه كما يفعل بابا. وابتسم عم رجائي. كان بابا رجل عايق، «عايق ومضايق» كما كانت تقول ماما ساخرة، معجبًا بنفسه جداً، وعرف الجميع ذلك، كان يقف أمام المرآة بالساعات، يخرج المشط الأسود الصغير الذي يحتفظ به في جيب القميص ويتوغل بأسنانه بين خصلات شعره، ويمشطه بحركات آليه في اتجاه واحد، وبعد كل حركة يمسد بيده في نفس الاتجاه على القصة المموجة، كان يفرق شعره على الجنب، ويترك بعض خصلات تسقط على جبهته قليلاً، ويتأكد من انتظامها بلمسات خفيفة من أصابعه. وأحياناً كثيرة كان يفرد بعض الفازلين على كفيه، ويبدأ في فرك شعره به، يغرس أصابعه الزلقة في فروة رأسه ويمررها كأسنان المحراث في طمي مبتل. ويعود ليسرح شعره الذي اكتسب لمعة دهنية، مرة أخرى بالمشط، وهكذا. وفي بعض الأحيان قاطع طقوسه الطويلة هذه، بالذهاب إلى الحمام ليغسل يديه من أثر الفازلين، ويعود أمام المرآة، ليقبض على طرفي ياقة القميص بإصبعين، ويحركها يميناً ويساراً، وهو يتنحنح، وغالباً ما كان يختم كل هذا بتأمل صورته المنعكسة أمامه، ببعض من الإعجاب وبعض من الحسرة.

«إيه يا عم، أنت نسيتنا ولا إيه؟» نادى عمو رجائي عليه من الأسفل.

استمر الصمت لدقيقة أخرى، وبعدها سمعنا الوالد يهبط على السلم، بخطوات متأنية ووقار مبالغ فيه، ربما لتعويض الحرج الذي تسبب به لنفسه في طريقة إلى الأعلى، أو إجلالاً للجهاز الذي بين يديه، وللمهمة المقدم عليها. كان الإمساك باللحظة لدفنها، تعليب الحاضر قبل أن يحدث، إما خوفاً منه أو عليه، هو عادة الثمانينات بلا شك. وكان هو على وشك أن يفعل ذلك.

«هتسجل إيه يا عم أنت؟»

أشاح عم رجائي بيده، ضاحكًا، وحرك سبابته بعلامة النفي رافضًا الاشتراك في اللعبة.

«إنتوا بتغيبوا علينا، نبقى نسمعه لما توحشونا»

تغير وجه طنط هيلانة فجأة على وقع جملة الوالد، وستارة من الحزن الذي لم أتصور أنها تعرفه أسدلت عليه. رمقتها أمي بنظرة مملوءة بالشفقة، وبدا لي أنها تعرف سر تغير مزاجها المفاجئ.

«سجل يا رجائي، عشان خاطري»

كان توسل طنط هيلانة هو ما دفع زوجها لأن يضع السيجارة جانباً، وأن يرجع بظهره للخلف، معلناً للجميع استعداده للتضحية بحكايته قربانًا للذكرى، تنحنح عدة مرات، لتسليك زوره، وتجهز بابا بدوره.

كان بين يديه شريطين رماديين، بلا أي كتابة على أيٍ منهما، وبدى متحيراً بينهما، وضع واحداً منهما في الكاسيت، وضغط بأصبعين؛ واحد على زر التشغيل والآخر على الزر الأحمر المجاور له. كان اللون الدموي للزر مقصوداً للتحذير بالطبع، فالكاسيتات لا تخلو من مخاطر، ككل شيء آخر، والضغط عليه قد يعني المسح كما يعني التسجيل. وفي أحيانٍ كثيرة يكون المسح ضياعًا لا يمكن تعويضه أو الرجوع فيه، وهكذا الذاكرة في الأصل ليست إلا حادثة أفضت إلى نسيان أشياء أخرى كثيرة.

لتلافي هذا النوع من الحوادث غير المقصودة والفادحة، كان الجهاز مصمماً بحيث يحتاج التسجيل عليه إلى كبستين حازمتين على الزرين وفي الوقت نفسه. وكانت احتياطات الأمان تلك وليدة تكنولوجيا مسؤولة، قادرة على سبر أغوار الإنسان، وحمايته من نفسه، وتاريخ طويل من التجربة والخطأ، وألوف من الكبسات القاتلة بأكثر من سلاح، كان يمكن تلافي خسائرها بسهولة في الماضي.

انفجر صوت الشيخ كشك من السماعات، بأعلى صوت، «والله يا أخوة يا أعزاء» ومن المفاجئة ارتد الوالد إلى الخلف… «لا أنسى حين دخل»، وأفلتت مني ضحكة شامتة سرعان ما كتمتها، كانت الضغطة غير موفقة، وهبط زر التشغيل وحده، فيما بقي الزر الآخر عالقاً في المنتصف، وأطرق هو للحظة، ورأسه منحنية تجاه الكاسيت، وكانت هذه حادثة من نوع آخر تماماً.

«وده إيه اللي جاب الشريط ده هنا، يكنش اللي مدهولك شعبان بتاعك؟» وجّه بابا كلامه لماما بعينين مملوءتين بالغضب. وسادت لحظة من الصمت الثقيل. كان الأستاذ شعبان جارنا، يسكن في البيت الملاصق لنا من جهة اليسار، مع والديه المسنين، وزوجته وابن لها من زواج سابق في سني أو أصغر قليلًا. وكانوا ناس في حالهم، لم يسمع أحد حسهم، ولم يربطنا بهم سوى علاقة طيبة وسطحية في الماضي، لكن بابا اعتاد أن يجيب سيرتهم عمال على بطال، وأغضب هذا والدتي جداً، وكانت تبكي أحياناً لسبب لم أفهمه حينها.

أنا مش هرد عليك، أشاحت ماما بوجها بعيدًا عنه، ووجهت كلامها للضيوف «شايفين اللي بيقوله، يرضيكوا؟» وتدخلت طنط هيلانة لتهدئ الموقف، عيب يا أبو شريف الكلام ده، ما يصحش كده، مراتك ست كُمّل.

ولم يرد بابا، أخرج الشريط من الكاسيت، وقلبه في يده للحظة ثم ألقاه جانباً، ووضع الشريط الثاني في الكاسيت، ضغط على زرار التشغيل فقط، عمداً هذه المرة، وخرج صوت وردة، بهياً ومنتصراً، «أكدب عليك ..أكدب عليك». وظهر الرضا على وجوه الجميع، وأعاد بابا الكرة مرة أخرى، وضرب بحزم أكبر أو ربما بغلّ، أطلق الزناد، وهبط زرا التشغيل والتسجيل معاً، وسمعنا تكة قوية، تلاها صوت حفيف الشريط وهو يلف على بكرتيه، بصحبة بعض الخروشة المنتظمة، وتكتكتة التروس وهي تفرم الأغنية بتأنٍ. أضاءت اللمبة الصغيرة «ريكوردينج»، وكانت وردة مطربته المفضلة، لكن لم يعد هناك مكان للندم.

خيمت دقيقة من الترقب في الصالة، مال الجميع بآذانهم صوب الكاسيت، وكان لصوت الدوران الهادئ الصادر منه ولإيقاعه الرتيب كتلك الأيام، مفعولاً مخدراً. وبدا على عمو رجائي بعض التهيب، فأن تحجز مكانًا من ذاكرة العالم، وأن تترك أثراً فيه ولو كان في غاية التفاهة ولا يعرف به سوى خمسة أفراد فقط، فهذا بالطبع ليس أمراً  هيناً، وكان يستحق وقفة طويلة للتأمل، لولا أن الوالد قاطعه بإشارة حاسمة من يده، للبدء، وانطلق عم رجائي بالفعل.

«واحد، اتنين، تلاتة…هاجول أهو».

* * * * *

فيما كان غارقاً في أفكاره الخيالية تلك، خطر له أن يهبط من الأتوبيس في المحطة التالية، وأن يتمشى في تلك المنطقة التي لا يعرف لها اسماً، ولم يرها من قبل. وكان هذا قراراً مذهلًا، في توقيته هذا، وكأن كل شيء كان مرتباً.

ظهرت الوالدة في الطرقة، هي الأخرى في الوقت المناسب تماماً، تسحبت هذه المرة، ودخلت إلى الصالة على أطراف أصابعها، وبرأس نصف منكسة. والتفت عمو رجائي تجاهها بابتسامة، قبل أن يعود ليركز نظره على التسجيل، ويتابع استرساله:

«نزلت من الأتوبيس فعلاً، وأصخت السمع. ويقولون إن للفقر لوناً كالحاً لا تخطئه العين، ويقول البعض إن له رائحة ثقيلة، هي خليط من كمكمة موت مقبل وزفارة باهتة، وأنا أخبركم أن ما يميز الفقر حقاً هو صوته. للفقر صوت، بالفعل، ضوضاء مسترخية وثابتة تأتي من مكان بعيد، من هوة سحيقة لا يمكن تمييز أيٍ من أصواتها على حدة، خلفية مناسبة تماماً  لحياة كل حاجة فيها محصلة بعضها، وعلى السطح المستقر من الأزيز، ثقوب غائرة من أثر ضربات المطارق وأصوات عويل ودقدقة ومواتير متعثرة وميكروفونات وإذاعة الأغاني ونباح في الليل وزغاريد وألفاظ فجة وإشكمانات تنفث هواء أسود، وزغاريد مرة أخرى مصحوبة ببهجة إطلاق النار، وكل حيلة ممكنة للانتقام من جريمة الهدوء، تلك اللامبالاة الآثمة، وكل نغمة نشاز يمكن لعزفها أن يزعج العالم، وأن يفسد إيقاع براءته المدعاة.

في اللحظة التي نزلت فيها من الأتوبيس، عرفت أنني في حيّ شعبي. حتى لو كانت عيناي مغمضتان، ولو وضعوا غمامة عليهما، كنت سأعرف يقيناً، وفي الحال، كان صوت الفقر زاعقاً، وكافياً لأستفيق مما تبقى من خدر قيلولة اللحظات الشحيحة في الأتوبيس. كان يمكنني سماع أصوات الكاسيتات من كل صوب، من شبابيك السيارات المصطفة في طوابير تزحف بتململ، وعبر حوائط البيوت التي ضاقت بأصحابها باحثة عن طريقة لتتمدد إلى الخارج، وأمام الدكاكين ومن فوق الأكتاف المحنية وعلى الدراجات ومن البلكونات المثقلة بقصص الغرام المتخيلة، كل صوت منها يزعق بامتلاك الشوارع، أو يستجدي الاعتراف بوجوده، يقفز أعلى من الجميع، ويحاول أن يفرض نفسه على الفضاء المزدحم بقسوة ونزق.

بعد خطوتين، وصلت ناصية يتقاطع عندها الشارع الرئيسي مع آخر جانبي، وانحرفت إلى جهة اليمين، ففي الشوارع الجانبية، حيث تلقي البيوت بأحشائها إلى الخارج دون قلق، تحدث معظم الحوادث الهامة، والحكايات الجديرة بالنميمة.

كان الشارع الجانبي أقل ازدحاماً، وأخفت ضوضاء، ومشيت فيه عدة أمتار، وفوت شارعاً فاثنين، ودخلت في الثالث، فأنا أتفاءل برقم ثلاثة، وكان انحرافي أيضاً جهة اليمين، فالناس جميعها تتفاءل بجهة اليمين. وترددت للحظة، فكل انحرافه من هذا النوع، كانت تعني ضياع فرصتين أكيدتين، وإجهاض عدد غير محدد من الفرص التي لم تولد بعد. ونظرت بندم إلى الشارعين اللذين فوتهما، وبتأنيب الضمير تجاه الشارع الرابع وما بعده، وتخيلت أنها ميتة الآن بسببي. لكنني كررت الأمر مرة أخرى، وبعزم أكبر، فوت شارعين ثم درت إلى اليمين في الثالث. كان الأمر أشبه بالشجرة، تستدق فروعها واحداً بعد الآخر، فكل شارع كان أضيق من سابقه، حتى وصلت إلى حارة بلا تفرعات، وكان مسارها يتلوى كحية، ولا ترى منها أمامك سوى بضعة أمتار، ويستتر بقيتها خلف المباني السكنية البارزة على أقواس انحناءتها الحادة والمفاجئة، وكانت كل انحناءة من هذه تدويناً لتاريخ من المواءمات الخرسانية والتكيفات والخبطات العشوائية أرسيت فوق بعض على مر الزمن. وكلما وصلت إلى واحدة منها تجدد أملي بالوصول بمجرد تجاوزها، فتعذر الرؤية هو أصل الرجاء بالتأكيد. وانحناءة بعد أخرى تابعت المسير كنصف أعمى، وأنا أراوغ النظرات المتوجسة للعجائز المستلقيات على الأرض أمام أبواب بيوتهن المفتوحة، والغاطس نصفها في أرضية الطريق الترابية والمشبعة بالرطوبة.

 

* * * * *

كانت ماما متيقنة من أن القس صغير السن لن يفهم ما ستقوله له، كما لا يفهم الرجال النساء عادة، ولا المتحضرون البرابرة، وكما لا يفهم البالغون خيالات الأطفال، ولا الميسورين هؤلاء الذين في حاجة، وهذه طبيعة الأمور، فلم يكن هناك جانب شخصي في الأمر، كانت لعنة الكلام التي تلاحقنا إلى اليوم.

أشياء كثيرة بقيت بلا اسم، منذ أن سقط آدم وحواء من الجنة، أشياء من التفاهة أو الندرة حتى أن أحداً لم يبذل جهداً في تسميتها. وظلت أشياء أخرى مجهولة النسب مهما حاول معها الناس، لأنها وبأي حال لا يمكن وصفها، أشياء يشعر بها المرء ويعجز عن الحديث عنها، من فرط النشوة أو من فرط الألم، وفي الأغلب الاثنين معاً. لكن تلك لم تكن المعضلة، ولا السبب الذي أعجز ماما عن الكلام أمام أبونا، وعن أن تجد الكلمات المناسبة لترد بها عليه. فالأشياء التي حيرتها لحظتها، وتحيرها دائماً، كانت تلك التي لها أسماء، أسماء كثيرة، أكثر من اللازم، وجميعها صحيحة، ولا يتفق على معناها البشر

يقول الكتاب أن الأمر كله حدث بسبب الغرور. فالأرض كلها كانت لساناً واحداً ولغة واحدة، ولكل شيء اسم واحد يقابله، واحد فقط، ويعرفه به جميع الناس. كانت اللغة ببساطة مرآة العالم، وكلماتها سطح فضي يلمع في الشمس، انعكاس دقيق ومفصل لأشيائه. كان هذا، حتى ظهر النمرود، وبوضوح كان اسمه اسماً على مسمى، ككل شيء آخر وقتها، وقال قومه «هلم لنبن لأنفسنا مدينة» وكانت هي بابل طبعاً، الغانية العظيمة كما يقول سفر الرؤيا. وقالوا أيضاً ولنبن برجاً رأسه بالسماء، وكان هذا برجها الذي نعرفه، رمى أساساته حلم معتوه بالعظمة، بمطاولة الآلهة والجلوس على مائدتهم، وشيدوه طوبة طوبة، واحدة من الثقة المفرطة بالنفس وواحدة من التباهي، تحد للسماء مصنوع من حجر، تجديف على الله في هيئة مبنى يناطح السحاب. وكما يقول الكتاب فإن الرب قال لننزل ونبلبل لسانهم هناك، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، وبدل الرب قلوب الناس لا ألسنتهم.  ولم تكن هناك لعنة أقسى من هذه، أن يضربهم الله بمزيد من الغرور، حتى أن أحداً منهم لم يعد يسمع إلا نفسه ولا يفهم سوى كلماته، فكفوا عن بنيان البرج، وتبددوا في كل الأرض.

وأضحى للشيء الواحد أسماء أكثر من أن تحصى، كرمل البحر ونجوم السماء من الكثرة، أسماء بعدد الناس أنفسهم الذين عاشوا والذين سيأتون، مرادفات وكنايات ورموز وظلال ملأت المعاجم والقواميس وكتب الشعر المترجمة. وأصبح للناس ألسنة كثيرة، واستعصى على بني البشر أن يفهموا بعضهم بعضاً، بسبب الغيرة وقساوة القلب والبلاغة واللامبالاة وأسباب أخرى كثيرة، نبتت كلها من بذرة الغرور القديمة.

* * * * *

تقدمتنا منى في اتجاه السلم، بيقين مستفز، لا يوحي بذرة من الشك في أي شيء. ودون أن تنظر إلى الخلف تبعتها ماما، كانت تتفادى النظر إلى الوراء، عرفت أنها لو ترددت للحظة كان الأمر سينتهي، تتحول إلى عمود من الملح، كامرأة لوط وأعمدة النار والكبريت تتصاعد ورائها من خرائب سدوم وعمورة.

«تعالوا تعالوا يا تعابى من العالم الحزين»

على السلم، تسرب لحن الترنيمة القادم من الدور الأول، ومع كل درجة نصعدها إلى أعلى، كانت الأصوات النسائية المختلطة كضجيج مكتوم لمرجل تصبح أكثر وضوحاً وحدّة. «شكلها آخر ترنيمة»، حثتنا منى على الإسراع، وكان من الواضح إنها تكلمت لمجرد الكلام، قالت ما قالته لحشو فاصل الصمت، أو لتخفيف الوقع الجنائزي للحن.

«تعالوا خدوا السعادة من فادي العالمين»

سحبتنا وعود الترتيلة نحو قمة الدرج، السعادة كلمة سر، انفتحت بها أمامنا القاعة الواسعة للكنيسة بسقفها المرتفع وحوائطها ناصعة البياض خالية البال. ولم يتجاوز العدد أكثر من خمس عشرة من الحضور. بنات في مطلع العشرينات أو أصغر، تفرقن على الدكك الخشبية اللامعة، الموزعة على مسافات مريحة ورحبة في منتصف القاعة. الظهور مفرودة والأعناق محنية قليلًا بوقار.  تقدمت منى إلى الصف الأول. أما نحن، فبعد أن مسحت ماما المكان بنظرة متفحصة وذات مغزى، اختارت لنا الجلوس في الصف قبل الأخير، وفي زاوية تسمح لها برؤية باب الخروج خلفنا بوضوح.

«هتنسوا هموم العالم في لحظة في طرفة عين»

وبمجرد أن ألقت بظهرها على مسند الدكة، بدا وإنها قد نسيت كل شيء آخر، تحركت شفتاها بصحبة الترنيمة، أو بشكل أدق خلفها، تحسست طريقها على بعد نصف خطوة من أصوات الآخرين. كانت تغمغم ماما بشذرات من اللحن، وتتظاهر بمسايرة الكلمات التي لا تحفظها.

ظننت أنني أعرف الترنيمة، بشكل أو بآخر، كان وقعها معتاداً، لا على الأذن كما يقولون، بل على القلب. فاض اللحن بنعومة من مكان عميق في خزان الذاكرة. ولم تكن تلك واحدة من ترانيمنا، وإلا لتبينت ذلك بوضوح. سمعتها من قبل في مكان ما، لكن ليس في كنيستنا، أو ربما فيها، لا أعرف. فلكل طائفة كتابها الخاص بالتراتيل الروحية، نصوص معتمدة نصف مقدسة، ومرنمون مشهورون وجوقات وجمهور من المعجبين. كانت تلك أناشيد مثل كل الأناشيد تحدد نطاقات للانتماء، وكأغاني الراديو كانت أمراً شخصياً جداً وجماعياً جداً أيضاً. فلكل طائفة بصمتها اللحنية، خصوصية عصية على الوصف بالكلمات، لكن بقليل من التدريب يسهل على الأذن تمييزها، كإيقاع للروح بميزان دندنة يومية مجردة تماماً من المعنى، موسيقى تصويرية لطرق عيش بعينها. ولوقت ليس ببعيد، كانت تلك الحدود في غاية الصرامة، كنت تسمع مقدمة ترنيمة فتعرف من أين جاءت. كان هذا الحال، حتى بدأت الألحان في العبور من هنا إلى هناك، ومن الكنائس إلى البيوت، أو العكس، وتسربت الأصوات الغريبة عبر الشوارع محمولة من يد إلى يد، ومن جيب لجيب ومن قلب إلى آخر.

«ده جماله بارع بارع، أجمل من كل الناس».

احتاج الأمر قليلًا من الوقت، بضع أبيات وجملتين موسيقيتين مكتملتين حتى تذكرت، كان الأخ عزيز. سمعنا الترنيمة لأول مرة منه. بين الغرف المظلمة للذاكرة، ومضت صورته ببدلته الصيفي الرمادية، محتضناً العود، رجل على رجل كعادته، وبمنديله القماشي مطبق على حافة صندوق العود، ليحمي ذارعه العارية المستندة عليه. التقطت بحة صوته من تحت القشرة الرقيقة للحن، يرتفع فجأة في مطلع البيت مبتهجاً، قبل أن يهبط من وسطه، درجة درجة، نحو النهاية مثقلاً بالشجن. والأخ عزيز غير عم عزيز صاحب محل الفيديو بالطبع. لم يكن بينهما شيء مشترك، على الإطلاق، مجرد تشابه في الأسماء. أو لعل هناك ما كان يربطهما، رأس المال؛ كانا يدورانه في سوق الشرائط، تجارة اللذات المسجلة، البريئة وعديمة المنفعة في الظاهر على الأقل.

صادف أبي الأخ عزيز على بوابة دكان في شارع محمد علي، كان في طريقه من الشغل في باب الخلق، يتمشي ساهماً لميدان العتبة حتى يأخذ الأتوبيس، وكان الآخر يهم بالخروج من الدكان مهرولًا، وآلته منتفخة البطن تحت إبطه، وتصادم جسداهما بخبطة إلهية. تعرفا على بعضهما دون كلمة. نظر بابا في عينيه اللامعتين، وخطفته الابتسامة الممتلئة كنهر، وفي الحال عرف أنه مكتوب لهما أن يلتقيا. فهم أن الأخ عزيز نسخته المقلوبة، موهوب بما يكفي لتفسد حياته، وكانت العلامة في شباك عوده المكسور، نظر بابا في الظلمة داخله، وفهم، كان عم عزيز صورة طبق الأصل منه لكن منكسة رأساً على عقب. بعدها بدأ الأخ في الحضور إلى بيتنا، عزف لنا الترانيم في المساء، وقلبت نظراته الهادئة الذكريات التي كان يهرب منها بابا، واكتشفنا ساعتها أننا، أهل بيته، لم نعرف عنه الكثير. ليلة بعد أخرى، فتح قلبه وحكى للأخ عن دخوله معهد الموسيقى، عن أول عود لعب عليه، عود خشابي كما قال، العود الجديد صوته ناشف، يرققه الزمن مع الرطوبة وتأوهات السامعين، وأحبه بعدها. عبد الحليم، كان دفعته، شاب نحيل وخجول، تكلم معه مرة واحدة ولم يعجبه، وهمس لنا بفخر «اسمه الحقيقي عبد الحليم شبانة» وكأنه يكشف لنا سراً لم يعرفه أحد غيره. أخبرنا عن المرة الوحيدة التي سجل فيها للإذاعة، بواسطة من أحد أفراد عائلة الطويل، كانوا كلهم أصحابه، سجل مع الكورس الذي غنى «وطني حبيبي الوطن الأكبر»، وحين أذاعوها في التلفزيون بعدها، لم يجد نفسه، أحضروا كومبارس وحركوا شفاههم أمام الكاميرات، مسحوه هو وغيره هكذا ببساطة وبلا سبب. رنم الأخ عزيز لنا ترانيم فرحة عن الأبدية السعيدة، وتذكر بابا مرارة سبعة أعوام عجاف، نفته فيها القوى العاملة إلى مدرسة ثانوية في نجع حمادي، حفظ العيال الصعايدة أغاني عن الاشتراكية والعروبة وأشياء أخرى كثيرة بلا معنى، وفي النهاية يأس من أن يتعلم أولاد الغلابة المزيكا وبطونهم خاوية.

«نور وجهه ساطع ساطع، كله محبة وإخلاص»

في الشطر الثاني من البيت، شرد صوت واحد عن جوقة الحضور، سرسعة عالية وصادقة. كانت شابة تجلس في الصف الثاني، أكثرهن تأثراً، وأفلت اللحن منها. أحياناً لا يمكن أن تكون صادقاً وملتزماً في نفس الوقت، هتك صوتها خط الانصياع لعلامات النوتة المحفوظة. كان تمردًا غير مقصود، وسرت همهمة خفيفة، والتفت البعض ناحيتها بنظرة من العتاب، منى أيضاً نظرت تجاهها بنصف ابتسامة ساخرة. وكاد الأمر أن يكون أكثر إحراجاً، لولا الضوضاء البيضاء للقاعة، وهمهماتها التي امتصت لحظة النشاز، وابتلعتها. فوقنا، دارت المروحة المعلقة على الحائط، في فلك نصف دائري، طائر جارح على قمة جبل، تفحصت الوجوه، ذهاباً وجيئة، ونفخت فيها الروح، نسمات باردة ومنعشة. وكان حفيفها وهي تقطع شرائح الهواء بريشها المعدنية الحادة جالبًا للاسترخاء. وتداخل صوت تروسها المشحمة جيداً مع التراتيل، وكانت لمبات النيون تطلق زنتها المرتعشة في خلفية كل هذا.

ذكرتني الضوضاء الميكانيكية حولنا، بالخروشة المملؤة بالدفء لشرائط الأخ صابر. كان يسجلها في البيت، وبصوته أحياناً، قلب أحد غرف شقته الصغيرة إلى استديو، نفس الغرفة التي يتكوم فيها أولاده الخمسة في الليل، مسمراً الشباك الوحيد بلوحين من الخشب الأبلكاش وبينهما طبقة من الفلين، وعلى الحيطان ثبت حيثما اتفق طبقات من ألواح الكراتين المطوية كعازل، لطع متناثرة جمعها من أمام البقالات في الليل، ومربعات من إسفنج المراتب، وطبقات من ورق الجرائد المطوي، بنى طبقة إضافية من الجدران، بيتاً داخل البيت، مستويين من العزلة المتعمدة، ولم يكن هذا كافياً للهرب تماماً من دوشة شارع الزهراء.
كان ينسخ شرائط المرنمين المشهورين على تسجيل ببابين، ترانيم من كل الطوائف، لم تكن تهمه تلك التفاصيل. وسجل ترانيم أخرى بصوته، كان يقول إنها له، مع أنه يعرف أن أحداً لن يصدقه، ركب كلمات المزامير على موسيقى أغاني لفريد الأطرش، بتغييرات طفيفة وغير متعمدة في معظم الأحيان، كان يحبه، ويقول إنه تنصّر سراً. وفي خلفية الشرائط كان هناك دائمًا موجات من المد والجزر لطرق عربيات الأنابيب تأتي من بعيد، أصوات الآذان المختلطة، وكلاكسات سيارات تبتعد، وصاروخ جلي يطلق عويله الحاد في ورشة حدادة قريبة. بل وفي أحد شرائطه، الأكثر شهرة والتي يتذكرها الجميع، كان يمكن الإنصات لصوت كروان حقيقي يغرد في لحظة هطول الليل على سماء حمراء.

خادم الرب والمرنم عزيز صبحي، هذا ما كان يقوله عن نفسه ويكتبه بخط رقيق على شريط من الورق ملصوق على الشرائط. خادم متفرغ، من يكرز بالإنجيل فمن الإنجيل يعيش، هكذا يقول الكتاب. «شغل تسول» كان تردد ماما وهي تلوي بوزها. في الأمسيات دار بعوده على الكنائس البروستانت في الحي، يعزف مع الترانيم ويكرر وعظة ركيكة أو اثنتين حين تستدعي الظروف. وفي الأوقات الأخرى كان ينتقل بين بيوت الإخوة، ويعرض شرائطه للبيع، بوسطجي للألحان المهربة عبر حدود الطوائف، ببضائع هجينة من أغاني العالم والترانيم. واشترى الناس منه بدافع الشفقة، فكان لديه وجه كامل الاستدارة بابتسامة طفولية يصعب مقاومتها. وجميعهم عرفوا حكايته، كان طبيب أسنان، بعيادة ناجحة، قبل أن يهجر كل شيء لسبب غير مفهوم.

* * * * *

حين تنكسر الأشياء يمكن إصلاحها بالطبع، معظمها على الأقل، ترمم لكنها لا تعود كما كانت تماماً في البدء، فالناس لن تعود إلى الجنة التي سقط منها آدم وحواء، فتلك الجنة انتهت، يقول بعض المفسرين أن نهري سيحون وجيحون أغرقاها، ويقول الجغرافيون أن هذين النهرين في وسط آسيا، وهذا شيء لا يعنينا في شيء على الإطلاق، فنحن نعرف أن الأبرار سيدخلون إلى الملكوت في النهاية، والملكوت سماوي، والجنة أرضية.

وكذلك، لم يكن ممكناً أيضاً أن يعود الناس جميعهم لينطقوا بلسان واحد كما كانوا، فتلك كانت لعنة بابل، والرب لا يعود في أحكامه. لكنه الله ضابط الكل، وله طرقه. ففي يوم الخمسين هذا، صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كان التلاميذ جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. ويقول الكتاب فلما صار هذا الصوت، اجتمع جمهور المدينة، وتحيروا، لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته. فبهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض: أترى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين. كيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التي ولد فيها، فرتيون وماديون وعيلاميون، والساكنون ما بين النهرين، واليهودية وكبدوكية وبنتس وأسيا وفريجية وبمفيلية ومصر، ونواحي ليبية التي نحو القيروان، والرومانيون المستوطنون يهود ودخلاء كريتيون وعرب، نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله.

وكانت هذه المعمودية الثانية، معمودية النار، وختم الخلاص، غير معمودية الماء التي ينالها الأطفال بالطبع. وبنعمتها جال رسل الرب في المسكونة، وبشروا بإنجيله بكل لسان تحت السماء. وفهمهم الناس، القريب والبعيد، وقبلوهم، وانتشرت كلمة الرب في الأرض.

لكننا نعرف ما حدث بعد هذا، تقاتل الناس على الكلمة، وحجبت الكتب المقدسة، ونسي شعب الرب معمودية النار بين أشياء أخرى كثيرة، وجيلاً بعد جيل لم يعد يتكلم أحد بألسنة، وجزم الكهنة بأن مواهب الروح القدس قد بطلت بعد أن انتشرت رسالة الرب وقت الرسل، كان عصراً ذهبياً وولّى. ولجأ بعضهم للمنطق، وجادلوا، ما نفع الألسنة إذا كان لدينا الآن القواميس والمترجمون وعلماء اللغة ومدارسها؟

كان هذا هو الحال لوقت طويل، ويقولون إن رجلاً ظهر في حقول قطن قريبة من الحقول التي جاء منها المبشرون الأوائل إلينا، كان يجول في السهوب المنبسطة لمكان بعيد جداً اسمه، كنساس، وعلى ضفاف واحد من الأنهار الكثيرة هناك فتح الرب عينيه، وحين قرأ الكلمة، عرف إن الألسنة لم تبطل، وإن الحاضر كالماضي، والعصور كلها متساوية ومتشابهة، وكلها ذهبية. وكانت تلك فكرة مذهلة وقتها، وتبعه ناس كثيرة، وأطلقوا على أنفسهم أسماء تميزهم، الخمسينيين والرسوليين وأصحاب المواهب، وغيرها.

وأرسل هؤلاء مبشريهم أيضاً، إلى كل مكان، وعبر بعضهم المحيط إلينا، جاؤوا على ظهور سفن كبيرة، وأحياناً في طائرات، ونزلوا للصعيد. كانوا هؤلاء فرادى، أشبه بالمغامرين أو الرحالة، ولم يأتوا ليعلّموا الناس الكتابة والقراءة، كمن سبقوهم، ولا ليطببوا عيونهم، كان الوقت قد تأخر جداً ليفعلوا أيًا من هذا. فالحكومة كانت قد فتحت مدارسها، تقريباً في كل مكان، ومعها المستشفيات الأميري. أما المتعلمين، وقد أصبحوا كثيرين أكثر من اللازم، ففهموا مع الأيام أن العلام لم يغير من حالهم كثيراً، بل وربما قد أشقى قلوبهم. وخاف الناس الطب، أو زهدوه، تدخل للعيادات معافى وتتركها محملًا بالأمراض، ويصلون إلى المشافي على أرجلهم، ويخرجون منها على ظهورهم. لم يكن هذا صحيحاً تماما، لكن هذا ما رددوه، وصدقوه.

وجاء خواجات الخمسينيين وقالوا للناس انسوا هذا كله، انسوا العلام، انسوا الطب، انسوا الحكومة، انسوا اللغة نفسها، ستتكلمون بألسنة مثلنا، نفهمكم وتفهموننا بالروح، ودون مترجمين، الرب يشفي أمراضكم بمعجزة، ويرسل غربانه لتطعمكم برغيف خبز، كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص، ستمشون على الماء وتطيرون في الهواء، وسترقصون من الفرح، «هللويا» آمنوا فقط. قالوا هذا فعلاً للأهالي.

* * * * *

استسلمت للتعب وتسحبت هي لغرفة بابا، وسمعت صوت خروشة تأتي من هناك وصرير أبواب الدواليب تفتح وتغلق، كانت تبحث عن شيء. ومن بين الشق الذي كشفته الملاية فوق رأسي، رأيت الظلمة المتكورة في أركان الأوضة، وشعرت بالحزن، فكرت في مصير الأخت جنفياف، وفي جبننا حين ركضنا وتركناها وراءنا، وتذكرت اجتماعات ليالي الخميس في بيتها التي كانت ماما تصحبني إليها بانتظام ، ومرت أمامي صور النساء الصعيديات بجلاليبهن السوداء هناك وأصواتهن وهي تصرخ، رقصهن العنيف مع الترانيم، والأخ عزيز يضرب على عوده في المقدمة وكأنه في عالم آخر، صعودهن على الدكك والقفز من فوقها ببهجة طفولية، التصقيف، الرؤوس وهي تترنح، جريهن في دوائر وأياديهن متشابكة، وهتافات «هللويا» بينما أجسادهن ترتعش وتطرح على الأرض بتشنجات عنيفة، ومشهد أرجلهن وهي ترفس في الهواء، تذكرت الحشرجة التي أصدرتها الأجساد وهي تتمرغ على الأرض من قوة حلول الروح القدس، والحزن الذي ينزف منها مع اللعاب الذي سال على جوانب الأفواه الملتوية، ودموع التعزية وعرق الأبدان المجهدة من طقوس الحضور الإلهي. تذكرت وجه ماما وهي تتضحك لي وتقول «نسوان راكبها عفريت» كانت تسخر منهن في البداية، لكنها واظبت على الحضور بدافع لم تفهمه بل شعرت به في قلبها.

بالكاد كنت قادراً على التمييز بين النوم واليقظة، حين رأيتها وأنا ممدد على السرير كما في الحلم، مرغت وجهي بين الملايات، تذكرتها في الليلة التي أصبحت واحدة منهن، حين بكت بشكل غامض، وانتفض جسمها، وسقطت من على الدكة على الأرض بصوت اصطدام مهيب، انفكت عقدة لسانها، وصرخت بالألسنة مثلهن، هتف الجميع «هللويا» وصفقت الأخت جنفياف ودبدبت بقدميها على الأرض، قالوا تعمدت بالنار «بولو كنتا سابا بونيو ريرا بنتكوسي لابنترومي آرا» فاضت الروح فيها بلسان لا يفهمه أحد «بوري لماري سنتكور براما تماكي» ولا هي فهمت ما تقوله، لكن الأصوات خرجت من داخلها كنبع يتفجر بالراحة، غاب عقلها وذابت الحجارة الثقيلة من على القلب، وقالت الكثير والكثير «بوررووو  هااااااا ممممممم…لللا بلم بلم» تدفقت همهماتها بلا فواصل، تيار متصل من أصوات الطبيعة، مواء ونباح خافت وتتمته الأطفال الرضع ،غضب العواصف وزقزقة وخرير ترع رائقة وعفية، مع كل كلمة بلا معني أخرجت الآلام الغائرة التي عجزت لغة البشر أن تصفها، الكلمات التي رفض الناس أن يسمعوا عنها، تكلمت بالألسنة فعلاً بلغة الناس المتعبين، باللغة في أنقى صورها، بطبيعتها الأصلية قبل السقوط من الجنة، كالماء شفافة، متحررة من الأرضي والمنطق والقواعد والحكمة، نغمات تسمع ولا تقول شيئًا، لكن تشعر بكل شيء. صرخت وصرخت بالروح حتى خمدت جذوة جسمها ساعتها، وتمددت على الأرض. ونزلت أنا على درجات النوم، وألحان ترنيمتها المفضلة تتردد في رأسي.