عن اللغة
قليلة هي اللقاءات التي تحدثتَ فيها بالعربية، هل اعتدتَ على التحدث بالإنكليزية كونك انطلقت في مسيرتك من برلين وبتَّ أقدر على التعبير بها؟
منذ أن كنت في سوريا، كنا نهرب من التعبير عن بعض المصطلحات أو قول بعض الكلمات بالعربي. كنا نهرب منها أو حتى لا نفكر بها، لأنها مرتبطة بوصمات عار مجتمعية. عندما يفكر المرء ببعض المصطلحات التي تنطبق على مجتمعنا، كانت تبدو منفرة. كان أفضل بالنسبة إلي أن أُعبّرَ عن نفسي باللغة الإنكليزية، ولهذا السبب طورت لغتي الإنكليزية أثناء فترة دراستي. تأقلمتُ مع هذه اللغة لأنني كنت أعرف أنني في وقت من الأوقات لن أبقى في سوريا.
كنت تعرف أنك ستغادر سوريا يوماً، قبل حتى 2011؟
منذ أن كنت مراهقاً، أول حلم بالنسبة الي هو كان أن أغادر وأسكن في بيروت، حسب ما كان شائعاً حينها هو أن بيروت أو لبنان بالعموم مكان متقبل أكثر للمثليين والمثليات، ففكرت، أوك… أريد أن أسكن هنا ومن الممكن أن تكون حياتي أفضل. طبعاً هذا قبل أن أكتشف أن بيروت لها مشاكلها الكثيرة أيضاً، مثلها مثل جميع الأماكن في العالم.
بالعودة للغة، هل العلاقة بها مرتبطة بمجتمع متقبِّل وآخر لا؟ بمعنى صارت الانكليزية لغة أمان؟
شيء من من الأمان والحرية، وارتباطٌ بما هو «تقدّمي». هذا الكلام ليس صحيحاً بالضرورة ولكن كنا نفكر حينها على هذا النحو، أن كون الشخص مثقفاً أكثر يعني أنه سيتفهم الأمور التي يصعب الحديث فيها باللغة العربية أو في مجتمعاتنا لأنها مرفوضة فيها، سواء كانت الموضوعات مرتبطة بالنسوية أو أي شيء يتعلق بالحريات. كان هناك شعورٌ بالرفض لها، وكان هناك خوف من نقاشها وشكٌّ في أن يستوعبك الشخص الآخر، الموضوع مستمر حتى الآن بالنسبة لي بما يخص التعبير بالعربية.
حتى الآن، تشعر أن التعبير عبر منصات ناطقة بالعربية أصعب؟
100%. حتى الآن الفكرة موجودة، الإفصاح بلغتي الأم أصعب. لذلك المقابلات والمواضيع التي تحدثتُ فيها بالعربية قليلة جداً. أو ربما هي واحدة فقط لأكون أدق، على قناة دويتشه فيله، وحتى حينها كنت متردداً للغاية وكوني أقدمت على هذه الخطوة كانت بالنسبة لي لحظة قوة. شعرت أن شيئاً كهذا يجب أن يتم فعله، بغض النظر عمّا يفكر به الناس ورأيهم. العالم بدها تفكر هيك ولا هيك شو ما عملت وشو ما حكيت، لذلك يجب أن أبدأ بالحديث وتوجيه كلامي لمجتمعي العربي. في ظرف خمس أو ست سنوات نشطت فيها هنا استطعتُ تأسيس مجتمع داعم ولكنه غربي أكثر. برأيي النقطة القادمة هي أن أعمل على سمعتنا، وفننا كمجتمع كويري عربي لا تجاه المجتمع الغربي بل العربي. اليوم مثلاً، هذه المقابلة هي خطوة أخرى بهذا الصدد وهذه الخطوات ليست سهلة.
عن سوريا
نشأتَ في سنوات عمرك المبكرة في سوريا، وهي تجربة تحمل تحديات لأي شخص لا ينتمي لما هو سائد، أي الغيري/ المعياري في هذا السياق. كنت غير قادر على التعبير عن هويتك كما أي أحد آخر، ولكن إلى جانب ذلك، هل هناك ما تذكره بشكل إيجابي؟
بالتأكيد وبالنسبة لي ذلك أمر مفروغ منه. بغض النظر عمّا عشته وقاسيته، هناك الكثير من اللحظات الحلوة سواء كان مع العائلة أو أصدقائي أو بالحواري. عشت طفولة ومراهقة أعتبرها جيدة إلى حد ما. والدتي كانت تعمل كثيراً بأقصى طاقتها لتؤمن مستوى معيشة جيد بما يكفي لِئلّا نكون أنا وإخوتي بحاجة شيء، على مستوى التعليم والمتطلبات اليومية أو أياً مما يمكن أن نتمناه كطبقة دخل متوسط، بعتقد أني عشت حياة حلوة. لا يمكن أن أنكر ذلك ولا أن أنساه.
أثّرَ فيّ وأثّرَ على شخصيتي وكياني كيفية تعامل أمي مع الأشخاص الآخرين. كانت نصيحتها لنا: مين ما كان الشخص اللي قدامك كون كويس معه. بالتأكيد لم يكن كل شيء سيئاً. عندما بدأت أستوعب هويتي وأشياء أكثر عن نفسي في سنوات المراهقة هنا بدأت تحديات التعامل مع المحيط الخارجي تظهر بشكل أوضح. وكنت أنا، لن أقول ساذجاً، لكن كنت كما أنا الآن لدي الكثير من الأمل أو الإيمان بالإنسانية وهذا تأثير أمي.
كنت أميل بالسليقة لأكون صداقات مع من هم ضحايا تهميش أو تمييز، دون أن أدرك حينها وجود أي شيء مختلف بيننا. كنت معتاداً أن أذهب فور انقضاء اليوم الدراسي، لقضاء بقية النهار مع والدتي بالصالون أو بالشغل عندها. هي غيرت مكان الصالون عدة مرات، في كل مرة كنت أؤسس صداقات وعلاقات جديدة. كل حياتي تأسيس لأشياء جديدة، مرة استأجرت والدتي صالوناً بحي الشيخ ضاهر، بنص اللادقية، والشيخ ضاهر كان حياً معروفاً بتنوع الأديان وهاد الشي ما كنت بعرفو لمّا كنت صغير، عرفت ذلك فيما بعد. في ذلك الحي، في شارع 8 آذار، أذكر كان أصدقائي من السنة والمسيحيين، وأنا علوي، لم يكن ذلك مهماً حقاً حتى بدأت الحرب، شيئاً فشيئاً، تجعلنا نفهم ماذا يعني سني أو شيعي أو ما إلى ذلك.
كان هناك تنوع دائماً في طفولتي، وكان هناك دائماً ما هو جديد لذلك اعتدت على أنه لا وجود لشيء ما دائم، ومن أهم ما يمكن فعله أن يكون المرء عطوفاً قدر الإمكان تجاه من هو أمامه، لأنني تعرضت كثيراً وفي هذه الأحياء، مثل أي منطقة في العالم، تعرضت للتنمر، والطريقة التي واجهتها بها هي أن أكون أفضل منهم، حتى ألّا أتعامل معهم كأشخاص «حقيرين» أو سيئين.
هل شعرت بالغبن، لأنك اعتمدت هذه الطريقة، وربما عرضتك للظلم؟
نعم ولا. أفكر أحياناً لماذا حدثت معي أشياء كهذه؟ ولكن بالمقابل، لأننا في ذلك المجتمع فكان من الحتمي حصول ذلك معي ومع أي شخص آخر. وحتى أشعر بأنني صاحب امتياز إلى حد ما، أنني عشت طفولة مع أمي، طفولة جيدة. حدثت ذات الأمور لكثيرين ولم تكن أمهاتهم أو شخص من العائلة عطوفاً معهم أو علّمهم العطف. فبغض النظر، صحّ أني كنت أفكر لماذا يحدث ذلك معي، لم أكن أبكي أو أتحسر. كنت أتقبل الموضوع وكنت أرى طرقاً أخرى لحلّ القصة.
لحدّ الآن أكره للغاية عندما أرى أحداً يستسلم لسردية أو موقف أو تأطير دور الضحية، خصوصاً في الظرف الحالي إن كان مهاجراً هنا مثلاً. أرى أن فكرة ولعبة الضحية هذه مكرورة للغاية وانتهى زمنها. منذ أن كنت مراهقاً، عندما كنت أفكر بأنني أريد أن أعيش في مكانٍ آخر. وهذه أيضاً تعلمتها من أمي، أنني بطبعي أريد أن أكون مستقلاً، أحب الاستقلالية لذلك أكره أن أكون عالة على شخص آخر أو حتى فكرة.
عندما كنت مراهقاً بدأت تراودك فكرة العيش بمكان آخر برّة البلد…
الهرب.
الهرب، وفكرت حينها بالانتقال لبيروت لسُمعتها كمكان آمن وأكثر حرية، ولكن لم تكن لديك أي فكرة أنك ستكون تحت الأضواء أي لم يكن خيار الهرب للفن وارداً. لم تكن فكرة الرقص موجودة بحياتك؟
أبداً، حتى عندما وصلت إلى هنا، حتى فكرة أن أكون على المسرح أو تحت الأضواء لم تكن موجودة ولم أفكر فيها أبداً. في البداية عند مغادرتي، مهمتي الوحيدة كانت أن أُرضي أهلي حتى يطلّعوني لهون أو يسمحولي. مع العلم أن ما جعلني أسافر هو إصراري على المغادرة، وضعتهم أمام الأمر الواقع. قلت لهم: سأسافر برضاكم أو لا. والأفضل برضاكم. عندما سافرت كان هدفي أن أحصل على الشهادة وأن أدرس وأنهي دراستي الجامعية وأحاول العمل على بزنس بين البلدين، وأُخرِجَ أهلي من البلد. هذه كانت الفكرة ولكن بعد أن عشت هنا وصارت حياتي منفتحة أكثر، أو استوعبت أنني لست مضطراً لأعيش حياتي لشخص آخر ولا أن أعيش كذبة كما كنت أفعل في سوريا ولا أن أقدم تنازلات بطريقة تصرفي أو تفكيري.
ترافق هذا مع بداية ذهابي لحفلات الدراغ شو مع فهم فكرة الحرية الفنية. عندما بدأت أحضر العروض وأفهم. بالتأكيد كنت أعرف ما هو الدراغ من قبل حتى في سوريا قبل القدوم إلى هنا، إلى برلين، كنا نحضر برنامج رو بولز دراغ ريس (RuPaul’s Drag Race)، كان لطيفاً. يمكنني القول إني تعلمت الكثير حتى حينها عن كوني شخص كويري. ولكن مع قدومي إلى هنا ورؤية العروض بشكل حي لا على التلفزيون، عندما كنت بمكان واحد أنا وفنانات وفناني الدراغ، شكّلَ ذلك نوعاً من الترابط مع المجتمع الذي وجدت نفسي فيه، وعندما دعتني زميلتي، جودي، إلى المسرح بشكل عفوي، عندها فقط بدأت الفكرة تداعب خيالي بأن أكون على المسرح. لماذا؟
لا أنكر أنه كان لدي حلم على الدوام، أن أقدم أداءً أو أكون على المسرح أو أرقص. عندما كنت مراهقاً كنت أحضر برامج تلفزيونية، مثل أرابز غوت تالنت أو أميريكاز غوت تالنت أو سو يو ثينك يو كان دانس، هذه البرامج لمستني بطريقة فنية كما لم يفعل برنامج آخر. نعم إذاً كانت لدي الفكرة، ولكن عندما كنت هناك كان حلماً بعيداً جداً. أكثر من كونه قابلاً للتحقق. ولكن عندما أتيت إلى هنا، وحدث أن قُدّمَتْ لي الفرصة على طبق من ذهب. قلت لم لا. رغم ترددي في البداية، كنت خائفاً، لأنني أنا نفسي لم أكن بعد قد عالجت عدة أفكار. كانت لدي أفكاري المسبقة حتى تجاه نفسي! أن أؤدي وأصعدَ على خشبة المسرح وأعمل أشياء هي تابو. فكرت: ما هذا الذي أفعله؟ لذلك كان الأمر صعباً في الفترة الأولى ولكن خطوة عن خطوة أصبحتُ أكثر ارتياحاً مع نفسي ومع جانبي الأنثوي، ومرتاحاً مع الشخص الذي أكونه، وذلك جلب المزيد والمزيد من المرح والحرية. وكل ذلك بدأ صدفة.
عن الدراغ والهوية الكويرية
بدأتَ كضيف يقدم فقرة فنية في دراغ شو ولكنك لا تعتبر نفسك فنان دراغ؟
لا أعتبر نفسي فنان دراغ تقنياً، ولكن بغض النظر هناك عناصر من الدراغ فيما أقدمه، أنا أستلهمُ كثيراً من هذا الفن، وأنا بدأت فيه فعلاً كراقص ولكن بغض النظر هناك عناصر مستلهمة من الدراغ شو. الميك آب مثلاً. تعلمت ما أقوم به خطوة بخطوة، لأني في بداية مسيرتي كنت أركز عالحركة وكنت بحاجة لتطوير هذا الجانب، الآن أركز على عناصر من المظهر كالميك أب أكثر. لدي احترام كبير لفن الدراغ، أعتبره فناً كويرياً، كله على بعضه، سواء كان النمط الذي أقدمه أو الصيغ الأخرى، هو فن كويري، ولكن هناك تعقيدات كثيرة حتى يكون الواحد 100% مؤدي أو فنان دراغ، وليست لدي هذه الصفات أو مكمّلات الأداء مثل ارتداء باروكة أو الـ padding – خلقُ وهمٍ بوجود أرداف وحوض عريض – أو تغيير شكل الجسم أو خلق إيحاء بهذا التغيير. بعض الناس تعتبر ما أقوم به دراغ، حتى من مجتمع الدراغ والدراغ كوينز الذين أعرفهم، وربما لأن مفهوم الدراغ اليوم هو مظلة واسعة والكثير يتسع تحتها.
تحدثت عن تغيير شكل الجسم، ولو بشكل وهمي، وتبادل الأدوار الجندرية. أداؤك على المسرح فيه هذا المزيج بين الذكورة والأنوثة. هل كنت واعياً لذلك أم أتى بشكل عفوي؟
واعٍ جداً. في بداية مسيرتي عندما ارتديت اللبس الرجولي للرقص الشرقي لم أكن مرتاحاً فيه أبداً. هو عبارة عن بنطال مزخرف وتوب أو كروب توب حتى تظهر جهة البطن والخصر أو بدلة كاملة. هذا هو الزي الرجولي. حاولت ارتداء بنطال وتوب. لم أشعر أنني مرتاح ولم أشعر أن هذا أنا. ثم بدأتُ أرتدي تنورة وفضّلتُ أن أكون عاري الصدر. ببساطة كانت الحركات تظهر بشكل أفضل. لم أكن خائفاً من شعر صدري ولم أكن خائفاً من إظهاره. لم أكن خائفاً من إظهار جوانبي الأنثوية والذكورية معاً، وهو أمر فهمته جيداً من قبل وتعزّز فيَّ أكثر. اكتشفت أنني لست أحادياً، لأنني أتَقبُّل أنوثتي وذكورتي. هناك فهم خاطئ أن الشخص يجب أن يكون إما كذا أم كذا، هايبر الأنوثة أو هايبر الذكورة. على الشخص أن يستوعب ويتقبل الجانبين. كلاهما جانب مني وأنا كلاهما. ليس عليَّ محاربة جانب لصالح الآخر وليس عليَّ أن أقدم تنازلات لصالح الآخر. هذا المفهوم تمّت ترجمته في لباسي والطريقة التي أقدم بها شخصيتي على المسرح. حتى الآن لا زلت أجري اختبارات لإيجاد الصورة المناسبة لجسدي. وهي دورة مستمرة من التعلّم.
قدمتَ عروضاً وشاركت في حوارات ذات طابع ناشطي وحقوقي، أنت في الأصل تقدم فناً لدواعي الفن نفسه ولكنك أيضاً ناشط فيما يتعلق بحقوق مجتمع الميم-عين، كيف ترى العلاقة بين الاثنين؟
في بداية عملي، لم أكن أفكر بهذه الأمور. كنت أفكر بالأمر كتعبير عن الذات وكطريقة للتعامل مع مشاعر ورضات معلّبة قديمة. لم أكن أفكّر أبداً أن ما فعلته له صدى أو ارتداد أو معنى أكثر مما هو عليه بحد ذاته. شيئاً فشيئاً بدأت استوعب فكرة أنني ولمجرد الصعود على المسرح، لا أقدم شيئاً خاصاً بي فقط أو أعبر عن نفسي، بل كذلك عن الكثيرين ممن يمكن أن ينظروا إلي ويقولوا: بيوم من الأيام سأكون حراً كما هذا الشخص، أو أن يتم تحفيزهم على التعامل مع بعض المشاعر أو الأشياء التي نرفضها في أنفسنا. وبالتدريج بدأت أفهم أكثر العلاقة بين ما أقدمه وبين معنى ما أقدمه.
هناك طبقات كثيرة تكونت لديَّ كشخص، من ست سنوات بألمانيا وقبلها عشرين سنة في سوريا. هناك أشياء لا أزال أستوعبها أو أحاول استيعابها. الناشطية لا تنفصل عمّا أقدمه، لأنني أرى في الموضوع مسؤولية. فهمت الموضوع من ثالث أو رابع عرض. هناك مسؤولية كبيرة حُمّلت عليّ أو أنا حَمَّلتها لنفسي لأنه لا يكفي الاحتفاء بالثقافة والابتعاد عن الأمور المعقدة. أحاول قدر الإمكان أن أكون موجود جسدياً وعقلياً بما يفيد المجتمع لا أن أكتفي بالصعود للمسرح والرقص.
هناك من يستلهم مباشرة إن رآى عروضك كما قلت، قد يقول أستطيع أن أكون حراً كما هذا الشخص، أيضاً بوجودك في هذا المكان وتحت الضوء ربما تساهم في كسر الرقابة والحصار عمّن يريد التعبير عن نفسه بحرية، أن يرى الآخرون أن هذه التجارب موجودة وعليهم تقبل الموضوع.
هناك فكرة برأسي دائماً، بما يخص مجتمع الميم عين، فكرة حول مسألة أن نطلب من الآخرين أن «يتقبّلونا». بالنسبة لي لا أحد مضطر لتقبلي، لكني أطلب أن تحترمني كما أحترمك رغم عدم تقبلنا لبعض، بغض النظر عن خلفيتك أو تفكيرك. لا ضرورة أن يقوم المرء دائماً بالمسامحة أو التقبل. لا… مانها شغلتك، ولكن الاحترام هو المهم بالنسبة لي. هي أول خطوة أو أول درجة يمكن للمرء أن يتحدث منطلقاً منها.
ما أراه غريباً هو أنه وحين يوجد أي أمل ولو صغيراً ليكوِّنَ إنسانٌ وإنسانٌ علاقة جيدة، أجدهم يلجأون للدين ويضعونه كأساس معاملة بين الناس. ما دخل الروحانيات بالعلاقات بين الناس؟ حتى اليوم أشاهد مقابلات في العالم العربي لمجتمع الميم عين يأتون بضيف ومن ثم يأتون بشيخ أو رجل دين كي يتعامل معه كضيفٍ آخر. هذا غلط. الموضوع يتحول إلى شأن ديني. وهو ليس شأناً دينياً بل مرتبط بالإنسانية والمجتمع، أي باحترام حرية الشخص، ولا دخل للأديان.
عن برلين
أنت موجود في برلين منذ ست سنوات، بدأت تكون علاقة معها كمدينة – موطن؟
هي المدينة التي خُلقت فيها من جديد من كافة النواحي، ليس مجرد شخصية الدرويش، ولكن كأنا أيضاً. بنيت فيها مسار عمل، ومجتمع، العائلات المختارة التي أتحرك ضمنها. خلقت ذكريات جديدة. إنها موطن. أؤمن أنها موطن أكثر من أي مكانٍ آخر. كل مدينة زرتها أو كل بلد رزته لم أرَ ولم أشعر كما أشعر هنا، فقط هناك فكرة في بالي. صح أنها مدينتي أو بيتي ولكن في نقطة معينة، وكما حدث في سوريا سابقاً، عند نقطة معينة عليّ أن أغادرها. أؤمن. بالنسبة لي كشخص وكفنان. لأتطور عليّ أن أعيش في مكان آخر وربما المكان الآخر قد يتطور ليصبح منزلاً أيضاً. وحتى حينها موطني ومنزلي هو هنا ولكن لنرى ما سيحدث. كلها رغبات بعد وأمنيات متفائلة. على مستوى العمل أود تجربة الحياة في نيويورك وسان فرانسيسكو أو سويسرا.
هل برأيك تشكّلَ هنا في برلين مجتمع كويري، عربي على وجه الخصوص إن لم نقل سوري، مع روابط تضامن بين أفراده أم أنها حالات فردية وتجمعات صغيرة أكثر من كونها شبكة تضامن وحماية؟
أرى أننا بعيدون قليلاً عن الوصول لهذه المرحلة، أن نقول أن هناك مجتمع كويري عربي بحق هنا، لأننا ببداية فترات تأسيس حياتنا وبشكل فردي، الأهم بالنسبة لمعظمنا هو خلق مجتمعات دعم ومحبة خاصة بنا كأفراد. رغم ذلك حاول البعض العمل على هذا الموضوع، ولكننا بعاد شوي لسا. تحدثنا من قبل عن العائلات المختارة (chosen families) مثلاً عائلتي المختارة فيها فرد فقط من لبنان، البقية من كافة أنحاء العالم ولكن مو عرب.
إلى حين أن نستوعب أكثر «ما نحن؟» وما هو كياننا، لن نستطيع استيعاب أي شخص ثاني وسيكون صعباً أن نؤسس هذه الشبكة. ممكن أن ما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو عدم وجود أماكن حتى نجتمع ونناقش ما يجب مناقشته، معظم العرب ممن أراهم وألتقي بهم يكون مكان اجتماعنا في الكلوب، ويكون تفاعلنا على مستوى سطحي. كيفك شو أخبارك، نرقص قليلاً وانتهى الأمر. لو كان هناك تنظيم أكثر كان ممكن أن الشخص يعطي طاقة أكثر.
إذاً أنت تؤمن بأهمية تجمعات من هذا النوع؟
ليست لدي قاعدة ثابتة أو منحوتة في الصخر بهذا الصدد، هناك عدة طرق. فنياً، يمكن أن يكون المرء ضمن تجمع فني ويقدم أعماله أو أن يعمل على نحو فردي، وتبقى هذه التجمعات موجودة إن احتجت إليها. كل إنسان حر أن يكون فرداً بعيداً، لكن إذا بقي الشخص منعزلاً بنفسه – ومعظم الأشخاص هم هكذا – لن يبقى هناك نقطة تواصل لتحسين الأمور.
من فترة كنت أفكر أنني أريد تأسيس جمعية في ألمانيا للسوريين الكويريين، لا أظن أن هناك واحدة. من المهم وجود جمعية كهذه وبغض النظر من هو موجود بها. من المهم وجودها لنتحاور ونتحدث فيما بيننا. وألّا نبقى بعيدين عن بعضنا ونتحدث عن الآخرين عوضاً عن أن نتحدث معهم. ولكن كوني منشغل بأمور كثيرة شخصياً ومهنياً، لم أخطو بعد باتجاه تنفيذ هذا المشروع الذي يتطلب مسؤولية كبيرة والتي أعتبر نفسي ملزماً بجزء منها كما وضحت من قبل لدى الحديث عن موضوع الناشطية. وهو أمر آخذه على محمل الجد. خفت أيضاً ألا ألقى تجاوباً ببساطة.
ماذا عن المحيط الألماني، مع وجود امتيازات مثل تسليط الضوء بسهولة على الفنانين المهاجرين وحصولهم على فرص أكثر، هل ترى أن هذا الامتياز يأتي مع شيء من التهميش أو جوانب سلبية كأن تُعامَل فقط بناءاً على هذه الهوية؟ أي أن تريد أن تقدم فناً شرقياً فقط لا أن توصف بجمل مثل «رغم مأساته يقدم البهجة». هل تشعر بهذه الجوانب السلبية مع الامتياز، وأنك تُؤطَّر حتى لو لم تُرد ذلك؟
ذلك ما حدث حرفياً. أول سنة أو سنتين كانت هذه السردية قد وضعت، ولم أكن سعيداً بها، شعرت أن الناس لم تركز على العمل أو المجهود أو الرسالة بل ركزت على فكرة شخص معذب، شخص «شاف الأسى» وأنا من اليوم الأول لم أُعرّف عن نفسي كلاجئ. في الفترة الأولى كان هناك سردية كهذه وربما تقبلتها قليلاً لأن جزءاً منها واقعي، أنا لاجئ ولا أنكر ذلك ولكن هذا الشيء ليس هويتي ولا يعرّفني ولا يجعلني من أنا. بمجرد أن كلمة لاجئ موجودة على باسبوري ذلك ليس من يصنع مني ما أنا. ولكن اليوم أنا لا أعرف أو أُحَدَّد بهذه السردية لأنني عملت وبذلت الجهود لأدافع عن رسالتي وعن الفن، وأدافع عمّا هو مهم فعلاً وهو القوة الكامنة وراء النجاح ووراء الرسالة وبغض النظر عن الصعوبات، الطريق التي يسلكها المرء لتخطي هذه الصعوبات هذا ما يجب أن يركز عليه المرء، لا شعور الشفقة.
سوريا بلد حاضر دائماً في المشهد الإخباري. هل تشعر أنك مطالب بنقل صورة من صور الصراع عند حضورك في جلسات حوارية هنا مثلاً، بالمختصر هل تشعر أن هناك دوراً ما لك في الحديث عن سوريا؟
معظم الوقت عندما تأتيني أسئلة كهذه، أحاول الإجابة عليها. أعتبر أن هذا هو واجبي، أحاول أن أجيب بطريقة منصفة للسؤال. دون مساس بالحقائق ولكنني أحاول أن أجيب، بالنهاية هذا واقع. أحكي تجربتي كما عشتها. ولا أخفي آرائي بما يحدث. لست معنياً بالسياسة بشكل خاص، ولكن عشت هناك فأنا جزء مما يحدث ولي صوت بما يحدث. عندما كنت بسوريا كنت مثلي مثل الكثيرين، في اللاذقية خصوصاً كنت «مؤيد للعضم» خصوصي كمراهق، لم أكن قد خرجت برّة سوريا ولم تكن فكرة الديكتاتورية برأسي حتى. كيف كنت مؤيد وكيف كنت أطلع مسيرات تأييد وصيح فيها متلي متل كتير أشخاص، مغسولين ربما. كنت جزءاً من هذا المشهد، ولا أخفي هذا الجانب من سيرتي. ثم خرجت برا البلد واستوعبت أنه.. أف، لأ!
لستّ ممن يقولون «افصلوا الفن عن السياسة».
كنت. للآن لست شخص سياسي ولكن لمجرد صعودي عالمسرح وتقديمي لما أقدمه هو أمر مرتبط بالسياسة. إن شئت أو أبيت. حضوري هو موقف سياسي خاصة في بلد مثل ألمانيا. كنا نتحدث عن طبقات وطبقات لوجودي لا أستطيع إنكارها. هي جزء مني جزء من قصتي، عليَّ أن أتقبلها. وعليَّ أن أتعامل معها بشكل مختلف في مواقف معينة. ولكنني متصالح مع ماضيّ. في نقطة معينة كنت مؤيداً، مثلي مثل كثيرين لا أشعر بالعار من هذه المرحلة لأنها ماضٍ. ولكن أتمنى أنني فكرت بطريقة أفضل أتمنى لو كانت بعض الحقائق واضحة أمامي. كنا مغسولين ولحد الآن هناك ناس مغسولة. لا يعني ذلك أيضاً أنني مع الطرف الآخر، لأن الطرف الآخر ارتكب أفعال مروعة بدوره. لست هناك أيضاً ولست مع أي فعل يدعو لنفي أو عزل أي شخص أو القتل. إنها الدائرة نفسها وهي ليست المسار الصحيح.