عامٌ مضى على انتهاء مواجهة أيار (مايو) 2021 مع الاحتلال الإسرائيلي، التي كانت شرارتها في الأول من رمضان، الثالث عشر من نيسان (إبريل)، في الحدث الذي عُرِفَ بهبّة باب العامود، وجاء توقّفها بعد إعلان وقف إطلاق النار في 21 أيار، الأمر الذي أعقبه تراجع كبير في وتيرة الاحتجاجات والصدامات مع الاحتلال. شملت تلك المواجهة كلَّ الأراضي الفلسطينية، واتخّذت تسميات مختلفة منها هبّة القدس وهبّة الكرامة أو انتفاضة كل فلسطين وانتفاضة الشيخ جراح.
ويعود اختلاف التسميات في جانب منه إلى اختلاف التوصيف بين الهبّة والانتفاضة، فالهبّة في تاريخ مواجهة الفلسطينيين للاحتلال والاستطيان هي ردّ فعل شعبي عفوي، يكون في العادة محدوداً في امتداده الزمني والشعبي والجغرافي، بما لا يتيح إنتاج بُنىً تحدد الأهداف والأساليب وتضمن الاستمرارية. على هذا يبدو واضحاً أن ما حصل العام الماضي لا يخرج عن الإطار التوصيفي للهبّة، مع بعض الملامح التي جعلته يبدو كانتفاضة شعبية شاملة، وخاصة الامتداد الجغرافي الذي شمل كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء تلك التي تم احتلالها العام 1948 أو العام 1967، بل إن النشاط امتدَّ إلى خارج الجغرافية الفلسطينية ليشمل العديد من دول العالم في مختلف القارات، مشيراً إلى عودة العالمية للقضية الفلسطينية.
لكن لماذا لم تستمرّ الهبّة وتتصاعد رغم كل ذاك الزخم الذي جعل كثيرين يطلقون عليها تسمية انتفاضة؟ وأين أصبحت الطاقة الشعبية الفلسطينية الهائلة التي عبّرت عن نفسها بتلك القوة خلال الهبّة؟
أولاً: الانقسام الفلسطيني
في عودة سريعة ومختصرة إلى التاريخ القريب: بعد أن حسمت حركة حماس انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني لصالحها عام 2006، لم تسمح السلطة الفلسطينية، مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية والعربية، لحركة حماس باستلام مقاليد السلطة. هكذا بقيت الحكومة التي شكّلها اسماعيل هنية عاجزة عن ممارسة أي دور، وهو ما دفع حماس في العام التالي 2007 إلى فرض سيطرتها بالقوة العسكرية من خلال مواجهات دامية مع أجهزة السلطة الأمنية، إلا أن تلك السيطرة اقتصرت على قطاع غزة فقط، مما أضاف للانقسام الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة انقساماً سياسياً متمثلاً بوجود سلطتين:
السلطة الأولى في الضفة بقيادة حركة فتح، تحكمها منظومة محمود عباس التي تبدو كما لو أنها واحدة من الأجهزة الأمنية القمعية التابعة الاحتلال، وذلك نتيجة التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي واعتقال وتصفية المناضلين ضده. يخضع الفلسطينيون في الضفة الغربية اليوم هناك لثلاث منظومات أمنية قمعية: جيش الاحتلال وشرطته، وميليشيات المستوطنين، والسلطة الفلسطينية.
السلطة الثانية في قطاع غزة بقيادة حركة حماس، التي شكّلت منظومة قمعية متحكمة بحريات السكان المجتمعية والسياسية، وذلك بالاعتماد على القمع الأمني والخطاب الديني إضافة إلى مرجعيات مجتمعية ذات بنى فوقية رجعية. وفضلاً عن تسلطها على المجتمع، صادرت أيضاً حق المقاومة من الشعب والقوى السياسية الأخرى وحصرته بنفسها، فهي التي تحدد شكل وزمن المواجهة، التي انتقلت من حالة المقاومة المستمرة (التي أدت إلى انسحاب الاحتلال من القطاع عام 2005) إلى ما يكاد يشبه حالة حزب الله في الجنوب اللبناني. يعيش الفلسطينيون في غزة أيضاً تحت قمع الاحتلال، من خلال الحصار المستمر على القطاع وأعمال القنص والقصف المتكررة.
أما بالنسبة للفلسطينيين في أراضي 48، فهم بدورهم منقسمون بين تيارين رئيسيين. من أبرز أمثلة التيار الأول حركة أبناء البلد، ويرى هذا التيار أن الشعب الفلسطيني واحد في كل أماكن تواجده، وأن النضال الفلسطيني يجب أن يكون متداخلاً مع بعضه بعضاً وشاملاً لكل فلسطين، ولا يرى المنضوون ف هذا التيار جدوى من الانخراط في ما يسمى «العملية الديمقراطية» والدخول في الكنيست، بل يعتبرون أن المشاركه في هذه الانتخابات تضفي شكلاً من أشكال الشرعية عليها. وأما التيار الثاني فمن أبرز تمثيلاته تحالف القائمة المشتركة، وهم يرون ضرورة العمل والتغيير من داخل المؤسسة الصهيونية دون التماهي معها، ويجدون مشاركتهم في انتخابات الكنيست طريقاً لإدخال بعض التحسينات إلى أوضاع المجتمع الفلسطيني. يضاف الى التيارين السابقين تيارٌ حديث النشأة، لا يكتفي بالمشاركة في العملية الانتخابية والدخول الى الكنيست، بل يتماهى مع الأحزاب السياسية الصهيونية إلى درجة قبوله بيهودية الدولة بحجة أن الوصول للحكومة قد يفتح الباب أمام إدخال تحسينات على واقع المجتمع الفلسطيني، وهذا التيار متمثلٌ بتحالف القائمة الموحدة ورئيسها منصور عباس نائب رئيس الحركة الإسلامية (الشق الجنوبي).
كان التفتت الجغرافي، إضافة إلى الانقسام والتناحر السياسي، عائقاً أمام قدرة الشعب الفلسطيني على الالتقاء وإنتاج قيادة جديدة جامعة تُمثّل تطلعات الشعب وتُحدد أهدافه.
ثانياً: بطش الاحتلال
لم يتأخر الاحتلال في محاولة احتواء وقمع هبّة أيار، مُستخدِماً طُرُقاً مختلفة وعلى عدة مستويات:
1- القصف والتدمير وسياسة العقوبات الجماعية على قطاع غزة، والتي نتج عنها بحسب وزارة الصحة الفلسطينية: 232 شهيداً، بينهم 69 طفلاً و39 سيدة و17 مسناً، إلى جانب نحو 1900 جريح. كما أعلنت وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة عن تدمير 1800 منزلاً وتضرر نحو 17 ألف منزل آخر، وتشريد أكثر من 120 ألف مواطن وتضرر 66 مدرسة وتدمير 3 مساجد وتضرّر 40. كذلك أدّى قصف قوات الاحتلال إلى تدمير 50 بئر ماء و11 محطة صرف صحي و17 كيلومتراً من شبكات الصرف الصحي و40 محولة كهرباء وخطوط إمداد رئيسيةـ إضافة إلى 10500م2 من شبكات الطرق.
2- القمع الدموي في الضفة الغربية والقدس، والذي أسفر بحسب وزارة الصحة الفلسطينية عن 28 شهيداً وقرابة 7 آلاف جريح.
وكما ذكرنا سابقاً، يرزح السكان في الضفة الغربية والقدس تحت القمع الممارس من قبل ثلاث سلطات، إلا أن أكثر القمع تأثيراً على معنويات الفلسطينيين وأوضاعهم النفسية هو ذلك الممارس من قبل السلطة الفلسطينية، والتي أعادت هيكلة وبناء أجهزتها الأمنية عام 2005 بعد رحيل ياسر عرفات تحت إشراف الولايات المتحدة، ليتم استيعاب أو إقصاء أو تصفية كافة العناصر التي شاركت وقاومت الاحتلال في الانتفاضة الثانية، ونتيجة لذلك ترسخت عقيدة جديدة تعرف بعقيدة «دايتون» نسبة إلى الجنرال الأميركي كيث دايتون الذي أشرف على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. ترتكز هذه العقيدة على استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى الحرص على استمرار السلطة الفلسطينية ودورها الوظيفي.
في هبّة أيار، مارست السلطة الفلسطينية ذلك الدور، وساهمت في القمع كما حصل خلال هبّات أو احتجاجات سابقة. يشير تقرير محامون من أجل العدالة إلى أن السلطة اعتقلت سياسياً خلال العام 2021 أكثر من 340 شخصاً. وبناء على التنسيق الأمني، تسهل السلطة الفلسطينية في كثير من الأحيان دخول الجيش الإسرائيلي إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها من أجل تنفيذ عمليات اعتقال أو اغتيال للنشطاء الفلسطينيين، ويتّبع الطرفان ما يطلق عليه «سياسة الباب الدوار»، حيث يجري اعتقال الفلسطينيين من قبل الجيش الإسرائيلي فور إطلاق سراحهم من سجون السلطة الفلسطينية، أو العكس.
3- القمع في أراضي 48، إذ عمّت هبّة أيار كافة المدن الفلسطينية المحتلة، ولم تقتصر على مدن وقرى الجليل حيث الثقل الديموغرافي الأكبر للفلسطينيين، بل امتدت الى قضاء بئر السبع ومدن الساحل واللد التي تسمى مدناً مختلطة، ويُشكّل فيها الفلسطينيون أقلية مقارنة بالمستوطنين. بعد إخفاق قوات الأمن في قمع المسيرات والاحتجاجات، كان لا بدّ من الذهاب إلى خطوة أبعد من جانب دولة الاحتلال، التي لم تكتفِ بنقل وحدات حرس الحدود من الضفة إلى الداخل لقمع الفلسطينيين، حيث زاد عدد هذه الوحدات على 3 آلاف جندي، بل مارست أيضاً التحريض الإعلامي ليتم حشد عصابات وميليشيات المستوطنين، ذات التوجهات العنصرية والفاشية، في وجه الفلسطينيين في تلك المدن وبحماية مباشرة من شرطة الاحتلال، ما أدى إلى استشهاد فلسطينيَين. كما قاد الشاباك حملة اعتقالات مستخدماً أساليب ترهيبية وقهرية بحق المعتقلين وأهلهم ومحيطهم. وبحسب القناة 12 العبرية، استعانت شرطة الاحتلال بوحدات القمع «المتسادا» لملاحقة واعتقال أزيد على 2000 فلسطيني خلال الفترة الواقعة بين 15 إلى 28 أيار (مايو) 2021، وجهت لأكثر من ثلاثمائة منهم لوائح اتهام خطيرة، كما فعَّلَ الاحتلال إجراءات الحبس الإداري بحق الفلسطينيين ليعيدهم بذلك إلى مرحلة الحكم العسكري.
لكن هذين العاملين الأول والثاني، الانقسام والبطش، غير كفيلين وحدهما بتفسير السبب الذي أدى إلى توقّف الهبّة، بل يُضاف إليهما عاملٌ ثالثٌ بالغ الأهمية.
ثالثاً: سكرة النصر
بعد إحساس الشعب الفلسطيني بالعز والكرامة نتيجة الوقوف الصلب في وجه مخططات الاحتلال، فإن كثيرين شعروا بنشوة الانتصار، وهو الشعور الذي لعب الخطابُ الشعبويُ لحركة حماس دوراً في تعزيزه. وقد أدى ذلك إلى حالة من الركون، ذلك أن الإحساس بالنصر يقلل من الشعور بالقهر، ولهذا تجاهل كثيرون الالتفات إلى المرحلة القادمة، التي تحتاج إلى تقييم وتحليل الهبّة والوضع القائم، وتوقّع سلوكيات الاحتلال وأجهزته والإعداد لمواجهتها، ووضع استراتيجية تحرريّة تكفل الاستمرارية.
لم يقتصر هذا الركون على التنظيمات التقليدية، بل امتدَّ أيضاً إلى الحراكات الشبابية التي لعبت دوراً فاعلاً قبل وخلال هبّة أيار. وبدا واضحاً أنه وبعد عام على أيار 2021، ما يزال كثيرون من نشطاء التنظيمات والحراكات يعيشون نشوة تلك الهبّة، دون أن يتم المراكمة عليها لتنتج أثراً يمكن لمسه، ما دفع الكثير من الشباب إلى محاولة إيجاد بدائل خارج حالة العمل الجماعي، وهو ما ساهم في ظهور العمليات الفدائية الفردية مؤخراً. وفي مقابل ركون التنظيمات والحراكات، عادت سياسات وممارسات الاحتلال، التي لم تتوقف وإنما تم التخفيف من حدتها لضمان الانغماس أكثر في حالة الركود والهدوء، حيث ساهم الجهاز القضائي للاحتلال في قضية إخلاء عائلات مقدسية من الشيخ جراح بزيادة جرعات المسكّن من خلال صدور قرارات بمدّ أجل عملية التقاضي، مؤجِّلاً إصدار الأحكام والبتّ في القضية إلى الوقت المناسب للاحتلال. في أماكن أخرى، لم يتوقف الاحتلال عن سياسات التطهير العرقي، كما يحصل في النقب أو ما يسمى «المدن المختلطة» وتحديداً يافا.
رابعاً: بداية مرحلة
ثمة أسباب متعددة دفعت إلى هبّة أيار الفلسطينية العام الماضي: اقتحامات المسجد الأقصى والاعتداءات المتكررة على المصلين فيه، وقرار محكمة الاحتلال إخلاء عائلات مقدسية من بيوتها في حي الشيخ جراح وبلدة سلوان وإحلال مستوطنين مكانها، وحالة التفقير والخنق والحصار المفروضة على الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، في قطاع غزة والضفة الغربية، وحتى ضد الفلسطينيين في أراضي 48. ليست أيٌّ من هذه المسببات طارئة على الوضع الفلسطيني، فممارسات التطهير العرقي والفصل العنصري مستمرة منذ بداية الاحتلال الإنكليزي لفلسطين قبل أكثر من مئة عام. لذلك، فإن اجتماع هذه الأسباب كان هو الدافع وراء تلك الهبّة، وسيكون دافعاً لهبّات وانتفاضات أخرى دون شك.
أما العوامل التي حالت دون انتقال الهبّة إلى مرحلة الانتفاضة: الانقسام والبطش والانتشاء بخطاب النصر، فهي نفسها يمكن أن تكون في جزء منها عوامل تحفيز وانطلاق، لأن القهر والقمع يدفعان إلى محاولة التغيير عندما تكون الظروف مواتية. لقد منحت هبّة أيار عموم الفلسطينيين شعوراً بأنه يمكن تغيير الموازين والأوضاع الراهنة، حتى أنها يمكن أن تكون بداية مرحلة جديدة من الكفاح ضد الاحتلال. وقد ظهرت فعلاً بعض معالم هذه المرحلة الجديدة:
على الصعيد القانوني، يبدو أن معركة إسقاط نظام الفصل العنصري قد انطلقت بعد سلسلة تقارير من منظمات دولية، أهمها تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) وتقرير هيومان رايتس ووتش، بما يحملانه من أهمية إعلامية وقانونية يمكن البناء عليها. تلك المنظمات، كانت إلى زمن ليس بعيداً تحاول قدر الإمكان تجنب إصدار تقارير تدين الاحتلال بارتكاب جريمتي الفصل العنصري والتطهير العرقي، وذلك نتيجة الضغوطات الممارسة عليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية. يبدو اليوم أن هذا قد تغيّر بشكل لا رجعة عنه، وأنه لم يعد ممكناً تبرئة إسرائيل من جرائم الفصل والتطهير.
من أبرز معالم المرحلة الجديدة أيضاً أن الهبّة شملت كل فلسطين: لقد كانت تجربة الكلّ الفلسطيني في هبّة أيار غير مسبوقة، وعلى وجه الخصوص دخول المدن الساحلية واللد على خط المواجهات، وما شكّله ذلك من إرباك للاحتلال.
ولدينا أيضاً عودة الدعم العالمي الذي افتقده الشعب الفلسطيني منذ زمن بعيد، حيث عمت المظاهرات المناصرة للفلسطينيين العديد من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة ودول أوروبية. ويبدو أثر المظاهرات واضحاً من خلال ردّات الفعل ضدها، حيث حاولت السلطات في عواصم أوروبية عديدة التضييق على المتظاهرين، وصولاً إلى منع التظاهر كما حصل في باريس العام الماضي وفي برلين هذا العام في ذكرى النكبة، حتى أنه تم توقيف بعض من ارتدوا الكوفية الفلسطينية من قبل شرطة برلين لعدة ساعات. لقد ساهم هذا الحراك في تعزيز موقف حركات مقاطعة الاحتلال، التي باتت تشكل عبئاً على الدوائر الداعمة لإسرائيل في دول غربية عديدة، حتى أن هناك مساعيَ في العديد من الدول لتجريم الحركة أو تجريم نشاطاتها أو منع مصادر التمويل عنها.
حملت هبّة أيار (مايو) 2021 عناصر يمكن أن تجعلها لبنة أولى لانتفاضة قادمة، تعيد بناء حركة التحرر الفلسطينية على أسس جديدة، بحيث تشمل في امتدادها كل الشعب الفلسطيني سواء على صعيد التوزع الجغرافي أو على صعيد التنوع الإيديولوجي، وتتضافر فيها كافة الجهود من النساء والرجال وكل من يجد نفسه شريكاً في النضال، وتخوض مواجهتها مع الاحتلال من خلال بنى وتشكيلات بديلة عن البنى القائمة التي تعرقل كفاح الفلسطينيين، والتي كانت ولا تزال سبباً في انقسام الشعب الفلسطيني، كما كانت واحداً من الأسباب التي أعاقت تحول هبّة العام الماضي إلى انتفاضة شاملة.