بين من هم داخل سوريا ومن هم خارجها يرتسم عالم معلّق، عالم معطل، تمر عبره رسائل مقتضبة وتطمينات وتعبيرات سريعة عن الشوق والحب والعتاب، وتُعلَّق على سياجه نصوص كثيرة لم تُكتب وكلمات لم تُقَل بعد. لكن هذه ليست الصورة الكلية، وليست النهائية، فهذا العالم قيد التشكل بين من هم داخل سوريا وخارجها صار يشبه أرض الحرام التي لا يجرؤ أحد على اختراقها لئلا تشتعل مشاعر الذنب، ويفضح العتب مناجاة الأشخاص العالقين، أو تنكسر العلاقة الهشة أصلاً بين أشخاص يظنون أنهم يعرفون بعضهم بعضاً على الرغم من المسافات واختلاف السياقات اليومية لحياتهم.
لا يخترق أرض الحرام هذه إلّا خط الانترنت، فهو الخط الوحيد المفتوح بين غالبية اللاجئين والمُهجرين خارج سوريا ومن بقي من عائلاتهم وأحبائهم في سوريا. هو الخط الوحيد الذي يمكنه أن يصل إلى داخل البيت، وإلى قلوب الأصدقاء، ليعود إلينا محملاً بكلماتهم وأصواتهم، التي تصل أحياناً متقطعة مشوشة لأسباب تقنية وأحياناً لا تصل أبداً. عملياً، هذا الخط هو كل ما نملكه فعلاً للتواصل بين داخل سوريا وخارجها، خاصةً وأن إمكانية زيارة البلد وفتح أبواب البيت بمفاتيحها القديمة هو مجرد حلم يراودنا بين الحين والآخر، وذلك للأسباب والقيود المفروضة سياسياً وأمنياً والتي تجعل هذه الزيارة مجرد منام ثقيل الظل. الحلم بالزيارة والحلم بحرية العودة والرغبة المُلّحة للقاء بالتأكيد أمنيات لا تراود من هم في الخارج فحسب، فمن هم في داخل سوريا يحلمون أيضاً بلقاء أحبابهم في بيوتهم ومدنهم الجديدة التي انتقلوا إليها.
وطأت الكتابة المسرحية خلال الأعوام المنصرمة، تقريباً ما بين عامي 2014 و2021، أرض الحرام هذه. وفي عدة نصوص مسرحية نجد أن هذه الحساسية والتوتر بين عالمين قد شقت طريقها إلى السطح في أعمال مسرحية عديدة، وتظهر في لغة الشخصيات المسرحية وخياراتهم، حتى وإن لم تكن أحياناً مركزاً لحبكة المسرحية، لكنها تشكل حجر الأساس في بناء دراما مسرحية هي في عمقها عتب طويل وغير محكي وتواصل متقطع بين من هم في الخارج ومن هم في الداخل. أحياناً جمل عابرة وأحياناً مونولوجات طويلة، وفي كلا الحالتين تحتاج هذه الكلمات إلى حساسية عالية ومقدار كبير من التفهم لإنعاشها والتدرب على اختراقها بتواتر أعلى وشجاعة أكبر.
ما الذي يمكن فهمه من هذه الجمل والمونولوجات؟ وما هي التعبيرات الفنية عن هذه العلاقة المتوترة التي وصلنا إليها؟
بعد مراجعة ثلاث نصوص مسرحية: مسرحية غرق (2020) للكاتب المسرحي علاء العالم، ومسرحية فيلم عاطفي قصير (2018) للكاتب وسيم الشرقي، ومسرحية بيت الست طاهرة (2020) للكاتب زين صالح، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه النصوص قد أُنجزت خارج سوريا بعد هجرة كُتابها إلى أوروبا، وشكلت العلاقة مع داخل سوريا أحد الأسئلة الأساسية التي انشغلت بها.
الحب معلّق
«بس عمري ما توقعتك تكون ندل، ندللل، تتركني وتروح» هذه واحدة من الجمل التي يعبرّ فيها الابن عن شعوره بالغُبن من سفر والده إلى تركيا في مسرحية غرق للكاتب المسرحي علاء العالم. إذ يغافل الأب ابنه بالسفر إلى تركيا ويتركه وحيداً في دمشق من غير إبلاغه بقرار السفر أو بأي معلومات أخرى. ينفجر الابن غاضباً في مكالمة هاتفية مع الأب، يعبر فيها عن مشاعره بالغضب وإحساسه بالتخلي عندما أدار الأب ظهره وتركه وحيداً في أرض الخراب. قد تتقاطع هذه اللحظة الجارحة، التي أُتيح للابن الصراخ فيها ووصف والده بالنذل، مع إحساس كثير من السوريين في لحظات يسألون فيها عن صديقهم أو صديقتهم، ليعرفوا أنهم سافروا على غفلة وعلى الساكت، بدون وداع أو رسالة أخيرة.
بعد التجارب المريرة أصبحنا نفهم بشكل أفضل ظروف السفر، وطرق التهريب التي تتطلب السرّية، والمعلومات التي قد يفضل الأشخاص التكتم عليها ريثما يصلون إلى مكان ما. ربما هم أنفسهم خائفون من التجربة الآتية على طرق التهريب ومخططات السفر الضبابية، وبالتالي يفضّلون الصمت على مواجهتها أمام الآخرين. في السياق السوري، هناك أسباب كثيرة لِمَ قد يقرر أحدهم السفر دون وداع الأصدقاء المقربين أو العائلة، لكن بالنسبة لمن سيبقى داخل سوريا ولا مخططات للسفر لديه، ولا أي منفذ من الحياة المعيشية القاسية، فلا شيء يمكن أن يخفف من إحساسه بالغُبن الممزوج بالحسرة على مصيره، وغالباً ما ينقطع الاتصال كلياً بعدها. يختار البعض القطيعة بدلاً من العتب أو انفجار نوبة الغضب، وحتى -في أحسن الأحوال- عند الاستماع للأعذار، تظلّ لحظة التخلي عالقة في تاريخ العلاقة بينهما وتسمم محاولات المسامحة والاحتضان بين الأصدقاء والأحباء.
في الفصل الثاني من المسرحية يجد الابن طريقة للوصول إلى أوروبا، لكنه هذه المرة يترك وراءه زوجته، التي نفهم من محادثتهما معاً عبر الهاتف أنها تضغط عليه من أجل الاستعجال في لم شملها. «بعرف قعدتك عند أهلك مو قليلة وبعرف مسؤوليتي إني جيبك، بس شو بدنا نعمل بدنا نستنى. نسيني مني، أنت كيفك؟» تحديداً هذه الـ «نسيني مني» ولا تهتمي بشأني ومن غير المهم معرفة أحوالي وهمومي، هي الخطوة الأولى نحو إغلاق الباب في وجه التواصل. وغالباً أن الابن/الزوج فقد القدرة نفسياً وجسدياً على شرح أحواله، أو أن شعوره بالذنب عند التأفف أمام أشخاص عالقين بدون كهرباء، وبدون وسائل تدفئة وبدون ماء أحياناً، يمنعه من الجواب بصدق على سؤال «كيفك؟». ليتحول الابن/الزوج إلى مخلّص، يُتوقع منه إنقاذ زوجته بالسرعة القصوى، متجاهلاً الارتجاجات النفسية التي بدأ يعاني منها بعد اللجوء والانتقال إلى بلد جديد لا يعرف لغته ولا يعرف مصيره فيه.
«أنت فعلاً يبدو بدك نتخانق مو نحكي، ليكي سارة، لسا قدامنا طريق طويل لنلتقى، اسمعيني، اسمعيني مو معقول تكون كل تلفوناتنا موتورة هيك. قلتلك مو طالع شي بإيدي، بدك تعتبريني عاجز اعتبريني. لك عم قلك حياة جديدة وحاسس حالي بالزلط فيها». جمل قليلة أخرى نسمعها من الابن عند حديثه مع الزوجة عبر الهاتف طوال مدة المسرحية، أما صوت الزوجة عبر الهاتف فلا نسمعه، ومع أخذ البناء الدرامي الذي اختاره الكاتب لمسرحية عن أب وعلاقته بابنه بعين الاعتبار، إلا أنها ليست المرة الأولى التي يغيب فيها صوت أحد المتحدثين تماماً، حيث سيتكرر هذا في مسرحيات أخرى وأمثلة أخرى. وكأنّ مركز الإرسال ومصدر الرسالة ونقطة بداية الحوار ونهايته هو شخصية وحيدة على المسرح، تعيش في سوريا أو خارجها، أما الطرف المعني والمتلقي لهذه الرسالة فهو غائب كلياً أو جزئياً.
عالم معلّق
يتسنى لوسام، أحد الشخصيات الرئيسية في مسرحية فيلم عاطفي قصير للكاتب المسرحي وسيم الشرقي العودة إلى سوريا بغرض الزيارة، ويجتمع مع أصدقائه في الشام ويستعدون معاً للتحضير لسهرة أخيرة تجمعهم قبل عودة وسام إلى ألمانيا. لكن الأمور لن تمر بسلام، والفرح المخطط له لن يجد طريقه إلى سهرتهم، بسبب مواجهة ومصارحة بين الأصدقاء يحرض عليها الفيلم الذي تعده ريم، صديقة وسام وحبيبته. تسجل ريم مقاطع من الحياة اليومية «العادية» في سوريا، وتسعى للحصول على تمويل يمكنها من إنتاج الفيلم. في بعض المشاهد نرى ريم وهي تعوض عن غياب وسام بالحديث إلى الكاميرا، تسجل له بعض المقاطع وتتحدث مع الكاميرا «يعني أحياناً بحسك إنت اللي بالشام وأنا اللي بألمانيا. دائماً عندك مشاكل بالاتصال، وحتى وقت بتكتبلي دائماً تعبان ومشغول ومانك مرتاح». يخفي هذا العتب والمناشدة حاجة ملّحة للحديث والتواصل والشرح، شرح ما بقي عالقاً في الماضي قبل انتقال وسام إلى بلد جديد، وما هي مبررات التهرب والتباطؤ بالرد وعدم الاهتمام بالشرح. وكما تحاول ريم أن تفهم لماذا، رغم غياب وسام عنها، إلّا أنها لا تزال تحتفظ بصوته في ذهنها و بآرائه لتقييم ما تفعل وما المشاهد التي تصورها في فيلمها الجديد: «ليش صوتك اللي براسي كان كل الوقت عم يحرمني من هي المتعة والرغبة مع أنه أنا اللي كنت عم أشلح وأتعرى قدام الكاميرا؟ ليش كنت عم تخلقلي هالإحساس بالذنب، مع إنك هونيك بألمانيا. كتير بعيد. ومابعرف بحضن مين نايم. وأنا حتى ما فيني إسألك بحضن مين نايم؟». نعرف أن تساؤلات ريم لن تمر مروراً عابراً. ومجدداً، بسبب تجاربنا المريرة مع الغياب والفقد والتغييب، نعرف جيداً أن من أكثر المهارات مرارة التي ستضطر ريم لتعلمها هي الرضوخ لنهايات مفتوحة والاستمرار بالمحاولة رغم جميع الأسئلة التي بقيت معلقة.
ينفجر غضب وسام في السهرة، وغضبه غالباً ليس سببه الخصوصية التي اخترقتها ريم في فيلمها، وليست المنحة الإنتاجية التي تسعى للحصول عليها، بل أسباب كثيرة مجتمعة، يأتي أولاً إحساسه بأنه مُبعد في ألمانيا عن العالم الحقيقي، وأن زيارته إلى سوريا لم تنجح في تقريبه حتى من هذا العالم الحقيقي. «أنتو هون بالشام مانكم بالعالم الحقيقي، وأنا بألمانيا نفس الشي. نحنا معزولين هيك بهالهدوء وهالحدودية عن العالم الحقيقي وين بتنزل الطيارة وصواريخها وبتزت براميلها، ووين الناس صرلا عايشة سنين بلا كهربا ووين في ناس ماتت من الجوع. العالم اللي الناس فيه انطحنت طحن ولساتا عم تتحمل. مو العالم تبعي ولا هالعالم هون تبع احتكار المظلومية». يفقد وسام تدريجياً القدرة على تجميل خطابه أو حتى التخفيف من قسوته، فاستلام أي مبلغ مالي لتصوير الحياة العادية لأشخاص يعيشون تحت درجة من الأمان هو سؤال أخلاقي في نظره: «من حقك تعملي اللي بدك ياه وتاخدي المصاري من المكان اللي بدك ياه، و للأسباب اللي بدك ياها، بس أنا عم قّلك إنو لو كنت محلك ما كنت رح انبسط بهيك منحة».
رغم الحساسية التي حاول وسام امتلاكها تجاه الناس المحاصرين والمهددين وجودياً، إلا أنّه يوجه غضبه نحو الأشخاص الخطأ، نحو الأصدقاء الذين كانوا مقربين، ويعلو خطاب وسام الأخلاقي. ورغم أنه يفتح باباً للحوار مع أصدقائه إلا أن سلطة الخطاب الأخلاقي تعطل قبول خيارات أصدقائه التي اتُخذت تحت ظروف معيشية شديدة القسوة، وتعطّل احتضانها أيضاً.
حلمي المعلّق
يقرر حلمي، أحد أبناء الست طاهرة في مسرحية بيت الست طاهرة للكاتب المسرحي زين صالح، السفر للحاق بحبيبه، ووحده أخوه ضياء من يساعده في تأمين المبلغ اللازم للهرب من سوريا ومن والدتهما النرجسية وقسوتها عليهما. حلمي وضياء لم يفلحا في الحياة المهنية والعملية، ولم يفلحا في أن يصبحا على الصورة الذكورية التي أرادتها والدتهما طاهرة. ولذلك فإن الخروج من سوريا بالنسبة لهما هو هروب من البيت ومن الحرب ومن المجتمع الذي يضطهد مثليي الجنس ومن ليسوا ذكوراً كما يجب. يسافر حلمي بمساعدة ضياء. ومرة أخرى تبقى على المسرح شخصية وحيدة تتأمل خطوات شخصية مقرّبة منها ترحل نحو الخلاص وتبقى هي وحيدة في الظل والعتمة. وكل التبريرات التي يذكرها ضياء لبقائه في البلد بدلاً من السفر مع أخيه هي تبريرات محقة، لكن القبول بها ومعرفتنا أنها صعبة التحقق هو ما يجعلها محاولات لإقناع نفسه أولاً بالصبر على المرارة التي تنتظره وحيداً بدون أخيه. «ما فيني روح، ما فيني أترك أمك. أنا ما فيني روح… أنا بحب الشام، بحب طنطات الشام. بحب أطلع أسهر بباب شرقي لما يصحلي والنزلة ع الشعلان، وأشتري بوظة وأقعد بحديقة المدفع. بحب رفقاتي، ما بطيق ورشة أبو عبدو ولا الخروات اللي بيشتغلو فيها. بس بركي اتغير الوضع هون». لا يمكن لضياء اللجوء، لكن الحياة لن تعود ممكنة بعد رحيل أخيه حلمي أيضاً، ليطفو على السطح الجوع العاطفي الملّح للبقاء مع أقرب الأشخاص إلى قلبه، واضطراره للتضحية وكبت هذه الحاجة مقابل الاستسلام لضرورة رحيل الأخ حلمي. ومهما كانت الحسرة عميقة إلا أن ضياء كان مؤمناً بأن نجاة أحدنا أفضل من موتنا جميعاً هنا. يقرر ضياء إنهاء حياته لكن قبل أن يودع أخيه، ويودع عالمه بكلمات قد تتقاطع فعلاً مع كلمات آخرين لم تُسنح لهم الفرصة لقولها بصوت عالٍ: «أنت رحت لتطلع برة الحبوس اللي هون. أنا رح حاول أستنى، بس بكل الأحوال رح كون معك وين ما بتروح، عم ذكرك أديش بحبك وبدعمك وإنو كل اللي عشناه كان كابوس مزعج. مقدمة بشعة لحياة كتير أحلى جاية».
لا شك أن الفجوة بين دواخل سوريا العديدة وخوارجها المشتتة في أماكن عديدة من العالم هي صدع عميق يهز علاقاتنا الإنسانية. لا يعوض عن الغياب لا الإنترنت ولا تسجيلات الصوت ولا الفيديوهات، كما تحاول الشخصيات المسرحية في المسرحية آنفة الذكر أن تخبرنا. سنكون مخطئين في حال وصلنا لاستنتاجات سريعة مثل أن خطاب الشخصيات التي ظلت في سوريا هو خطاب عاطفي، أو أن خطاب الشخصيات المسرحية من خارج سوريا هو خطاب عقلاني، لأننا أصبحنا الآن أكثر وعياً لنعرف أن الطرفين في حال ارتباك نفسي ومعيشي، وما نسمعه من الحوار المسرحي وما تقوله هذه الشخصيات المسرحية ليس إلّا آليات للاحتيال على هذا الارتباك والجوع العاطفي لحضور كلا الطرفين في مكان يسمح بالكلام والبوح بينهم. كما أن أي استنتاج من نوع أن خطاب الشخصيات المسرحية هو خطاب مظلومية ينفي حق من هُجِّر قسراً بالتعبير عن التعب والإرهاق والظلم الذي يعاني منه، وهو استنتاج سطحي يقارن بين الآلام والمصاعب الفردية ولا يتسع للتعاطف معها مهما عظمت أو صغرت.
عبّرت هذه الجمل والحوارات التي وردت في المسرحيات الثلاثة عن طبقات من الصدع القائم بين عوالم سوريا المتنوعة في داخلها وعوالم سوريا المتنوعة في خارجها، لتعكس مقداراً من الحاجة الإنسانية للتواصل المتكافئ وتذكرنا ربما أن القضايا التي يعيشها السوريون ليست قضايا منفصلة عن بعضها، ولا تصطف في ثنائيات. قضية اللجوء لا تقف مقابل القضية السورية، كما أن من هم خارج سوريا لا يعيشون على جزيرة منعزلة عن من هم داخلها. ويمكن قراءة محاولات الشخصيات المسرحية ضياء ووسام والابن في المسرحيات السابقة على أنها محاولة للإمساك بالمكان والمجتمعات والناس والعائلات التي سُلخوا عنها بسبب ظرف سياسي وإنساني أقوى من قدرتهم على مجابهته، وما يفعلونه هو مقاومة الصدع بالكلمات ومحاولة التعبير عن الوجع البشري بسبب الفقدان والحب والغياب، ومرارة كبته أمام الصخب السياسي الذي يشطر عالمهم المشترك إلى ثنائيات.