أراد المخرج عمر الزهيري أن يكون أكثر جرأة، وخروجاً عن التقاليد السينمائية في مصر، وكان المخرج الإيراني الراحل عباس كياروستامي قد لفته إلى أن الجرأة تنقصه، بعد أن شاهد فيلمه القصير ذا العنوان الطويل ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375، خلال عرض الفيلم في فعاليات مهرجان كان السينمائي 2014، لتلازم صفة الجرأة فيلمه الجديد ريش (2021)، في كل مكانٍ عرض فيه، حتى قبل أن يصطدم بأقلام النقاد والمحليين، ويشب الخلاف حول انتمائه الفني، واستقائه من تجربة هذا أو ذاك.
ريش فيلم جريء بالقدر الذي أهّله ليواجه عقلية السينما التقليدية وحرّاسها في بلاده، وليخلق مشكلة لدى مؤسسات الرقابة على السينما والثقافة في مصر، التي تبرأت من صورته بالقول إن الفيلم عمر الزهيري عرض عليها كسيناريو فقط، قبل أن يذهب للمهرجانات. وعلى الرغم من أنه التجربة الأولى لمخرجه في الأفلام الطويلة، كان أول فيلم مصري ينال الجائزة الكبرى لأسبوع النقاد في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي. تلك الجائزة الموازية لفعاليات المهرجان، طالما نالها مخرجون شبان، يقدمون أولى أفلامهم الطويلة، لينطلقوا منها إلى العالمية بخطى ثابتة، أليخاندرو غونزالس إيناريتو كان واحداً منهم، إذ نالها سنة 2000 عن أول أفلامه الطويلة الحب سافل، وفي رصيده اليوم جائزتي أوسكار.
الجدل الذي جرى حول ريش في مهرجان الجونة مؤخراً، غيّب الكثير من العوالم في الفيلم، لصالح اكتشاف نقاط الضعف بالنسبة لمعارضيه والقوة بالنسبة لمؤيّديه، فأصبحت الأسئلة التي تحوم حول الفيلم هي: هل مصر على هذه الدرجة من الفقر والقبح؟ هل يتحدث الفيلم أصلاً عن مصر؟ هل لدى مخرجه أسلوبية أصيلة أم أنه مجرد مقلّد؟ لكن ما يحسب لصالح مهرجان الجونة من نقاط قوّة -وهي قليلة- أنه ورغم الهجوم على الفيلم، واتهامه بالإساءة لمصر، فقد حاز الفيلم جائزة أفضل فيلم عربي ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في المهرجان.
لا شك أن الزهيري، وقبل كل شيء، كان ينشد الاختلاف في وسط سينمائي نادراً ما تجد فيه صورة مختلفة، والانعتاق من أبجديات في السينما المصرية، كمحورية النجم البطل، وسيطرة النص والحوار على الصورة، وهي النقاط التي خرج عنها ريش كلياً، هو ينشد سينما اللا-بطل، اللا-ألوان واضحة، اللا-كاميرا متحركة تلاحق عناصر الفيلم، لم يربط المخرج أحداث الفيلم بزمانٍ ومكان، وهو ما قد يحتمل التحليل أكثر إلى حد إخراج الفيلم عن سلطة مخرجه في توجيه الفهم العام له، كل ذلك في سياق الواقعية المفرطة، التي يحرّكها حدث خيالي بحت.
شخصيات قليلة، وعلى الرغم من حضورها المستمر في الفيلم، إلا أنها تبدو ثانويةً، دورها الأساسي تجميع مكونات المكان الكئيب، تدخل وتخرج أمام الكاميرا بلا أسماء لها، ودون أن تتكلف العدسات عبء ملاحقتها، تبقى ثابتة ترصد المكان لمدد طويلة غير متأثرةٍ بالحركة أمامها، تترقّب البيت القائم في أقاصي القرى الفقيرة المتصحّرة الملوثة في مكان ما، مكان لم يتم تحديده علانيةً، وقليلة هي العوامل التي تربطه بمصر بشكل واضح، مثل اللهجة التي تتحدث بها الشخصيات. معامل قديمة غير واضحة المعالم تبث دخانها الأسود إلى نوافذ البيوت الخالية. بيوت متداعية لا شيء يحرك سكونها سوى تلفاز سوف يتم الحجز عليه نتيجة عدم دفع سكانه للأقساط المترتبة عليهم للإسكان. شوارع يملؤها الغبار، صحراء تشعر أنها تتمدد بين مشهد وآخر، لتجتاح البيوت ذاتها. لم لا تكون مصر بالفعل البطلة؟ وها هو نيلها ينحسر، وينذر بعطش قادم لن يمهل سكانها وقتاً طويلاً.
اختار المخرج التعامل مع ممثلين غير محترفين، بطلة تقف للمرة الأولى أمام الكاميرا، وممثلون آخرون بعيدون عن الشهرة، ولعل غالبية من شاهدهم في الفيلم إنما عرفهم للمرة الأولى، لم يطلب منهم أن يؤدوا أدوارهم بطريقة محترف يعرف كيف ومتى ينظر للكاميرا، إنما كانت مهمتهم ممارسة فعل العيش في مكان لا يوحي إلا بالموت. زوج يعطي زوجته الصامتة مصروف المنزل لإطعام ثلاثة أبناء، يبدو متسلطاً حيناً، وأباً حنوناً حيناً آخر، يحرص على فرح طفله في عيد ميلاده، حين حلت الكارثة وتحوّل الأب إلى دجاجة، تاركاً زوجته تحارب الحياة لإطعام من تبقى، بل ولإطعامه هو فيما بعد، عندما يعود مقعداً مريضاً.
تنقّل مخرج الفيلم بجرأة واضحة، محاطة بالأخطار بين عدة أساليب، واقعية لو حُمِلت الكاميرات فيها على الكتف لقاربت معالم الدوغما الدانماركية، وخيالية لو تسارع وقع الحدث فيها وأعطيت شخصياتها فاعلية في إدارة حوارات لاكتست بقالب السحرية اللاتينية، وبطء مبالغ به أحياناً يفتح مساحة للتأمل واستيعاب المشاهد، بلقطات واسعة وكأنها تريد توثيق البيئة التي تدور فيها، والتي يمر من خلالها الممثلون وكأنهم سكان هذا المكان الذين لا يعرفون أن هناك كاميرا ترصد تحركاتهم.
لم تنقل السينما المصرية التي دارت في عشوائيات مصر وقراها النائية بكاميرات يوسف شاهين وداوود عبد السيد وخالد يوسف ويسري نصرالله وغيرهم، واقعاً بهذا الشكل، لطالما كانت الحكايات المحلية وأسلوب الطرح المباشر أسياد الموقف. هذه السينما التي وصفت أحياناً بالنخبوية، وبأنها على الضفة الجادة مقابل عشرات الأفلام الهزلية المنتجة سنوياً في مصر، كانت الغلبة فيها للحكاية المصرية التي تتكشّف فيها علائم البيئات الفقيرة ومكوناتها، وكانت سهلة التوقع في تفاصيلها ومآلاتها، لكنها سينما ممتعة بلا شك، ممتعة أكثر من ريش، الذي تفرد في نقل صورة لم نشاهدها من قبل في مصر، رغم محاولات مخرجه تبرئة الفيلم من الانتماء لمكان وزمان محددين. هي مصر التي نتخيل فقراً مدقعاً في أريافها وحواريها، تلوثاً وجفافاً يغيب عن الفن الذي أهمل تاريخياً حيزاً واسعاً من الحياة هذه البلاد.
بدأت شهرة ريش عربياً مع نيله الجائزة في مهرجان كان، لكنه تحوّل إلى ترند بعد هجوم مجموعة من الفنانين والصحفيين المصريين عليه، بتهمة أنه يشوّه سمعة مصر، ممثلون مثل أشرف عبد الباقي وأحمد رزق وشريف منير أزعجهم مستوى الفقر في الفيلم، فمصر ليست هكذا، مصر «كانت هكذا» قبل «الجمهورية الجديدة» وفق تعبير شريف منير، ومحاولته الواضحة لوضع الفيلم في مواجهة مع الدولة التي لا يخفي الممثل في كل فرصة متاحة مدى دعمه وانتمائه لرئيسها. حملة الفنانين والإعلاميين تلك ضد الفيلم أربكت وزارة الثقافة المصرية التي سبق وأثنت على الفيلم ونجاحه دولياً، لكن بالمجمل منح هذا الهجوم الفيلم بطريقة أو بأخرى جماهيرية نادراً ما تنالها هذه النوعية من الأفلام، فهي عادة «سينما مهرجانات» وليست سينما شباك تذاكر، وفرصتها للانتشار مرتبطة بنيلها للجوائز عادة، فيما يتلاشى ذكرها ويطويها النسيان عندما تقع خارج المنافسة في المهرجانات، بالتالي هي سينما يعارضها جزء من النقاد متهمين إياها ببناء حاجز مع الجمهور، وتلاحقها «تهمة» النخبوية.
ينسحب جزء من مشاهدي ريش من قاعة العرض، تحت وطأة القسوة أكثر من الملل، قسوة مشاهد فاقعة لبشاعة الواقع، تفاصيل مقرفة وأخرى سادية ودموية حدَّ عدم احتمال العين أحياناً لما ترى، تمرّ تلك المشاهد عدة مرّات في ريش، يمكنك تتبع ضجر الحاضرين من القسوة، وهم الذين من المفترض أنهم جاؤوا ليشاهدوا فيلماً مصرياً، بمعنى أنهم لم يكونوا بانتظار هذا النوع من السينما، ولكن مشاهدة الفيلم هي تجربة قد تدفعك لتسأل نفسك: لمَ لا؟ أليست مشاهد القبح والقسوة والقرف والفقر والجهل واللاجدوى مكوّنات يومية في حياة الملايين ممن يغيبون في هوامش بلدان الفقر المدقع، مهما حاول فنانو السلطة وإعلاميوها إقناع متابعيهم بغير ذلك، مع تقارير تشير إلى نسبٍ تتجاوز 30% ممن هم تحت خط الفقر، فيما هناك حوالي 46 قرية في محافظتي أسيوط وسوهاج، تراوحت نسبة الفقر فيها في عام 2019 بين 80 إلى 100 في المئة.
بطاقة الفيلم
سيناريو | عمر الزهيري، أحمد عامر |
بطولة | دميانة نصار، سامي بسيوني، محمد عبد الهادي |
إنتاج | شركة ستل موفنغ بفرنسا وشركة فيلم كلينك في مصر |
إخراج | عمر الزهيري |