وضعوني في زنزانة انفرادية. على الأرض شابٌ مرميّ، لا يقوى على الحركة، قال إن اسمه أبو بدوي، يصيح طوال الوقت من الألم، بدا أنه يحتضر.
أنا محمد دوبا، مقدم برنامج «لعبة ورق» والبرنامج الصباحي على قناة الدنيا، سابقاً.
كان يوم عمل عاديّاً لي في التلفزيون، ذهبتُ صباحاً إلى مقرّ القناة في مدينة المعارض على طريق مطار دمشق، أنجزت مهامي، تناولت الغداء مع زملائي في كافتيريا القناة، وفي تمام الخامسة مساء غادرت.
مصادفة، لم أستقلّ حافلة التلفزيون يومها، واصطحبني مدير الكافيتريا بسيارته ليقلّني إلى بيتي في جرمانا. ثمة ثلاث مفارز أمنية داخل مدينة المعارض، الأولى على باب القناة، والثانية على بعد مئتي متر، والثالثة عند الباب الخارجي لمدينة المعارض. حين وصلنا هذا الباب، تلكّأ الحراس في فتحه. توقفنا لدقائق، ثم خرجنا. في الطريق الفرعي اعترضنا أربعة مسلحين، طلبوا مني وحدي الترجل من السيارة، حاولتُ لعبَ دور مذيعٍ ذي حظوة، يعمل في قناة مدعومة من الدولة. قلتُ: لا بدّ أنكم مخطئون، لا تعرفون من أنا. عندئذٍ، فتح عنصرٌ ضخمٌ بابَ السيارة، وباغتني البقية بإمساكي، وضعوا يديَّ خلف ظهري، كبّلوهما بقيد بلاستيكي ضاغط، عصبوا عينيَّ بغطاء، أحنوا رأسي بين قدميّ، وضعوني في الكرسي الخلفي من سيارتهم. جرى كل ذلك بسرعة كبيرة، كأنه جزء من الثانية.
لم أكن متأكداً من هوية الخاطفين، وكلّما حاولت الاستفسار إلى أين يقتادونني ضربني الجنديّ الضخم بعقب بندقيته على رأسي. أخبرته أن القيد البلاستيكي يحزُّ يديّ ويُدميهما، لكنّ الجواب كان دائماً بكعب البارودة. بدا ساديّاً، يتلذذّ بإيلام أحدهم.
بعد زمن طال، لعلّه نصف ساعة، توقفت العربة. أجبروني على النزول. تتعذّر الرؤية عليّ مع غطاء العينين، لكنْ أخالُهُ مكاناً قفراً، لا صوت فيه. انتظرتُ مصيري، سيطلقون النار ويرمون جثتي. ثمة ما يوحي بذلك: مكان خالٍ، وجنود مسلحون يلقّمون بنادقهم. بعد قليل، رموني في السيارة مجدداً. نصف ساعة أخرى، أو هكذا أَحسبُها، في العربة، ثم وصلنا مكاناً آخر.
أُوقِفتُ في العراء زمناً، يصعب تحديده، لعلّه ساعة. أخيراً أبصرتُ شيئاً، من أسفل العصابة، ضوءاً وبوطاً عسكرياً جديداً اقترب. بدأتُ أشعر أني في باحة فرع أمني، أو شيء من هذا القبيل. حين وقف أمامي، أخبرته أن يدي تنزف من القيد، فأرخاه قليلاً. لم أرَ العسكريَّ ذا الصوت اللطيف، أعتقد أنه شابٌّ يؤدي الخدمة الإلزامية. قدّم لي إحدى أغلى الهدايا في حياتي: أراحني من ضغط القيد اللئيم ونزفِ معصمي.
لاحقاً، خضعت لتفتيش، ثم أدخلوني غرفة تحقيق، ونزعوا عن عينيّ قطعة القماش. وجدت رجلين في الخمسينيات، أظن كلّاً منهما «صف ضابط» برتبة مساعد. استجوباني بطريقة روتينية، ثم سخرَ مني أحدهما، قال: أنت تقدّم برنامجاً فنيّاً على قناة الدنيا، شاهدتُه، برنامج تافه، يستضيف الشراميط، أعرف هؤلاء الممثلات وكيف يدخلن الوسط الفني، جميعهنّ شراميط.
نصف ساعة، أو أقل، استمر هذا الاستجواب، ثم غطّوا عينيّ مجدداً، وأوقفوني في الخارج. بعدها ذهبوا بي إلى مكان جديد. حين نزعوا العصابة هذه المرة، وجدتُني أمام باب حديدي، فكّوا قيدي، وطلبوا مني نزع رباط الحذاء، ثم أدخلوني زنزانةً انفرادية.
عند فتح باب الزنزانة، رأيت جثة على الأرض، ثم أُغلق الباب، ولم أَعُد أُبصِرُ شيئاً. حلّ ظلامٌ دامس.
سمعت أنيناً من الجثة، ثم تحركَتْ قليلاً. كنتُ تحت تأثير الصدمة، عاجزاً عن التفكير أو الإحساس بشيء. سألني: ليش اعتقلوك؟
قلتُ: ما بعرف.
سأل: شو بتشتغل؟
أجبتُ: صحفي.
ثم صرخ متألماً. شعرتُ أنّ صوته يخرج من جُبٍّ عميق في جسده، لا من حنجرته.
قال: يعني اعتقلوك زلّة لسان ولا زلّة قلم؟
رددتُ ثانية: ما بعرف.
حاول جرّي إلى الكلام بأسئلة أخرى، لكنّ إجاباتي بقيت مختصرة. ما زلتُ مذهولاً بالموقف.
ثم بدأ بسرد قصته. أخبرني أن اسمه أبو بدوي، من معضمية الشام، اعتقلوه خلال مظاهرة، قبل نحو شهر. عذّبوه خمسة أيام، ثم رموه بهذه الحالة، غير قادرٍ على الحركة، لا يستطيع الوقوف، أو الجلوس، يظلّ مستلقياً على ظهره طول الوقت.
عباراته القصيرة، مصحوبة بأنين دائم، وتقطعها صيحات من الألم، أصابتني بالقشعريرة، رغم ذهولي.
الجو بارد كأنّ سكاكينَ من الجليد تخترق أجسامنا. نحن في منتصف الشهر الأول من سنة 2012. أحسبُ أن جدران الزنزانة الإسمنتية تُخزِّنُ البرودة، إذ إن داخلَها أشدُّ برودة من خارجها. أجزم أن درجة الحرارة تحت الصفر بعدة درجات. كأننا في ثلّاجة، بمساحة مترين بنصف متر، لا شيء فيها سوى بطّانيتين، وشبه جثة، وأنا.
طلب مني أبو بدوي إغلاق سحّاب السُّترة التي يرتديها. لا يقوى على إغلاقه. أظنُّ التعذيبَ بالصعق الكهربائي قَطَعَ التروية عن كفيّه، وتورّمت أصابعه، وربما تلفت أعصاب يديه، لا أدري، ما أعرفه أنه لم يعد قادراً على الإمساك بشيء.
سألني من جديد: ما الأخبار؟ كيف حال الثورة؟
أجبته أنْ لا شيء مهماً حدث منذ تفجيري كفرسوسة اللذين تعرفهما، بُعيد وصول وفد المراقبين من الجامعة العربية. قال: أيّ تفجيرين؟
يا إلهي! هل يُعقل أنه لم يسمع بهما؟ وقعا قبل نحو ثلاثة أسابيع، تحدث عنهما زعماء دول ووسائل إعلام عالمية. كيف يعرفهما أناس في بلاد بعيدة ولم تصل أخبارهما إلى هذا الثقب الأسود في قلب دمشق؟
عقَّبَ قائلاً: لا أعرف شيئاً عن العالم الخارجي منذ اعتُقلتُ، لا أكلّم أحداً أو يكلّمني. ما مِن وسيلة لديَّ لأعلم أي شيء.
بقيتُ في الزنزانة مدة، لا أستطيع تحديدها، لأن الإحساس بالزمن انعدم في ذلك الثقب الأسود، لكن لا أظنها تجاوزت ساعتين.
بعدها أخرجوني، فكّوا قيدي وغطاء العينين. اصطحبوني إلى غرفة للتصوير، صوّروني من كل الجهات، ثم اقتادوني إلى مبنى جديد. أدخلوني مكتباً محترماً، يجلس وراءه رجل خمسيني بشارب أسود، كُتب أمامه: العميد عبد السلام محمود. هناك رجلٌ آخر في الغرفة، بِزيّ مدني، يجلس على أريكة جلدية.
طلب مني العميد الجلوس، ثم قال بنبرة السؤال: لدينا معلومات أنك معارض. ونظر إليّ منتظراً تعليقي.
اصطنعتُ البلاهة لثوانٍ، حتى يتسنى لي التفكير في الإجابة.
ثم قلت: لا بدّ أنها معلومات غير دقيقة. أدعمُ بعض المطالب الاحتجاجية، لكنني لست ضد الدولة.
قال: لا تَخَف. لا مشكلة لدينا في الآراء المختلفة. لك الحق في امتلاك موقف معارض. نحن فقط نريد أن نعلم، خاصة أنك مذيع في قناة الدنيا.
ثم أكّد مصادر معلوماته، وأنهم يعلمون موقفي جيداً، وأني أتحدث ضد النظام مع زملائي في القناة، هم فقط يستضيفونني لأتحدث بصدق معهم. أضاف: بالمناسبة، أنا من إدلب، وأتفهّمُ خروج الناس في مظاهرات، لا مانع لدينا، نحن فقط ضد العنف والإرهاب.
حافظتُ على كلامي، مع تجنّب إظهار موقف شديد التأييد، لأنه سيكون مكشوفاً. كنتُ أَستخدمُ مفردات عامة، مثل: الدولة، والبلد، والوطن. أقول مثلاً: أنا مع الوطن. لستُ معارضاً للدولة. أنا ضد الإرهاب. أرفض الفوضى.
خلال التحقيق، أظهرَ العميد ورقة صغيرة، وجدوها خلال التفتيش، كنتُ نسيتها منذ أيام في محفظتي، كُتب عليها «بشار»، وبضعة جُمَل غير مكتملة، لكنّ الواضح أن السياق العام ساخر. كانت في الحقيقة مسوّدة فكرة قصيدة. قال العميد: ما هذه؟
أجبت: مشروع قصيدة.
قال: واضح أنها ضد الرئيس.
حاولت النجاة بعبارات ملتوية، قلت: الشعر مبني على الضبابية، لأن المباشرة تقتل الشعرية في القصيدة، لذلك فإن المعاني في النص مجازية، والشعر، كما تعلم، يقوم على الانزياحات اللغوية. العبارات الشعرية ليست مكتملة، وهي قصيدة للدفاع عن الوطن.
نظر الرجل الآخر في الغرفة إلى وجهي مليّاً، أَفترضُ أنه مُحقِّق، ثم قال: نحن مو شعراء، بس نحن جماعة معنا شهادات.
مع تواصل الاستجواب، بدأتُ أُظهِرُ موقفاً صريحاً موالياً للنظام، حتى أعلنتُ في النهاية دعمي لبشار الأسد بالاسم.
لاحقاً، أخذني المحقق إلى غرفة أخرى، وبتنا وحدنا. طلب مني تعبئة أوراق عن حياتي، بكل تفصيل فيها، منذ ولدتُ حتى اليوم. هناك معلومات غريبة مطلوبة، موغلة في التفاصيل، مثل: أسماء إخوة زوج عمتي، زملائي الذين جاوروني في المقعد الدراسي خلال المرحلة الابتدائية. أوراق كثيرة ملأتها، متمنيّاً ألا تخونني ذاكرتي.
بعد الانتهاء من هذه الأوراق، أخرج المحقق قائمة بالأرقام الأجنبية في جوالي. أذكرُ أن رقم فيصل القاسم مذيع قناة الجزيرة كان من بينها. أوضحتُ أني احتفظت به منذ سنة 2009، إثر مشاركتي في تدريب لمركز الجزيرة الإعلامي، وأنْ لا تواصل بيننا على الإطلاق. كان اسمه تهمة. عشرات الأرقام الأجنبية حقَّقَ معي بخصوصها، لأصدقاء وأقرباء يتمّون دراسة أو عملاً في دول أخرى.
من بينها أيضاً رقم لقريبي، سألني المحقق: مَن نضال؟ أجبت: خالي.
المحقق: أين يعيش؟
أنا: في سوريا
المحقق: أنت تكذب. رقمه أجنبي.
انتابني خوفٌ، وأكّدتُ: لا. صدّقني. هو في سوريا.
بعد أخذ وردّ، سمح لي بالنظر إلى قائمته، كان الرقم مسبوقاً بالرمز الدولي لسوريا (00963). يحصل هذا أحياناً في الجوال، لسبب أجهله. بعض الأرقام المحلية تُحفظ مع رمز شركة الاتصالات مباشرة، مثل: 0933، أو، 0955. لكنّ أرقاماً أخرى تُحفظ مسبوقة بالمفتاح الدولي لسوريا (00963). لذلك اعتقدَ المحققُ أنه رقمٌ أجنبي!
استمرَّ التحقيق حتى الفجر، ثم نقلوني إلى غرفة للمبيت. بدت غرفة للعساكر. ليست سجناً.
في اليوم التالي، أُحضِرتُ إلى مكتب العميد مجدداً. أخبرني أنهم استضافوني للدردشة فقط، متمنياً عليّ التعاون معهم لمصلحة الدولة.
أعلمته أن العنصر الضخم الذي اعتقلني كان قاسياً جداً. فقاطعني العميد موضحاً: لقد كان محترماً معك جداً. ليس من عادته ذلك.
أُخرِجت إلى غرفة في الباحة، سلّمني ضابط (أو ربما مساعد، لستُ متأكداً) رقمَ هاتف، وطلب مني الاتصال عليه لإعلامهم بأي أمر مريب أَلحظه. ما فهمته أن خروجي مشروط بالعمل مُخبِراً لمصلحتهم، لم يقل ذلك صراحة، لكنّ كلامه وشى بذلك.
أعادوا إليَّ محفظتي وجوّالي، ومن ثمّ أوصلتني سيارة إلى شارع عام. استقليّت بعدها سيارة أجرة، ورجعتُ إلى المنزل.
في اليوم التالي لخروجي، علمتُ أن اعتقالي كان في مطار المزة العسكريّ، وأن العميد عبد السلام محمود هو رئيس قسم التحقيق في شعبة المخابرات الجوية بسوريا. وبدأت أسترجع مؤشرات تهديد كانت واضحة خلال الشهور الماضية.
منذ اندلاع الثورة، طغى الولاء المطلق لسياسات النظام على كل مواد التلفزيون، لم يتوقف الأمر عند نشرات الأخبار والبرامج السياسية، بل تغلغل في البرامج المنوعة والاجتماعية وحتى أخبار الرياضة.
وصلت تعليمات لرسم سياسة القناة التحريرية، صدرت من عدة جهات، منها وزارة الإعلام التي وجهت إلى أن الجيش ومقام رئيس الجمهورية خط أحمر.
لكن الطرف الأكثر تحكماً بسياسة التلفزيون كان القصر الجمهوري. ثمة خطّ هاتفي مباشر بين المكتب الإعلامي للقصر ومدير الأخبار حينها، عماد سارة، الذي أصبح وزيراً للإعلام فيما بعد.
تَرِدُ التوجيهات عبر الخط المباشر، أو عبر الاجتماع في القصر، ومن ثم يتولى مدير الأخبار توجيه مُشرفي غرفة الأخبار، ويتابع هؤلاء التنفيذ بتوجيه المنتجين والمحررين.
مكتب بثينة شعبان مستشارة بشار الأسد، كان يرسل أوامر مكتوبة حول المواضيع واجبة التغطية في النشرات والبرامج.
أحد الزملاء في غرفة الأخبار طُلب منه ذات مرة إعداد تقرير عن مسيرة الإصلاح، فسأل مدير الفترة الإخبارية عن النقاط التي يجب أن يتناولها في تقريره، فأعطاه المدير ورقة واردة من مكتب مستشارة الرئيس تتضمن المحاور التي يجب التركيز عليها.
فروع المخابرات لعبت دوراً أيضاً في التقارير التي تُعرَض. اللقاءات مع «الإرهابيين» و«المخربين» كانت تصل في معظمها مُصوَّرة جاهزة من فروع الأمن، أو من الإدارة السياسية في الجيش، دون تدخل من القناة، أي أن دور التلفزيون يقتصر على عرضها كما وردت من الأجهزة الأمنية.
في تلك الفترة، طُلِب من جميع المذيعين والمحررين إنتاجُ تقاريرَ تنفي وجود مظاهرات مناهضة للسُلطة، تتحدث عن «الأمن والأمان».
أذكر أن زميلة ذهبت مرة إلى حي الميدان الدمشقي بُعيد خروج مظاهرة هناك، لكنها وجدت رجال المخابرات بعد فضّ المظاهرة وحملة اعتقالات، وتحدثت في تقريرها عن سير الحياة الطبيعية دون منغصات، مُنكِرةً وجود أي حراك في الشارع، وقطعاً، أيَّ اعتقالات أو إطلاق نار من قِبَلِ قوات النظام. عندما عادت الزميلة من مهمتها حدّثتني وزملاء آخرين، عن امتعاضها من هذا التقرير المُدلِّس، الذي أُجبرت على تصويره.
امتنعتُ عن إعداد تقارير مماثلة، بذريعة انشغالي ببرامج أخرى. رفضتُ أيضاً التعليق الصوتي على موادّ إخبارية أو سياسية. بعض الزملاء من منتجي الأخبار والبرامج، كانوا أصدقاء، تستّروا على آرائي. آخرون كانوا على ارتباط بأجهزة المخابرات، تجنّبتُ زلّات اللسان أمامهم.
لكنّ التهرّب من عملي الرئيسي بوصفي مذيعاً كان صعباً. في حلقات البرنامج الصباحي، الذي كنتُ أقدّمه رفقة زميلة، استضفنا فنانين، تكلّم معظمهم عن «المؤامرة الكونية» التي تستهدف سوريا، في إشارة إلى أي نشاط معارض. بعضهم كان شديد «التشبيح الفكري»، إلى درجة يصعب احتمالها. في لقاء مع الممثل بشار اسماعيل، لم أحتمل كلامه عن «القائد العظيم» بشار الأسد، فقاطعته وطلبتُ منه الحديث عن آخر أعماله الفنية!
في حلقة أخرى من البرنامج الصباحي، حيّتْ المذيعةُ «الجيشَ العربي السوري البطل»، وأطنبت في مديحه، وحين جاء دوري قلتُ: صباح الخير، صباح الحرية. ثم أكملتُ التقديم. كانت كلمة «حرية»، خاصة في هذا السياق، تهمة.
مرة طلب مني مدير الفترة الصباحية الإخبارية تسجيل التعليق الصوتي لموجز إخباري، لأن مذيعي الأخبار لم يكونوا موجودين، فرفضت، وأخبرته أني لن أسجل أخباراً كاذبة تسمي المتظاهرين إرهابيين.
مع مرور الوقت وتوالي الأحداث، صار موقفي المناصر للثورة معلوماً لكثير من الموظفين، خاصة مع انزلاقي للحديث مع موظفين شديدي الولاء للنظام، بعضهم معروفون بارتباطاتهم الأمنية. علمتُ لاحقاً أنّ عدداً منهم كتب تقارير للمخابرات ضدي. في الحقيقة كانت القناة تعجّ بموظفين من عائلات أمنية: بنات وأبناء وزوجات وأقرباء ضباط في أجهزة النظام المخابراتية والعسكرية. أثناء جلسة ودية بين مجموعة من العاملين في القناة، قال لي أحدهم إنه يتمنى لو حمل بندقية وتوجه إلى المظاهرات كي يقتل المشاركين فيها جميعاً. سألتُه: ألا تعتقد أنّ بعضهم قد يكونون أبرياء؟ أجاب: كلّهم يستحقون القتل!
منذ منتصف عام 2011، بدأت تصلني رسائل التحذير. في البداية، بعثتْ إدارةُ القناة إنذارات لي عبر بعض الزملاء، من أنّ أذىً ما سيطولني إنْ لمْ أتبنَّ سياسة التلفزيون في الولاء المطلق للسلطة. لكنّ منحىً تصعيدياً اتخذته الإدارة لاحقاً.
أواخر صيف سنة 2011، قَدِم عناصر من المخابرات الجوية إلى مكتب المدير العام فراس دبّاس، وعند خروجهم استدعاني الأخير. أبلغني أنهم جاؤوا في طلبي، لكنه «حماني»، وقال لهم: هاد من طرفنا ومعنا. ثم أكمل: تدور أحاديث كثيرة حولك، وشُبهة كونك معارضاً. عليك أن تُظهِرَ ولاءَك للدولة. ثم اتصل برقم ما، وأعطاني جواله، قال: هذا مسؤول كبير وشخصية مهمة، أخبره عن دعمك للبلد في مواجهة المعارضة التي تريد تخريب سوريا. لم أعرف مع من أتحدث، لكنني أكدّت لهذا المسؤول ولائي للدولة، كما طلب مني المدير العام.
تلا ذلك بأسابيع، حادثٌ آخر. ناداني المدير الفني، وقال: قبل قليل كنّا في اجتماع، تحدث فيه محمد حمشو (المالك الرئيسي للقناة)، وأبلغنا ضرورة الالتزام بخط القناة التحريري، وأنّ تصرفات جميع الموظفين يجب أن تُظهِرَ الدعم الواضح للنظام. ثم أضاف حمشو: لو جاء الآن محمد دوبا، ومزّق صورة الرئيس بشار الأسد المعلّقة هنا، فإننا مسؤولون عن تصرفه هذا، لأنه محسوب علينا.
أكمل المدير الفني: لقد ذكرك بالاسم أمام عشرات الموظفين، رغم غيابك، وفاجأنا بهذه القصة المفترضة. هذه رسالة واضحة لك.
أما التهديد الأكثر وضوحاً، فكان حين التقاني محمد حمشو في التلفزيون، وأخبرني شخصيّاً أنني مطلوب لأجهزة المخابرات. قال: طلبوك كذا مرة، بس نحن حميناك، وأعلمناهم أنك معنا. لو كنتُ مكانك لَخِفْتُ.
قلت: لكنني لم أفعل شيئاً يستدعي الخوف.
ردّ: كل شخص لديه ما يخافه، الموت مثلاً.
كان تهديداً. ضمنيٌّ لكنه واضح، أنّ الموت ليس ببعيد عني إنْ لم أُعلِن تأييدي الصريح في عملي للنظام.
لاحقاً، حين وضعوني في زنزانة أبو بدوي، كانت الرسالة الأخيرة: مصير أبو بدوي ينتظرك إن لم تعمل وفق رؤيتنا.
خلال تلك المدة، ومع تكرار رسائل الوعيد، سعيتُ إلى مغادرة سوريا، لكنّ مشكلة تخلّفي عن الخدمة الإلزامية وقفت عائقاً أمامي، إذ كان عملي في قناة الدنيا حائلاً دون سوقي إلى الخدمة العسكرية. حاولتُ الحصول على تأجيل إداري كي أستطيع السفر. استطعت تأمينه أخيراً، لكن اعتقال المخابرات الجوية باغتني قبل أن أتمكَّنَ من السفر.
بعد خروجي من مطار المزة العسكري بأيام، غادرتُ سوريا، ولم أتمكن من العودة حتى الآن، مثل ملايين السوريين.
مضى على هذه الأحداث أكثر من عشر سنوات، لكنني ما زلتُ نادماً على إجاباتي المختصرة مع أبو بدوي، تمنيتُ لو تحدثتُ معه أكثر، ولو أني أخذتُ عنوان أهله كي أخبرهم بمكانه. علمتُ منذ سنوات، عبر مجموعة على فيسبوك، أنه تُوفّي داخل المعتقل، أو قُتِل على وجه الدقة.
بعد أكثر من عقْدٍ لم يبرح صوتُ أبو بدوي مسمعي، أسمع أنينه كلما ذُكِر المعتقلون. أتحسّرُ على كلامي الكسول معه، وأتذكّر أني نجوتُ مصادفة من مصير مشابه.