لا يخفى على أحدٍ ما تمثّله اللحظة الحالية من تناقضاتٍ عدة، في ظل مرور عقدٍ على الثورات العربية، من صعود الأنظمة السلطوية مرةً أخرى وسيطرة حالة من التحفّز حول ميراث الحركات الإسلامية وجميع الأسئلة الشائكة حول دور ومعنى الدين في ظل هذا السياق. هي لحظة الهزيمة، وكذلك لحظة إعادة التفكير. وبالتالي تصبح محاولة تفادي الانغماس في هذا الجدل، الذي بدأ في القرن الثامن عشر ومازال مستمراً إلى يوم، بلا أي أفق لتجاوز تلك الدوائر المفرغة التي ندور فيها، جزءاً لا يتجزأ من الخراب الذي يسود تلك اللحظة. علينا الاعتراف بأننا فشلنا في مساءلة الجدل الدائر على مرّ عقود، وفشلنا في محاولة التفاوض مع الحركات الإسلامية ومحاولة انتزاع ولو اعتراف بسيط بأن هناك احتمالات أوسع مما تم طرحه، وأنه يمكننا أن ننخرط في العالم دون التخلي عن فكرة الإيمان أو مع إمكانية الاعتراف بآدمية الآخرين الذين يشاركوننا هذا العالم.
ومن تلك النقطة تظهر قراءة سفر أيوب (في سياقه التوارتي-المسيحي)، وقصة النبي أيوب في التراث الإسلامي، كمحاولة لتجاوز المأزق الذي نواجهه الآن، ليس فقط لفتح أسئلة جديدة حول فكرة العدل الإلهي أو غموض الإيمان كفعل، ولكن لمسايرة النص ذاته، بتجلياته المختلفة، والتي قد تعطينا تصوراتٍ جديدةً عن مساراتٍ للتفكير تأخذ في الاعتبار حالة اليأس والهزيمة الحالية، ولكن لا تنتهي عندها.
تثير قصة أيوب أسئلةً عديدة حول فكرة الخلق الأول، وعلاقة الإنسان بالعالم، وتاريخ العهد الذي عهده الله مع آدم وحواء، لتتشابه القصتان في كيفية ربطهما بين حالة الإنسان المثالي (أيوب/ آدم وحواء) وإغوائه (في حالة آدم وحواء) ومسّه (في حالة أيوب) من قبل الشيطان، ليتبع ذلك ابتلاءٌ وشقاء. أيوب، على عكس آدم وحواء، لا يقع في فخ إغواء الشيطان، ولكن في كلتا الحالتين يكون الشيطان هو عامل إفساد حالة النعمة. يظهر ذلك في سردية خلق آدم وحواء، اللذين خرقا العهد بإيعازٍ من الشيطان، فيتم نفيهما إلى العالم ليشقى الاثنان وذريتهما إلى حين. ولكن لا يقتصر شقاء الإنسان على السعي في العالم، بل يبقى هنا خطر الشيطان الذي سمح له الله بإغواء الإنسان. ويصبح الإغواء جزءاً من الابتلاء أو المحن التي تواجه الإنسان لتظهر له حقيقة إيمانه، وتصبح تجربة أيوب نوعاً من إعادة تمثيل تلك اللحظة، ليمتحن الله إيمان أيوب ويكشف عن استحالة فهم أو الإرادة الآلهية أو استيعابها.
من خلال هذا، يبدو لنا أن العهد الذي عقده الله مع آدم وحواء يتجاوز محدودية عهد أو ميثاق جماعة معينة،
لستُ بصدد تفسير لاهوتي حول ذلك الضعف وما يعنيه، ولكن أكتفي هنا بالتأكيد حول فكرة أن الإنسان دائماً ما يحاول تجاوز فكرة فنائه وما يترتب على ذلك من السعي الأبدي للخلود (والذي يترتب عليه نسيان وتناسي العهد. انظر الآية 155 من سورة طه على سبيل المثال. وأن العالم ليس دار قرار، ولكن دار سعي وعمل)، والتماهي مع قد تقدمه تلك المغريات من متعةٍ أو لذةٍ مؤقتة.
وبالتوازي، فإن قصة أيوب وتمسّكه بالصلاح وفعل الخير هي تأكيدٌ على عهدٍ سابقٍ ومتجاوزٍ لمذهب أو حتى دين بعينه. فعند لحظة الابتلاء يقرُّ أيوب بقدرة الله وسلطانه، ويمجد اسم الرب في استدعاءٍ مباشرٍ للعهد الأول الذي عقده الله مع آدم وحواء. وفي سجالٍ طويلٍ مع أصدقائه، يؤكد أيوب أنه حافظ على هذا العهد الذي ارتبط بمساعدة المحتاجين والمهمشين. وينطوي العهد الأول، إلى جانب ذلك الضعف تجاه المغريات (زينة الحياة الدنيا) التأكيدَ على السعي الدائم الذي يشكل حياة الإنسان منذ لحظة ميلاده وحتى وفاته (الآية 4، سورة البلد). يصبح العالم مسؤولية الإنسان (الآية 72، سورة الأحزاب) حتى مع ذلك التهديد الدائم من الشيطان، وتلك المغريات التي قد تُلهي الإنسان عن دوره ومسؤوليته.
إن مفهوم الأمانة يتّخذ هنا منحىً سياسياً-أخلاقياً لا يمكن تجاهله، وهو أيضاً منحىً سابقٌ على أي جماعة أو رسالة، فجميع الآيات التي تشير إلى حالة الخلق تستخدم لفظ «إنسان»، وليس «مؤمنين» أو «مسلمين»، ولا تقتصر على ذكر جماعةٍ بعينها أو دينٍ بعينه. وبالتالي تصبح مسؤولية الإنسان عن العالم وحمله الأمانة هي حالة خارج أي حالة إيمانية أو حتى اعتراف برسالة أو عقيدة ما. وهذا يتماشى كذلك مع قصة أيوب، فأيوب، كما أشرنا، لا ينتمي إلى الجماعة اليهودية بشكلٍ واضحٍ أو مباشر، ولا حتى يظهر أنه يتبع مذهباً أو «ديناً» بعينه. وهذا لا ينفي عنه المسؤولية، ولا يعني أنه ليس لديه وعيٌ بضرورة فعل الصواب أو الخير، حتى بعد لحظة البلاء والأذى.
لا يعطي سفر أيوب حلآً لمشكلة الشر، بل يأتي رد الله من الغمام
تعيدنا وجهة النظر تلك إلى المربع صفر. فإذا كان هناك إجماعٌ على استحالة فهم الحكمة الإلهية، وإذا كان هناك إجماعٌ كذلك على أن الله لا يُسأل عما يفعل، وأن في جميع أفعال الله حكمة لا يستطيع الإنسان إدراكها، يصبح إيجاد مسوغاتٍ وأسبابٍ لإرادة الله محاولةً محكوم عليها بالفشل على أحسن حال. وهذا لا يعني غياب بُعدٌ حُكمي يمكن تتبّعه لفهم تصرفات الله في العالم
ما تفعله قراءة السفر، وبالتوازي سرديات الخلق في النص الإسلامي، هي إعادة الإنسان مرةً أخرى إلى العالم. لا يفترض النص التوراتي أن الله سيكشف عن مكنون حكمة أفعاله وما يحكمها من منطق أخلاقي أو ما شابه، فيذهب النص إلى تأكيد عجز الإنسان التام عن الإلمام بإعجاز القدرة الإلهية. وفي النص الإسلامي يظهرُ إغواء الشيطان وإفساده لإيمان الإنسان محكومٌ أيضاً بسلطان الله وإرادته، وما يتبقى من جميع تلك السرديات المختلفة للخلق في النص القرآني هو -مرةً أخرى- ردّ مبدأ حتمية التصرف والفعل للإنسان. وهذا ما أعنيه من حالة الخلق وما ينتج عنها من رخاءٍ وهناء يتبعها شقاءٌ وسعي (تماماً كما في قصة أيوب)، تردُّ الإنسان في النهاية كفاعلٍ في العالم، له دائماً مساحةٌ من التصرف والاختيار في ما يمكنه فعله في ظل تواجده ومعاصرته لهذا العالم.
تظهر في غياب الارتباط الشرطي بين قضاء الله وعمل الإنسان، وبين مسؤولية الإنسان وصعوبة (أو استحالة) فهم أو تأويل إرادة الله، معضلةٌ أخلاقيةٌ بالأساس عجزتْ التياراتُ الإسلامية ومناوئوها عن الرد عليها أو تفسيرها. فما أنتجته الحركات الإسلامية من تصورات تعكس التسطيح المُخل لإرادة الله
يصبح فعل الخلق وربطه بمكانة الإنسان في العالم هو قدرة الإنسان على الاستجابة لذلك العالم، لتصبح الأخلاق مجرد عملية مبنية على التخلّق
فمن ناحية، تصبح قدرة الإنسان على الاستجابة والتخلّق صفةً أساسية، لاحقةً لحالة الخلق الأولى (إبداع الله للإنسان بدون مثالٍ سابق)، فقابلية الإنسان على إدراك محيطه وتقرير ما يجب عليه فعله وما لا يجب فعله من آثار، وتأثير على من حوله، هو ما يُعرّف «خُلقه» وأخلاقه. فالقدرة على تشكيل طبعَ الإنسان بما يدركه وتغييره هو تعريفٌ للخلق ي
وعلى صعيدٍ آخر، يصبح معيار الأخلاق هو المروءة؛ من الكرم والإنسانية، والذي من شأنه إسباغ أهميةٍ مركزية لربط معيار الصواب والخطأ بتأثير أفعال الفرد على غيره من البشر. فلا تقتصر الأخلاق فقط على قابلية الإدراك والتغيير، ولكنها تجذّر مفهوم الخلق في بعدٍ إنسانيٍّ مشترك، فلا تنفصل معايير الأخلاق عن كونها محكومةٌ بالأساس بالخاصية الاجتماعية للإنسان، فلا أخلاق لفردٍ غير معني بتأثير ما يفعله على من حوله، بل يأتي معيار الإيمان والدين، في كثير من تقاليد الحديث، في تأكيد على أفعال المؤمن اليومية وما تنتجه من آثار على غيره، كالمعيار الحقيقي للإيمان
وبالمقارنة، تظهر المعضلة الحقيقية للحركات الإسلامية فيما طرحته من نماذج للتقوى والصلاح، والتي ركزت بشكل أساسي على تعريف «شكلي-طقسي» لما يمكن أن يكون تعريفاً عضوياً ومباشراً للصواب أو الصلاح. وهنا يكمن النقد الأساسي لنماذج الإصلاح الاجتماعي التي قدمتها الحركات الإسلامية على مر العقود الأربعة الماضية. فتم الربط بشكل مباشر وآني بين التمسك بالشعائر والطقوس وتغيّر أخلاق المجتمع بشكل جذري. يضاف ذلك إلى ذلك إصرار الإسلاميين على تعريف، أو بمعنى أصح، احتكار تعريف ما هو الدين الصحيح، وما هي الجماعة المؤمنة، في مواجهة صريحة مع الدولة وإصرارها هي الأخرى على تأميم المجال الديني وتعريف ما هو «الإسلام الصحيح».
لم تتجاوز نماذج الإصلاح التي قدّمتها الحركات الإسلامية التصور الأداتي للالتزام بشعائر أو طقوسٍ بعينها، وما قد يتبعه من الاعتقاد بإعادة تشكيل أشكال التفاعل الاجتماعي؛ هو أولاً تمييزُ الجماعة المؤمنة عمن حولها (فيتم وصم غير الملتزمين وغير المؤمنين، وما يترتب على ذلك من مآسي العنف والاستباحة للأقليات الدينية)، وثانياً غياب فكرة الأخلاق ذاتها بربط الفعل بنتائجه كما أشرنا. فتقوى الإنسان الشخصية لا يمكن الحكم عليها في هذه الدنيا إلا بما تنتجه من آثار على من حوله (مثلما رفض أيوب الاعتراف بأن سبب البلاء هو عدم تقواه، فأخذ يعدّد الأعمال الصالحة التي كان يقوم بها، وكان جلها مرتبطاً بشكلٍ أساسي بمساعدة مَن حوله من المحتاجين والمهمشين). ومحاولة تحييد مثل هذا الحكم أو تأجيله بالإصرار على أن الالتزام بمجموعةٍ من الطقوس أو العبادات الشكلية هو المعيار الأوحد أو الأهم، وهو ما يُظهر حقيقة إيمان أحدهم، وما يترتب عليه من مردودٍ آخَرَوي، هو ما أحدث الانفصام الذي نراه الآن.
إن شمولية الرؤية التي قدمتها التيارات الإسلامية المختلفة حول تحويل تصورٍ أوحد للدين إلى برنامج سياسي واجتماعي متكامل (مبني بالأساس على ذلك الالتزام الشكلي-الطقسي الذي يشكّل هوية محددة)
ليس لأحدٍ معرفة ما يخبئه الله لعباده (من جزاء أو عقاب)، وبإجماع أغلب طوائف ومذاهب المسلمين لا يوجدُ أي إنسان لديه السلطة في تحديد أو معرفة الجزاء الآخروي لأحدهم. يبقى كل ذلك في علم الغيب وضمن حكمة الله التي لا يكشفها لأحد، ويبقى لنا إعادةٌ النظر في فهمنا لمعنى الإنسانية والمروءة وارتباطهما المباشر بسلوك وأفعال البشر (وليس التزامهم الديني من عدمه)، وبعض التواضع في الحديث عن إدراك حكمة الله والحديث بالنيابة عن تلك الإرادة والمشيئة الإلهية. كما تجلى الله في الغمام لأيوب، في السفر، ولم يكشف عن سر معاناة وابتلاء أيوب، ليؤكد على غموض الإرادة الإلهية
تفتح قراءة سفر أيوب، بما تثيره من أسئلة حول معنى أو مغزى العمل، وإشكاليات تعريف الإيمان بشكلٍ مباشرٍ أو مُحددٍ سلفاً، مجالاً لتجاوز أفق النقاش القائم بالفعل، وتدعونا لأن نفعل مثل أيوب، فنفكر ونعلن أن جميع الإجابات التي طُرحت لم تعد تجيب على أسئلة اللحظة، وأن علينا أن ندرك أن «خلق» مساراتٍ جديدةً للتفكير ومحاولة استنطاق تراث كبير من الأفكار، هما التجلي الحقيقي لمعنى الأخلاق التي، كما عرفها وتعارف عليها العرب، لغةً وفعلاً، دائماً ما كانت في حالة تشكل وتطور بما يطرأ على المجتمعات وشعوبها، وفي استجابةٍ مباشرةٍ لذلك، وليس في انفصالٍ عن أيٍّ منهما.