تمر أوكرانيا بمرحلة دقيقة وخطيرة بعد أن غدت ساحة لصراع إرادات داخلية، وميداناً لتنافس دولي لتوضيح الأحجام والأوزان وتكريس معادلة جديدة والتموضع فيها عبر عملية عض أصابع بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، في ضوء حالة الفتور في العلاقات على خلفية التضارب في التعاطي بين ميل الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، لضبط العلاقات المتغيرات الإقليمية والدولية، ونزعة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القومية، ورغبته الواضحة في إعادة تشكيل الفضاء الخارجي وشغل روسيا موقع الاتحاد السوفييتي عبر فرض الهيمنة الروسية على البلدان التي كانت تدور في الفلك السوفييتي وتلك التي ربطتها به علاقات قديمة في الشرق الأوسط؛ وتغيير النظام الدولي بحيث تكون روسيا قطباً دولياً معترفاً به.
تشابك وتمايز تاريخي
ظهرت أوكرانيا كدولة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 تعبيراً عن نزوع قومي صاعد بين الأوكرانيين، الذين عبروا ليس عن تميزهم عن الروس فقط، بل وعن ميلهم للالتحاق بالغرب. فرغم العلاقات التاريخية العميقة مع روسيا: ولادة الأمة الروسية والكنيسة الأرثوذوكسية، التي غدت الكنيسة القومية الروسية بعد اعتناق الأخيرة للمسيحية، في أوكرانيا، تقول الأسطورة الروسية: «تم تعميد الأمير فلاديمير عام 988 قرب ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم؛ في أولى خطوات دخول المسيحية لهذه البلاد». وقد مثّل استيلاء الروس على شبه جزيرة القرم من العثمانيين عام 1773 تطوراً كبيراً في مصائر روسيا، التي أصبح لها للمرة الأولى ميناء في المياه الدافئة، وأسطولاً قرب البحر الأبيض المتوسط.
وضع الترابط العضوي الذي ترسخ على مدى قرون بين روسيا وأوكرانيا الثانية على رأس قائمة أولويات الأولى. فقد ظلت العلاقات بين البلدين أشبه بعلاقات بلد واحد تفصل أطرافه حدوداً وحواجز وقوانين محلية، فقرابة نصف سكان الأقاليم الشرقية يتكلمون اللغة الروسية ويتطلعون إلى تعزيز التقارب مع موسكو، وهذا لعب دوراً رئيساً في تحويل أوكرانيا إلى ساحة نفوذ أساسية للروس، ونافذة حيوية لهم على أوروبا لا يمكن فصلها من دون إلحاق أضرار كبيرة بروسيا نفسها. لذا كانت روسيا، ومازالت، حريصة على تعزيز هذا النفوذ، وبناء علاقة سياسية مستقرة ودائمة معها، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو ضمن إطار الاتحاد الأوراسي، الذي تصور الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن تكون أوكرانيا حجر الزاوية فيه. بدون أوكرانيا، يفقد الاتحاد الأوراسي معناه كلية، بسبب أهميتها الجيوستراتيجية، باعتبارها الممر السهلي لروسيا باتجاه أوروبا الغربية. وقد سبق أن قال مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس جيمي كارتر 1977- 1981، زبيغينيو بريجنسكي: «دون أوكرانيا لن تكون روسيا دولة عظمى». فأوكرانيا تقع في نطاق دبلوماسية «الجوار القريب» التي اعتمدتها روسيا منذ عهد القياصرة. وقد اتخذت، الدبلوماسية، بعد الحرب العالمية الثانية، شكلين ظاهرين؛ إما بسط هيمنة موسكو بـ «الواسطة» على دول «الجوار القريب» – كما كان الحال مع أوكرانيا؛ وما هو عليه حالياً مع طاجيكستان وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في منطقة القوقاز- أو تحييدها قسراً ومنع انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما هو الحال مع فنلندا وبيلاروسيا.
تغيرت معادلة القوة بين روسيا وأوكرانيا بفعل التحول والتغير الذي طرأ على روسيا وتوسعها على حساب دول الجوار، ولكن العلاقة بينهما ظلت متينة، فقد غدا لروسيا نفوذ كبير فيها، سواء على مستوى الأشخاص النافذين أو على مستوى المؤسسات. ولكن قاعدتها الأكثر وثوقاً وقوة تمثلت في الأقلية الروسية، التي تصل نسبتها إلى 17.3 في المئة من السكان، وتتمركز في شبه جزيرة القرم والأقاليم الشرقية المحاذية لروسيا، ففي هذه الأخيرة على وجه الخصوص، لا تتحدث أغلبية السكان اللغة الروسية وحسب، بل إن صلات السكان التجارية، الصناعية، العائلية، بروسيا عبر الحدود، تمتد إلى عقود طويلة، وربما إلى قرون.
احتلت أوكرانيا، بسبب موقعها وعدد سكانها،46 مليون نسمة، موقعاً هاماً في اتحاد الجمهوريات السوفييتية. استمرت التجربة السياسية المشتركة حوالى ستين سنة، إلا أنها كانت السباقة للمطالبة بالخروج منه بُعيد توقيع الرئيسين الأميركي، رونالد ريغان، والسوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، على إنهاء الحرب الباردة عام 1989، في ظل عودة إلى نزوع قومي أوكراني بقي كامناً حتى واتته الفرصة للصدع بالموقف. وقد اقترنت نزعة الاستقلال بميل للتوجه غرباً والالتحام بالاتحاد الأوروبي وتعزيز العلاقات الثنائية والجماعية مع دوله، في بعث لتاريخ أوكراني عريق، فثلاثة أرباع الشعب الأوكراني يتمسكون بالثقافة الغربية، ويشعرون بالولاء لأوروبا الوسطى، حيث كانوا عبر التاريخ جزءاً من إمبراطورية أسرة هابسبورغ التي حكمت أجزاء كبيرة من أوروبا واستمر عهدها بين عامي 1438 و 1740 وكانت تضم ليتوانيا وبولندا وألمانيا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى. ويتطلع هؤلاء الأوكرانيون إلى أن تصبح أوكرانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي حتى يتمتعوا بمزايا الثروة والنجاح الاقتصادي، ويرغبون في الانضمام إلى حلف الناتو ليصبحوا حلفاء للولايات المتحدة. وقد فعلوا مثل هذا في الماضي بين الحربين العالميتين، وحاربوا في سبيل صيانة استقلال بلدهم. وتطلب غزو أوكرانيا من قبل البلاشفة الشيوعيين عام 1932 حرباً دامت 10 سنوات. وما لبث النظام البلشفي في موسكو أن فرض مجاعة ممنهجة عليهم بعد أن نهب محاصيلهم الزراعية وطبق عليهم قوانين جائرة لإجبارهم على ترسيخ التصنيع في المناطق الشرقية وحدها، ما أدى إلى موت سبعة ملايين أوكراني. ولا يمكن لأي أوكراني أن ينسى هذه المأساة المروّعة.
خلفية الصراع الغربي الروسي
مع نهاية الحرب الباردة (قمة مالطا بين الرئيسين بوش الأب وغورباتشوف عام 1989) وانهيار الاتحاد السوفييتي (1991)، شهد العالم توجهاً سياسياً دعا إلى تصفية بؤر التوتر والحروب وإقرار السلم العالمي. فقد سادت، لفترة وجيزة، أدبيات البيروسترويكا التي بشّر بها آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، والتي تدعو إلى إقامة نظام دولي يعتمد «توازن المصالح» قاعدة له، وتعطي الأولوية للتعاون الدولي، ما يعني تراجع العامل العسكري وإعطاء الصدارة في العلاقات الدولية للعاملين السياسي والاقتصادي. وقد قاد هذا المناخ إلى بروز دعوات أوروبية لحل حلف الناتو بعد أن غدا، بفعل نهاية الحرب الباردة وحل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفياتي، بلا معنى أو هدف، وإلى قبول دعوة غورباتشوف لإقامة أوروبا واحدة من الأورال إلى الأطلسي، وإلى حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وتقديم يد المساعدة للدول الفقيرة لإخراجها من حالة الانهيار الاقتصادي والصراعات العرقية والسياسية.
رفضت الولايات المتحدة هذا التوجه وقاومته بقوة، فالمحافظة على «توازن القوى» قاعدةً للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل استراتيجيته وساحة عمله، مصلحة أميركية. لذا تبنت سياسات مراوغة ودفعت باتجاه تأزيم النزاعات، ودفع أطرافها إلى اعتماد الخيار العسكري، ولعل ما حدث في يوغسلافيا آنذاك خير مثال على هذا السلوك، حيث كشفت صحيفة هيرالد تريبيون (15 و 16 أيار/ مايو 1995) ما قاله جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية، عام 1990 للرئيس اليوغسلافي، سلوفودان ميلوزوفيتش، «إن واشنطن مع يوغسلافيا موحدة أرضاً وشعباً»، وهذا شجع الأخير على الاندفاع في حرب مجنونة دمرت بلاده وشعبه وقادته إلى محكمة جرائم الحرب (يذكرنا هذا بلقاء السفيرة الأميركية، أبريل غلاسبي، مع الرئيس العراقي، صدام حسين، قبل اجتياح الكويت، وإعلان ريتشارد أرميتاج، مساعد وزير الخارجية الأميركية، في دمشق عام 2004 أن قضية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود قضية تحل بالتفاهم بين سورية ولبنان).
وقد عملت الولايات المتحدة في القمة الخمسينية للحلف في واشنطن عام 1999 على إلزام الحلفاء بتنفيذ مقرراته، والتي تبنت تحويل الحلف إلى مرجعية لقرار الحرب والسلم في العالم. انطلق الولايات المتحدة من تصور مبني على ضرورة الوجود العسكري المباشر في عدد من الأقاليم حول العالم، ولاسيما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومحيط البحر الأسود، بهدف السيطرة على التفاعلات الإقليمية السياسية والاقتصادية والتحكم بالخريطة الجيوسياسية في هذه الأقاليم، ما جعل هدف توسيع حلف الناتو يحتل موقعاً مركزياً في هذه الخطة.
لم يستمر حلف الناتو ويوسع ساحة عمله فقط، بل واندفع بتوسيع عضويته بضم دول أوروبا الشرقية، حيث ضم أحد عشر بلداً من بلدان أوروبا الشرقية، بما فيها بولندا وبلدان البلطيق الثلاثة: لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وطرح انضمام أوكرانيا إليه، بالإضافة إلى دول أخرى محاذية لروسيا مثل أرمينيا، والاقتراب من الحدود الروسية أكثر فأكثر، مستغلاً ضعف روسيا وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن خلال فترة حكم بوريس يلتسين. وقد جاء نشر أجزاء من الدرع الصاروخي في تشيكيا ورومانيا وتركيا، وأجزاء أخرى متحركة على ظهر ناقلات في دول البلطيق ليثير مخاوف روسيا، لأنه يمنح الولايات المتحدة فرصة توجيه الضربة الأولى ويشل قدرة روسيا على الرد. ففي ذهن الروس مقولة وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، «روسيا مازالت كبيرة لذا فهي خطيرة».
تحفظت روسيا على عمليات التوسع لجهة تعارضها مع التفاهم الذي تم بين الغرب والاتحاد السوفييتي خلال مفاوضات توحيد ألمانيا. لكن موسكو، مع التصريحات الرسمية الروسية الحادة التي ترفض توسع الحلف، رضخت ووقّعت مع الحلف عام 1997، في عهد الرئيس يلتسين، «ميثاق باريس» الذي فتح الباب أمام انضمام بولندا وتشيكيا والمجر إلى صفوف الحلف كدفعة أولى. وبعد ذلك، وفي عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تم التوقيع على «إعلان روما» عام 2002، الذي جرى بموجبه تأسيس مجلس روسياـ الناتو ومواصلة الحلف ضم المزيد من دول شرق أوروبا. كان مهندس الحرب الباردة جورج كينان وصاحب نظرية الاحتواء قد أعلن عام 1999 أنه يعارض فكرة توسّع حلف الناتو نحو الشرق، وأخبر زميله توماس فريدمان حينئذ بأن التوسع باتجاه الشرق سيكون «خطأً مأساوياً» لأن العدو في ذلك الوقت لم يكن روسيا، بل الحزب الشيوعي السوفياتي. ولم يكن من الضروري حسب كينان توسيع حلف الناتو، لأن ذلك سوف يجبر روسيا على العودة للعب دورها باعتبارها الطرف المعادي للغرب، وقد تسعى لإشعال أوار حرب باردة جديدة. وبالإضافة لكل هذا «ليست لدينا نيّة للذهاب إلى الحرب بسبب تلك البلدان النائية».
لقد استسلم القادة الروس لعمليات التوسع، حتى أن بوتين عندما وصل إلى السلطة تحدث عن احتمال انضمام روسيا ذاتها إلى الحلف.
تبنت روسيا خلال رئاسة بوتين الثالثة، مدفوعة بنزوع قومي روسي لإعادة الاعتبار لروسيا والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي، رؤية قائمة على قوة الدولة وضمان ولاء الكنيسة الأرثوذكسية والتمسك بالقيم الثقافية العريقة، تبنت استراتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها ودورها الإقليمي والدولي، وعملت على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفيتية السابقة من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم حالياً ست دول، هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا، ودعت إلى تشكيل اتحاد جمركي يضم دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، كإطار موازٍ ومنافس للاتحاد الأوروبي، يمثل برأيها عالماً بديلاً قائما على رفض القيم الغربية، ومبني على تصور لا يسمح لأية دولة فيه أن تصوغ سياساتها وتحدد أطر مستقبلها بشكل منفرد، ويقع تحت السيطرة الروسية الكاملة. وأطلقت، مستفيدة من تحسن سعر النفط والغاز الذي مكنها من تجاوز حالة العجز التجاري والمالي وحولها إلى وضع إيجابي مع احتياطي نقدي كبير سمح برفع الموازنة العسكرية، برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن لوضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي. وهذا ما أجّج الخلافات مع الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة. وقد جاءت تحولات الربيع العربي والتصرف الغربي في ليبيا، وانفجار الثورة السورية، على الضد من هوى الكرملين لتزيد في سخونة المواجهة، في ضوء خشية موسكو فقدان آخر معاقلها في المتوسط، فتبنى الكرملين موقفاً منحازاً للنظام السوري في محاولة لتحقيق هدفين، الأول حماية مصالحه ووجوده في المتوسط (قاعدة طرطوس)، والثاني الانتقام من حرمان روسيا من الكعكة الليبية.
تزامن هذا التحرك مع إدارة أميركية تبنّت، لاعتبارات داخلية (الرفض الشعبي للحروب الخارجية بسبب الضحايا والتكلفة المالية العالية، حيث قدر إجمالي خسائر الحرب في أفغانستان والعراق بـ 8 تريليون، خلل مالي، مشكلات اقتصادية: بطالة تضخم، تآكل البنى التحتية)، خيارات الحد من التدخل الخارجي، والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشكلات والعمل على تحقيق المصالح بطرق أقل تكلفة بشرياً ومادياً، ما منح التحرك الروسي فرصة تسجيل نقاط تفّوق ظاهرية عززت اندفاعة بوتين ورفعت من أسهمه الداخلية والدولية، ودفعته إلى الرفع من نبرة التحدي والتوسع في عرض العضلات واستخدام القوة ضد خصومه الداخليين والخارجيين. وقد أغرى غياب الرد المباشر بوتين على العمل لتحقيق نصر على الغرب في سورية عبر دعم النظام السوري بأسباب البقاء، وتغطيته إعلامياً ودبلوماسياً وحمايته سياسياً.
ردت واشنطن على التشدد الروسي في سورية وإفشاله لـ جنيف2، عبر عدم قيامه بالدور المطلوب والضغط على النظام لدفعه للانخراط في مفاوضات جادة، بتشجيع المعارضة الأوكرانية وإشعال حريق في الحديقة الخلفية لروسيا.
تحركت موسكو ضد التظاهرات الأوكرانية والبرلمانية وهروب حليفها الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، بالتدخل غير المعلن في شبه جزيرة القرم وتشجيع الروس هناك للمطالبة بإجراء استفتاء لتقرير المصير، وتنفيذ الخطوة وضم الجزيرة إلى روسيا تحت ذريعة نتائج الاستفتاء. جاء رد الفعل الروسي في شبه جزيرة القرم، مع توجه للّعب بورقة حماية الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا، للضغط على كييف للعودة إلى الاتفاق الذي تم بين يانوكوفيتش والمعارضة برعاية دول غربية، وإلغاء كل الخطوات التي أخذها قادة الانقلاب عليه، وعلى الغرب، للتخلي عن مساعيه ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. فموسكو لم تكن بعيدة عن الصواب عندما قدرت منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي أن مشكلتها الكبرى هي في الخارج القريب، ومحاولتها تأمينه، إلا أنها وُوجِهت بتقدم استراتيجي غربي حثيث، حُمل في أغلب الحالات على موجة تحول ديمقراطي وأحلام الانضواء في الوحدة الأوروبية، فلم تجد سوى تصعيد الروح القومية الروسية مرتكزاً لمقاومة هذا التقدم الغربي.
راهنت روسيا على أن يشكل ضم شبه جزيرة القرم خطوة في لعبة دومينو وتحرك سكان الأقاليم الشرقية للمطالبة بالانضمام إلى روسيا، اعتماداً على أن نحو 17,3 في المئة من سكانها هم من الروس، وأن 43 ـ 46 في المئة من السكان يتحدثون الروسية، يعيشون في شرقها، بجوار الحدود الروسية، حيث يسهل دعمهم، وحيث تتركز فيه الموارد والثروات والطاقات الإنتاجية بما يساهم بأكثر من 70 في المئة في الناتج القومي الأوكراني، وحرمان أوكرانيا من هذه الموارد. رأى خبراء روس أن انضمام جزيرة القرم قد يفتح شهية أقاليم ومناطق أخرى في الساحة السوفييتية السابقة لطلب الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وأبرزت وسائل إعلام روسية أن إقليم بريدنيستروفييه بجمهورية مولدافيا السوفياتية السابقة، حيث يشكل الروس نحو 30 في المئة من سكانه، يطالب هو الآخر بالانضمام إلى روسيا. مع عدم استبعاد احتمال تزايد مثل هذه الطلبات في الفترة المقبلة، خاصة إذا علمنا أن عدد الروس الذين وجدوا أنفسهم خارج روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، ليس بالقليل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يشكل الروس في كازاخستان بين 23 و 30 في المئة من سكانها، وفي لاتفيا نحو 29 في المئة، وفي إستونيا نحو 25,5 في المئة. يدور الحديث هنا عن السكان من أصول روسية فقط، وإذا أضفنا إليهم عدد السكان الناطقين بالروسية تصبح الصورة أكثر تعقيداً.
لم يقف الوضع عند هذا الحد، حيث صعّدت روسيا الموقف في أوكرانيا عبر تشجيع ودعم الروس والناطقين بالروسية في منطقة الدونباس على إعلان التمرد على السلطة المركزية والمطالبة بحكم ذاتي يسمح لروسيا عبره بالتأثير على قرارات كييف. وقد ترتب على هذه الخطوة إعلان قيام جمهوريتين شعبيتين مستقلتين هما لوغانسك ودونيتسك يوم 12/5/2014 بعد استفتاء شعبي.
اعتبر الغرب أن ما تم في شبه جزيرة القرم خرقاً للقانون الدولي، ورأى فيه فرصة لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي ورسم الحدود الشرقية للاتحاد وإبعاد روسيا عن دول البلطيق وبلغاريا ورومانيا. لم يثر ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا حفيظة الدول الغربية فقط، بل ودول على علاقة جيدة بروسيا: الصين، بيلاروسيا، كازاخستان، ودول أخرى من دول الاتحاد السوفياتي، كلٌ لاعتباراته الخاصة. فقد تبنت الصين موقفاً «محايداً» فهي لا ترغب في خوض معارك الآخرين لاعتبارات كثيرة، منها الأوضاع في التبت وتايوان. وفي الوقت نفسه، لا ترغب الصين في خسارة روسيا نتيجة احتياجها المتزايد لموارد الطاقة من أجل مواصلة نموّها الاقتصادي. وقد تخوفت بيلاروسيا وكازاخستان من قيام روسيا بذلك معها مستقبلا.
اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الرد الذي ستأخذانه ضد التحرك الروسي في أوكرانيا: دعم أوكرانيا اقتصادياً ومعاقبة روسيا، وهذا ما عكسته المباحثات الأوروبية الأوكرانية والاتفاق على تقديم قروض مالية عاجلة وتفعيل المباحثات حول الشراكة التجارية بين الطرفين، والتصريحات الغربية والإنذار الذي وُجه إلى موسكو بمعاقبتها اقتصادياً وعزلها دبلوماسياً. وقد وضع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تصوراً للوضع في أوكرانيا خلال المرحلة المقبلة، وبدأ العمل على تطبيقه عملياً على الأرض بصدور رزمة العقوبات التي اتخذت ضد شخصيات روسية وأوكرانية موالية، وضد بعض المصارف والشركات الروسية.
ناقش قادة الناتو هذه التغيرات بروحية هجومية، ووُضعت تصورات لمواجهتها عبر تشكيل قوة تدخل سريع، وصفها أمين عام حلف الناتو السابق، أندرس فوغ راسموسن، برأس الحربة، تكون جاهزة للتحرك، وفق مقتضى المادة الخامسة من معاهدة الدفاع المشترك للحلف، لنجدة أية دولة من دول الحلف تتعرض لاعتداء خارجي خلال أيام، وإقامة قواعد شبه ثابتة في دول شرق أوروبا (خمس قواعد عسكرية في لاتفيا وليتوانيا وإستونيا ورومانيا وبولندا) ونشر نحو 4000 عسكري فيها، إضافة إلى إنشاء صندوق لدعم أوكرانيا عسكرياً ورفع كفاءة جيشها، ومواصلة الضغط الاقتصادي على روسيا وفرض عقوبات اقتصادية جديدة.
أدرك الكرملين مدى خطورة خطة الحلف لتكبير قوة التدخل السريع على الأمن القومي الروسي، ومحاولات محاصرة روسيا وتطويقها بقواعد عسكرية للحلف لتغيير الوضع الجيوسياسي لها وحولها، ومواصلة واشنطن العمل على نشر الدرع الصاروخية في دول شرق أوروبا، ما دفعه إلى الإعلان عن تعديل في العقيدة العسكرية أساسه إعادة تأكيد رفض توسع الحلف في اتجاه الحدود الروسية، وزيادة وجوده العسكري في أوروبا الشرقية، ورفض نشر الدرع الصاروخية، وحق روسيا في استخدام درعها النووية، والتلويح بالانسحاب من معاهدة عام 1987 حول الصواريخ النووية المتوسطة، ورفض انضمام أوكرانيا إلى الحلف، واعتماد سياسة إحلال الواردات في المجالين العسكري والمدني، ما يعني زيادة النفقات العسكرية بأكثر مما هو مخطط له، لموازنة النفقات العسكرية لحلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية.
تصعيد التوتر لفرض المطالب
أثار التحرك العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم وإعلان انفصال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك عن أوكرانيا مخاوف دول البلطيق وبلغاريا ورومانيا، ما دفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى تحريك بعض وحداته العسكرية ونشرها في هذه الدول وإرسال طائرات استطلاع وقطع بحرية إلى البحر الأسود لإجراء مناورات عسكرية مع دول الحلف هناك، دون أن يعني ذلك وجود قرار برد عسكري على التحرك الروسي.
اختلفت تقديرات المحللين حول الخطوة الروسية القادمة، وقد توقّع بعضهم أن يؤدي العناد والخوف في أوكرانيا والدول المجاورة، نتيجة تحركات روسيا العسكرية، إلى إثارة تحركات وأنشطة مضادة من شأنها تقويض الأمن الروسي. وتكهن خبراء روس بتصعيد بين روسيا والغرب خلال الفترة القادمة، فالمشهد الجيوسياسي الراهن يشير إلى أن أوكرانيا أهم بكثير من جورجيا بالنسبة لروسيا، وأبدوا اعتقادهم أن الحرب الروسية ـ الجورجية في العام 2008، ستبدو وكأنها «لعبة صغيرة» بالمقارنة مع ما سيجري بسبب أوكرانيا. وربما يجري اللعب على ورقة تقسيم أوكرانيا إلى غرب وشرق.
غير أن تقسيم أوكرانيا أو الدخول في حرب يمثلان في نظر محللين آخرين خطورة على الجميع، وقد يُفجران نزعات انفصالية داخل أوروبا وروسيا مجدداً. ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد «مفاجآت»، وإن فصلتنا سنوات وتجارب طوال عن حرب القرم، الحرب الشرقية، ما بين عامي 1853 و 1856.
وقد توقّع محللون سياسيون أن يحدث تغير رئيس على الجانب الغربي، ألا وهو عودة الولايات المتحدة للعب دور مركزي في رد الفعل الغربي على التحرك الروسي في ضوء تبدّل الموقف من روسيا بقيادة بوتين، إذ لم تعد الشريك المحتمل للغرب، كما كانت عليه بعد انتهاء الحرب الباردة. لقد تغيرت الظروف التي قادت إلى ابتعاد الولايات المتحدة عن أوروبا وتقليلها من أهمية حلف الناتو، وبذل المزيد من الجهود لتطوير قدرات الحلف من الناحية العسكرية وتهيئته أكثر لمواجهة التحديات الاستراتيجية.
لقد تعددت تقديرات المحللين والمسؤولين الأميركيين حول الرد والمخرج، حيث دعا وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، إلى تحول أوكرانيا إلى جسر بين روسيا والاتحاد الأوروبي لا أن تكون مخفراً أمامياً لأي من الطرفين، وطرح رؤية للحل من النقاط التالية:
1- يجب أن يكون لأوكرانيا حق اختيار ارتباطاتها السياسية والاقتصادية بحرية، بما في ذلك مع أوروبا.
2- يجب ألا تنضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
3- يجب أن تكون لأوكرانيا الحرية في تشكيل أية حكومة متوافقة مع الإرادة التي يعبر عنها شعبها، ومن ثم سيختار الزعماء الأوكرانيون المحنكون سياسة المصالحة بين الفرقاء المختلفين في الدولة.
4- لا يتوافق ضم روسيا لشبه جزيرة القرم مع قواعد النظام العالمي القائم، لكن يجب أن يكون من الممكن وضع علاقة شبه جزيرة القرم بأوكرانيا في بيئة غير مشحونة، وعلى أوكرانيا أن تعزز الحكم الذاتي لشبه الجزيرة في انتخابات تعقد بحضور مراقبين دوليين، على أن تشمل هذه العملية إزالة أيّ غموض بشأن وضع أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول.
ودعا نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون أوروبا والناتو من 2001– 2005، ايان بريزنسكي، إلى اتخاذ الولايات المتحدة والناتو تدابير دفاعية حذرة لتعزيز الأمن في أوكرانيا وهي:
أولاً: ينبغي على الولايات المتحدة أن توافق على الفور على طلب رئيس الوزراء الأوكراني، أرسيني بيتروفيتش ياتسينيوك، بالحصول على معدات عسكرية، من بينها الأسلحة المضادة للدبابات ومضادات للطائرات. هذه المعدات والأسلحة يمكن أن تنقل بسرعة من مخازن الجيش الأميركي الموجودة في أوروبا.
ثانياً: نشر قدرات الاستخبارات والمراقبة والمدربين العسكريين في أوكرانيا. وهذا من شأنه توفير الوعي ومساعدة الجيش الأوكراني في تعزيز قدراته الدفاعية، وسيجبر موسكو في الوقت ذاته على دراسة التداعيات السياسية والعسكرية المحتملة لأي إجراء يؤثر في هذا الوجود.
ثالثاً: يتعين على حلفاء الناتو والشركاء إجراء تدريبات عسكرية خلال الفترة المقبلة في أوكرانيا، كجزء من الجهود المبذولة لتدريب الجيش الأوكراني.
وبينما دعا أعضاء جمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي، جون ماكين عن ولايات أريزونا، وجون باروسو عن ولاية وايمنج، وجون هوفن عن نورث داكوتا، ورون جونسون عن ويسكونسن، في مقال مشترك إلى «استجابة استراتيجية» لتحدي بوتين بتوسيع نطاق العقوبات المفروضة على كبرى البنوك الروسية، وشركات الطاقة، وغيرها من القطاعات الاقتصادية في روسيا، مثل صناعة السلاح، والتي تعتبر بمثابة أدوات لسياسة بوتين الخارجية. «كما يجب علينا أيضا فضح أفظع قضايا الفساد للمسؤولين الروس وقطع علاقة هؤلاء الأشخاص، وشركائهم في العمل وأقاربهم، باقتصادات الدول الغربية، وكذلك منعهم من السفر إليها»، و«إعادة الناتو التزامه بتنفيذ مهامه الأساسية من الردع والدفاع الجماعي». كما يجب «تعزيز قدرات الناتو العسكرية وتوزيعها بالتساوي بين دول الحلف، بما في ذلك تعزيز وجودها القوي والثابت في وسط أوروبا ودول البلطيق». وهذا يتطلب «عودة الولايات المتحدة عن قرارها تخفيض موازنة الدفاع، وعلى أوروبا تخصيص 2 في المئة من ناتجها القومي لمتطلبات الدفاع، بالإضافة إلى تنفيذ استراتيجية للطاقة عبر الأطلسي تقوم على نقل الغاز الأميركي المسال إلى أوروبا لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي». وهذا يستدعي من الدول الأوروبية الاستثمار في إعداد البنية التحتية حتى تتمكن من استقبال الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة. وأخيراً، «يجب على الغرب تقديم المزيد من الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، ومولدوفا وجورجيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تطمح في أن تكون جزءا من مجتمعنا عبر الأطلسي». ومن ناحية أخرى، «يجب أن نؤكد لهذه الدول أنها، طالما بإمكانها تلبية معايير العضوية بالطريقة الصحيحة، فإن أبواب الحصول على عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي ستظل مفتوحة، وأن هذه الدول ستكون بوسعها القيام بالخيارات الأساسية فيما يتعلق بمستقبل سياستها الخارجية – وليس أي طرف آخر».
فالخيارات المطروحة لمستقبل أوكرانيا عديدة وشديدة التباين:
1- الفدرالية: تطالب بها روسيا، وهذه تعطي الأقاليم صلاحيات واسعة لتحديد علاقاتهم السياسية والاقتصادية، ما يمنح روسيا قطعة كبيرة من كعكة الاقتصاد الأوكراني في ضوء تركز الصناعة في الأقاليم الشرقية حيث يعيش الروس والناطقون بالروسية. وقد لجأت لتحقيق ذلك إلى تحريك الروس والناطقين بالروسية للمطالبة بحق تقرير المصير والدعوة إلى إجراء استفتاء حول الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا ترافق مع حشد عسكري روسي على الحدود المشتركة في مسعى لتعضيد موقف الانفصاليين من جهة وإحداث فوضى عارمة تعيق إجراء انتخابات رئاسية في 25/5/2014.
2- دولة مركزية مع لامركزية إدارية واسعة تمنح الأقاليم فرصة المشاركة في القرار الوطني على كافة الصعد السياسية والاقتصادية، وهو خيار تتبناه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبالعمل على تكريس الوضع الجديد وإعطاء السلطة القائمة في كييف الشرعية من خلال إجراء انتخابات رئاسية فيها. وقد قاما، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ببعض الخطوات الاقتصادية والدبلوماسية (عقوبات على شخصيات وشركات روسية وأوكرانية مع منعها من دخول أراضي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) والعسكرية (نشر لواء من قوات الناتو في دول البلطيق، إجراء مناورات بحرية في البحر الأسود وأخرى برية، وقيام طائرات لحلف الناتو بدوريات فوق دول البلطيق، مد القوات الأوكرانية بعتاد عسكرية) لتدعيم موقف السلطة الجديدة.
3- تصعيد الأزمة لانعدام أرضية مشتركة لحل متفق عليه والذهاب إلى حرب أهلية، تأخذ شكل حرب بالوكالة تغذيها دول داعمة لطرفي الصراع، مع احتمال تفكك الدولة والانزلاق نحو تقسيم البلاد إلى أوكرانيا شرقية مرتبطة بروسيا وأوكرانيا غربية مرتبطة بالاتحاد الأوروبي.
لكن ومهما يكن الاتجاه الذي ستأخذه الأزمة، فالواضح أنها لن تنتهي قبل أن تترك أثراً بالغاً على روسيا وجوارها الإقليمي والأوروبي.
ظلت المعطيات والمواقف المعلنة، على رغم تحرك الغرب المدروس بين الدبلوماسية والعسكرية، تنذر بتوترات ومواجهات عنيفة قد تستمر لسنوات تتوقف نتيجتها على مدى انخراط الجناح الأوروبي في الصراع، وعلى مدى تمسك الكرملين بما يسميه روسيا الجديدة، والتي تضم أراضي من دول الاتحاد السوفياتي السابق يقطنها روس أو ناطقون بالروسية، وعلى مدى إصرارها على إعادة النظر في ترتيبات ما بعد إنهاء الحرب الباردة.
سعى حلف الناتو إلى دمج أوكرانيا في صفوفه، من خلال دعمها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وإشراك قواتها في مناورات وتدريبات برية وبحرية وتشجيعها على التعاون والتنسيق الواسع، تمهيداً لانضمامها رسمياً إلى صفوفه. وقد شهدت الفترة الأخيرة تطوّراً ملحوظاً في قدرات الجيش الأوكراني في العدد والعتاد. زاد العدد من 120 ألفاً إلى 250 ألفاً، مع إبعاد الموالين لروسيا منه وتقويته بتجهيزه بأسلحة غربية متطوّرة؛ صواريخ دفاع جوي وراجمات صواريخ ورادارات وتقنيات مراقبة، ومسيّرات تركية من طراز بيرقدار، وإشراكه في مناوراتٍ بحريةٍ وبريةٍ مع قوات حلف الناتو لكسب الخبرات الميدانية والإدارية، دعمها الناتو لتتحول إلى قوة موازنة لروسيا على البحر الأسود، ما أثار حفيظة الأخيرة ومخاوفها من إحكام الطوق حولها؛ وقد عكست مطالبها من الحلف إلغاء بيانه الصادر عام 2008 بشأن انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف، وتقديم تأكيداتٍ ملزمة قانوناً بعدم نشر أسلحة حول روسيا، وفق بيان الخارجية الروسية، حجم هواجسها ومخاوفها من خسارتها أوكرانيا.
تشابك اقتصادي
لقد ألحق استقلال أوكرانيا بروسيا خسائر لا تعوض. إذ تميز النموذج السوفياتي بإقامة مجمعات صناعية ضخمة موزعة في فضائه، وبعد انهيار الدولة السوفياتية تلاشت غالبية هذه المجمعات العملاقة، حيث لم يعد ممكناً استمرار مجمع صاروخي في العمل مثلاً عندما تنتج أجزاء منه في ضواحي موسكو وأجزاء أخرى في كازاخستان أو في أوكرانيا أو بيلاروسيا. أما المجمعات الأخرى التي ورثتها أوكرانيا وما زالت تشكل قاعدة صناعية كبرى فظلت مرتبطة بصناعات مختلفة في بلدان أخرى، على رأسها روسيا. مثلاً، كانت مصانع أوكرانية تقوم بتقديم تقنيات لازمة لصناعة المحطات الكهروذرية الروسية، والمجمعات الصواريخ وغيرها من الصناعات الحيوية لاقتصاد البلدين. في الوقت ذاته، فإن السوق الأوكرانية من أضخم الأسواق بالنسبة إلى الصناعات الروسية، التي لن تكون في الغالب قادرة على منافسة الصناعات الأوروبية إذا سارت الأمور وفق السيناريو السيئ للروس بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعني خسائر كبيرة لقطاعات مهمة وحيوية سيكون عليها البحث عن أسواق جديدة لتعويض خسائرها الفادحة، فالتحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي سيعني التزامها بعدد من المواثيق المشتركة، التي من بينها اتخاذ سياسات إقليمية ودولية تعارض مصالح موسكو، ما يعني أن تداعيات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي ستكون كبيرة وخطيرة، ويمكن أن تزداد خطورتها إذا كانت الخطوة التالية الانضمام إلى حلف الناتو، كما يرجح المحللون السياسيون، ما يعني إحكام تطويق روسيا عسكرياً، ونشر الصواريخ الغربية تحت نوافذ الكرملين مباشرة.
وما زاد في تعقيد الحالة حجم التداخل الاقتصادي الروسي الأوكراني الأوروبي، فالتجارة الأوكرانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بروسيا وأوروبا على حد سواء، فنحو 60 في المئة من حجم التجارة الأوكرانية تتم مع بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، كما أن أغلب منتجاتها الصناعية تأتي من المناطق الشرقية للبلاد ذات الكثافة الصناعية الكبيرة، هذا بالإضافة إلى الروابط الشخصية التي تجمع عدداً كبيراً من المواطنين الأوكرانيين في الأقاليم الشرقية بروسيا المجاورة، فيما تظل أوروبا بالنسبة لهؤلاء بعيدة جداً. أوروبا من جهتها ما زالت تعتمد اعتماداً كبيراً على الغاز والنفط الروسيين. فالاتحاد الأوروبي يُعَد من الشركاء الاقتصاديين والتجاريين الكبار لروسيا، حيث تبلغ حصته في التجارة الخارجية الروسية نحو 50 في المئة. تمثل موارد الطاقة أساس هذه العلاقات عموماً، فنحو 36 في المئة من الغاز، و31 في المئة من النفط، و30 في المئة من الفحم من واردات دول الاتحاد الأوروبي مصدرها روسيا. وهذا يمثل 80 في المئة من إجمالي صادراتها من النفط، و70 في المئة من إجمالي صادراتها من الغاز، و50 في المئة من إجمالي صادراتها من الفحم، بينما تؤلف حصة الآلات والمعدات الروسية (السلع الاستثمارية) أقل من 1 في المئة. فروسيا تحتل المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين في التجارة الخارجية مع الاتحاد الأوروبي بحصة تعادل 7 في المئة من صادراته و11 في المئة من وارداته. وبهذا الشكل يوفر التعاون مع الاتحاد الأوروبي إيرادات مهمة للغاية لخزينة الدولة الروسية.
في الوقت نفسه، يصل من بلدان الاتحاد الأوروبي إلى روسيا منتجات البتروكيماويات 18 في المئة والمواد الغذائية 10 في المئة والسلع الاستثمارية والتكنولوجية من معدات وآلات نحو 45 في المئة. وفي ما يتعلق بالتعاون الاستثماري، فإن 70 في المئة من الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الروسي تعود إلى دول الاتحاد الأوروبي. وهذا يعكس الترابط العضوي بين الاقتصاد الروسي واقتصاد بلدان الاتحاد الأوروبي. وقد ظهر عمق التأثير المتبادل بين الاقتصادين الروسي والأوروبي في ضوء الإجراءات العقابية الأولى التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد شخصيات روسية وأوكرانية موالية لروسيا، حيث اهتز الاقتصاد الروسي بقوة، فقد تراجعت السوق المالية الروسية «مايسكس»، وفقدت 66 مليار دولار من أصولها بعد اندلاع الأزمة عام 2014، كما فقد الروبل 11 في المئة من قيمته، مما اضطرّ البنك المركزي الروسي للتدخّل وضخّ 16 مليار دولار لاستقرار العملة. كما انسحبت استثمارات تُقدّر بـ 50 مليار دولار من الأسواق الروسية، علاوة على ذلك، فإن التبادل التجاري بين روسيا وأميركا يزيد عن 40 مليار دولار.
وقد أنشأت أوكرانيا خلال السنوات الثماني الماضية علاقات اقتصادية مزدهرة مع الاتحاد الأوروبي، حيث انضمت إلى منطقة التجارة الحرة الأوروبية، كما عززت علاقاتها الاقتصادية مع شركاء تجاريين آخرين، بمن فيهم الولايات المتحدة والهند ومصر وتركيا. وقد نجحت في تخفيض فاتورة الغاز عبر الاستعاضة عن الغاز الروسي باستيراد غاز روسي من أوروبا بعملية شحن عكسية مقدم من الاتحاد الأوروبي بأسعار أقل؛ أدت هذه الخطوة التي نفذتها شركات وحكومات الاتحاد الأوروبي إلى تحييد التهديد الروسي بقطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، إضافة إلى إشراف الاتحاد على خطة إصلاح لقطاع الغاز داخلها. وقد ساعد رفع أسعار الغاز للمستهلكين، وتنفيذ الإصلاحات الإدارية، وخفض أسعار الغاز المستورد، والدعاوى القضائية الناجحة ضد شركة غازبروم، عملاق الغاز الروسي، التي حصلت بموجبها نفتوغاز الأوكرانية على 2.9 مليار دولار في عام 2019، على تعافي أوكرانيا في مجال الغاز. ووسعت التبادل التجاري مع دول الاتحاد ودول أخرى، فوفقاً للأرقام، قفزت الصادرات الأوكرانية إلى أوروبا من 24.9 بالمئة عام 2012، إلى 42.6 بالمئة، بينما قفزت وارداتها من الاتحاد الأوروبي إلى نحو 40 بالمئة بعدما كان 30 بالمئة عام 2012. ودخلت في علاقات تجارية مع الصين، حيث غدت الأخيرة في العام 2020 شريكا تجاريا رئيسيا لأوكرانيا، ثاني شريك تجاري. وقد قفزت الصادرات الزراعية بينهما في النصف الأول من عام 2021 بنسبة 33 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020، وذلك بسبب تأثير الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث باتت مصدراً مهماً لواردات الحبوب إلى الصين، ومن أهم مصادر تعزيز الأمن الغذائي في الدولة العملاقة. تستورد بكين من كييف، على سبيل المثال 80 بالمئة من واردات الذرة. كما دخلت في مشروع «الحزام والطريق»، خطة بكين الطموحة لربط العالم بشبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ، واعتبرت لاعباً مهماً فيه على خلفية موقعها الجغرافي بالنسبة لأوروبا.
لقد شهد الاقتصاد الأوكراني بعد الانضمام إلى منطقة التجارة الحرة الأوروبية، التي تعفي واردات أوكرانيا من الاتحاد الأوروبي من الرسوم الجمركية، انتعاشاً. وهذا شكل تحدياً كبيراً ومحركاً للتصعيد الروسي الحالي على حدود أوروبا الشرقية في محاولة لاسترداد الجارة السلافية والشريكة الاقتصادية، حيث نظرت روسيا إلى تمدد الغرب الاقتصادي إلى أوكرانيا تهديداً لاستقرار اقتصادها، وأن بمقدورها تقويض الاقتصاد الأوكراني وتأليب الأوكرانيين من هذا الباب ضد حكومتهم الموالية للغرب، وإفشال منطقة التجارة الحرة الأوروبية في الوقت نفسه، فالأخيرة تهديد لها كذلك.
تحركات ومواجهة
تحرّكت روسيا لمواجهة إصرار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) على إدماج أوكرانيا في التحالف الغربي؛ والعمل على إقامة قواعد بحرية على البحر الأسود في رومانيا وبلغاريا؛ ونشر قوات وعتاد في دول شرق أوروبا.
اعتمدت روسيا ثلاث خطوات متكاملة للضغط على الولايات المتحدة والناتو لتحقيق هدف رئيس، وهو الانخراط في مفاوضاتٍ على ترتيبات جيوسياسية وجيواستراتيجية تقود، في حال الاتفاق عليها، إلى إقامة غلافٍ استراتيجيٍّ لحماية أمنها القومي. أول هذه الخطوات حشد عسكري ضخم على الحدود الروسية – الأوكرانية، قدّر العدد بـ 150 ألف جندي مع عتاد ثقيل، طوّق أوكرانيا من ثلاث جهات. ثاني هذه الخطوات رفع سعر الغاز في ذروة فصل الشتاء، إذ يرتفع الطلب عليه للتدفئة، مع نقصٍ في مخزون الدول الأوروبية منه، قدّر المخزون الحالي بـ 63 بالمئة من احتياجاتها. وثالث هذه الخطوات تنظيم وإدارة عملية هجرة من دول في الشرق الأوسط إلى أوروبا، وتجميع آلاف من طالبي اللجوء على الحدود البيلاروسية – البولندية، ودفعهم إلى اقتحام الحدود إلى بولندا، ومنها إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي، أردفتها بإجراء مناوراتٍ بحرية؛ واحدة في البحر الأسود وأخرى مع البحرية الجزائرية غرب البحر الأبيض المتوسط؛ وبدفع صرب البوسنة إلى المطالبة بالانفصال عن جمهورية البوسنة والهرسك؛ وإجراء تجارب على صاروخ سيركون الفرط صوتي، وتدريبات على منظومة صواريخ إس 400 في شبه جزيرة القرم، وعلى صواريخ إسكندر في مقاطعة كورسك المجاورة لأوكرانيا، وبالتنسيق مع الصين، في ضوء هدفهما المشترك: إضعاف الولايات المتحدة وكسر الأحادية القطبية، عبر إجراء دورياتٍ بحريةٍ مشتركةٍ في المحيط الهادئ، وتوقيع اتفاق عسكري للتعاون، يقضي بزيادة التدريبات والدوريات المشتركة لقوات بلديهما، «رداً على نشاطات القوات الجوية الاستراتيجية الأميركية القادرة على حمل أسلحة نووية بالقرب من الحدود الروسية»، وفق قول وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، وعقد قمةٍ افتراضية بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، ندّدا فيها بالخطاب الأميركي العدائي نحو بلديهما، وقمة مباشرة في بكين أعلنا فيها رفضهما للتدخل في شؤون الدول بحجة نشر القيم الديمقراطية واعتراضهما على النظام الدولي القائم الذي تتحكم به الولايات المتحدة. الهدف المباشر من الخطوة الأولى هو الضغط على الولايات المتحدة وحلف الناتو لسحب دعوة أوكرانيا إلى الانضمام إلى صفوف الحلف. ومن الخطوتين الثانية والثالثة، زعزعة استقرار دول الاتحاد الأوروبي عبر إشاعة تذمر واحتجاجات شعبية على فقدان الغاز وارتفاع الأسعار الكبير الذي حصل، وبذر الشقاق بينها حول الموقف من اللاجئين وسبل مواجهتهم وتقاسم عبئهم، والخطوات الرديفة لمشاغلة الناتو والاتحاد الأوروبي بقضايا بجواره وفي عقر داره.
رفض حلف الناتو المطالب الروسية، سحب دعوته أوكرانيا إلى الانضمام إلى الحلف وتقديم تعهدات مكتوبة بعدم نشر قوات وعتاد في أراضي الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وأعلن تمسّكه بحق أوكرانيا في الاختيار؛ وعقد اجتماعاً لوزراء دفاعه في ريغا عاصمة لاتفيا يوم 21/10/2021، وأصدر بياناً يحذّر فيه روسيا من الإقدام على غزو أوكرانيا؛ وتبنّى خطة لمواجهة هجوم روسي واسع من البلطيق والبحر الأسود؛ وتذرّع بالحشد الروسي على الحدود الأوكرانية، وبكلام الرئيس الروسي عن روسيا التاريخية التي تشمل كلّ الأراضي التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، ونشر عتاداً عسكرياً في بولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا. وقد عزّزت الولايات المتحدة موقف الحلف بإصدار تهديد لروسيا بعقوبات قاسية، أبلغها الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال قمتهما الافتراضية، وإجراء مناورات أطلسية في مياه فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والمياه الدولية غرب البحر الأبيض المتوسط، أكبر المناورات البحرية خلال السنوات الأخيرة، للتدرب على محاربة الدول وتأمين الملاحة، وتلويح الولايات المتحدة بتعزيز الجناح الشرقي للحلف بتركيز انتشارها العسكري في أوروبا في جزئها الشرقي، وقيام طائرات أميركية بدوريات فوق البحر الأسود وعلى الحدود الشرقية لدول الحلف، وشحن أكثر من 120 مروحية وألف آلية عسكرية و1200 ناقلة جند مدرّعة من طراز إم1 117 إلى ميناء ألكساندروبولي اليوناني، تمهيداً لإرسالها إلى بلغاريا ورومانيا والمجر، والتنسيق مع أوكرانيا بتجهيز خطط لمقاومة الاجتياح روسي لأراضيها؛ خطط حرب عصابات وحرب شوارع وعمليات مقاومة خلف خطوط العدو، لخوض حرب استنزافٍ طويلة الأمد، تنهك القوات الروسية وتدفّع روسيا، وبوتين تحديداً، ثمناً باهظاً بتكبيدها خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتوسيع دائرة الضغط على روسيا، بالإعلان عن موقفٍ صلبٍ من التحرّك الروسي لصياغة حل للصراع في سورية وعليها، بتأكيدها أنّ قرار مجلس الأمن رقم 2254 هو الطريق الوحيد للحلّ.
ردّت روسيا على الرفض الغربي لمطالبها بإرسال قاذفات قنابل إستراتيجية بعيدة المدى من طراز تو-22 إم 3 للانضمام إلى دوريات حراسة المجال الجوي على طول الحدود الغربية للبلاد، حيث تقوم مقاتلات سو – 30 إس إم روسية وبيلاروسية بدوريات جوية مشتركة على الحدود الغربية للبلدين، وإجراء مناورات لاستخدام أسلحة نووية. وكان لافتاً قول وزارة خارجية بيلاروسيا إنّها تدرس نشر أسلحة نووية روسية على أراضيها حال تعرّضها لتهديد من الناتو، مرفقة بدعوة من بوتين إلى حوار أمني فوري مع الحلف، وإعلان بانسحاب روسيا من معاهدة السماوات المفتوحة.
وضعت المواجهة الدائرة، بمناوراتها السياسية والعسكرية، مستقبل النظام الدولي على بساط البحث؛ فكلا طرفي الصراع يدير المواجهة بكل أدواتها ومستوياتها، مستغلاً كلّ نقاط قوته ونقاط ضعف خصمه، وعينه على اليوم التالي، على الانعكاسات الاستراتيجية لهذه الجولة، فالولايات المتحدة تعتبر التعاون الروسي الصيني موجّها ضد تحرّكها لاحتواء الصين، وتضع التنسيق الروسي الصيني والروسي الإيراني في خانة الصراع على واقع النظام الدولي ومستقبله. وهذا دفعها إلى تحريك الموقف شرق أوروبا لإشغال روسيا بأمنها الخاص، وإرضاء الكونغرس الذي يرى في روسيا خطراً أكبر من خطر الصين، ويضع مواجهتها في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وطمأنة دول شرق أوروبا بأنّ إعطاء الأولوية للصين لا يعني غضّ النظر عن التهديدات الروسية لأمنها واستقرارها، فالنجاح في احتواء هذا الثلاثي وردعه ضرورة لتثبيت النظام الدولي الحالي الذي تجلس على قمته. والتحرّك الغربي للاستحواذ على أوكرانيا ليس جديداً أو مفاجئاً لروسيا، لكنّها انتظرت فرصةً للرد على المحاولة، وقد اعتقدت أنّها قد حانت، في ضوء انشغال الولايات المتحدة بترتيب أوراقها واستعداداتها السياسية والميدانية لاحتواء الصين، وبتبعات انسحابها الفوضوي من أفغانستان على صورتها، وقد اعتبر دليل ضعف، وعلى مصداقيتها؛ وإعادة تموضعها في الشرق الأوسط الذي أثار ردود فعل سلبية لدى حلفائها في الإقليم، دول الخليج على وجه الخصوص، وانخراطهم في مبادراتٍ سياسيةٍ تبعدهم عنها، بما في ذلك انفتاح استراتيجي على خصومها روسيا والصين وإيران، لصياغة معادلات جيوسياسية لاحتواء مفاعيل توجهها الجديد، وما يمكن أن ينجم عنه على صعيد توازن القوى وانعكاسه على أمنهم الوطني، وخلافها مع فرنسا على خلفية صفقة الغواصات الأسترالية؛ وبحالة المراوحة في مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، وتبعات تآكل بنيتها التحتية ومفاعيل وباء كوفيد 19 على صورتها ومكانتها الدولية. تحرّكت روسيا معتقدةً أنّ لحظة النظام أحادي القطب قد اقتربت نهايتها، وأنّ في استطاعتها رفع التحدّي في وجه حلف الناتو، ودفعه إلى التراجع عن عرضه لأوكرانيا واعتبار التراجع، إن حصل، مؤشّراً على تبدل توازن القوى، وعلى ولادة نظام دولي جديد بتوازناتٍ تكون فيها قوة موازية للولايات المتحدة؛ القوة الرئيسة في التحالف الغربي.
لقد حشر الرئيس الروسي نفسه بعسكرة الدبلوماسية، ولم يعد قادراً على التراجع. صحيح أن هناك داخل روسيا من يقف معه في وجه الغرب لأسبابٍ استراتيجية، لأن الرضوخ أمام إدخال أوكرانيا عضواً في حلف الناتو يفتح الباب لتوسيع عضوية الحلف وإدماج آخرين فيه، وهذا يطوّق روسيا ويهدّد وجودها. لكن هناك من يقف ضد الحرب وخسارة إمكانيات بشرية ومادية البلد في حاجة ماسة إليها في ضوء تآكل القدرات الشرائية وتراجع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية. فالتخطيط للحرب أضر بروسيا من حيث العزلة الدولية والعقوبات التي ستفرضها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ونسف دخول القوات الروسية إلى أراضي أوكرانيا في لوغانسك ودونيتسك مصداقية بوتين الذي يطالب باحترام سيادة الدول ورفض التدخل في شؤونها الداخلية والحفاظ على وحدة أراضيها تبريرا لدعمه للنظام السوري، خاصة وأنه بفعلته قد خرق تعهداً روسياً أميركياً بريطانياً لأوكرانيا وقع عام 1994 يتضمن حماية استقلالها ووحدة أراضيها مقابل تخليها عن الأسلحة النووية السوفياتية المنشورة على أراضيها. في المقابل أثار تمدد حلف الناتو في دول شرق أوروبا واقترابه من الحدود الغربية الروسية وفتحه الباب لانضمام أوكرانيا وجورجيا إلى صفوفه هواجس ومخاوف روسيا ومنحها فرصة للاعتراض على النظام الدولي القائم وما يدفع نحوه بذريعة نشر القيم الديمقراطية.
سيكون لنتائج الصراع على أوكرانيا أثر واضح على النظام الدولي إن لجهة بقاءه غربياً مع تكريس وتعميق أسسه وقواعد اشتغاله أو لجهة دخول العالم في سيرورة لبناء نظام بديل على أسس وقواعد جديدة تلحظ موقع ودور أنظمة دولية صاعدة مثل الصين وروسيا والهند.