أترددُ كثيراً عندما يُطلَب مني الحديث عن سميرة الخليل، وذلك لأسباب عدة لها علاقة بترددي المزمن في الحديث عن سوريا بشكل عام، إذ أتساءل عن مدى شرعية كلامي عن تجارب لم أختبرها شخصياً، وآلام لم أشعر إلا بنسبة ضئيلة منها. تؤلمني سوريا ألماً شديداً، كما تؤلمني قضية سميرة وزملائها، ولكني أعرف أن ألمي لا يقارن بألم أي سوري أو سورية أعرفه/ها. وها أنا ذا أتحدث اليوم عن سميرة التي لم يتسنَّ لي بعد التعرف إليها.

كانت سوريا بلداً منغلقاً على نفسه قبل سنة 2011، أو هكذا ظننته. فقبل مجيئي إليه لقضاء فترة لم أعرف الكثير عنه، وطبعا لم أعرف شيئاً لا عن ياسين، الذي أصبح اليوم صديقاً عزيزاً، ولا عن سميرة. كما أنني لم أعرف الكثير عن عقود من النضال من أجل الحرية. لحسن حظي، داخل حيطان المعهد الفرنسي الآمنة في دمشق، استطعتُ أن أتعلّم الكثير عن تاريخ البلد وأسماء البارزين من أعلامه، وقرأت مقالات وكتباً أوضحت لي ما كان غامضاً في السابق. غير أنني، لسوء الحظ، لم أتعرف إلى سميرة وياسين خلال إقامتي في سوريا، التي وصلت إلى نهايتها في منتصف سنة 2010. 

عندما اندلعت الثورة، التي كانت شرارة أمل جعلتنا نتابع الأخبار بوتيرة محمومة، لم أكن أعرف شيئاً عن تلك المرأة ذات الابتسامة الحنونة؛ سميرة الخليل، وأعتقد أن هذا له علاقة بطابع التاريخ الأبوي الذي لم يكن يُبرز أسماء النساء المناضلات في الأجيال السابقة. وفي الحقيقة، أول مرة سمعت فيها عن سميرة كناشطة كانت بعد وصولها إلى دوما، وذلك لكونها رفيقة رزان زيتونة التي كانت أكثر شهرة، على الأقل خارج الإطار السوري. يعني، وكأن سميرة الناشطة لم تكن قبل ذلك.

بطبيعة الحال، ليست هذه الحقيقة، بل لسميرة رمزية خاصة في إطار قضية محورية في هذا القرن والقرن الماضي، ويمثل اختطافها اختطافاً لنضال جيلين كاملين من الأحرار الذين رفضوا العيش تحت الظلم. وهذا ما ركزنا عليه خلال تقديماتنا لكتابها باللغة الإسبانية في عدة مدن: رمزية حياتها، ورمزية نضالها، ورمزية اختطافها. وهي أمور أدركتُها أنا نفسي بعد الاطلاع على يومياتها. 

سميرة صارت معروفة لي بعد أن نشر ياسين يومياتها في الغوطة. قرأتها بشغف، وأدركت كم هي رائعة تلك المرأة التي كانت تفكر بالآخرين قبل التفكير بنفسها في كل لحظة، وجعلتنا نفهم مرارة الحصار عبر مقارنته بتجربة السجن التي كانت أقل قسوة بالنسبة لها، هي التي قد ذاقت مرارته في الماضي. وليست هذه المقارنة هي الوحيدة التي أثارت إعجابي واستغرابي، أنا الجالسة في بيتي في بلد آمن، بل تفاجأت أيضاً عندما قرأت أنها كانت تفضل الأسلحة الكيميائية على الصواريخ العادية لأنها سمحت للأمهات بدفن أجساد أبنائهن وبناتهن كاملة الأعضاء والأطراف. كانت سميرة ترسم كارثية الوضع السوري من خلال تلك الصور القاسية، وتلك الخيارات المُرّة.

ولذلك كانت عملية نشر يومياتها مهمة للغاية، خاصة لأن تيارات يسارية مختلفة، كان يُتوقع منها أن تساند الثورة، ساندت النظام على أساس أنه تقدمي وممانع وحاجزٌ في وجه القوى المتخلّفة الدينية التي ادّعوا أنها تمثل الثورة. كان هؤلاء في بالي عندما قررتُ أن يوميات سميرة لا بد أن تُنشر بلغتي الأم، وذلك لعدة أسباب: أولاً، لأن اللغة الإسبانية لها جمهور واسع جداً داخل وخارج إسبانيا باعتبارها اللغة الرسمية في معظم دول أميركا الجنوبية، حيث يحظى الخطاب اليساري بأهمية كبيرة جداً بسبب رمزية وأهمية نضال أكثر من دولة ضد الإمبريالية الأميركية. غير أن هذا الخطاب الممانع والمعارض للإمبريالية يتلاشي عندما تستولي إمبرياليات أخرى على المشهد؛ الإمبريالية الروسية على سبيل المثال. لذلك، أصبحت تيارات معينة في اليسار، وخاصة الستالينية منها، عمياء أمام مطالب الجماهير في سوريا بإسقاط الظلم والإذلال وكل أنواع الاستبداد. وثانياً، لأنه بدا لي واضحاً أن رمزية سميرة لا بد أن تقنع من ليس لديهم فكرة واضحة عمّا يحدث في سوريا وعن أهمية القضية السورية ومحوريتها، ولو من وجهة نظر إنسانية بحتة، فكيف لشخص يقرأ هذه اليوميات ألّا يتضامن مع الشعب السوري الذي عانى من استبدادين متشابهين في الغوطة؟

هناك أمر آخر له علاقة ليس فقط بلغتي، بل بتاريخ بلدي إسبانيا: التشابه بين النضال السوري والحرب الأهلية الإسبانية في أكثر من محور، من استحالة التساوي بين طرفي الصراع (وإن كان الأصح في الحالة السورية بعد الأشهر الأولى من الثورة أن نتحدث عن أطراف متعددة وليس عن طرفين)، إلى اضطرار المتضررين لتذكير العالم مرة بعد مرة بمسؤولية الدكتاتور ودوره الأساسي والمبادر في إدخال البلد في صراع لا يمكن تحديد نهايته. فرغم وجود تاريخ محدد لنهاية الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1939، إلا أن آثارها استمرت لعقود وتمثلت بالتهجير والتغييب القسري وإسكات الأصوات الحرة. أما اليوم، فتستمر الجهود والحملات من أجل الكشف عن المقابر الجماعية التي دُفن فيها ضحايا الحرب، وهي جهود تعتبرها نسبة لا بأس بها من التيارات اليمينية، وممّن ينحدرون من عائلات اصطفّت مع الدكتاتور، جهوداً سخيفة وغير مجدية. فالماضي، كما يقولون، قد مضى. وبطبيعة الحال، كما هو الوضع في كل صراع أو حرب، نجد في كلا الحربين متطفلين نيتهم الوحيدة هي الصيد في الماء العكر، وهم من كانت سميرة تعرفهم جيداً، وهم من اختطفوها بسبب ذلك.

عندما اقترحتُ على ياسين وعلى دار منشورات الشرق والمتوسط فكرةَ ترجمة الكتاب، كنتُ أفكر في هؤلاء المنتمين إلى تيارات اليسار الذين كانوا يفهمون حقيقة الحالة الإسبانية وعدالة قضية الجمهوريين فيها، في حين يستخفون بفاعلية الشعب السوري الحر، ويعتبرون أن الثورة السورية «المزعومة» لم تكن إلّا مؤامرة إمبريالية ضد بلد ممانع ومعارض لرأس الإمبريالية في العالم وحلفائه.

كانت الترجمة منذ شهور الثورة الأولى سلاحي الوحيد، في محاولة بسيطة ومتواضعة لإيصال صوت السوريين والسوريات الأحرار إلى العالم الناطق باللغة الإسبانية، حتى أقاوم خطاب الممانعة الكاذب وادّعاءات هؤلاء بأن بديل الأسد سوف يكون أسوأ منه، وكأن السوريين لا يعرفون ما هو الأفضل لهم. كانت محاولاتهم للتعامل مع النضال السوري وكأنه بلا هوية مستفزةً جداً، ولذلك ظننت أن ترجمة يوميات سميرة قد تكون مفيدة إذا قرأها هؤلاء، أو أي شخص يمكن أن يتأثر بها. كيف لهم أن يتهموا امرأة ناضلت كل حياتها من أجل الحرية والكرامة، وفُرضت عليها عقوبة السجن وبعد ذلك الحصار والاختطاف، بالعمالة ضد استقرار سوريا كما اعتادوا على اتهام أي ناقد أو معارض للنظام السوري؟ وفي الحقيقة، لم يأتٍ أحدٌ منهم إلى تقديم الكتاب في مدريد، فماذا يردّون على الصورة التي ترسمها سميرة في أذهان القراء حول الوضع في الغوطة، وحول طبيعة أولئك الاستبداديين المعارضين للثورة، أي الأسديين وجيش الإسلام وأمثالهما؟ أتذكر أننا بعد الخروج من القاعة، أنا وياسين السويحة وسانتياغو ألبا وعدد لا بأس به من الأصدقاء السوريين، صرخنا في الهواء الطلق: «مدريد لنا وما هي لبيت الأسد!». كانت تلك أمسية برهنت أن التيار الممانع المزيف لم يكن لديه ما يقوله أمام وضع أصبح واضحاً لكل من قرأ وصفَ سميرة له، ولطبيعة الاستبدادَين الموجودَين في سوريا.

ولكن، غير هؤلاء، تمنيتُ أن يصل كتاب سميرة إلى جمهور أوسع، ممّن قد لا يجدون في المقالات الجيواستراتيجية والحوارات الأكاديمية وتقديمات خبراء الإرهاب ما يجذب اهتمامهم إلى القضية السورية. في الحقيقة، كانت سوريا حتى العام 2011، وكما قلتُ سابقاً، دولة بعيدة أشد البعد عن الخيال الإسباني على الأقل، ولم يزدد الاهتمام بها حتى العام 2015 بطريقة ملفتة عقب ما عُرف بأزمة اللاجئين. ولكن كانت إشكالية هذا الاهتمام الجديد والمتزايد هي أنه يقتصر على قصص معاناة الطريق وقصص النجاة، وكأنَّ من تجرأوا على عبور البحر والمخاطرة بحياتهم هاربون من الحرب بـ«الـ» التعريف، وكأنها كيان غير معروف الهوية ومخيف نتيجة تلك المجهولية. ما كان الجمهور الذي شاهد صور الشواطئ اليونانية، والحدود الداخلية الأوروبية المكتظة باللاجئين، يهتمّ بالقصة التي وراء ذلك المشهد، بل بالخطاب الإنساني البحت الذي لا أُنكر أهميته  في هذا الإطار إلا أنه لا يساعد على تقريب القضية ورمزية سوريا كعالم مصغر بكل تناقضاته ممن وصلت إليهم تلك الصور عبر الشاشة. وبعد التأمل في كتابات سميرة، فكّرتُ أن بساطة شرحها للوضع وإشارتها إلى المسؤولين قد تكون الوسيلة المثلى لنقل صورة عن خلفية أزمة اللاجئين إلى الجمهور الناطق بالإسبانية، وإظهار أن ما قيل عن محاربة الإرهاب في سوريا من قبل النظام ليس إلا كذبة، تفضحها صور يومية تصل إلى العالم من قلب الحدث عن طريق سميرة الخليل. كل هذه الأوجه شجعتني على طرح فكرة ترجمة يوميات الحصار في دوما إلى اللغة الإسبانية.

غير أن هناك أمراً آخر أريد التطرق إليه هنا، وإن خرجتُ بذلك عن المجال النضالي لقضية سميرة، وذلك لأنه من الصعب جداً لي أن أفصل هذه القضية عن بعدها الشخصي. صحيحٌ أن سميرة باتت بالنسبة لي رمزاً للثورة ورمزاً لسوريا المنكوبة، ولكنها أصبحت أيضاً رمزاً للحب غير المشروط، وللكرم. قصة حب سميرة وياسين مصدر إلهام لكل من يقرأ عنها، فهي عبارة عن حب مخلص وصافٍ بكل معنى الكلمة. ولذلك، رغم أن رمزية سميرة متعددة الأبعاد، أعتقد أن البعد الشخصي هو الذي قرّبني منها أكثر حتى شعرتُ أنني أعرفها منذ فترة ليست وجيزة. قيل لي مرة إن أحسنَ قارئ لنص معين هو مترجمه، فلا بد من قراءة مركزة ودقيقة وبطيئة حتى نفهم المعنى الضمني لكل كلمة ونحاول أن نتقمص دور الكاتب أو الكاتبة وندخل في ذهنه. لم تفكر سميرة أن كتاباتها السريعة على أوراقها، في اللحظات القليلة التي أتاحتها أوقات الهدوء النسبي، سوف تُنشر كي نقرأها في مختلف أنحاء العالم، ولكنني أحب أن أقول إن سميرة تخاطبنا عبر صفحاتها وتُظهر لنا كم هي كريمة وغيرية.

بعد سنوات من اختطاف سميرة، بدأ ياسين يكتب رسائل لها يشرح فيها ما يدور في العالم وفي سوريا، وأهم من كل ذلك في قلبه وداخله المجروحَين بسبب غيابها. كان تقمص شخصية ياسين خلال ترجمة الرسائل صعباً، فالحديث بضمير المتكلم في هذه الرسائل مسؤولية كبيرة تجاهه وتجاه سميرة الغائبة. كيف لي أن أنقل كل ما يُقال في تلك السطور، وما هو أصعب: ما لا يُقال وإن أدركناه خلال القراءة؟ كيف لي أن أخاطب من تعرفت عليها عبر مخاطبتها لي وللعالم، وليس من خلال الحوار المباشر؟ تمنيتُ لو تسنت لي الفرصة كي أقول لسميرة ما تمثله من أمل في هذا الوقت الحزين الذي نعيش فيه. ولاستحالة الحديث معها، أرسلتُ لها هدية مع ياسين عندما جاء هو إلى مدريد، معبرة عن تلك المشاعر من الحنين والصداقة التي أيقظَتها تلك المرأة العظيمة في قلبي.

بصراحة، لا أتذكر أول مرة تحدثت فيها مع ياسين. ربما كان ذلك من خلال التعليقات على نشري إحدى ترجماتي لنص له على فيسبوك في صفحة صديق مشترك، الأرجح أن يكون رفيقنا ياسين السويحة. ولكني، أتذكر بوضوح تلك الرسالة التي كتبها لي يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، أي ثلاثة أسابيع قبل اختطاف سميرة، وقال فيها بعد أن سألته عن حاله: أنا منيح لكن مشغول بالي على سميرة، بعدها بالغوطة والغوطة محاصرة. هي منيحة. عم تنواصل، لكن الوضع هناك صعب». 

كنتُ في ذلك الوقت في وضع نفسي مرتبك، وكان هو يحس بذلك، ورغم ضغطه النفسي بسبب وضع سميرة المقلق، قال لي: «بس تكوني محتاجة تحكي أو تفضفضي، أنا على مسافة فارة منك». 

بعد كم يوم فوجئنا بأسوأ خبر: لقد اختُطفت سميرة. وحدث ما كنا نخشاه. كتبتُ رسالة قصيرة بدون لف ودوران لياسين: «كيفك؟ إن شاء الله تطلع بالسلامة». قال: «أنا منيح. أنتي كيفك؟ صرنا تمام؟». قلت له إن ألمي أخف بكثير من ألمه، وأجاب بما يلي: «ما بدنا نقارن، كل الآلام… مؤلمة».

صحيح، فالألم يعمّ سوريا ويُغرق قلوب السوريين اليوم دون أن نعرف له دواءً.

وفي انتظارك المؤلم جداً، في بيناتنا حكي كتير بس ترجعي، يا سمور.