الأربعاء، 7 أبريل 2021

11:33 م: توصلوا بالسلامة ان شاء الله، اشتقنا للحبايب

11:50 م: حبيبتي دودو، ادعي تكون مسهّلة

الخميس، 8 أبريل 2021

8:450 ص: ربنا يسهّل طريقكم وتنورونا على خير

….

4:110 م: طمنونا يا فوفو، لوين وصلتوا؟

الجمعة 9 أبريل 2021

1:42 ص: شكرًا عالبلالين الحلوة، موبايلي كان ما فيهوش شبكة طول الطريق

9:46 ص: صباح الفل يا عسل، لما ترتاحوا وتصحصحوا ابعتيلي نكلّمكم

عندما دخلت للبيت، وجدت أن ابنة خالتي دعاء قد خبأت ثلاثة بالونات منفوخة بغاز الهيليوم، اثنان فضّيان وواحدٌ زهرّي، وحرفيّ F و Z ذهبيين منفوخين ومعلّقين على الحائط. الحرف الأول يعود عليّ، والآخر يعود على الحرف الأول من اسم أمي زينب. حين صحصحت وهاتفتها في الصباح التالي كما طلبت مني، نسيت أن أُعلّق على المفاجأة خاصةً أمام أولادها المتحمّسين، عاودت الاتصال مرّة أخرى لأعبّر عن سعادتي وانبهاري بكل هذه الحماسة، وحين زارتني هي مع الأولاد التقطتُ أكثر من فيديو لهم، خاصّةً للصغير آدم، يُمسك بكلّ بالون ويكتشف كيف ينطلق بسرعة ليلتصق بالسقف فور أن يُفلته من يده. كان يكرّر الحركة ويضحك، حتى كادت البلالين تخرب فصرفناه عن اللعب بها إلى أكل بعض الكلمنتينة والبرتقال اللذين قشّرتهما له دعاء.

* * * * *

قبل أن يُتمّ غيابي عامه التاسع، عُدت إلى غزّة في الثامن من أبريل 2021. قبلها بأسبوعين كنت قد سافرت من برلين إلى القاهرة، وانتظرت أن تأتي أمي من غزة لإتمام بعض الأشغال السريعة ومن ثم اصطحابي معها في طريق العودة. أصرّت على مرافقتي بعد كل هذا الوقت، إشفاقًا عليّ من ألم الطريق ونقاط التفتيش الكثيرة والمُهينة التي تعرفها هي جيدًا على طول الخط من القاهرة وحتى معبر رفح البرّي الفاصل بين مصر وفلسطين – قطاع غزّة.

كان يوم خميس، انطلقنا في الخامسة صباحًا وكنا نسابق الريح في سيارة الأجرة خوفًا من أن يُغلق أحد الحواجز علينا -كما يحدث مع أشخاصٍ كُثر- فنضطر للرجوع للقاهرة أو البيات ليومين على الطريق حيث يُغلق المعبر يومي الجمعة والسبت. كنّا محظوظاتٍ أصلًا أن المعبر مفتوحٌ في هذه الفترة؛ فالعادي هو الإغلاق فالإغلاق والإغلاق قبل أن يفتح لأيامٍ قصيرة ومكتظّة جدًا يليها إغلاقٌ جديدٌ طويلٌ إلى حين.

حوالي الواحدة صباحًا من اليوم التالي وصلنا بنجاح إلى بيت أمي بغزّة. عشرون ساعة بين معديّة الفردان والسير البطيء جدًا في قافلة سيارات مؤمّنة عسكريًّا في صحراء سيناء ونقاط تفتيش كثيرة تُنفَل فيها الحقائب نَفلًا ومن ثم الانتظار القاتل لتسليم جواز السفر ومن ثم استرجاعه بالسلامة في معبر رفح. كنت أغمض عينيّ أحيانًا وأتذكر كيف كان الطريق يومًا ما -أيام دراستي الجامعية في القاهرة- لا يتجاوز الستّ ساعات.

المهم أننا عبرنا ونمنا في البيت. ثم استيقظت على مناقيش خبزتها الجارة التي تسكن فوقنا، وبدأت أفكّر بعشّ البلبل.

* * * * *

أصابعٌ مرصوصةٌ في صينية كبيرة، غارقةٌ في القطْر ومكلّلةٌ بأخضر الفستق الحلبي. لفائفٌ من عجينةٍ رقيقةٍ غنيّةٍ بالسمن، يتخلّل طبقاتها لوزٌ أو فستقٌ حلبي مطحون. أصابعُ «عُشّ البلبل»  تذوب في الفم فورًا، لكنها ترسخ في الذاكرة. طول الإصبع الواحد من طول عقلتي إصبع كفٍّ حقيقية. وإصبعٌ واحدٌ لا يكفي أبدًا. تحتاجين على الأقل ثلاثة أصابع، أو هكذا أضحك على نفسي وعلى وزني الذي يزيد وأنا ألتهم كل يوم ثلاثة أصابع في كل وجبة، وكأنني ملتزمةٌ بدواءٍ لا بدَّ وأن يؤخذ في الميعاد لأُشفى.

تاريخيًا، يُطلق الاسم نفسه على صنف حلوٍ يشبه العشّ فعلًا، خيوط الكنافة فيه ملفوفة بشكل دائري، محمّصة ومقرمشة تجلس داخلها حبّة أو حبّتا بندق أو لوز أو فستق حلبي أو كاجو. لكنّ أهل غزًة قرّروا أن الأصابع المحشيّة هي العشّ الصحيح، اللّوزي اللّب أكثرها انتشارًا لأنها أقل كلفةً. عُشٌّ ملفوفٌ على نفسه كخندق، يُوزَّع في الأفراح والمناسبات، لا يكْفي منه إصبعٌ واحد، ويُعجبني.

* * * * *

حين أرسلت لصديقتين من أيام المدرسة أنني «هون»، كان الردّ الأول «وين هون؟» والردّ الثاني «ولِك شو جابك بعد كل هالغيبة على غزّة؟». واحدة منهما لم تصدّقني وطلبت أن تتصل بي على رقمٍ محليّ لتتحقّق من الخبر.

«بطّلت خايفة من الطريق وإغلاق المعبر وقرفه» و«إذا بدّه المعبر يسكّر وأنحبس جوّا، خلص بيكون قدري ولازم أواجهه» كانت إجاباتي على الأسئلة. مللت الخوف فعلًا، واشتقت لأمّي وعائلتها، واشتقت لغزّة نفسها التي كدت أنسى -أو نسيت بالفعل- الكثير من ملامحها ولن أعرف الكثير من تفاصيلها بعد حربين ودمارين وإعادة إعمار مشوّهة في التسع سنوات التي غِبتها. هناك الكثير من الأحفاد الذين لم أتعرّف عليهم حتى أصبحوا في سن المدرسة، ومن تركتهم أطفالًا صاروا في الجامعة.

كان لديّ مسعى آخر أيضًا. أن أحاول الحصول على تصريحٍ إسرائيلي بالمرور من معبر إيريز إلى رام الله لأرى النصف الآخر من العائلة -عائلة أبي- وبقيّة فلسطين التي لم أرها مذ كنت بين السنتين الثالثة والرابعة في الجامعة، صيف 2005.

سأعترف بأن جائحة الكورونا حسمت الأمر بالنسبة لي. توقّف العالم كلّه، فلم لا أمرّ أنا ببلادي بعد غيْبة؟

لكنني بين الرغبتين؛ البقاء في غزّة وحضن الحب فيها أطول وقتٍ ممكن والتمكّن من رؤية الضفة الغربية وتذوّق الحب هناك أيضًا، كنت ممزّقةً. قدّمت طلبًا للحصول على تصريح سفر من غزّة إلى رام الله، وقتي محدودٌ، ولا أعرف متى يمنحني الجانب الإسرائيلي الإذن لأرى جزءًا آخر من بلدي.

ممزقةٌ كنت. واجمةٌ، أراقب كل شيءٍ وشخصٍ حولي كأنني أرى غزّة لأول مرّة، أنتظر شيئًا صعب الحدوث، وأحلم بأن يطول الانتظار لأشبع من «هون» أولًا. هل سأشبع؟

* * * * *

لم تطق خالتي يسرى وابنتها ودعاء انتظار رفع حظر التجوّل المفروض بسبب كورونا يومي الجمعة والسبت. جاءتا مندفعتين، دعاء يتقدّمها أولادها عزيز وزيد وآدم، بينما تحمل هي صينية مكرونة بالبشاميل كبيرة لتوفّر علينا التفكير فيم ستأكله كل هذه الأفواه. جاء علاء ابن خالتي الكبيرة أيضًا، وأمضينا بعد الظهيرة نأكل من هنا ونسخر بلطف من طبيخ دعاء، وهي تغمز لنا كي لا نُثير أبناءها عليها وتضحك.

ثم جاء صباح الأحد، وعادت الحياة إلى شوارع غزّة، فوصلت طبعًا أوّل صينية حلو احتفاءً بوصولي من السفر بعد كل هذا الغياب. أحضرتها صديقة ماما طازة صُنع الفجر. أساور بقلاوة تشبه العش الحقيقي وبها حبّات لوز كاملة، اقتنصت منها عددًا لا بأس فيه كافتتاحية. ومساء الأحد والاثنين زارنا أفراد عائلة ماما تباعًا، بنات وأولاد خالاتي وأطفالهم الكُثر، حاملين الحلو طبعًا؛ مرّةً طبق بقلاوة مشكّلة ومرّة طبق مبرومة أو بورمة محشيّة بالفستق الحلبي، كلّها من عند «أبو السعود» الذي سطع نجمه خلال السنوات القليلة الأخيرة وعليه فالحلو من عنده «غير».

تُعدّ البورمة المحشية بالفستق الحلبي عند البعض ملكة البقلاوة، أغلاها ثمنًا وأكثرها غِنى. لكن تفضيلاتي مختلفة. رغم التهامي لحبّاتٍ كثيرةٍ منها ومن الأساور والحلو المشكّل، لم أرضَ كفايةً. كنت بانتظار عُشّ البلبل الذي أعرفه وأحلم به ويمكن أن يختصر ببساطة جزءًا كبيرًا من علاقتي بغزّة.

بُحت بِسرّي المخجِل نوعًا ما لعلاء ودعاء. ضحك علاء كما يضحك عادةً على أقوالي الغرائبية، الناس تشتهي الأغلى ثمنًا والأثرى حشوةً، وأنا أشتهي أكثر أنواع الحلو عاديةً ومللًا في غزّة. قلّما يُهدى للآخرين، فأصحاب البيت عند الفرح يشترون منه الصواني ليسدّ شهيّة أفواج الحضور.

لكنّ كليهما يفهمان جوعي للعاديّ، فمضى كلٌّ منهما على حدة ليحضرا لي مفاجئتين على يومين متتاليين.

وهكذا، صار عندي أعشاشٌ وأعشاشٌ من البلبل تجلس على أكثر من طاولةٍ في البيت. وشرعت أنا بالالتهام ومحاولة ترميم الذاكرة.

* * * * *

في الأيام التالية، المعدودة دون أن أعرف عددًا لها، وجدَت الحياة إيقاعها بنفسها. في الصباح تذهب ماما للعمل وأنا أجلس أمام الشاشة لأحضر درس اللغة الألمانية اليومي، أُعدّ القهوة وأبتلع ثلاث قطعٍ على الأقل من عُشّ البلبل كانت تصل أحيانًا إلى 6 حيث أتفنن بصنع هرمٍ منها في طبق صغير. في المساء نستقبل فوجًا جديدًا من المرحّبين حاملي الحلو أو نذهب نحن مدعوّاتٍ إلى وليمة أكلٍ هنا أو هناك، تنتهي بالتحلاية أيضًا. أما الفترة ما بين الظهيرة والغروب، فكانت فرصتي للتواصل مع غزّة من جديد ولأنكش بيت أمي وأغراضي المختبئة فيه.

في يومٍ عادت ماما من المكتب ونادتني مستعجلة لننزل في جولة بالسيارة في أنحاء المدينة. سيارة أجرة تثق ماما بسائقها وتستعين به لقضاء احتياجاتها ومشاويرها. السيارة لم تكن فخمة، لكنّني أحسست أنني في ليموزين أراقب المدينة من وراء زجاج النافذة. تُشير أمي بإصبعها يمينًا وشمالًا، تشرح لي ما تشرحه، وأنا أتابع بقدر الممكن وأسرح بقدر الممكن أيضًا.

أتساءل، كيف كنت سأكون لو لم أغادر غزّة أبدًا؟ ثم أصرف السؤال بعيدًا وأعود لصوتها السميك يُخبّرني عمّا نسيته وعمّا فاتني في الحربين السابقتين (2012 و2014).

أشعر بمسافةٍ قاسية عن المدينة التي قضيت فيها سنوات مراهقتي وتسكنها أمي حتى الآن. كنت دائمًا أراها من وراء نوافذ السيارات التي أركبها من البيت للمدرسة لبيت خالتي ولأيّ مكان وثم عودةً للبيت.

في اليوم التالي، سأرى عبير صديقة الطفولة في إحدى المقاهي، وسنقرّر بعدها أن نتمشى قليلًا في الشوارع الخلفية للسوق، فتسألني «أهذه أوّل مرّةٍ نمشي فيها معًا  في غزّة؟»

«نعم». ربما لو ظللت للدراسة في الجامعة هناك كنّا سنمشي كثيرًا وكانت المدينة ستقترب مني.

وصلت عبير لشارع منزلها، وشعرت بمسؤولية أن تتركني وحدي في الشارع. نخزتني بطني، هل أنا «لست من هنا» لهذه الدرجة؟ لم تقتنع عبير، فاتصلت بأمي أمامها، وأخبرتها أنني في شارعٍ قريب وسأمشي للبيت وحدي، صمت ماما لثانية، تحقّقت من اسم الشارع، وقالت «أوكيه حبيبتي».

أوكيه إذن. مشيت في شارع النصر عائدةً للبيت. توقّفت أكثر من مرّة في الطريق، والتقطت بعض الصور، واستدركت كم أبدو كسائحة، كما ابتسمت ببلاهة وصرفت أسئلة بعض الباعة على الطريق بجملٍ لطيفةٍ تؤكد كوني سائحة. برغم قِصر المسافة التي لم تستغرق أكثر من ربع ساعة، تملّكتني إيفوريا من تستكشف الشعور بالملكية والاستقلالية والنضج من جديد.

حين وصلت، كافأت نفسي على التمشاية الحلوة، وابتلعت ثلاثة أصابع «عشّ البلبل» من طبق أبو السعود الرابض أمامي.

* * * * *

لم أمشِ وحدي في السابق لأسبابٍ كثيرة، واقتصر المشي مع ماما على شارع عمر المختار في حالة التسوّق قبل الأعياد. نضجت إذًا، بعد عمرٍ طويل، وعدت إلى غزّة بضعة أيامٍ في سنّ السادسة والثلاثين لآكل الحلو وأجرّب المشي.

لكنّها كانت المرّة الوحيدة التي سأمشي فيها بمفردي. مشيت بعدها أربع مرّات: مع صديقتي ميسون بمحاذاة البحر؛ مع علاء نحو بيت دعاء لآكل المحاشي التي سهرت تعدّها حتى بعد منتصف الليل؛ ومعه مرّة أخرى في يوم الجمعة الأخير حيث تمشينا نحو منتزه الجندي المجهول وعدنا مشيًا أيضًا؛ ومع دعاء في اليوم الذي سبقه، حيث تغيّبت عن حصّة الألمانية لأقضي مزيدًا من الوقت معها وتأخذني إلى البلد القديمة والقيساريّة، سوق الذهب القديم في غزّة.

لا يروقني الذهب عادةً، وأُثقل أصابعي وذراعي وأذني ورقبتي بشتّى أشكال الحُليّ الفضيّة التي أجمعها كمن تجمع أعمالًا فنية. لكنني لمحت قِباب السوق وأنا في جولة السيارة مع أمي، وأشارت لي باستنكارية «بتعرفيش شو هاد؟ هاد اسمه القيساريّة»، وأنا شعرت بنخزةٍ لأنني لم أرَه من قبل أو لم أتذكّر أنّني رأيته، كما شعرت بشهيّة مفاجئة لاستبدال جميع قطع الذهب القبيحة التي وصلتني كهدايا منذ الطفولة والمتروكة بعهدة ماما، وانتقاء شيءٍ يشبه ذوقي لأقول بأنني اقتنيت هذه القطعة بنفسي من غزّة.

أرسلت لدعاء هل يمكن أن نزور سوق الذهب؟ تفاجأت وقهقهت في رسائلها

– شو صرتي أخيرًا تحبّي الدهب؟

– يعني، عندي فضول أشوف لو في شي ممكن يعجبني، إنتي عمرك اشتريتي دهب من هناك؟

– آه طبعًا. في محل هناك بنتعامل معه بيعرفنا وممكن يعملّك سعر منيح لو بدّك.

– لنشوف!

كان يوم خميس، أسبوعان من الزمان قد مضيا في غزّة، لكنني أرتقب وأرتعب من الردّ المنتظر على طلب السفر. مررت على دعاء بسيارة أجرة، كانت تنتظرني في مدخل البناية العائلية التي تسكنها منذ تزوّجت. ركبت السيارة «كيف حالك؟ شو نروح أوّل عالبلد ولا نتمشى عالبحر؟»، رددت بأن نبدأ من الأصعب فالأسهل. يعني البلد. وإلى هناك أوعزنا للسائق بأن يتّجه.

دعاء مهندسة معمارية، لها خبرة بالترميم وشغوفة بتاريخ المباني. نزلنا بالقرب من مدرسة الزهراء الثانوية، مدرستي ومدرسة أمي من قبلي، لندخل قصر الباشا الذي لم أسمع عنه قبلًا ولم يكن مفتوحًا للزوّار حين كنت طالبةً تمرّ به يوميًا دون أن تدري بوجوده حتى. كان مغلقًا للأسف، فاكتفيت بصورة التقطتها لي دعاء أمامه، وانطلقنا نتمشّى بين الحارات.

مظهرنا معًا ليس مألوفًا. أنا بشعري المُكَركَر أو الملَولَو أو المُجعّد وبلوزة قصيرة الأكمام، ودعاء بجلباب طويل ونقاب لا يُظهر من وجهها شيئًا، يا دوب طرفًا من عينيها الواسعتين. لا بدّ وأننا لفتنا الأنظار. كنت أكثر قلقًا منها بشأن المرور وسط الناس، لكن شيئًا فشيئًا استعدت الراحة. على الأغلب ظنّني الناس أًختها الصغيرة. أحبّ تقمّص هذا الدور كثيرًا في غزّة، لأنّه يُنقذني من التساؤل عن ملابسي. ففي مرّةٍ وأنا في المدرسة الثانوية نجحت بالتسلّل دون حجاب إلى الجامعة الإسلامية حيث درست دعاء الهندسة، ارتديت أوفرهول جينز وتظاهرت بأنني في الصف السابع ولم أبلُغ بعد.

برغم قلقي من ملاحظة المارّة لي، شجّعتني هي على التقاط الصور.

– عادي، صوّري صوّري

– بخاف حدا يقول إشي لو فكّرني بصوّره

– لا عادي يا شيخة! صوّري شو ما بدّك

كنا في منتصف سوق فراس المزدحم بالخضار والفاكهة والبقالة والمخلّلات، وقرّرت أن تلتقط لي فيديو وسط كل هذا. وكأنها تريدني أن أتذكر ما أراه جيدًا، وأن أحبّه وأضحك عليه في آن. مررنا بعدها بأقدم محل يصنع الكنافة في غزّة، وأقنعتهم بأن أدخل وأتفرج على خيوط الكنافة وهي تخرج من ماكينة العجين وتُصبغ بالبرتقالي. حين بدأت أنا بالتصوير صرَفت هي نظر البائع بحديثٍ قصير. سألها طبعًا لو كُنتُ سائحة أو من دينٍ غير دينها، وهي اختصارًا أجابته بنعم. خرجت بعدها من المحل، وروت لي ما حدث وضحكنا بصوتٍ عالٍ.

تمشّينا في ممرات المدينة العتيقة، وشرحت لي عن عمليات الترميم الجارية، بل وأدخلتني أحد البيوت. عرّفت عن نفسها، المهندسة دعاء الحتّة، ودخلنا وسط ورشة من الرجال المنغمسين بنبش الأرضية. أخذتُ بعض الصور، سألت بعض الأسئلة، وأكملنا المشي. مررنا بالمسجد العُمري، وبِحارة قديمة كان أغلب سكّانها من العائلات المسيحية التي إما انتقلت لأحياء أحدث داخل غزّة أو هاجرت خارج غزّة برمّتها. وبعد أن امتلأ رأسي بالحكايا السريعة، قرّرنا اقتطاع التمشية والذهاب للبحر. ستريني دعاء ميناء غزّة سريعًا. ضروريٌّ أن أراه، ارتأت هي ووافقت أنا بالطبع.

قبل الوصول الميناء بقليل مررنا بمحل ثياب، قاست فيه فستانًا أعجبها، اشترته للعيد المرتقب. وعند الميناء لم تسمح لنا قوّات الشرطة بالمرور، فقط النظر من بعيد. «بدكيش تاخدي معي سيلفي بالنقاب؟» ثرثرت ضاحكة، قُلت بلى، والتقطنا صورةً مليئةً بالحب والمرح واللامنطق في آن. ثم طلبنا سيارة الأجرة المعتادة ورجعنا لمنازلنا.

يومها اشتريت لنفسي سندويشة شاورما من مطعم بالميرا الذي كنت أحبّه وأشتهيه أيّام المدرسة، فأُكمل نذر العودة بعد كل هذا الشوق والخوف.

* * * * *

لكنني لا أشبع، ولن أعرف طعم الشبع. فأقضم أصابع عشّ البلبل بدلًا من قضم قلبي، وأخزّن السمن والسكر في خلاياي وأفخاذي، كتذكارٍ من غزّة.

بسبب حظر التجوّل الكورونيّ، مكثنا أنا وماما يومي الجمعة والسبت التاليين في البيت دون أن نرى أحدًا عدا علاء الذي مرّ بي عصر يوم الجمعة لنتمشّى قليلًا. هل كان خائفًا يا ترى من نهايةٍ مفاجئة لهذه الرحلة التي بدت منذ عامٍ فقط، أو شهرين حتّى، بعيدةً عن التصوّر؟

كنت أنا الأكثر خوفًا. كنّا نتوقع أن نسمع ردًّا على طلب السفر إلى الضفّة الغربية في أي لحظة، ما دفعني لأن أوظّف طاقة القلق التي ضربت جميع أطرافي يوم السبت في ترتيب ممتلكاتي القديمة وفرز كتب الطفولة والصِبا التي يندر إيجاد نسخٍ جديدةٍ منها اليوم. واحدًا واحدًا نفضت عنها التراب، وقمت بمسحٍ ضوئي لأغلفتها ولكومةٍ كبيرة من الصور القديمة. كنت أُقلّب الكتب والصور على الماسحة الضوئية، وأمي تستقبل الملف على الكمبيوتر وتُعيد تسميته وتصنيفه. تعاونّا معًا على القلق والتوثيق، وامتلأ جسمي بالأدرينالين فلم أقدر على النوم قبل الثالثة صباحًا.

أخذت أصوّر قطع الذهب القبيحة وأرسل الصور لدعاء لتُشجّعني على بيعها واستبدالها بإسوارين على ذوقي من المحل الذي عرّفتني عليه. أخبرتني أنه بإمكاننا الذهاب صباح اليوم التالي حتى الساعة 12 ظهرًا لأنها ستنشغل باجتماع عملٍ بعدها. لم أؤكّد الموعد ولم أرفضه. قرّرت أن أنتظر الصباح وما يحمله لي من أخبار، خاصّةً وأنني حزرت بأنني سأنام متأخرًا جدًا، وهذا ما كان.

* * * * *

صحوت يوم الأحد على أقلّ من مهلي، أساوم النهار والعالم الخارجي، علّي لا أشعر بوخزة دنوّ الفراق ولا بوخزة غياب الأمل في السفر أيضًا. أحدُ الأمرين سيحدث، وسيوجعني، وسأواجهه حتمًا، لكن هل لي ببعض البطء الصباحي وسعراتٍ حراريّة مكثّفة من عش البلبل مع القهوة السّادة لأشحذ طاقتي وقلبي؟

لم يطُل التلكؤ المتقصّد، ولا كان النهار البطيء من نصيبي. قبل الظهيرة بدقائق، اتصلت ماما من مكتبها تقول بأنّ الجانب الإسرائيلي قد وافق على منحي تصريحًا بالسفر ولكنه محدّدٌ بيومٍ واحد، ذات اليوم، الأحد. «يلّا، علينا أن نغادر البيت خلال 30 دقيقة ونتّجه إلى معبر إيريز قبل أن يُقفل».

متاعي لم تكن كثيرة، فقد تركت أغلب أغراضي في القاهرة سلفًا لأعدّ نفسي لفُجائية السفر الذي أنتويه، ولأن الجانب الإسرائيلي لا يسمح بمرور الأجهزة الإلكترونية ولا السوائل ولا مستحضرات التجميل ولا المواد الغذائية. بإمكاني فقط أخذ الموبايل الشخصي وحقيبة قماشية دون عجلات.

بعد نصف ساعة كنت واقفةً مع أغراضي عند باب المنزل وممتنّةً للقلق الذي جعلني أُنجز ما أنجزته من أرشفة في الليلة السابقة. لكنني لم أكن جاهزةً للرحيل أبدًا.

كنت واقفةً عند الباب مع حقيبة ثيابٍ خفيفة وشوال مشاعرٍ لا يمكنني حمله. سأشعرُ لاحقًا، قلت لنفسي. الآن سأعبر الحدود داخل بلدي إلى الجانب الآخر وأرى أبي وعمّاتي وأعمامي وأصدقاء لا أعرفهم إلا في العالم الافتراضي. أمّا وداع غزّة الذي لم يحدث، سأبكي عليه لاحقًا. ومشوار سوق الذهب مع دعاء يمكنه أن ينتظر للزيارة القادمة فأنا لم أقتنع كفايةً بالإسوارين اللذين تفحّصتهما عند بائعها المفضّل.

حين ركبنا سيارة الأجرة المتّجهة إلى بيت حانون حيث معبر إيريز، وجدت أمي تتصل بخالتي يسرى: «نحن متّجهات حالًا إلى إيريز، سيغلق بعد ساعتين، الحمدلله طلع التصريح». كنت أنتظرها أن تُكمل الجملة: «سنتوقف أسفل البيت للحظات فقط لتودّعي فرح، كوني جاهزة». لكنها لم تقل ذلك، لم يكن هناك متّسعٌ لحضنٍ أخير ونحن تحت رحمة تصريحٍ ليومٍ واحد. بدلًا من ذلك ناولتني التليفون، لأسمع خالتي تنفجر بالبكاء: «طول الليل عم بدعيلك يطلع التصريح، طول الليل، أنت بنت الغالية». اختنقت أنا كذلك بالدموع، كيف يصمد البكاء المُحتبس أمام أدعية خالتي وحبّها؟

أما دعاء فكانت في الاجتماع الذي خبّرتني عنه قبلها بيوم. كتبت لها رسالة نصّية، ووضعت هاتفي جانبًا.

وأنا أعبر الحاجز، طلب مني الجندي الإسرائيلي أن أًمضي على إفادة بأنني لن أمرّ من معبر إيريز مجدّدًا. التصريح في اتجاهٍ واحدٍ فقط. من الآن فصاعدًا يمكنني أن أدخل إلى الضفة الغربية من الأردن وإلى غزّة من مصر. تركت إمضائي ورائي، وانطلقت إلى رام الله.

* * * * *

بعد أسبوعين ثانيين كنت في طريق عودتي من رام الله إلى عمّان إلى القاهرة لآخذ أغراضي المتروكة قبل أن أعود إلى برلين مرّة أخرى. كنت واثقةً من أنني سأستجمع هذه الرحلة كلّها حينما سأجلس أخيرًا مع نفسي في البيت. الكثير من المعلومات والصور، كيف أصبحت غزّة وكيف أصبحت رام الله، وكيف فعلتها أنا أخيرًا بعد سنواتٍ طويلة وخوفٍ كثيف. كنت في حالة مُعالجة البيانات، مع ذاكرة عشوائية بطيئة، أحاول تنسيق وترسيخ صور محدّثة عمّا رأيته وما اختبرته.

وأنا أغادر رام الله، كان حي الشيخ جرّاح في القدس يشتعل بالمواجهات بين سكّانه الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين الذين يحاولون انتزاع البيوت الفلسطينية واحتلالها على مرأى ودعم من حكومتهم وجيشهم المحتل. اكتظّت القدس بالمحتجّات والمحتجّين، كما انتشرت الاعتصامات في أكثر من مدينة فلسطينية. أمّا أنا فكان عليّ الرحيل سريعًا دون أن أحظى بفرصة المشاركة في هذه الاحتجاجات، دون أن أشعر بكامل فلسطينيّتي التي حُرمت منها في غربة السنوات الطويلة. 

قطعت جسر الأردن إلى عمّان لأستقلّ طائرة تأخذني للمحطّة التالية، وأنا أعبره سمعت أن قصفًا جديدًا قد بدأ على غزّة. عادةً ما أنتظر قليلًا قبل القلق، لأن القصف على غزّة إن أقلقني كلّ مرّة، وما أكثر المرّات المتناثرة، قد يقصف العمر معه. لكن وكما في 2008 و2012 و2014، تكرّر القصف والدمار والموت تباعًا فغدا حربًا رابعة. 

قبلها بأسبوعين كنت هناك، خائفةً من لحظة الرحيل التي داهمتني بالفعل، وحرمتني من وداع غزّة والأحبّة. في سرّي كنت أقول لو أن تصريح السّفر يتأخّر قليلًا بعد، لو أنني أحظى بزيارةٍ أخرى للسوق والبحر، لو أنني أعيّد هناك معهم. كنت سأحزن على عدم الوصول إلى رام الله، لكن ليس كثيرًا لأن غزّة كانت ستعطيني من الحب ما يكفي ويفيض. كنت سأكون هناك حينما يبدأ القصف الذي لا يقلقني في البدء، ومن بعدها سيقلقني ويقلق الجميع. كنت سأكون مع أمّي، نستمع إلى الأخبار طيلة الوقت على الراديو، نفترش الأرض بجانب الأعمدة الأساسية أو تحت الطاولة الخشبية، بعيدًا عن الشبابيك، ونتصل بأفراد العائلة لنطمئن ويطمئنّوا، كنت سأشهد على ما لم أشهده، كنت ربما سأموت أو سأصاب أو سأعيش. لكن تصريح السفر باغتني فسافرت كلتانا خارج غزّة، وأسبوعان آخران مرّا بهدوء فوعدت نفسي أن أعود في السنة التالية. ومن ثم كان القصف والحرب، فانقصفت محاولاتي في الوعود المستقبلية وتجميل التجربة، أصبح كل يومٍ قضيته هناك وداعًا آخر لم أكن لأتخيّل بأنّه سيأتي.

كانت دعاء وزوجها عزّت وأبناؤها يجلسون في الصالون الذي جلسنا فيه نتسامر بعد الأكل قبلها بأسبوعين. كانوا متشبّثين ببعضهم البعض من رعب القصف الإسرائيلي في الخارج. الساعة الواحدة صباحًا من يوم الأحد 16 مايو 2021، دعاء في حضنها آدم ابن الأربع سنوات، وعزّت في حضنه زيد ابن الثمانية، وعزيز ابنهما الأكبر بينهما. اقترب القصف كثيرًا، أصاب صاروخٌ شارع الوحدة أمام بناية العائلة التي يسكنونها والتقطت دعاء من أمامها بالتاكسي ونحن ذاهبتان إلى سوق الذهب. صواريخٍ أخرى ضربت الشارع والبنايتين المجاورتين، وهوت معها جدران وطوابق بناية آل القولق على من فيها.

أما أنا، فكنت مستغرقةً في النوم بعد أيّامٍ من التعب، ولم يوقظني أحد. حين صحوت سمعت عن قصفٍ شديد لشارع الوحدة، فأرسلت لدعاء أسألها أن تطمئنني عنهم.

نجا عزيز وحده. أجسادهم المتهالكة كانت حوله لساعات طويلة قبل أن يتمكن فوج الإنقاذ من إخراجه من تحت الأنقاض.  ورسالتي لدعاء، في الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الأحد؟ تصادف توقيتها مع توقيت انتشال جثّتها الساخنة، ولم تصلها حتى اليوم.

* * * * *

بعد أن شاركت صورًا لعُش البلبل على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي أثناء تواجدي في غزّة، أرسلت لي صديقتان سوريّتان تتعجّبان من التسمية. قالتا لي أن عُشّ البلبل في سوريا يُوزّع في بيوت العزاء، معجّناتٌ صغيرةٌ مسطّحة يعلوها اللحم المفروم. ليس حلوًا أبدًا، وواحدةٌ منهما تكرهه لأنه يذكّرها بالموت.

تعجّبت حينها للمفارقة، ما أعتبره تذكيرًا بالحياة وبالعائلة، ما يذوب في فمي وأشتهيه وأرضى بما يتركه فيّ من وزن زائد، هو أكلة الفقد في مكان آخر.

وأنا أعدّ الأيام في غزّة كنت أشعر بالانتصار على الخوف وعلى الحواجز. كنت أتعرّف على نفسي في تلك المدينة الصعبة من جديد. كانت دعاء شغوفةً بالترميم، وكنت أنا أحاول أن أرمّم علاقتي مع المكان، ومعها أيضًا، صديقة الصِبا وابنة خالتي المفضّلة. كنت أرى آدم وزيد لأوّل مرّة، ففي آخر زيارةٍ لي كان عزيز أخوهما الكبير رضيعًا. كنت ألتهم عشّ البلبل حتى آخر لحظة لكي أتذكره في حياتي البعيدة وأتقوّى بكل ما يعنيه.

غير أن مشروع الترميم الذي قصدته لم يكتمل. ها هو يجلس مُبتسرًا في ركنٍ ما من قلبي الحامض بالحزن. الجولة السياحية داخل سيارة الأجرة مع أمي لن تنفع ذاكرتي، وبعض التمشيات لن تتكرر مجددًا، وسوق الذهب لن أشتري منه اسوارتين. بقي فقط عُشّ البلبل على حاله، أصابعٌ حلوة محشوّةٌ باللوز، آخر ما تذوّقته منها على عجالةٍ كانت قد اشترته لي دعاء.