لم يدخل مفهوم التغييب التداول السوري حتى وقت متأخر أعقب الثورة والحرب السورية. وهو دخل كمُدرَك حقوقي أساساً. وفرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عشرة تقارير سنوية على التغييب القسري، تكلمت في آخرها (آب 2021) على 102,287 مغيباً، وفي التقرير الذي سبقه بعام على 99479 مغيباً، نحو 85% منهم غيبهم الحكم الأسدي. وبين 2014 و2016 اعتنى ياسين السويحة بتوفير مواد تتناول المفهوم استناداً إلى الخبرة الأرجنتينية بصورة خاصة، والأميركية اللاتينية عموماً (هنا وهنا وهنا). وهذا في الوقت الذي أخذ يتسع نطاق تداول هذا المُدرَك لتمثيل واقع سوري مستجد، واقع خطف وتغييب سوريين وسوريات على يد النظام ومجموعات إسلامية. توفر المقالات الثلاث مرجعية وإطاراً مقارناً للتفكير بتجربتنا الكبيرة الراهنة في هذا الشأن.
مفهوم التغييب ولد أصلاً في سياق أرجنتيني ليمثل تجربة اختفاء الألوف من مناضلين يساريين ضد حكم الطغمة العسكرية بين 1976 و1983. والمفارقة أن ما قاله الدكتاتور خورخي بيديلا كرد إنكاري على سؤال عمّن غيبهم نظامه صار تعريفاً للمُغيَّبين: «ليس بإمكاننا القيام بأي إجراءات خاصة (لكشف مصير المُغيّبين قسراً) طالما هم مختفون. هم إشارة استفهام. غير موجودين. لا هويّة لهم. لا وجود لهم. لا هم أحياء ولا أموات. هم، ببساطة، مختفون». وعبر العقود استقر مفهوم التغييب كقالب مفهومي، يُستند إليه لتمثيل تجارب متنوعة. هناك اليوم أبحاث وأوراق عن مفهوم الاختفاء الاجتماعي، الناس الذين لا يغيبون بفعل فاعل مباشر، لكنهم يضيعون في صحراء المكسيك مثلاً بينما هم يحاولون اجتياز الحدود إلى الولايات المتحدة، أو يختارون العيش بعيداً عن أهاليهم ومعارفهم في عوالم مشردين، أو مرضى إيدز يقضون أيامهم في بيئات غير مرئية للعموم مع أشباههم، أو رومانيات ساقهن الحب الموهوم إلى إسبانيا ليُجبرن على العمل كمومسات، أو سوريون وأفارقة وغيرهم يغرقون في البحر المتوسط الذي يتحول أكثر وأكثر إلى «مفازة»، صحراء من ماء، يؤمل بالفوز باجتيازها، لكن مع احتمال قوي بالهلاك. (ينظر في شأن الاختفاء الاجتماعي الكتاب الذي حررته ستيلا شيندل وغابرييل غاتي).
وخلال أحد عشر عاماً تراكمت لدينا تجارب تغييب مترامية الأطراف، وتشتد الحاجة إلى شغل عليها، يجمع بين الحقوقي والسياسي والنظري، ويؤسس لتناول التغييب كاستعارة سياسية أساسية في دراسة الحقبة الأسدية.
عند النظر في أمثلة مغيبين ومغيبات قسرياً من حولنا، ربما نميز ثلاثة عناصر أو أركان في هذه التجربة: أولها الحجز، ثمة أشخاص محجوزون في مكان ما، غير معلوم. والثاني هو المصير المجهول، فلا يُعلَم إن كان المحجوزون أحياء أم ميتين. وقد يكون ثمة ركن ثالث، يتمثّل في عدم معرفة الجهة المغيِّبة من قبل الأهالي، أو إنكار الجهة المشتبه بها قيامها بالتغييب.
الطبيب محمد عرب محجوز عن العالم منذ اختطفته دورية للنظام في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011. عبد العزيز الخيّر وماهر طحان وإياس عياش ومحجوزون في مكان مجهول، يقال أحياناً إنه مطار دمشق الدولي، منذ خطفهم من قبل النظام في أيلول (سبتمبر) 2012. الدكتورة رانيا العباسي وزوجها عبد الرحمن ياسين وبناتهما نجاح وانتصار وديمة وليان وآلاء وابنهما أحمد في غياب منذ أخذتهم مخابرات النظام يوم 9 آذار (مارس) 2013 (كانت كبرى بناتها في الثالث عشرة وأصغر الأولاد عمره سنتان)، ومعهم معاونة الدكتورة عباسي، مجدولين عقاد (لمتابعة قضية الدكتورة عباسي وعائلتها ومساعدتها، ينظر حساب م حسان العباسي على تويتر). علي مصطفى غير معلوم مكان الحجز منذ تغييبه على يد النظام يوم 2 تموز (يوليو) 2013، وتحصي ابنته وفا زمن غيابه بالأيام (للمزيد عن وفا وقصة أبيها، هنا). فراس الحاج صالح والدكتور إسماعيل الحامض حُجزوا في أماكن مجهولة منذ خطفهم على يد داعش في الرقة بين صيف وخريف 2013. جهاد أسعد محمد قُبض عليه في الشارع في دمشق في 10 آب (أغسطس) 2013، ولا يُعرف مكان حجزه يقيناً. فائق المير أُخذ من الشارع على أرجح تقدير، ولا يُعرف مكان حجزه منذ اختفائه في أكتوبر (تشرين الأول) 2013. سميرة ورزان ووائل وناظم محجوزون منذ اختطافهم ليلة التاسع من كانون الأول (ديسمبر) 2013، لا نعرف أين. هل قضوا هذه السنوات الطوال في مكان واحد أو عدة أمكنة؟ هل كان الأربعة في السجن نفسه أم وُزِّعوا على سجون جيش الإسلام الكثيرة؟
هذه الأمثلة غيض من فيض كما يقال، تجمع بينها مجهولية مكان الحجز وتطاول أمده. وتنحدر جميع الأمثلة من الأعوام الثلاثة الأولى للثورة، وتقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن معظم التغييب القسري وقع في السنوات الأربعة الأولى للثورة. لا تقل مدد الاختفاء في هذه الأمثلة عن ثماني سنوات وشهور، وتقترب في أقدم الأمثلة، الدكتور محمد عرب، من 11 عاماً. وهي تعطي فكرة عن حدة وجذرية العنف الذي تعرض له مجتمع الثورة السورية، على يد النظام، ثم على يد مجموعات إسلامية متنوعة.
الركن الثاني والأشد قسوة في التغييب القسري هو مجهولية المصير. نحن لا نعرف إن كان أحبابنا أحياء أم قتلوا. وإن كانت الأخيرة، فمتى، وكيف، وأين، وأين أجسادهم؟ مصيرهم علامة استفهام كبيرة، بلغة بيديلا. المصير المجهول هو جوهر التغييب القسري أو خلاصته التي قد لا يحاط بها يوماً. إلى اليوم لا يُعرف مصير أكثر من غُيِّبوا بين 1978 و1983 في الأرجنتين، ويقدّر عددهم بنحو 15 ألفاً.
لكن من يجهلون مصير المغيبين هم نحن، أحبابهم وعموم شركائنا، وليس بطبيعة الحال المُغيِّبين من أشباه بيديلا مثل بشار الأسد وسمير كعكة وأحمد حسين الشرع (الجولاني) وأمنيو داعش. يطبع التغييب حياتنا، نحن الذين لا نعرف، بِسمة خاصة، الحياة المعلّقة أو المرجأة في انتظار الغائبة أو الغائب أو الغائبين. يعزز من شرط الحياة المعلقة في جميع الحالات تقريباً أن أحباب المغيبين يعيشون لاجئين في بلدان قريبة وبعيدة، بينما الأحباب غُيبوا في البلد المغيب هو ذاته. وخلال ما يقترب من عقد وُوجهت جهود الأهالي لمعرفة مصير مغيَّبيهم بصمم تام، وهو ما يصلح مقياساً لقوة الجهود المبذولة من أجل أن يبقى الجهول مجهولاً.
في بعض الحالات لم تُواجَه جهود الأهالي بالصمت، بل بالإنكار مثلما فعل جيش الإسلام بخصوص سميرة ورزان وائل وناظم. هنا على كل حال الركن الثالث من أركان التغييب القسري الذي قد يمكن أن نميز، استناداً إلى التجربة السورية، بين شكلين له. شكل ناقص يجمع بين مجهولية المصير والحجز، وهو حال معظم المعتقلين الإسلاميين عند النظام في ثمانينات القرن العشرين، حيث لم يكن الأهالي يعرفون شيئاً عن مصير أحبابهم المعتقلين، أحياناً لعشرين عاماً، وإن كانوا يعلمون يقيناً أنهم معتقلون عند النظام؛ وهذا كذلك حال كثير من معتقلي الثورة اليوم، ممن يعرف أهاليهم أن أجهزة النظام هي من أخذتهم، لكنهم لا يعلمون شيئاً عن مصيرهم منذ ذلك الوقت أو بعده بحين. ثم هناك تغييب قسري كامل، إن جاز التعبير، حيث ينكر الجناة مسؤوليتهم عن جرائم التغييب، ومنها واقعة تغييب سميرة ورزان ووائل وناظم، ومعظم التغييب الذي قام به إسلاميون.
البداية تختلف: الإسلاميون يختطفون من الشارع، أو يقتحمون المساكن ملثمين بعد ضمان ألّا يشهد عليهم أحد. هذا يسهل عليهم إنكار المسؤولية، ويبدو أنه يصدر عن حس مترسخ باللاشرعية. ومعلوم أنه لا داعش ولا جيش الإسلام ولا جبهة النصرة قالت إن ما مارست من خطف أو تغييب كان تحقيقاً لعدالة ما، أياً تكن. عند النظام يغلب أن يبدأ الأمر بدورية مخابرات تأخذ الشخص أو الأشخاص المعنيين من مساكنهم ليلاً في الغالب، أو من أعمالهم نهاراً، أو من الحواجز المنتشرة، أو إثر إيقاعهم في كمين في أي وقت. ماذا نسمي هذه البداية؟ في ضبوط أجهزته الأمنية يستخدم النظام كلمة توقيف. لكن الأمر لا يتعلق حتى باعتقال. إذ لم يكن يوما ثمة أمر اعتقال من جهة قضائية أو حتى أمنية، وقد يجاب أو لا يجاب على سؤال عن الجهة التي تضع يدها على الضحية المنكود. وبما أنه هناك عشرات الألوف من غير معلومي المصير عند النظام، وبما أن الأهالي يفشلون في معرفة شيء عن أبنائهم (وهذا موضوع تجارة معلومات درت على النظام وسماسرته مئات الملايين، في إطار ما سماه ياسين السويحة السوق السوداء للتغييب القسري)، فإن الأمر يتعلق بخطف، بعملية صيد للبشر وإخفائهم، حتى لو كان الأهالي يعلمون يقيناً أن غائبهم عند أجهزة النظام. وبقدر ما تطول مدة التغييب، مثل كل الأمثلة المذكورة فوق، يتجه الفرق بين شكلين له، ناقص وكامل، إلى أن يصير شكلياً وبلا دلالة.
وبأركانه الثلاثة هذه، الحجز المتمادي في الزمن، المصير المجهول، والصمت أو الإنكار، يحوز التغييب مفعولاً إبادياً، من حيث هو قطع كامل للأثر، إخفاء كلي كأن المغيبين لم يوجدوا قط. يتعلق الأمر بإبادة اجتماعية تترجم الإبادة السياسة السابقة للثورة وتعززها. حيث صار الإسلاميون سلطة، وهم صاروا سلطات بدءاً من 2013، عرضوا طاقة إبادية تحاكي طاقة النظام، وإن قصرت عنها في الوسائل والقدرات.
في الحالين، التغييب القسري بأركانه الموصوفة هنا هو استمرار للتغييب السياسي المديد للسوريين عن شأنهم المشترك، أو هو المثال الأشد قسوة لباراديغم التغييب السياسي، الذي يندرج تحته منهج الإسلاميين السياسي. الثورة السورية كانت شكل الظهور السياسي لملايين السوريين، وهي هُزمت حين رُد الظاهرون على أعقابهم إلى العتم أو إلى الغمر. كان التغيبب هو الشكل الأصفى للرد إلى الغمر. هو الغمر نفسه.