خالفَ فيلم كودا التوقعات، وحاز الجائزة الكبرى في الدورة الرابعة والتسعين من حفل توزيع جوائز الأوسكار قبل أيام. ولعلَّ أغلب الأفلام التي حازت على هذه الجائزة، خلال السنوات العشر الماضية على الأقل، كانت مخالفة للتوقعات، إذ تنطلق هذه التوقعات في الغالب من تقييمات لم تعد مطابقة منذ زمن طويل لبوصلة جائزة السينما الأشهر في العالم، والتي يستطيع متتبعها بسهولة، إن شاهد كودا قبل إعلان الجوائز، أن يتوقع فوزه ببعض أو كل ما سيُرشَّح إليه من جوائز. وربما من المُستهلَك القول إن اعتبارات الأوسكار السينمائية تضمحلّ، خاصة في فئة الجائزة الكبرى، مقابل رجحان كفة الاعتبارات المتعلّقة بالقضايا، إن صحّ افتراض عزل السينما كفنّ عن القضايا السياسة والاجتماعية الرائجة، والمُلِّحة، وهو جدل يغوص في الأصل في فهم الفن كفنّ، قبل فهمه كحامل قضايا.

سيكون من الجرأة بمكان، أن يُطرَح سؤال جاد وعميق «هل يستحقّ كودا الأوسكار؟». وهناك ردود جاهزة متوقعة، حتى على ألسنة نقّاد السينما. لدينا كادرٌ من الممثلين الصمّ حملوا على عاتقهم إيصال رسالتهم الإنسانية، وعذاباتهم في التواصل مع الآخر، وكفاحهم للحفاظ على العائلة، وإقناع المجتمع بأنهم جزء قادر على الإنتاج وممارسة الحياة خارج المنزل. من الجميل أن يحتضن عملٌ فني هذه الرسالة، ويجوب بها المهرجانات، ومن الاستثنائي أيضاً عدم الاعتماد على ممثلين يؤدّون دور الصم، كما هو معتاد في هوليوود، التي حاز فيها العديد من الممثلين جائزة الأوسكار لأدائهم أدوار أصحاب احتياجات خاصة. سيبث ذلك رسالة مؤثّرة، ويفتح الباب أمام الحديث عن مدى إمكانية أن يحمل الفن قيمة يرقى بها المعنى مستقلاً فوق الصناعة. لكن كل هذا عليه ألا يلغي أن للفيلم مقومات أساسية ليكون فيلماً في البداية، وهو ما حققه كودا دون شك، وليكون فيلماً بمستوى نيل كبرى جوائز السينما في العالم وهو ما لم يحقّقه كودا قطعاً.

من منطق تقليدي كلاسيكي، وبسيناريو فائق السهولة في التوقُّع – توقُّع المشاهد أحياناً لا المآلات بشكل عام فقط – وبمشاهد قليلة مستقلّة ومميزة بجودتها عن كثير من مشاهد الفيلم العادية والأقل من عادية، حكى الفيلم قصة عائلة من الصمّ، تتولى من بين أفرادها ابنةٌ قادرة على السمع مهمّة الإشراف على تواصلهم مع المجتمع، وتصبح هي ضامن سلامة العائلة اقتصادياً واجتماعياً. لكن الفتاة المراهقة تمتلك موهبة الغناء، وتحلم بالتخصص فيها في كلية بعيدة عن مسكن عائلتها. ستكون بلا شك أمام سؤال مصيري. هل يمكنها ترك العائلة لتغرق وقد بدأت علائم الغرق تظهر بمجرد غياباتها المتقطعة عنهم؟ وهل يمكن بالمقابل التخلي عن الغناء بموجب منحة دراسية يمكنها الحصول عليها؟ لعلَّ الإجابة عن هذين تكون السؤال بسيطة بمجرد متابعة المشاهد الأولى في الفيلم، وفهم سياقه ولغته، فهو كما أشير سابقاً تقليدي بسيط، سينتهي بابتسامات ودموع، وسيصدح صوت المغنية أمام عيون أهلها الذين لا يستطيعون سماع الغناء.

تمرّ مجموعة من المشاهد في الفيلم تحمل أثر الفيلم كلّه، وتجعل من بقية المشاهد تكراراً لا أكثر. مشهد حوار الأب مع الابنة حول الريح التي أطلقها ولم يسمع صوتها إنما شمّ رائحتها، ومشهد تحسسه حنجرة ابنته وهي تغني، ومحاولة إدراك الصوت عن طريق اللمس. ستدمع العيون لهذا، وسيكون هناك داع للتصفيق الشديد، للفيلم البسيط كبساطة العائلة. لكن سيكون هناك سؤال سينمائي يبحث عن السينما الروائية الحديثة القادرة على الذهاب داخل المشكلة عميقاً، ليكون وجود الفيلم في المهرجانات العالمية، وأمام لجان تحكيم كبار المهرجانات، وجوداً سينمائياً فنياً حاملاً لقضية إنسانية، غير مرتبك بجدليّة تفوّق القضية على الفن، ومَلء ثغرات الفيلم الكثيرة بفائض إنسانية قضيته.

يتجنّب الفيلم في مواقع منه الغوص في زوايا كان يمكنها أن تكون حاملاً فنياً فكرياً حقيقاً للفيلم، لكنها قد تفتح عليه أبواباً من القراءات والنقد والتقييم، لا تذوب كلها بالضرورة في ارتفاع هدير التصفيق له في الصالات والمهرجانات. ومن تلك الزوايا  تلميح الفيلم لوجود أنانية لدى عائلة الفتاة، إذ تفترض الأم أنه من غير المنطقي أن تتمتع ابنتها بهواية لا يمكن للعائلة أن تقيّمها: كيف ستكون مغنية وعائلتها لا تسمع؟ ثم كيف ستخاطر بمصير عائلتها التي تعمل بالصيد لأجل تحقيق طموحها؟ إنها وبكل ما فيها من طفولة مسؤولةٌ عن أي ارتباك اقتصادي قد تؤول به الأمور إلى دمار الأسرة ككل. هذا السياق الذي ألمحَ إليه الفيلم، ولم يدخل عميقاً فيه، كان سيشكّل أمامه أكواماً من الأسئلة الأخرى، بعضها سياسي واجتماعي يغوص في صلب موقع أسرة ذوي الاحتياجات الخاصة من منظومات العمل والتعويضات والضمان الاجتماعي والصحي وسواه، وصولاً إلى بعده الوجودي الفلسفي الذي يفترض أن الأنانية صفة سلبية حتى لدى ذوي الاحتياجات الخاصة، أو أن المسؤولية في هذا الشعور مسؤولية إنسانية فردية، وليست مسؤولية قدريّة في موقع ما. اختار الفيلم التجنّب، والحفاظ على السياق التقليدي، والزخرفة بالمشاهد الإنسانية الجمالية الحزينة، التي كانت بلا شك مؤثرة في بعض مواقعها.

لم يُثِر نيل الفيلم للجائزة اعتراضاتٍ بحجمٍ ملموس، ولم نسمع حتى اليوم أصواتاً جادة تنتقد أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة على هذا الخيار، كما هو معتاد بعد كل حفل سنوي للأوسكار، وكم نالت أفلام مثل مون لايت وغرين بوك انتقادات بعد نيلها للجائزة، انتقادات لم ينلها كودا حتى اليوم، ولعل الحاسم هنا في تجنّب النقد الفني البحت هو أن أفلام القضايا الرائجة السابقة تحتمل الجدل، وتلقى فئات اجتماعية غير متفقة مع مقولاتها النهائية، وهو ما يُعتبَر نادراً وربما غير موجود في حالة قضية كتلك التي ناقشها كودا، ونال بها لا بغيرها الأوسكار.

ثلاث جوائز حصدها الفيلم، كان أكثرها منطقية بلا شك هو أوسكار أفضل ممثل في دور مساعد، والذي ناله الممثل تروي كوتسر، فهو وبلا شك كان أميز ممثلي الفيلم وأمهرهم، خاصة ببراعة استخدامه لغة الإشارة في سياق كوميدي، وبعينيه اللتين تولّيتا أمر اللغة في أكثر من مشهد، وبأدائه شخصية الصيّاد باحترافية، رغم مشاهد الصيد القليلة نسبياً. أما وقد نال الفيلم الجائزة الكبرى، فهو أيضاً ما يتيح الحديث عن الأفلام التي كانت مرشّحة للجائزة، والتي انتصر عليها كودا، وهنا يمكن إثبات انتصار الفيلم بقضيته كلياً، فالأفلام المنافسة لا تتيح للفيلم الفائز حتى فرصة المقارنة. كانت هناك تحف سينمائية لا يمكن لفيلم من مستوى كودا أن ينافسها على أي جائزة، خاصة جائزتا «أفضل فيلم» و «أفضل سيناريو مقتبس». من بين الأفلام المرشحة كان فيلم قُد سيارتي المأخوذ من قصة للعالمي هاروكي موراكامي بطريقة بالغة الإبداع،  والذي نال جائزة أفضل فيلم أجنبي، إضافة إلى غيره من الأفلام التي لا تتوفر بهذا الكم والنوع في حفل الأوسكار كلّ عام. على الأقل، شهدت الأعوام الأربعة السابقة ضعفاً في كم الأفلام ذات الجودة العالية.

في معركة أوسكار، وفي غيرها من معارك السينما الأكثر شهرة في العالم، تبدو خسارة الفيلم الذي لا يجاري ما هو سائد من القضايا، ولا يحمل لواء الدفاع عن الحقوق، وعن قضايا إنسانية خاصة وعامة أحياناً، خسارة سهلة، أمام تلك الأفلام التي تدخل ميدان السباق متفوّقة على غيرها، على الأقل بميزة خجل لجان التحكيم من عدم منحها أي جائزة وهي على ما هي عليه من محتوى إنساني سهل التأثير، وقادر على حشد الإعجاب والتأييد. إن القضايا التي لا خلاف حولها منتصرة فنياً، بل ويجب أن تنتصر، لكن انتصارها عندما يحمل سِمتي الجودة والإبداع الأصيل يكون أكثر مهنية واستحقاقاً، ويخفف أيضاً أثر الخسارة عن المنافس المقتنع بأن ما صنعه أفضل وأهم فنياً، وهو محق أيضاً في هذه النقطة إذا كانت المقارنة بين كودا وعدة أفلام كانت منافسة له.

لا يُلام الفيلم وكادره بالتأكيد على أي شيء، بل هنيئاً لهم، ولكلِّ قضية إنسانية عادلة ترتقي أكبر المنصات للتعبير عن ذاتها وحشد الاهتمام والتأييد، وكم من قضايا شعوب وجماعات إنسانية ناضلت للوصول إلى المنصة وأغلبها لم تنجح. وإن استطاع بعضُها النجاح، فقد لا يكون سؤالاً هاماً للجميع: «هل استحقَّ هذا الفيلم النجاح أم لا؟».