تُتداول الليرة السورية هذه الأيام على قرابة 1.4 بالمئة فقط من قيمتها قبل 2011، بينما تُتداول الليرة اللبنانية على 7 بالمئة فقط من قيمتها قبل عامين، كانعكاس لانهيار اقتصادي-مالي لم تشهده المنطقة من قبل. فعلى الرغم من تكرر سيناريوهات انهيارية لليرتين (1981، 1988) وجذرهما المشترك الليرة السورية اللبنانية (1940-41)، فالانهيارات السابقة لم تصل لهذه الدرجة من الحديّة، التي دفعت جهات مختلفة للحديث عن مجاعة محتملة. وبينما يبدو انسداد الأفق السياسي عاملاً مكملاً في الإجهاز على الاقتصاد، فقد توقع البنك الدولي أن الفترة اللازمة لعودة نصيب الفرد من الناتج المحلي إلى مستوى ما قبل الانهيار، قد تصل بالنسبة إلى لبنان لعشرين عاماً، في حين يصعب تقدير ما يحتاجه تعافي الاقتصاد السوري وعودة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود ما كان عليه قبل العام 2011 من دون توقف الحرب والوصول إلى حل سياسي يمهّد للشروع في عمليات إعادة الإعمار.
وعلى الرغم من صحة المحاججة بأنّ تثبيت سعر الصرف في كلا البلدين قد أفضى إلى تقويم الليرتين بأعلى من قيمتهما الفعلية قبل الانهيار، ما يجعل انخفاض قيمتهما الحالية يشمل ضمناً دفع ثمن تثبيت سعر الصرف السابق للانهيار، نضع هذه المقدمة وفي مرادنا القول بأنّه إنْ كان العقد السابق قد بدأ بحدث بالغ الفرادة وهيمن على تفاصيله كافة، مثّله الربيع العربي، فإن العقد الجاري قد بدأ بدوره بحدث لا يقلّ فرادةً وتأثيراً، يمثّله ما نشهده من انهيار لم يبلغ قعره بعد.
الانهيار وصفاً
لا نبتغي القول إنّ مجرّد التزامن في انهيار الليرتين هو دليلٌ كافٍ لربط أسبابهما، أو الحديث عن وحدة ما في المسار والمصير. في الواقع ثمّة اختلافات بنيويّة في طبيعة العلاقات الاقتصاديّة في البلدين، تبدأ من حجم تحويلات المغتربين وحرية الاستيراد وتداول القطع الأجنبي، ولا تنتهي بالعقوبات المشددّة على قطاعات بأكملها في سوريا مقابل انتقائية العقوبات على شخصيات أو مؤسسات بعينها في لبنان.
وتقاطعيّة الانهيارين، التي انعكست بارتفاع نسب الفقر (تُقدر حالياً بما يتجاوز 80 بالمئة من مجموع المقيمين في البلدين)، والبطالة، والتضخّم المفرط النابع من تبخّر الاحتياطيات الأجنبيّة لتمويل الاستيراد من جهة، وتغذية هذه الاحتياطيات بشكل أساسي عبر تحويلات المقيمين في الخارج وما يرد من مساعدات من جهة ثانية، فضلاً عن الاعتماد الممنهج على زيادة الكتلة النقديّة، أو بمصطلح غير تقني «طبع النقود»، تبدو في سياق الانهيار السوري- اللبناني مطابقة لما تشهده الدول النامية في أزماتها، وهي على اختلاف مسبباتها تعود في أساسها لتضخم كتلة الدين والحاجة لتسييله (الأرجنتين، فقاعة جنوب شرق آسيا 1998)، وهو ما يتفاقم في حال تراكب مع عقوبات اقتصادية (فنزويلا 2018).
ربط الانهيار في الخطاب الرسمي
كان بشار الأسد قد عزا أسباب الانهيار المتسارع لليرة السورية بمنع المصارف اللبنانية للسحوبات بالعملات الأجنبية، وقدّر حينها قيمة ودائع السوريين في لبنان بحدود 40 إلى 60 مليار دولار، وهو ما يتعذّر الدفاع عنه أو تبريره. فسوى أنّ تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) لحجم رؤوس الأموال الخارجة من سوريا يضعها بحدود 22 مليار دولار، بناءً على مقاطعة ما أبلغ عنه القطاع المصرفي السوري من ودائع محفوظة لديه ومقارنته بما نشرته القطاعات المصرفية في البلدان المجاورة من زيادة في كمية الودائع، وهو ما يتفق أيضاً مع تحليلات أخرى نشرها معهد كارنيجي. وكانت الوجهة الأساسيّة لهذه التحويلات هي تركيا أو الخليج العربي، ولم تصب في بيروت بشكل حصري. وبينما تغيب الدراسات الجديّة حول حجم إيداعات السوريين في لبنان، فإنّ حجم ودائع غير المقيمين لدى القطاع المصرفي اللبناني قد بلغ 33 مليار، وتعود في أعمّها للمغتربين اللبنانيين. وتقدر بعض التوقعات الصحفية الودائع العائدة للسوريين بحدود 5 إلى 7 مليارات دولار، أو ما يقابل حاجات سوريا من الاستيراد لعام واحد فقط كحد أقصى.
يوجد بحكم الأمر الواقع أيضاً ودائع تعود لشركات وهمية لبنانية الجنسية، وتستخدم في تبييض أموال النظام السوري والمقرّبين منه، لكنّ تخمين قيمة الأخيرة يبقى عصياً على القياس في ضوء المعطيات المتوافرة. ويصعب قبول أنها مجرّد «صناديق خيرية» تستخدم في تمويل حاجات البلاد الأساسية من القمح والمحروقات، وتعمل بالتالي على الحفاظ على قيمة الليرة السوريّة.
على المقلب الآخر، صرّح رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي مؤخراً أنّ سوق بيروت للقطع الأجنبي تخدم سوقي لبنان وسوريا، وتعمل بالتالي على تغذية الانخفاض الجامح لليرة اللبنانية. يستدعي هذا الافتراض، منطقاً، أن تنشأ سوق صرف بين الليرتين السورية واللبنانية، يقوم بموجبها سوريون مقرّبون من النظام بالاستحواذ على الليرة اللبنانية لاستخدامها في شراء الدولار في بيروت، ما يدفع للسؤال عمّا يفعله اللبنانيون بكميات الليرة السورية المتكدّسة لديهم. وسوى ذلك، ونظراً للإقبال على شراء الليرة اللبنانية، فإنّ سعراً موازياً بين الليرتين ترتفع فيه الليرة اللبنانيّة عن سعرها الرسمي هو النتيجة المنطقية الوحيدة للآلية المذكورة. ولذلك، ولغياب تداول الليرة السورية في لبنان، وغياب سوق القطع الموازي بين الليرتين أيضاً، يصعب إثبات مدى دقة تصريح ميقاتي أو حدود تأثيره.
على أنّ رمي كل فريق للتهمة على سوق الآخر في تفسير أزمته، يقابله أيضًا اشتراك (وإن كان غير متبنّى من قبل الحكومة اللبنانية حتى الساعة، مع كونه أشبه بالخطاب الرسمي لحزب الله) في الحديث عن الحصار، والانتصار الاقتصاديّ التالي للانتصار السياسي، وغيرها من تقنيات «الهروب للأمام». وفي غياب آراءٍ علمية وأبحاث رصينة حول العلاقة المحتملة للانهيار في البلدين، وتهافت ما يُتداول في السياسة -من طينة تصريحات الأسد وميقاتي- نحاول في الأسطر التالية الإضاءة على مسببات الانهيارين، وما نُرجح أن يكون مسافةً تقاطعية بينهما.
لبنان، أو عطب النموذج
كان الانهيار اللبناني بمثابة نتيجة حتمية، فالنموذج السائد قد خضع عبر السنوات لكثير من النقد والتمحيص، سيّما حول مدى استطاعته «مقاومة الجاذبيّة» دون أن ينهار مع عجز ضخم في الموازنة العامة وآخر مستدام في الميزان التجاري. وللمرء أن يجد تقارير وفيرة في تشخيص مشاكل هذا النموذج المستفحلة من قبل مؤسسات دولية ومراكز أبحاث وجامعات وفي الصحافة. ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يصل فيها النموذج اللبناني إلى نقطة الاختناق، فمنذ أن قام نظام الطائف تعرّض النموذج لرضّات دوريّة، بمعدّل واحدة كل 8 – 10 سنوات، فالأزمة التي بدأت عام 1998 دفعت الدولة اللبنانيّة لإجبار المصارف على الاكتتاب بسندات خزينة بفائدة صفر، والإعداد لفرض الضريبة على القيمة المضافة، لكن ما أنقذ النموذج حينها هو مؤتمرا باريس 1 و2. كذلك، عاد النموذج للتأزم في أعقاب اغتيال الحريري وحرب تمّوز 2006، وبلغ حجم الدين مقارنةً بحجم الناتج المحلي 147 بالمئة، قبل أن يساهم مؤتمر باريس 3 في تبريد محرّكاته، وهو ما يجعل من الجائز الاستنتاج بأن ما ساهم عملياً في تحقق الانهيار الحالي، في ثلاثينية الطائف، هو تسامح المانحين الدوليين مع فكرة الانهيار اللبناني.
وثمة عاملان مهمان هنا: الاوّل هو أن فكرة تسامح المانحين الدوليين مع وقوع الانهيار غير بعيد عن السياسة. فعلى سبيل المثال، فإنّ تبرّم المملكة العربية السعودية من عملية حزب الله عام 2006 التي أفضت لاندلاع حرب تموز بوصفها «مغامرات غير محسوبة»، لم يمنعها من تقديم دعم فوري بمليار دولار كوديعة لمصرف لبنان، ذلك أنّ الرعاية السياسية لنظام ما بعد الطائف كانت أولوية سياسية سعودية آنذاك. والعامل الثاني هو أن تعهدات الإستابلشمنت اللبنانية، بما أفرزته من سياسات وحكومات وبرامج متعاقبة، بقيت حبراً على ورق رغم ربط حزم الإنقاذ السابقة بـ«إصلاح النموذج» والعمل على تحسين «ديمومته» (Sustainability). هكذا، فإنّ الحكومة اللبنانيّة التي تعهدت بخفض عجزها السنوي في 1998، كانت ترعى عجزاً أضخم حجماً وأعلى تكلفة بعد عشرين عاماً، وبما يتجاوز 25 بالمئة من الميزانية.
وثمّة ما يجب الإشارة إليه في موضوع العجز اللبناني، يتعلق بطبيعة موازنات الدولة اللبنانية. هذه الموازنات بالكاد تغطي أية مشاريع استثمارية أو برامج رعاية اجتماعية، بالتالي فإن القسم الأعظم من العجز قد تشكل من تكاليف الاستهلاك الإداري، أو بمعنى آخر، رواتب موظفي القطاع العام ومشاريع القطاعات الاستهلاكية – الخدمية (بما فيه بيع الكهرباء للعموم بأسعار مخفّضة دون تمييز، ودفع مبالغ طائلة لتأمين الكهرباء بشكل مؤقت عوضاً عن مشاريع توليد كهرباء مستدامة)، وإيجارات المكاتب، وخدمة الدين المتراكم. وهو ما يدفع إلى تساؤل يحتاج بحثاً منفصلاً حول كلفة إدارة الدولة اللبنانيّة مقارنةً بما تضطلع به من دور.
وبالعودة إلى سياق الانهيار الحالي، فالواقع أنّ التمييز بين الانهيار وآثاره واجبة، وتقديرنا أنّ الانهيار، بمعنى عجز النموذج عن الاستمرارية، قد تمّ في 2016، وهو العام الذي أجرى فيه مصرف لبنان أولى «الهندسات المالية» الرامية إلى استقطاب كميات من الدولار من المصارف التجاريّة بأكلاف عالية، وذلك بهدف تعزيز احتياطياته التي يستخدمها في تمويل ثبات سعر الصرف وفي تمويل عجزي الموازنة وميزان المدفوعات. وبحسب ما اعترف به حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، فإنّ غاية الهندسات كانت شراء الوقت ريثما يحصل «إصلاح» في النموذج اللبناني، وتأمين دعم خارجي بشكل مشابه لما حصل بعد مؤتمرات الإنقاذ السابقة (وهو ما جاء متأخراً عبر مؤتمر باريس 4 أو سيدر في 2019، ومرتبطاً هذه المرة بمطالب إصلاح أكثر صرامة من العقدين السابقين).
وقد يجد المرء شيئاً من التفهم لسياسة مصرف لبنان آنذاك، فالنموذج الذي أنقذته السياسة الإقليمية في السابق، يدفع للافتراض بأنّها لن تتوقف عن إنقاذه. هكذا، على الرغم من كلفة شراء الوقت العالية، إنْ كانت عبر استدانة مصرف لبنان أموال المودعين في المصارف التجارية، ودون احتساب لمخاطرها أو كلفة فوائدها، أو عبر التضحية اللاحقة باحتياطياته من النقد الأجنبي، جعل الانهيار أكثر عمقاً وأعلى كلفةً على المقيمين في لبنان.
في أواسط عام 2019، استنفدت المصارف اللبنانية تدفقاتها النقدية من الدولار، فحاولت استقطاب العملات الأجنبيّة من العموم بفوائد تجاوزت 20 بالمئة مقابل تجميد الرصيد لآجال تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، في وقت لم تتجاوز فيه أسعار الفائدة عالميًا حاجز 1 بالمئة. وفي صيف 2019، وقبل الانتفاضة اللبنانية، كانت السوق الموازية قد ظهرت، وجرى تداول الدولار فيها بقيمة أعلى من قيمته الاسمية. وتحدث سعد الحريري عن اقتباس النموذج المصري القائم أساساً على تعويم سعر الصرف، وعن تخفيض العجز (وهو في جزء بارز منه كان أقرب لحِيَل محاسبية، مثل عدم الاعتراف بعجز كهرباء لبنان كخسائر متراكمة واعتباره سلفة قابلة للاستعادة). لكنّ الجزء الأكثر كارثيّة فيما قام به -ويستمر- مصرف لبنان، هو اتباعه سياسة تسييل الدين بلا حسيب أو رقيب. فبموازاة نفاد احتياطياته ورفعه الدعم عن السلع والمحروقات وانتهاء الوقت المُشترى، استمرّ المركزي في طباعة العملة، لتتجاوز كمية النقد المتداول بين 2019 و2021، وفق ما ينشره المصرف، ستة أضعاف؛ أي من 10 آلاف مليار إلى حوالي 60 ألف مليار ليرة، وبمعدّل مقداره 2000 مليار شهرياً، بما يعيد للذاكرة الانهيار النقديّ لجمهورية فايمار الألمانية (1919-1920) في مراحل لم تكن فيها علوم المال والاقتصاد قد بلغت ما بلغته اليوم من ربط كمية النقد المتداول بقيمته.
وطبع المصارف المركزية للنقد في أزمة تضخمية أثارها أساساً رفع الدعم، لن يؤدي سوى للإفراط في التضخّم، ما سيؤدي بدوره إلى تغذية الآثار السلبية لأزمة رفع الدعم عبر رفع كلفة الاستيراد، وبذلك تنشأ حلقة مفرغة تغذي نفسها بنفسها، وسيجد اللبنانيين أنفسهم أمام ارتفاع سعر صفيحة البنزين من 20,000 ليرة لبنانية إلى 334,000 ليرة لبنانية، ودون أمل باستقرار قريب.
طبّق مصرف لبنان، تباعاً، بعض القيود على السحوبات بالليرة اللبنانيّة، وذلك بعد أن توقفت سحوبات الدولار بشكل كلي تقريباً منذ 2019. لكنّ حسابات صغار المودعين لم تكن يوماً جذر المشكلة، ولربما كان تقييد السحب أمراً لا محيد عنه في ظلّ انعدام الثقة بالنظام المصرفي اللبناني، إلا أن المركزي لم يوقف سياسة الطبع لتمويل عجز الموازنة، والذي فاقم الركود الاقتصادي بدل تقليصه. هكذا، عوضاً عن ترشيق حجم الموظفين في القطاع العام أو تخفيض رواتبهم واختصار أكلاف الإيجارات والتشريفات وسواها من نفقات «إدارة الدولة» وبريستيج رجالها، استعيض عن ذلك بسياسة أن يدفع الجميع كلفة تسييل الدين. وما بدأ كمشكلة من انعدام استقلالية المركزي وتبعيته وتغطيته العمياء لعجز الدولةليس صحيحاً أن مصرف لبنان كان «ملزماً» بإقراض الدولة على ما تنص عليه المادتان 90 و91 من قانون النقد والتسليف، فالعرف أنّ السبب التاريخي لمنح المصارف المركزية هيئة اعتبارية مستقلة عن الدولة هو تقييد الاستدانة.، انتهى بطباعة أوراق نقدية تكاد تكون بلا قيمة. وفي حين لا يزال مصرف لبنان يدافع عما يراه «واجبه» في تأمين النقد اللازم لتمويل الدولة، فهو يفوّت في الآن ذاته فرصة أن تكون زيادة كتلة النقد أداةً لتمويل عجزٍ استثماري، بدلاً عن تمويل العجز الاستهلاكي، ما يُمكن أن يساهم طبقاً للآراء الكينزيّة في استرداد الاقتصاد لعافيته.
سوريا، أو أمننة النموذج
لم يكن القطاع المصرفي-المالي السوري شبيهاً بما هو عليه الحال في لبنان، سواء خلال عقود حكم حافظ الأسد الثلاثة أو في سنوات حكم وريثه التي جاوزت العشرين. أي إنه لم يتمتع بأي استقلالية لازمة، بما في ذلك البنك المركزي. ففي عهد الأب، نحت الدولة صوب حالة مشوهة من «اشتراكية» مهيمنة على الاقتصاد، متأثرة بسياسات المعسكر الشرقي وإرث الوحدة المصرية السورية، ولكنّ سماحها بظهور كيانات وشخصيات يصعب أحياناً التفريق بينها وبين الدولة وتستأثر بحصص سوقية كبيرة سمح ببروز «رأسمالية محاسيب» على نطاق ضيق. ولم يكن اتباع ذلك النسق الاقتصادي فقط نتيجة عقائد إيديولوجية، بل نموذجاً يصلح لجعل الاقتصاد خادماً في بناء دولة الاستبداد، وفتح الباب أمام الانتفاع والزبائنية وكسب الولاءات لتثبيت نظام وصل إلى الحكم بعد عقود من الانقلابات والتقلبات السياسية. كما منعت الأسدية الأولى وجود قطاع مصرفي خاص أو أي شكل ممكن لفتح السوق على الأموال الأجنبية واجتذابها في حال لم تكن على شكل منح وهبات وديون، كانت، في الغالب، لا تمنح مقابل وعود إصلاحية أو تتطلب إعادة هيكلة للاقتصاد كما هو الحال في لبنان. تغير هذا الأمر قليلاً بعد صدور قانون الاستثمار مطلع تسعينات القرن الماضي، ولكن بخطى بطيئة يشرحها الانغلاق الاقتصادي الذي لم يكن الخروج منه سهلاً، والريبة داخل أركان النظام من القدم الغريبة وريبة المال الأجنبي من تنفيذ مشاريع استثمارية في دولة بوليسية.
وفي مرحلة الأسدية الثانية، تراجعت الدولة عن ملامحها الاشتراكية وقلصت من حجم الدعم المقدم لشريحة واسعة من الخدمات بهدف التخفيف عن خزينة الدولة، كما فتحت القطاع المصرفي أمام المال الأجنبي، اللبناني والخليجي بصورة خاصة، ومنحت شركات أجنبية استثمارات في قطاعات الاتصالات والترفيه، كما أخذت المناطق الصناعية بالتوسع، مما تطلب سهولة أكبر في الحصول على النقد الأجنبي لتمويل استيراد المواد الداخلة في عمليات التصنيع، وهو ما كان بوسع البنوك الخاصة فعله لو كانت الدولة قد وفرت عوامله. ولكن عوضاً عن جعل السوق مفتوحاً تماماً بما يتيح تشكّل طبقة عريضة من صغار ومتوسطي المستثمرين والصناعيين، برزت طبقة رجال الأعمال المقربين من الأسرة الحاكمة أو العاملين لصالحها، واستحوذت هذه الطبقة على القطاعات الرئيسية الخارجة حديثاً من قبضة الدولة، وجرى منحها رخصاً احتكارية للاستيراد على حساب الصناعة الناشئة وتنافسيتها. من مثال ذلك احتكار شخص واحد هو وهيب مرعي لقطاع حديد البناء، عوضاً عن إتاحة الفرصة الاستيرادية لجميع المستثمرين بشكل متساوٍ. ورويداً رويداً اتجهت الدولة نحو رأسمالية محاسيب توسعية تقبض عليها أوليغارشية عائلية ومنتفعة. ولم تترافق هذه المرحلة من الانفتاح مع نشوء طبقة وسطى صناعية وتجارية ذات ثقل.
وعليه، فإن بنية الاقتصاد السوري، مع إغفال شرط الحرب خلال الأعوام العشرة الماضية مختلفة تماماً عن بنية الاقتصاد اللبناني. ولم تسمح طبيعة الاقتصاد السوري وطريقة تخطيطه وإدارته الجديدة بحماية السوريين من آثار الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلاد بعد الثورة، فلو أن السلطة قد سمحت ببناء طبقة وسطى فاعلة وقادرة على الصمود عند التعرض لهزات مماثلة (مع افتراض عدم تعرض أصولها للدمار الكامل وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً بالمقارنة مع وحشية الآلة العسكرية)، مع توزيع عادل ونزيه للاستثمارات، كان ذلك سيخفف من حجم الكارثة إذا ما نظرنا إلى تنوع الاقتصاد السوري. غير أنه سياسياً ربما كان سيصب في غير مصلحة النظام في حال حجزت هذه الطبقة لنفسها مساحة غير مسيطر عليها في اقتصاد البلاد. على العكس من ذلك، كانت الطبقة التي تعتبر نفسها «وسطى» أولى ضحايا تجيير الاقتصاد لصالح العسكرة، وذلك في حال لم تحم نفسها بترك البلاد أو الاستثمار خارجها في وقت مبكر من مراحل دفع الحراك الشعبي نحو القتال عبر ممارسة العنف المفرط والمخطط. تسبب ذلك بهجرة رؤوس أموال هذه الطبقة مع مجموعة من رجال الأعمال من الدرجة المتوسطة وحرمان السوق السورية منها، أو تجميدها في مخازن للقيمة على شكل عقارات وذهب وقطع أجنبي، مما يعني أيضاً سحب كميات كبيرة من القطع الأجنبي من الأسواق، وتوظيفها لاحقاً في عمليات المضاربة، وذلك بدل أن تكون مساهمة في الاقتصاد الإنتاجي وتشغيل العمالة.
بدوره، استعمل النظام احتياطيات البنك المركزي من القطع الأجنبي في تمويل العمليات الحربية عوضاً عن تقديم الدعم لتجنيب قرابة 90 بالمئة من السوريين الوصول إلى ما دون خط الفقر، سواءً عبر دعم أكبر قدر ممكن من السلع الأساسية أو من خلال زيادة حقيقية وغير تضخمية في الأجور، وبشكل يتناسب مع تعطل عملية الإنتاج واعتماد البلاد على الاستيراد وارتفاع الأسعار، فضلاً عن مرافقة الصناعيين والمزارعين المتأثرين بانهيار سعر الصرف. بخلاف ذلك، لا يمكن الحفاظ على سعر الصرف في ظل زيادة جامحة في المعروض من الكتلة النقدية عبر طباعتها دون ضابط، وهو ما رأينا استنساخاً له في لبنان لاحقاً، أو عبر ملاحقة التجار والاستيلاء على أموالهم ودفعهم لتهريبها من البلاد. يتشابه النموذج السوري مع اللبناني هنا في كونه يواجه مشكلات عميقة يحاول مواجهتها بشراء الوقت في انتظار انفراجة ما (هي في السياق السوري مشاريع إعادة إعمار مأمولة وانفتاح على دول الخليج للحصول على المساعدات) مقابل وضع اقتصاد البلاد في مواجهة مخاطر مستقبلية أكثر حدة، غير عابئ بتبعات ذلك المباشرة والمستقبلية على معيشة ملايين الأسر السورية.
قنوات مواجهة الانهيار السوري ومسبباته
لجأ النظام السوري إلى قنوات كثيرة لمواجهة الانهيار المتواصل لليرة، منها الخطوط الائتمانية الإيرانية وتأمين القطع الأجنبي عبر العراق ولبنان، وفي مرحلة لاحقة الإمارات. الأموال الإيرانية كانت بيضة القبان في سوريا، ويأتي الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وتشديد العقوبات على طهران وتراجع مبيعات النفط الإيراني سبباً رئيسياً في حرمان النظام السوري من قسم كبير من هذه الأموال التي كانت تساعده على ضبط الاقتصاد وسعر الصرف من جهة، والتموّل من خلال بيع المحروقات في السوق السورية وتحصيل أثمانها دون الحاجة لسد الديون الإيرانية مباشرةً. وكان الدعم الروسي أقل قيمة وأثراً في مواجهة الانهيار النقدي من نظيره الإيراني لكونه عسكرياً أكثر منه نقدياً، والاستثمارات الروسية كانت استيلائية يفيد منها الطرف الروسي أكثر من النظام. لا شك بأن موسكو أزاحت في بعض الأحيان عن عاتق النظام عبء تغطية نفقات استيراد السلاح وضرورة دفع مبالغ مالية كبيرة نقداً، ولكنها كانت تحصّل لقاء هذا السلاح استثمارات طويلة الأجل لقطاعات اقتصادية حيوية كانت ستعين النظام في حال بقائها تحت سيطرته، كما أن ذلك لا يعني عدم مطالبة روسيا للنظام بدفع الأموال النقدية في بعض الأحيان. ومن بين الأمثلة على قصور الدعم الروسي هو عدم وجود مساهمة حقيقية من موسكو في تجنيب النظام أزمة الخبز، رغم كونها أبرز مصدري القمح عالمياً، بل كان النظام مضطراً لاستيراد القمح منها بأسعار أعلى من الأسعار التي كان يمكن له من خلالها شراء القمح من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي.
أما بخصوص ثنائية الأموال السورية المودعة في لبنان من جهة، والقطع الأجنبي في سوق بيروت الذي ينتقل نحو سوريا أو يخدم مستورداتها من جهة أخرى، والتي اختلف بشأنها ميقاتي وبشار الأسد، فيمكن القول، بدايةً، إن الأموال السورية انقسمت إلى قسمين: الأول لا يلبث طويلاً في المصارف اللبنانية، لأن الغرض منه تمويل عمليات الاستيراد (الخارجة على القانون أو المتصلة بالسلاح وغير ذات الصلة بتأمين المستلزمات المعيشية كون الأخيرة معفاة من العقوبات حتى الآن)، والتي لا يمكن أن تجري عبر المصارف السورية المشمولة بالعقوبات، ولكونها إيداعات قصيرة الأجل فإن البنوك اللبنانية تستفيد من عمولاتها ليس إلا. والقسم الثاني لا صلة له بالحكومة السورية لأنه يعود لمودعين سوريين لا تدخل أموالهم أصلاً في دورة الاقتصاد السوري منذ عشر سنوات. هذه الأموال التي أشرنا إلى كونها، وفق تقديرات صحفية، لا تتجاوز 5 إلى 7 مليارات لا تحمي لبنان من الانهيار ولا تنقذ سوريا مما وصلت إليه، فالمشكلة في البلدين بنيوية وعميقة وتتطلب أضعاف هذا المبلغ، لا سيما عندما نذكر أن كلفة إعادة الإعمار في سوريا وإعادة الاقتصاد إلى وضعه قبل 2011 تتطلب 400 مليار دولار في الحدود الدنيا. يبقى أن تأمين القطع الأجنبي للنظام السوري من السوق اللبنانية صحيح، ولكنه مقيد بالعقوبات الدولية أولاً، وكان من الممكن منعه بإجراءات تقنية بسيطة لو أرادت السلطات النقدية اللبنانية فعل ذلك. هنا يبدو نافعاً القول بأن لاجئ سوري في لبنان قد يتعرض، بحسب شهادات حصلنا عليها، للملاحقة والاعتقال لأشهر عديدة في حال أجرى تحويلاً مالياً إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام الأسدي، فلماذا تعجز مؤسسات الدولة اللبنانية عن منع تهريب كميات «كبيرة» من القطع الأجنبي نحو سوريا؟ هذا علاوةً على التفسير التقني الذي ذكرناه سابقاً حول عدم وجود سوق موازية بين الليرتين تُثبت ادعاءات ميقاتي.
من مسببات الانهيار الرئيسية في سوريا كلفة الحرب بلا شك، فحجم الآلة العسكرية التي استخدمها النظام واستيرادات السلاح لا تتناسب في الأصل مع دولة بحجم سوريا وإمكانياتها الاقتصادية. ورغم لجوء النظام الواسع إلى الأسلحة قليلة الكلفة، مثل البراميل المتفجرة، فهذه وحدها لم يكن بإمكانها حسم أي معركة، وكان لا بد من مواصلة استيراد السلاح النوعي وتحمل كلفة المحروقات اللازمة لعمل الطائرات والدبابات وتغذية القطعات العسكرية بالكهرباء وباحتياجاتها المختلفة، بالإضافة إلى كتلة نقدية كبيرة لتغطية رواتب عناصر الجيش والميليشيات. كما أن تعطل الصادرات والعجز المتراكم في الموازنات، والذي جرى تمويله من خلال الاستدانة وطباعة كميات كبيرة من النقد واستحداث فئات نقدية جديدة، جعل التمويل بالتضخم سمة الموازنات السورية خلال السنوات العشر الفائتة. وشملَ هذا العجز بطبيعة الحال الميزان التجاري السوري، ورفع من كلفة احتياجات الاستيراد في الموازنة. في هذا الإطار، إن تعتيم النظام السوري على الأرقام المتعلقة بحجم موجودات البنك المركزي منذ توقفه عن نشر البيانات عام 2011، هي دليل على افتقاره للذهب وأي أصول أو مخزون احتياطي يعزز من مكانة الليرة السورية، لا سيما أن المركزي يدار بطريقة أمنية أكثر بكثير مما تستخدم فيه أدوات مالية ونقدية لمواجهة الأزمات. ومن مثال ذلك أن معظم السياسات -المؤقتة- التي حاولتْ ضبط سعر العملة السورية لفترات قصيرة كانت أمنية، عبر ملاحقة المتعاملين بالقطع الأجنبي في السوق السوداء وفرض الرقابة على قنوات إدخاله وتوزيعه.
هناك أوجه عديدة للتداخل الاقتصادي بين سوريا ولبنان، ولكن الانهيار السوري سبق اللبناني بسنوات، مما يجعل من الاعتقاد بأن انهيار أحد الاقتصادين يصلح تفسيراً لانهيار الآخر لا يعدو كونه فهماً خاطئاً، فأسباب الانهيار موجودة في بنية الاقتصادين كل على حدة. أما تهريب المحروقات والسلع بين طرف وآخر، فهي عملية مستمرة منذ ما قبل الانهيارين المتزامنين حالياً، وهي لا تفسر الانهيار بقدر ما تكشف كيف أن الدولتين تسهلان لبعض العصابات والمحاسيب والميليشيات تأمين مداخيل تمكنهم من تغطية نفقاتهم دون الاضطرار لمنحهم الأموال بشكل مباشر.
ويشير كثير من المعلقين إلى تأثر سوريا ولبنان بقانون قيصر، غير أن هذا القانون عرف تراخياً في تطبيق مضامينه منذ وصول جو بايدن إلى السلطة، كما أنه يمنع الاستثمارات الأجنبية «المستقبلية» في سوريا، والأزمة التي تشهدها البلاد هي مانع أكبر من قانون قيصر بحد ذاته. كما لم يدفع القانون بالاستثمارات الأجنبية للخروج من سوريا، كونها غير موجودة وتقتصر حالياً على الجانبين الروسي والإيراني، اللذين لا يعبآن كثيراً بالعقوبات. بالتأكيد حرمت العقوبات بعض المصارف اللبنانية من العمولات التي تجنيها لقاء تحويلات النظام السوري لعقد صفقات مشبوهة وتمويل بعض المستوردات، ولكن هذا لا يفسر إطلاقاً أي جزء ذي قيمة من مسببات الانهيار، بل يصلح كدافع لتشديد الرقابة على تهريب الأموال نحو سوريا في سبيل تجنب العقوبات. وتضيّع العقوبات فرصة استفادة مستثمرين لبنانيين محتملين من مشاريع محتملة في سوريا، ولكن هذه الاستثمارات، عدا كونها مستقبلية لا علاقة لها بالانهيار الحالي، تخدم نفس الطبقة السياسية اللبنانية التي تسببت بالانهيار، وليس بالضرورة أن تكون في خدمة الاقتصاد اللبناني بما ينعكس إيجاباً على معيشة الناس. وبالتالي يجب دراسة الانهيارين بعيداً عن قانون قيصر بشكل مباشر.
السمة الأبرز للتشابهات الانهيارية السورية اللبنانية كانت في اعتماد الدولتين بشكل متزايد على تحويلات غير المقيمين بالقطع الأجنبي لدعم أسرهم. ورغم أن لبنان يعتمد على هذه التحويلات منذ عقود، إلا أن ذلك جديد على سوريا، وصار النموذج اللبناني في الاعتماد على التحويلات كشريان أساسي للاقتصاد يلعب الدور الأكبر في حماية الأسر السورية من الجوع، وكذلك في دعم الليرة السورية ومنعها من انهيارات سريعة جداً، ولكنها قادمة على كل حال.
تتنوع أسباب الانهيار في البلدين الجارين، وتتقاطع في زوايا محدودة، لكنها أدت إلى نتائج متشابهة يتحمل عواقبها ملايين الفقراء والفقراء الجدد، وبرعاية سلطتين فاسدتين تسعيان للاستمرار على حطام البلدين.