ثمة فيلم روسي ممتاز، عنوانه ما أصعب أن تكون إلهاً، أخرجه أليكسي جيرمان عام 2013 مقتبساً من رواية خيال علمي شهيرة، يروي فيها الأخوان ستروغاتسكي هبوط بعثة فضائية (سوفيتية؟) في كوكب أركانار، حيث تمكَّنَ انقلاب عسكري خبيث من وقف الانتقال ما بين العصور الوسطى وعصر النهضة. في القصة، يتوجّب على الباحثين الأرضيين الواصلين في البعثة أن ينغمسوا ضمن هذه الحضارة المتأخرة ويدرسوا عمليات الانتقال والرسوخ التاريخية، لكنَ أيَّ تدخّل في مجرياتها ممنوع عليهم منعاً باتاً. تكمن صعوبة أن تكون إلهاً هنا بالذات، في أن تنأى بنفسك عن الصراعات الجارية على الأرض رغم امتلاكك الموارد اللازمة للتدخل. الإله قادر على كل شيء إلا على لجم نفسه، فقدرته على الفعل هي التي تقرر بذاتها، وبلا هوادة.
ليس سهلاً أن تكون امبراطورية، أو قوّة عظمى على الأقل. كثيراً ما يُحال إلى «خطاب التأبين» لبيركليس عام 431 قبل الميلاد، أول أعوام الحرب البيلوبونيسيّة بين أثينا وإسبارطة، وهو خطاب صادمُ الجمال، لكن يشيع أن يُنسى إكماله بخطاب آخر ألقاه بعدها بأشهر، حين بدأت الحرب تميل نحو الكفة الأسبرطية. فإزاء سخط الأثينيين، ترك بريكلس دائرة المُثُل لينزل إلى ضيق وحل الواقعية: لم تعد المسألة هي الديمقراطية، يقول، بل «خسران امبراطورية». مُطلِقاً تحذيراً في وجه الأرواح الدرويشة: «لم يعد من الممكن التنازل عن هذه الامبراطورية، إن كان منكم من يشعر بالخوف إزاء الوضع الراهن، أو ينوي اتخاذ دور الإنسان الطيب سعياً وراء رغبته بالهدوء». ليختم بعدها: «إن هذه الامبراطورية التي بحوزتكم قد باتت بمثابة طغيان: يبدو إحرازها ظالماً، ولكن التخلي عنها شديد الخطورة». من الصعب أن تكون إلهاً لأن على الإله أن يكون موجوداً في كلّ مكان، ولأن أي تضعضع في وجوده الكلي هذا قد يعني خطر التلاشي التام. لا يلعب العدل ولا الديمقراطية أيّ دورٍ هنا، كما هو مثبت في حوار ميلوس، والسجال بين كليون وديودوت الأثينييَّن حول مصير الميتيلينيين، كما ورد في سرد ثوقيديدس.
لطالما أغرت مقارنة الحرب البيلوبونيسيّة بالحرب الباردة المؤرخين، وإن انطلاقاً من اصطفافات إيديولوجية أو أخلاقية دوماً: إسبارطة التسلطية بمثابة الاتحاد السوفيتي من حيث المبدأ، في حين تتمثل الديمقراطية الأثينية في الولايات المتحدة. ليست هذه طريقة جيدة للتمحيص. فإن كان من الممكن إنشاء متوازيات بين أحداث تاريخية على هذه الدرجة من الاختلاف، فذلك لأن الحرب الباردة قد أخذت «المنطق الامبراطوري» الذي عرّفه بيركليس إلى أقصاه، أي النأي عن العدالة والديمقراطية، والاضطرار لملء كل الفراغات، حتى بما يُناقض المصالح الاقتصادية الذاتية. لم يكن التدخل في فيتنام، حيث مُنيت الولايات المتحدة بهزيمة مذلّة، للاستحواذ على مصادر طاقة أو ثروات منجمية يفتقر إليها ذلك البلد؛ ولم يكن للمستنقع الأفغاني، مقبرة الاتحاد السوفيتي، أيّ مبرر، بل كان الضرر واضحاً من وجهة نظر برغماتية. نضيف على ذلك أن الأمر الوحيد الذي اتفق عليه الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة هو ملاحقة شيوعيين وقتلهم.
وإذ اعتقد المرء أن نهاية الحرب الباردة ستحمل على الأقل فائدةَ إمكانيةِ دراسة «المنطق الامبراطوري» وإدانته، بمعزل عن الاصطفاف الإيديولوجي وأوهام الحقيقة والعدالة والتفوق الديمقراطي، تبدو استعادة المثنوية لنشاطها مع الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة مثيرة للاستغراب، فعقلنا نصف الكروي يتغلب -دعونا نقول- على فكرنا المتعدد. قبل أحد عشر عاماً، ناصرتُ الثورات والانتفاضات «العربية»، مسترشِداً وسط الضباب بمعايشات قريبة ومعرفة عنيدة. بإمكان أيّ أحد أن يعتبر أنني أخطأت، لكنني ما زلت أعتقد أن الشعوب والوقائع والمبادئ دلّت على أنني كنت على حق، وما زلت. يحصل منذ ذلك الوقت أن أجدَ نفسي بين حين وآخر فيما يشبه انتكاسات الحمّى المالطية، إذ أتعرض لشتائم وأكاذيب وتهديدات. لقد حصل ذلك مجدداً، فرغم أنني لم أكتب شيئاً حول أوكرانيا، إلا أن بعض المجهولين الرقميين -الذين لن أوجه لهم رداً أو «بلوك»- يوجّهون لي هذه الأيام تهماً متنوعة (عميل للناتو، مرتزق وكالة المخابرات الأميركية ومؤسسة فورد..) وسيلاً منفلتاً من الشتائم. أحدهم قال عني إنني «كلب متمسّح بساق الإمبراطورية»، وآخر أرعد حكماً: «أيّ مجرمٍ هذا، سانتياغو آلبا». أيّ مجرم! تملّكتني عند قراءة هذا الكلام رغبة باستخدام اقتباس ساخر للمتتالية الجُرمية حسب توماس دي كوينسي: يبدأ المرء بالمرافعة لأجل الديمقراطية في «العالم العربي»، وبعدها يتسبب ببكاء طفل، ثم يسرق عكازة عجوز، وبعدها يجزّ عنق زوجته، وبعدها، بكامل الحصانة، يجتاح بولونيا. أيّ مجرمٍ! ولعلّ بوسع المرء أن يعتبر هذا الكلام ضرباً من المبالغة اللفظية، لولا أن هذه اليافطة تخفي وراءها حصراً خطيراً للمعنى، كثمرة متأخرة للقرن العشرين ومبكرة للواحد والعشرين، أي السعي لمسح الفارق بين الاختلاف والجريمة: من لا يفكر مثلي -بوصفي تجسيداً للحقيقة المطلقة- لا يرتكب خطأً، لا؛ بل إنه يغتصب أطفالاً ويدمّر مدناً ويبيد شعوباً بأكملها بالغاز. هذه هي الطريقة التي يقيس بها العالمَ أولئك الذين أسميتهم «ستاليبانيين» اجترح الكاتب التسمية من دمج «ستالينيين» و«طالبانيين». (المترجم). الستاليباني عاجزٌ عن القبول باحتمال أن يكون مخطئاً، ولذلك لا يقبل أيضاً احتمال أن يكون الآخر مخطئاً: الآخر لا يخطئ، بل هو منخرطٌ «موضوعياً» في مؤامرة إجرامية مُحكَمة، تتوجّب مكافحتها بكل السبل الممكنة. كلّ من لا يفكر كما أفكر هو قاتل، ويستحق بالتالي أن يُقتَل، افتراضياً أو فعلياً.
أشير إلى هذه اللآلئ السوداء بوصفها تعبيرات قصوى عن المثنوية الامبراطورية، القابعة أيضاً في رؤوسٍ أكثر اعتدالاً، وأحزاب من هذا التوجه أو ذاك، مثنوية نرى قيامها المتحمس هذه الأيام. ليس بوسع الستاليبانيين، ولا توائمهم السيامية «الليبرالية»، الاكتفاء بدراسة المخاطر والدفع نحو مفاوضات واقعية؛ بل يستسلمون لاستقطاب الحرب الباردة الإيديولوجي: عليهم أن يثبِتوا وجود شرّ، وفي الوقت نفسه أن يكونوا «أناساً أخيار»، متناسين تعاليم بيركليس بأن لا معنى لإجراء مقارنات حول أعداد القتلى، وبالذات لا معنى لمحاولة تبرير نصف هذه الأعداد، هناك حيث يهيمن «منطق امبراطوري» موازٍ للعدالة والديمقراطية. لا تكمن المسألة في الانحياز لطرف مقابل آخر، بل في الإشارة لـ «المنطق الامبراطوري» بحدّ ذاته، والتخلّي له عن أقل مساحة ممكنة في سبيل الحفاظ على السلام. وبما يخص الخصام بين روسيا والولايات المتحدة، فلا يسعني أن أقول أكثر من التالي: ليس التسويغ القيمي لأيّ من الطرفين الامبراطوريين مقبولاً بالنسبة لي، فالمسألة واقعياً يجب أن تكمن في نزع سلاح كليهما. من السخف بمكان أن تُتناسى تسلطية بوتين، وجرائمه في الداخل والخارج، في سبيل تطويبه كرمز مناهض للامبريالية فقط لأنه يخوض مواجهة مع الولايات المتحدة. من الجهة المقابلة، ورغم إمكانية أن تقدم ديمقراطية الولايات المتحدة الذابلة بعض الدروس لبوتين في المجال، إلا أنه من السخف إقناع النفس بأن الولايات المتحدة قد سعت يوماً لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان حيثما انتشرت عسكرياً، متسببةً بالكلف الإنسانية التي نعرفها جميعاً. روسيا والولايات المتحدة عالقتان في «منطقهما الامبراطوري»، في إطار عالم القرن الواحد والعشرين الجيوسياسي، المختلف عن إطار الحرب الباردة؛ إطار لا مكان فيه للديمقراطية والعدالة، ولا حتى على سبيل البروباغندا. الديمقراطية والعدالة، في مواجهة «المنطق الامبراطوري» متعدد الأقطاب، هي قضايا يجب أن نتنطع لها نحن المواطنون، وهذا يقتضي الضغط على الأطراف، دون بناء أي أوهام حول منسوبها السياسي والأخلاقي. إننا نساهم في تأخير العدالة كلّ مرة ننحاز فيها لـ «منطق امبراطوري» ما، مقتنعين أن أحد الطرفين أكثر عدالة أو أكثر ديمقراطية من الآخر، إذ هكذا نغذي صراعات عسكرية، سبّبت آلامَ آلاف الضحايا، وكبتت صوت الإنسانية لعقود. دعونا لا ننسى أن الحرب البيلوبونيسيّة انتهت متسببة بموت الديمقراطية الأثينية.
ما هو الحدّ الأدنى الذي يجب أن يُعترَف به لـ «المنطق الامبراطوري» الروسي؟ ما تريده روسيا البوتينية هو فرض حقها في أن يُعترف بها قوّةً عظمى عالمية، وأن تتصرف وفقاً لذلك. «حقّها» بالمعنى الجيوسياسي، أي «قوّة» و«موارد». أتمتلكهما؟ أخشى أنها تمتلكهما. هذا يقتضي الاعتراف لها بـ«حقّها» في التفاوض على «أمنها القومي». ليس مقبولاً بالنسبة لي الاعتراف لها بأي شيء آخر، ولا من المقبول تجاهل ملاحقاتها للمعارضين في الداخل، ولا وحشيّتها في الشيشان، ولا قصفها للمدنيين في سوريا. ولا من المقبول إنكار حقّ الشعب الأوكراني -وهنا نتحدّث عن حق إنساني وقانوني- في الدفاع عن نفسه ضد غزوٍ سيتناقض، في حال حصل، مع «المنطق الامبراطوري» الراهن.
وما هو الحدّ الأدنى الذي يجب أن يُعترَف به لـ «المنطق الامبراطوري» للولايات المتحدة؟ الحق الجيوسياسي، وليس الديمقراطي، بأن تتفاوض مع روسيا حول الترتيب ما بعد السوفيتي لأوروبا، الواقع على بُعد آلاف الكيلومترات من أرضها. ليس من المقبول بالنسبة لي الاعتراف بأكثر من ذلك. ولا من المقبول تجاهل الانقلابات والاجتياحات وحملات القصف في الخارج، أو السياسات العرقية والاجتماعية في الداخل. ولا ينبغي تجاهل قسط الولايات المتحدة من المسؤولية لو حصل أن اجتازت قوّات ودبابات روسيا البوتينية حدودها مع أوكرانيا، في تناقض مع «المنطق الامبراطوري» الراهن.
وماذا عن الاتحاد الأوروبي؟ لو قصدنا الحديث عن العدالة والديمقراطية، فعليه أن يفعل ما بوسعه كي لا يشبه روسيا البوتينية. أما بخصوص «المنطق الامبراطوري»، أي المصالح الجيوسياسية، فعلينا أن نقتنع أن استمراريته تقتضي عدم انحيازه، أو على الأقل عدم انحيازه بشكل غير مشروط، مع الولايات المتحدة. لا شيء يسبب لي الدوار بقدر تصوّر اتحاد أوروبي أكثر بوتينية في الشأن السياسي، وأقل استقلالية في الجيوسياسة، وهو تصوّرٌ لا يستحيل حصوله، وتغذّيه الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي ودوره المعدوم في التفاوض مع روسيا. يتقلص دور أوروبا في حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان مع الوقت، وتعرض استقلاليةً «امبراطوريةً» أضعف من حلفاء مشاكسين وقساة مثل إسرائيل والسعودية وتركيا. أوروبا أسيرة حلفِ ناتو يقتصر دوره على ضبطها داخل دائرة الولايات المتحدة، وهذا سيء للجميع. إذ فقط اتحاد أوروبي مستقل وديمقراطي قادر على المساهمة في تقليص «منطق الامبراطوريات»، المترتب مجدداً، والمهدد للسلم العالمي.
يصعب أن تكون إلهاً، أو امبراطورية أو قوّة عظمى. لكن من الملائم أن ننشغل بضحايا هؤلاء أيضاً. لو أردنا فعلاً حماية الديمقراطية فمن الضروري ألا نتوهم أي عدالة في منطق الامبراطوريات، ولو أردنا تصويب منطق الامبراطوريات، ولو بدرجات صغرى، فعلينا ألا ننسى العدالة والديمقراطية. لنتذكر تحذير سانشيث فيرلوسيو: «لن يتغيّر شيء ما لم تتغيّر الآلهة». ولن تتغيّر الآلهة ما لم نضع، نحن الضحايا، عثرات في طريقها.