أوضحَ لها بصوت صارم وعينين عابستين أن «الفاميليا» هي أهم شيء في الحياة، وأن الالتزام «أدبياً» تجاهها هو ما يحفظ للمرء وجوده بين أفرادها. كان يستعمل كلمة «أدبياً» تلك بكثرة، كدلالة على أن الالتزام «من الأخلاق» أو «من التأدب». هو الرجل الستيني الذي يخجل أن يحلق ذقنه بعد أن تطول قليلاً كي لا يبدو «شالحاً بالزلط» أو «مسلوخاً» بحسب تعبيره، حيث أن الرجال في مثل سنه لا يليق بهم في رأيه أن تكون ذقنهم حليقة دائماً بالكامل.
الفاميليا، تلك الكلمة السحرية إسبانية الأصل، التي تتردد على مسامعها من كبار العائلة، والتي كان والدها يستخدمها كدلالة على العائلة الكبرى التي تمتد إلى الأعمام والأخوال، يستعملها هو وبضعٌ من رجالات حمص دون أن يُعرَف تماماً من أين استمدوا لفظ تلك الكلمة للدلالة على العائلة بأفخاذها وتجذّراتها. تشعر للحظات أنها تنتمي لعائلة مافيا من أفلام السينما، وليس لعائلة عادية من عائلات حمص التي ما زالت إلى الآن متمسكة بكثير من عاداتها القديمة، إلى درجة تُشعِرها أن جزءاً ممّا تعيشه مُقتطَع من مسلسل باب الحارة، أو في حالة مغايرة كمشهد مُعرَّب ومُخفَّف من فيلم العرّاب.
كان والدها حريصاً على الذهاب إلى منزول «الفاميليا» كل شهر مرة على الأقل، والمنزول هو مكان يجتمع فيه أفراد العائلة للنقاش في أحوالهم وأحوال أقاربهم ممن سافروا أو حتى ممن بقيوا، وذلك لحلّ مشاكل العائلة أو مساعدة من يحتاج منها للمساعدة إن كان بالإمكان ذلك. قبل العام 2011، كان لكثير من العائلات الحمصية منذ عشرات السنين مثل هذا المنزول، يشتريه بعض من الأفراد الأثرياء في كل عائلة من حُرّ مالهم ويجعلونه مقراً للاجتماع الدوري، لا سيما في مناسبات العزاء والفرح. ما زالت بعض من عادات المنزول مستمرة إلى الآن، فمثلاً حين يتوفى رجل كبير في السن وله مكانة في العائلة يبقى المنزول فاتحاً أبوابه أمام المعزّين الرجال لغاية اليوم الرابع، أو «الربعة». تتم دعوة مقربين من المتوفّى إلى «الربعة» حيث يجتمعون ويستغفرون له أو يقرؤون القرآن، ويسبق ذلك أن ينبري أحدهم للكلام عن محاسن الميت وأفعاله الطيبة في حياته قبل أن يبدؤوا بتناول ما سيقدمه أهل الميت من الطعام.
لكن هذا ليس كل شيء.
في العام 2009 تقدَّمَ لفتاة من إحدى العوائل شاب يحمل اسم عائلة غريبة عن المدينة، ووافق والد الفتاة عليه رغم ذلك، وقد كان، وما زال، اسم العائلة من أهم الأمور التي يفتخر أبناء المدينة الصغيرة بها. حين وافق الأب على العريس لم يعجب «عضاوات» المنزول ذلك، فشكلوا وفداً واستدعوا والد الفتاة إلى المنزول وأخبروه أنهم لا يقبلون أن يكون هذا الرجل ذو الكنية الغريبة عن المدينة فرداً من عائلتهم. ردّ والد الفتاة قائلاً: «هل تقدم أحدٌ من أبنائكم لابنتي وقلت له لا؟»، صمتَ «عضاوات» المنزول وتمت الزيجة غير المرضي عنها غصباً عن أنف الجميع. لا يمكن التأكيد بأنّ هذه الحادثة قد تتكرر الآن، لكن لا يمكن إنكار أنّ أموراً مشابهة ما زالت تحدث في المنزول، وبين عصبة العائلة الواحدة، إلى الآن.
لكن بالمقابل، حين أراد شابٌ من عائلة أخرى الزواج من فتاة من طائفة مختلفة لم يتدخل به أحد. كان ذلك منذ عشرين عاماً، حين تزوج الفتاة رغم كونها من طائفة أخرى من دون أي مضايقة تذكر، بل إن أهل زوجته «مختلفة الطائفة»، ساعدوه أثناء السنوات التالية في الحفاظ على عمله وحمايته من النهب، كما أنهم ساعدوه ليحموا أولاده من الذهاب إلى الخدمة الإلزامية أيضاً، وكذلك توسطوا للإفراج عن أحد أقاربه الذي خُطف على يد أحد مجموعات الشبيحة في السنوات التي اشتعلت فيها أحداث الخطف في حمص.
خلال السنوات العشر الأخيرة، تراجع دور المنزول كثيراً وتم إهماله بسبب تهجير الناس وسفرهم ونزوحهم، إضافة إلى وفاة كبار العوائل وغياب من يرثهم في استلام زعامة المنزول، لكن بعد هدوء الأمور بسقوط المدينة كلّها في يد النظام، عاد المنزول ببطء إلى دوره المعهود، حيث استلمه أبناء كبار العوائل ممن يملكون المال والصيت الذائع بين أفراد العائلة. مثلاً، يمكننا أن نروي ما حدث مؤخراً في منزول إحدى العائلات في حمص، حينما اعتقل شابٌ من العائلة وتبين أن الفرع الأمني التابع للنظام الذي اعتقله يريد مبلغاً هائلاً من المال للإفراج عنه؛ تعاونَ المغتربون من أهل المعتقل وتبرعوا بالمبلغ المطلوب للإفراج عنه، وتم ذلك فعلاً.
يمكن أيضاً ذكر حوادث أخرى متفرقة تكررت في أكثر من منزول في وسط المدينة، مثل فقدان سيدة من إحدى العائلات كل ما تملك، وتبرع أعضاء المنزول، خصوصاً المغتربين منهم، بالمال. وكذلك إعارة الأُسَر المغتربة منازل خالية مجاناً لمساعدة أُسرٍ منكوبة من عائلتهم الكبيرة. تختلف تلك الأمور بحسب غنى أفراد كل عائلة ممن يسكنون في بلاد الغربة، وبحسب عدد من يتميزون بيُسْر أحوالهم مقارنة بالآخرين في كلّ عائلة.
حان وقت العودة إلى الفتاة التي كان والدها يتحدث لها عن أهمية «الفاميليا». جاء كلامه ذاك حين أخبرته أنها اتخذت قراراً صارماً بأنها لاتريد حضور المناسبات العائلية لأنها مليئة بـ «النفاق». لا ينسى الأب فضل الفاميليا عليه لا سيما حينما نزح وأسرته عن بيتهم في حي القصور، وهو يؤمن بقيَم الفاميليا كأنها دِينٌ مزاحم لدينه، تلك القيم المتمثلة بالتواد والتراحم والمسامحة والمساعدة عند الإمكان حين تُلمّ بأفرادها الخطوب. استشاط الأب غضباً من كلام ابنته، ولم يوفر حجة لإقناع الفتاة بالغلط الذي ترتكبه بحقه وبحق الفاميليا كلّها إن هي أقصت نفسها عن الواجبات «الأدبية» تجاهها. لكن بالنسبة للفتاة، كل هذه القيم هي كلمات يرددها رجل كبير في السن، ولا معنى لها.
لكن هذا ليس كل شيء.
حين أرادت تلك الفتاة التقدم لوظيفة في شركة خاصة لتؤمّن لها مصروفاً أثناء دراستها الجامعية، سألها مسؤول التوظيف عن كُنيتها، وإن كان أصلهم من حمص أو من أرياف حمص أو أرياف حماة، ذلك أنّ كنيتها موجودة لدى عائلات من طوائف ومناطق أخرى، يعيش بعضها في مدن أخرى وقرى عديدة إضافة لمدينة حمص. حينها أبرق الشرر من عيني الفتاة، وأكدت بأن أصولها وأصول عائلتها من المدينة، بل من «نص» المدينة، وأنها لا تعرف أحداً في الريف أو من طوائف أخرى يحمل الكنية نفسها، مؤكدة أنّ عائلتهم قديمة في المدينة وأنه إذا بحث عنها على الانترنت سيجد أصولاً لها عمرها عشرات، بل مئات، السنين. وبالفعل، فإن قُيّضَ لأحد الحماصنة أن يبحث عن أصول لعائلته في الانترنت، لاكتشف وجود عدد كبير من الكتب تتحدث عن جذور العائلات الحمصية التي تتعدد أصولها، فمنها من تعود جذوره إلى المغرب أو اليمن أو الحجاز أو التركمان أو مدن سورية أخرى، أو أنها سميت بحسب المهن التي كانوا يشتغلون بها، أو الألقاب التي كنّوا بها وغير ذلك. لسنا هنا في مقام التحدث عن جذور العائلات الحمصية لما يحتاجه الأمر من توسع وتدقيق، وليس هذا المقال الموجز مكاناً مناسباً لذلك.
لم تفكر الفتاة في معنى دفاعها المستميت عن اسم عائلتها، وفي الوقت ذاته رغبتها المناقضة بالامتناع عن حضور مناسبات العائلة والتنكّر لها، إلى أن جاءت اللحظة التي تقدم فيها لخطبتها شاب يقطن في ألمانيا من مدينة أخرى غير مدينتها، وهنا وجدت نفسها تتبنى موقف والدها في الخوف من الارتباط برجل لا يملك كنية معروفة بين أهل مدينتها، إذ لا يمكن السؤال عن أصله وفصله، وعن ماضيه وماضي أسرته. يكفيها أيضا ذلك الارتباك حين يسألها أحد معارفها وأقاربها ذلك السؤال الشهير في كل المحافظات السورية تقريباً: «الشب من بيت مين؟». وكتأكيد على أهمية هذا السؤال، يمكن للمرء أن يجد أن تلك المعتقدات ما زالت محمولة في دواخل بعض من تهجّروا خارج البلد ولجأوا إلى دول أجنبية، إذ ما زال بعض الشبان الذين هربوا من الجيش أو من الاعتقال إلى دول غربية يعتمدون على أمهاتهم ليبحثن لهم عن فتيات من عائلات تملك أسماء معروفة في المدينة، بحيث يمكن السؤال عن ماضي الأسرة وماضي الفتاة لكي يتزوجها الشاب المهاجر وهو مطمئن البال من هذه الناحية. لا يمكن تعميم هذا الأمر بالتأكيد، لكنه ما زال موجوداً.
أما بالنسبة للأب الذي يؤمن بِقيَم «الفاميليا» جنباً إلى جنب مع قيم دينه الإسلامي لتتداخل جميعها في داخله، فلا أحد يملك سعادته اليوم، لأنّه كُلِّفَ يوم أمس بالحديث عن مناقب رجل كبير السن توفي من العائلة، يُحسب على أنه مُقرَّب من أحد مشايخ حمص المشهورين. بعد تجهيز الكلمة التي سيقولها في تأبين المتوفى، سمح لنفسه أن يحلق ذقنه، وأن يضع عطراً فاخراً، وأن يرتدي وشاحاً رمادياً قريباً من لون شعره، وأن يرتدي الجاكيت غالي الثمن الذي يليق بالمناسبة. هناك في المنزول، كان قلبه يرتجف مثل جناحي طير، وكان وجهه يتلوّن حينما تَهدَّجَ صوته بالكلام أثناء امتلاء المنزول عن آخره بالمعزّين، رغم الحرّ والعرَق.