رعشة قلق، وتسارعٌ خفيف في ضربات القلب. لطالما تساءلتُ عن المشاعر التي تجتاح أهالي غزة، حين يغادرونها للمرة الأولى، وها أنا أختبرها. وبينما أنا غارق في ومضات الذاكرة، وفي خشيةِ كل غريب قادم، كان يجلس على يميني شاب بعينين مُجهَدتين إثرَ البكاء. قال إنه ودَّعَ أهله لكنه لا يعرف متى سيراهم مرة أخرى، ولا يعرف حتى الآن ما الذي سيفعله في تركيا، التي تحولت إلى وجهة يتيمة لشباب غزة في السنوات الأخيرة، نتيجة سهولة دخولها، واليأس الحاد من الواقع.
«المهِم طلعنا من هالبلد الميتة» حكى بصوت مبحوح إثر التعب، ثم سألني عن وجهتي. وحين أخبرته بأن رحلتي قصيرة وسأعود. زمِّ الشاب شفتيه، ورفع حاجبيه، وقال: «يعني طالع تتبهدل في الطريق وترجع! مالك يا زلمة؟». كان حديثُ الشاب اليائس وجهَ السفر الحقيقي في غزة. ربما بالنسبة لإنسان آخر يعيش في بيئة طبيعية، فإن السفر قد لا يستدعي احتجاجًا بالبكاء كما يفعل الشاب، إذ يمكن ببساطة أن يُعاد وصل الفراق إذا قرَّرَ المسافر العودة. ففي أحيان كثيرة لا شيء يمنعه من العودة! لا مدرعات عسكرية على المعابر، ولا غرف حجز وإهانة وابتزاز؛ لا شيء.
وصلنا «معديّة» قناة السويس بعد قضاء نحو 12 ساعة في الطريق من معبر رفح، عندها، تنفَّسَ المسافرون وتبددت مخاوفهم: لن نبيتَ في الطريق. بعضهم شكر الله على «السفرية المسهلة»، وآخرون كانوا يعزون التسهيل الذي حصل في الطريق إلى دعوات أمهاتهم. توقَّف الباصُ قليلًا على عتبة طريق سريع، نظرتُ من النافذة، كان الأفق مرعبًا، مدىً واسعٌ إلى حدٍ لم أعهده، وكله مشعّ بأضواء متراصة تُبدي للناظر حجم المساحة التي يقف فيها وصِغَرُه. عندها أحسست بحمى تشتعل في جسدي، وتشق طريقها صعودًا من أطرافي، ثم بغباش في الرؤية وضيق في التنفس. ارتعبت، ورحتُ أسألُ نفسي: ما الذي يحدث! هل سأموت؟ هل يعرف المُقبِل على نوبة إغماء أنه سيفيق بعدها؟ بالنسبة لي، شعرتُ أنها النهاية!
أعطاني أحد المسافرين، قنينة ماء، عندها، سأل السائق المصري بهدوء كأن رياح الزوبعة التي أشعلتُها في الباص الصغير لم تصل شعر أذنيه: أول مرة تسافر؟ بنبرة مرتجفة، قلت: آه. ردَّ بثقة: مفيش حاجة، تلاقيك خفت، كل مرة بيصير مع الغزاوية كدا! كانت كلمات السائق مطمئنة، إلى حدّ شعرت معه بأني أستعيد السيطرة على نفسي، عندها تنفست بهدوء، وتحسنت.
بدا أن الخوف من المساحات الواسعة لم يكن أبدًا في الحسبان، تمامًا، كما الحال حين يستيقظ الإنسان على حقيقة أنه من الصعب أن يُدير انفعالاته، لكن هل ألوم عيني! أنا الذي أقطع للمرة الأولى كل هذه المسافات، وأرى كل هذه المساحة المترامية؟
طوال 25 عامًا، لم أجلس في سيارة أكثر من ساعة. إنّ أطول مشوار يمكن أن أقصده في غزة، التي لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترًا مربعًا، لن يستغرق أكثر من ساعتين حتى لو كانت الشوارع في أكثر حالاتها ازدحامًا.
حين وصلنا القاهرة، جلستُ مع صديقي المصري في أول مطعم صادفنا. كان يقطع حديثنا بين الفينة والأخرى صوت الطائرات التي تُقلع من مطار القاهرة. كل طائرة أقلعت بينما نتحدث كانت تشدني معها في كل مرة، فأتفاعل بدهشة مع صوتها، وأشرد عن حديث صديقي، الأمر الذي دفعه للاحتجاج بسخرية: إيه يا عم.. أول مرة تشوف طيارة ولا إيه! مازحته: طيارة مدنية… نعم، أما حربية فقد كبرنا مع بعض، حتى صوتها مختلف… الحقيرة. ضحكَ صديقي، ثم قلتُ بلهجة مصرية متصنّعة: يَعم.. أنا أول مرة أسافر أصلًا.
رغم الساعة المتأخرة، كان شارع عباس العقاد في مدينة نصر في القاهرة صاخبًا. «القاهرة لا تنام»، قال صديقي المصري. «آه… هذه إشارة مهمة لسائح»؛ ردّدتُ في سريِ مُنتشيًا بارتداء ثوب السياح للمرة الأولى. فرغت بطارية هاتفي، وكان يجب أن أشحنها في أقرب وقت كي أُطمئنَ أهلي والأصدقاء، فقد مضت ساعات كثيرة على آخر محادثة.
ثمة واجبٌ يحمله المسافر من غزة، ويُبقي بالَه مشغولًا طوال رحلته، فالعائلة كلها تقف على أعصابها طوال الوقت، بانتظار تأكيدات وتطمينات مستمرة: «نعم، نادوا على اسمي!»، «غادرنا الصالة الفلسطينية في معبر رفح»، «ختم لي المصريون الجواز». هذه الأخيرة لوحدها تجلبُ لك التبريكات الحارة، لأنك لن تعود مكسور الخاطر كما يحصل مع الكثيرين الذين يرُفض سفرهم من على عتبات المعبر. كما أنها تكشفُ لك أيضًا كل الذين علموا بأمر سفرك حين تباغتك رسالة من شخص بالكاد تتذكره: مبارك السفر يا صديقي!
دفعتني هذه الرسائل للتفكير: كيف تحوَّلَ السفر في غزة إلى شيء يستدعي التهنئة، كأي مناسبة اجتماعية أخرى؟ للسفر معنىً مختلف نُسج ببطء شديد في مخيلة الناس في قطاع غزة طوال 15 عامًا من الحصار الإسرائيلي. ولأنه يُحاط بخصوصية فريدة، يحاول كل مسافر أن يُبقي الأمر سرًا حتى يَتمّ، عملًا بمقولة «داريِ على شمعتك تقيد»، التي باتتِ تأخذ شكلًا مقدسًا لدى أهالي القطاع، إثر الظروف وقلة الفرص وخشية «العين والحسد».
رغم ذلك، قد لا يتمكن جميع المسافرين من إبقاء أمر سفرهم سرًا، لأنه سرعانِ ما يُفتضح على مواقع الأخبار المحلية، إذ تُنشر يوميًا كشوفات أسماء المسافرين على تلك المواقع، وعادة ما يتلقفها الناس بفضول شديد لمعرفة من تمكن من ترك البلاد، وبعضهم يتفقد إعلان قبول أحبابه، تمامًا، كزوج عمتي الذي عَرِف بموعد سفري قبلي وهاتفني ليعلمني أن اسمي ظهر في كشوفات السفر، ونبّهني إلى بعض الإرشادات.
فور ظهور اسمك في الكشوفات المتداولة تنهال على هاتفك المكالمات والرسائل، بعضهم يُهاتفك بحزن لأنك لم تحكِ له عن السفر، الأمر الذي جعله يُشكّك في مكانته عندك، وآخرون يودون الاستعلام منك عن الطريقة السحرية التي مكَّنتك من السفر، ومنهم من يصاب سريعًا بشرخٍ في ذاكرته، ويكتب منشورًا على صفحاته في مواقع التواصل عن البلاد التي يفرغ منها الأصدقاء واحدًا بعد الآخر.
وهناك من يمارس حرصه الشديد مع زبائنه، كصاحب محل الحلاقة الذي أرتاده، والذي هاتفني بينما أنا في طريقي إليه ليتأكد أني حلقت شعري، وأني لم أخن خيط الثقة بيننا. وما إن جلستُ على كرسي الحلاقة حتى بدأ بشرح شكل القَصَّة المناسبة للسفر: بدك تنسى الحلاقة (القَصَّة) القديمة، الدقن (اللحية) لازم نخففها كثير، أكثر من كل مرة، بدكاش يروحوا يطردوك من المعبر!
قبل ساعات من المغادرة تزداد حدة الإرشادات، من الأصدقاء، الأب، الأم، الأخ: لا ترتبك قبل وحين تُطلَب لجلسة التحقيق، إنه مجرد حديث. كُن صادقًا! لا تكن مرتاباً، تحدَّث بأريحية، تحرَّك بهدوء. لا تندهش من كل شيء! وأخيرًا لا تأكل إلّا قليلًا.
حين وضع النادل صحون العشاء على الطاولة، قال لي صديقي المصري: «سيب الشوكة والسكينة إحنا بلديات زي بعضينا». كم كانت مريحة هذه العبارة، خصوصًا لشخص لم يأكل لأكثر من 12 ساعة، وقطع طريقًا تصل أو تزيد عن 500 كيلو متر، دون أن يشرب أو يأكل جيًدا.
قبل نحو عقد ونصف، كان يمكن للمسافرين الفلسطينيين من غزة وصول الأراضي المصرية دون أن تكون أرواحهم قد وصلت إلى أطراف أصابعهم من التعب. كان يُسمح لهم بدخول المحافظات المصرية الحدودية، الملاصقة لقطاع غزة، ومن هناك كان المسافر الفلسطيني يتحرك بأريحية إلى حد ما، وصولًا إلى وجهته. كان ذلك قبل تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وقبل تغيّر الحالة الأمنية في سيناء المصرية، وهي الظروف التي أفرزت إجراءات مختلفة، بدءًا من الترتيبات المطلوبة للسفر من غزة، وتحديد الذين يُسمح لهم بمغادرة القطاع والذين عليهم دفع رشاوى ضخمة لكل الأطراف من أجل السفر، وصولًا إلى الترتيبات الأمنية المطلوبة لعبور الأراضي المصرية.
لنيرودا
يموت ببطءٍ
من يصبح عبدًا للعادة
يعاود كل يوم نفس المسافات
من لا يجازف أبدًا بتغيير لون ملابسه
أو لا يتحدث أبدًا مع غريب
يموت ببطء
من لا يغير المكان
عندما يكون حزينًا
في أحد الأيام الحارة من الصيف الماضي، حملت حقيبتيّ ونزلت قاصدًا البحر – إنها العادة التي أكره فصل الشتاء لأجلها، لأن السباحة هي المساحة الوحيدة التي يتجاوز فيها الإنسان في غزة البرَّ دون مشقة- وحين وقفت على ذيل الطريق، توقفتّ سيارة التاكسي، أطلَّ السائق من الشباك وضغط على الزامور، وقال: على وين رايح في هالسجن؟
لولا ساعة السباحة التيّ أمضيتها في البحر لما غادرتُ حيز التفكير في وصف السائق لـغزة: إنها سجن حقيقي، صحيح، والسائق ليسّ أول من يقولها، لكن سماعها بصورة متكررة، في غضون سعي المرء لإيجاد فسحة بسيطة من الواقع، يُكثّف حدة وقعها وألمها. ثم ما هو السجن؟ حيزِ مُسيَّج بأسلاك شائكة، ومحاط بجدران عالية، ومن يحاول اختراقه، يُقصى من قَبلَ الأيدي التي تعبث بالحرية؛ إنها تمامًا غزة.
في لحظات كهذه، كنت أتذكر قصيدة «يموت ببطء» للشاعر التشيلي بابلو نيرودا، التي أتعامل معها كمرثيتي الخاصة، ومرثية كثيرين من أبناء جيلي العاجزين عن مغادرة قطاع غزة والسفر إلى الخارج وممارسة تغيير في نمط حياتهم من موقع حرية لا إجبار. ظلَّت هذه الأبيات تحضر في مخيلتي إلى الحد الذي جعلني أقطع عهدًا بأن أقول لنيرودا «أني غادرت»، حين أغادر حقًا. فأنا، كأكثرية شباب جيلي، عالقٌ في مدى غزة الإسمنتي الرتيب، أمارس يوميًا المهام نفسها، وأزور الأماكن ذاتها، وأمشي الشوارع نفسها حتى صرتُ عبدًا للعادة. وحين أحزن لم أكن أجد مكانًا جديدًا أمشي إليه، لأن الأماكن كلها أصبحت اعتيادية بصورة متعبة.
بعد أكثر من 15 سنة من الحصار، بدت رتابة الحياة والمهام والطموحات، أكثر الأشياء تسبّبًا بالأذى للناس في غزة. ليست الرتابة بمعنى الروتين، بل بما تعنيه من دلالات سيطرة وإجبار؛ أن تعيش حياة عارية، حياة بيولوجية مجردة كما يُعرّف الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين الحياة في معسكرات الاعتقال، وهو التعريف الذي يُصيب بدقة حياة الناس في غزة بعد الحصار الإسرائيلي.
أذكر ما قاله صديقي حين سافر للمرة الأولى من غزة: «لما طلعت، شعرت إنه بقدر أحلم وأخطط الآن لحياتي. في غزة، بدا أن الحلم الذي لا يقود إلى تخيّل شكل موتك أمرٌ صعبٌ جداً».
خطوة خارج التوقع
كان على هاتفي الذكي أن يهتز كثيرًا في كل مشوار أخرجه خلال جولتي الأخيرة، كأنه يود أن يخبرني بأني أفاجئه بعدد الخطوات التي أقطعها. عادة، لا يتجاوز عدد الخطوات التي أقطعها في كل مرة أخرج فيها من البيت في غزة خط الـ 10 ألاف خطوة، وكان يحتفي بيّ الهاتف في كل مرة كما تحتفي النوادي الرياضية باللاعب النشيط.
أما في جولة سفري الأخيرة، فكان عدد الخطوات التي أقطعها في كل مشوار أخرجه من مكان إقامتي يتخطى الـ 30 ألف خطوة. عند كل هزة في جيبي كنت أحس أن الهاتف يعيش صدمة التعرّف على العالم ذاتها، وكنتُ أودّ حقًا أن أخرجه، وأن أحكي له: أين يخبئ العالم كل هذه المساحة عن غزة يا صديقي؟ إنه عالمٌ واسعٌ حقًا.
لم يكن الكسل الذي يمنعني من قطع هذه المسافة في غزة، بل في معنى الخطوات التي أقطعها. كل متر خارج غزة مكان جديد، مكان له زمن مختلف وتقاليد وعادات ولهجات مختلفة لطالما حُرِمنا من سماعها. كنت أمشي ويسألني الناس من اليمن، السودان، من الخليج، من كل أقطار العالم العربي تقريبًا، عن مكانٍ ما! وبينما كنت أردّ بأني لا أعرفه، كنت أُسائِل نفسي: هل كان عليَّ أن أعرفه حقًا؟
ينشغل الغزي بمسائلة نفسه، حين تتاح له فرصة الخروج من غزة، عن معنى الحياة بوصفها زمانًا ومكانًا في غزة، وعن معناها في الخارج؟ وعن أبسط الأشياء التي حُرِمَ منها، كأن يسمع لهجة غريبة، وأن يدلَّ سائحًا على مكان لا يعرفه.
عودة مخلّطة
كان صديقي التونسي يفتتح حديثه معي صباح كل يوم، في المخيم التدريبي الذي جمعنا، بلهجته السريعة التي تختصر كل شيء. كان يحكي لي عن الجنوب التونسي، وعن عاداته، فيما يُحدثني أصدقاء آخرون عن الصومال وشواطئ بوصاصو وعادة إفطار السمك الطازج مع الشاي، ومن صعيد مصر وأسوان، وصولًا إلى الخرطوم، ودمشق وحلب، وبيروت وعمّان. ما الذي يريده الغزي أكثر من ذلك؟ أن يختلط بكل هذه اللهجات والقصص حتى يلتصق بعضها في ذاكرته، ويعود لممارسة ما هو طبيعي وعادي، كاستثناء في بلاده التي يترقب فيها الأصدقاءُ والأهلُ وصوله ليحكي لهم عن العالم الواسع.
حين وصلتُ غزة حاصرتني الأسئلة من الجميع، بعد التهنئة بالسلامة: شو اللي رجّعك على غزة يا زلمة، كيف الدنيا برا؟ عالم آه! وين إحنا ساكنين! في خندق صح؟ وين رحت! احكيلنا يا زلمة!
كان أبلغ التعليقات ما قاله صديقي حين اقتبسَ حديث المُهرّب في رواية رقصة النصر للكاتب التشيلي أنطونيو سكارميتا: حين يهرب المرء، فإنه لا يتوقف مطلقًا يا عُمَر!
وأطرفها حين استدعيت للتحقيق، لأن الفيزا الموجودة على جواز سفري فيزا لدولة يُسمع عنها كثيرًا في الإنترنت، ومن المريب أن يغادر الغزي لمثل هذه الدولة.
بعد الأسئلة المعتادة، لمعت عينا المحقق الفلسطيني، وقال: «إحكيلي كيف؟ زي الصور؟ الدنيا برا حلوة؟!». ثمة رغبة جامحة لدى الجميع بمعرفة شكل العالم المختبئ عن عيونهم.
المسافات
وصلتُ غزة، بعد منتصف الليل تقريبًا. اقترحَ عليَّ صديقي الذي يسكن في رفح جنوب القطاع أن أبيت عنده لأرتاح بعد المشوار الطويل، وأعود في اليوم التالي لبيتي في شمالِ القطاع. حينها مازحته، بعد عناق قصير، أنّ «الطريق مش رح تاخد أكثر من 5 دقائق يا زلمة.. ما إنت ما سافرتش، وشوفت العالم!».
دوت ضحكة صغيرة، ثم ردّ صديقي بسخرية: وال عليك يا زلمة، نسيت لما كنت أقلك تعال زورني، وتقلي ليه ساكنين في رفح من كثر بعدها؟ الحين بطلت رفح بعيدة؟!.
يقع الغزيّ في شرك المسافات مرتين، الأولى: حين يختبر المسافات الطويلة، ويدرك معنى أن يركب سيارة ليقطع فيها مسافات لم يعهدها، ثم يركب طائرة فيقطع بلدانًا بأكملها، فيفهم أكثر معنى المساحات والمسافات. والثانية، حين يعود إلى غزة، إذ تقصر المسافات، ويتحول الكيلو متر إلى متر واحد، والمشوار الذي كان يستغرق ساعة في السيارة إلى خمس دقائق، فتضيق غزة أكثر عليه.
بعد العودة إلى غزة وروتينها، أرسل «غوغل مابس» تقريره الشهري الذي يرصد فيه الأماكن التي أزورها في غزة في كل مرة أخرج فيها من البيت، وهي العادة التي لطالما كرهتها، لأنها تذكرني في كل مرة بأني أحجل في الدائرة المغلقة الضيقة ذاتها: من البيت إلى الشاطئ، عبر الشوارع ذاتها، التي أصل من خلالها إلى السوبر ماركت، أو أي وجهة أخرى.
بدت مسألة أن كل مكان يمكن أن تقصده في غزة على بُعد متر منك تُشعرني بالضيق، وتحولت رسالة غوغل الشهرية التي تنعش – ربما – ذاكرة آخرين ممن يسبحون في الجغرافيا الممتدة، إلى تذكير مؤذٍ بالعجز، ومسائلة دورية ساخرة للنفس: طالما أن البحر هو الوجهة اليتيمة التي يقصدها أهالي غزة للترويح عن أنفسهم، فأين يذهب الناس الذي يسكنون أمام البحر حين يشعرون بالملل؟
حين عدت، فهمتُ معنى الأقدام المكبلة دون كلبشات، وكيف طوَّعَ الاحتلال المسافات في غزة لتكون أداة عقاب بحق سكان القطاع المحرومين من السفر والتنقّل. أذكر، أن صديقًا من غزة، سُئِلَ حين عاد من تركيا إلى غزة، عبر خانة الأسئلة في تطبيق إنستغرام: قال إللي بسافر وبِرجع ما بِقدر يعيش في غزة؟ ردَّ الصديق: مُستحيل، لأنه لما يطلع من غزة بِيعرف شو معنى الحياة برا، وشو معنى العالم.