لطالما حضرت العلاقات والتوجهات الجنسانية اللامعيارية – الغيرية كموضوعاتٍ للرصد والتأمّل والتوظيف في وسائط تعبير وتَفكُّر مختلفة، من الأدب إلى السينما وحتى ميدان التراشقات السياسية أيضاً، ويزداد هذا الحضور وضوحاً مع مرور الوقت، سواء كمساحةٍ قائمة بذاتها أو في حوارها وتفاعلها مع العلاقات الغيرية. تنوعت أساليب وصيغ تناولها لتضعها مرة تحت ضوء التحليل الفلسفي والنفسي المتعمق وتأخذها مرة أخرى إلى ساحة مقارعة القيم المحافظة عن طريق الاستفزاز في أعمالٍ ساخرة. تقرأ هذه المقالة في عدة تجارب فنية وأدبية وسياسية، وكيف تناولت العلاقات المثلية وعلاقتها بالغيرية باختلاف منظور وسياق كل منها.
التحقير بالتأنيث مقابل الشتم بالتذكير
في مقالٍ له بعنوان عن ستالينية بوتين وما يخفيه تلميحه عن اغتصاب أوكرانيا، يكتب سلافوي جيجيك: «علّقَ فلاديمير بوتين في مؤتمر صحافي، في السابع من شباط 2022، على عدم رضا الحكومة الأوكرانية عن اتفاقية مينسك بالقول: ’سواء أعجبكِ أم لا، إنه واجبكِ يا جميلتي‘ لهذا التعلّيق دلالات جنسية معروفة: يبدو أن بوتين يُشير إلى مقطع من أغنية الجميلة النائمة في تابوت لفرقة البانك روك السوفييتية العفن الأحمر، وتقول كلمات الأغنية الأصلية:
الجميلة النائمة في التابوت، تسللت إليها وضاجعتها
سواء أعجبكِ أم لم يُعجبكِ، نامي يا جميلتي
على الرغم من أن ممثل الكرملين الإعلامي زَعمَ أن التعبير ليس سوى مَثَل فولكلوري قديم، تبقى الإشارة واضحة إلى أوكرانيا، بوصفها موضوعاً لرغبة الاغتصاب ومُجامعة الموتى. وفي معرض ردّه مرّةً على سؤال صحافي غربي، في مؤتمر عُقد عام 2002، قال بوتين: ’إن كنتَ تُريد أن تُصبح إسلامياً متطرّفاً، وكنت مستعدّاً للخضوع للختان، فأنا أدعوك إلى موسكو. نحن بلدٌ متعددة المذاهب، ولدينا أخصائيون في هذه المسألة – الختان – سأوصي بتنفيذ العملية، بحيث لا يُمكن لشيء أن ينمو بعدها‘. تهديد سوقي حقاً بالإخصاء».سلافوي جيجيك، عن ستالينية بوتين وما يخفيه تلميحه عن اغتصاب أوكرانيا، ترجمة سولارا شيحا، موقد جريدة القدس العربي، 4 مارس 2022.
إنها عودة إلى الستالينية كما يصفها جيجك، السيادة – الذكورية المتسلطة والعدوانية. إنها فكرة بوتين عن الجنسانية، بوتين بخلفيته الأمنية – المخابراتية، يصعب عليه تخيل الشتيمة الجنسية على نحوٍ كوميدي. بالأدق، الجنس في هذا السياق عملية سرية للغاية ومحاطة بالجدية والتركيز، وحتماً تسود خلالها أجواء تراجيدية. لكن الشخصية الواقفة على الطرف المقابل، والتي وجِّهت لها الشتيمة، بعد أوكرانيا، هو الرئيس فلودومير زيلينسكي، الممثل الهزلي سابقاً، لذا، فإننا أمام نقيضين في المهنة، وفي التوجه الفكري للشخصية، والأهم، فيما يخصّ مقالنا، إزاء اختلاف حتمي في إدراك الجنسانية.
في حكاية فيلم ومسلسل خادم الشعب الكوميدي من بطولة فلودومير زيلنسكي، يرشح طلاب وطالبات جامعيين أستاذ مادة التاريخ، صاحب الطباع الصارمة والأخلاقية والخطابات الوطنية، إلى رئاسة الجمهورية، ويصورون له الفيديوهات في محاضراته وهو يتحدث عن الفساد وعن قلقه حيال مصير الوطن أوكرانيا. يواجه الرئيس الجديد السلطة الأوليغارشية المرتبطة بروسيا، والتي اعتقدت بإمكانية جعله دمية بيدها. ينتهي الفيلم بمصير استشرافي لما سيحدث مع الرئيس الحالي، مع تقسيم أوكرانيا، وفشل الرئيس في إنقاذ البلاد من سلطة الأوليغارشيا.
تتضمن المقارنة بين رجل المخابرات «بوتين»، وممثل الأداء الهزلي «زيلينسكي» على مستوى التوظيف الجنسي-الجدلي، نقائض عديدة، أبرزها أن المواجهة بطرق الشتيمة كانت مختلفة كلياً. الشعار أو الهتاف والذي تحول إلى أغنية في العام 2014، هو بوتين خويلو (Пу́тин хуйло́)، وتعني في اللغة الروسية والأوكرانية: «بوتين قضيب»، انطلق بعد أن استعمله جمهور مدينة خاركيف في مباراة ضد رئيس نادي كرة القدم، ثم ما لبثت أن تحوّر إلى مهاجمة وشتم بوتين، وساهم أحد مشاهد مسلسل خادم الشعب في تكريس استهداف هذا الهتاف لبوتين. الشتيمة هنا تكرس الصورة الذكورية والسادية لبوتين، وقد تبنتها منذ العام 2014 عدد من الفرق الروسية والأوكرانية، وأُدرجت جملة «بوتين خويلو» في قاموس أوربان (urban) الإلكتروني العالمي للعبارات الشائعة. في المقارنة بين السياقين نرى كيف استخدم رجل الأمن بوتين التأنيث هازئاً بهدف التحقير، بينما استخدم رجل المسرح والتمثيل زيلينسكي القضيب كرمزٍ للتسلط والعدوانية، والغباء أيضاً.
العواطف المثلية وسطوة الذنب التراجيدي
يعتبر الأديب الألماني هرمان هيسه من أبرز الكتاب الذين تطرقوا إلى موضوعات مشاعر العشق المثلية، وتعد روايته نرسيس وغولدموند نموذجاً من الأدب الرفيع الذي يجمع موضوعات العشق المثلي مع أسئلة الفكر وخيارات الإنسان الوجودية. نرسيس المتعلم والمتقن للغة الإغريقية سيصبح مدرساً رهبانياً بسرعة قياساً نظراً لقدراته الفكرية المتميزة. أما الشخصية الأخرى -غولدموند – فيدخل الدير كأحد تلاميذ العلم ليصبح طالباً عند نرسيس، وما تلبث أن تتشكل بينهما علاقة تتجاوز كل رغبة في التواصل الفكري أو المساعدة المعرفية والحياتية: «كان غولدموند متأكداً طوال الوقت أن نرسيس يحبه، ويشاركه ألمه، ومستعدٌ للتخفيف عنه. وكان تفكير نرسيس منشغلاً بغولدموند أكثر بكثير مما كان يحلم هذا الأخير، كان يتمنى لو أن هذا الصبي المحبوب النضر، صديقه، أن يرى فيه جزأه المقابل والمكمل له، تاق للنفاذ إلى روحه، لقيادته، لإنارة عقله، ورعايته وإبرازه إلى الوجود».صفحة 27 من الرواية. أما عن الجهة المقابلة، أي الشعور العشقي من طرف الطالب نحو الأستاذ، نقرأ في الرواية: «كان مما يتنافى مع طبيعته أن يرى في صديقه تناقضاً وتضاداً. فقد تبدى له أن ما ينقص هو فقط الحب، فقط تفان مطلق وصادق، يجعل اثنين في واحد، ويمحو كل الفروق، لبناء جسر بين كل التناقضات. ومع ذلك فكم كان عنيداً وواثقاً واضحاً ومتصلباً، هذا النرسيس، فقد كان يرى في أن هبات الحب الطبيعية وغير الضارة، التشرد الممتع معاً في فيافي الصداقة والرغبة، بدت أشياء مجهولة».صفحة 36 من الرواية.
لا شك أن هرمان هيسه يعالج الميل العشقي المثلي كنوع من المشاعر النبيلة الإنسانية، لكنها مشوبة بالإطار التراجيدي، فالذنب الحاضر دوماً في الميل الجنسي، يحضر أيضاً في أدب هرمان هسه: «ليس مطمئناً، على الرغم من أنه لا الشهوة العارمة ولا الزنا هما السبب في شعوره أحياناً بالقلق والكآبة: بل شيء آخر، لا يعرف له اسماً، هو شعوره بذنب لم يفعل أي شيء ليبرره، حزن يجلبه البشر معهم إلى العالم. لعله ما يسميه اللاهوتيون الخطيئة الأولى، نعم في الحياة ذاتها يكمن نوع من الذنب، وإلا فما الذي يدعو رجلاً نقياً مثل نرسيس إلى الانهماك في التوبة، وكأنه مجرم؟ ولماذا يرغب أن يراه غولدموند عميقاً ومتجذراً في ذاته».الصفحة 104 من الرواية. وفي مجريات الرواية يتحول غولدموند إلى الغيرية: «كان غولدموند آخر قد حل منذ زمن طويل محل الفتى الرقيق المحبوب، فقد أيقظه نرسيس إلى الحياة، ومنحته النساء حكمتهن، وأزال التشرد عنه تورده».الصفحة 178 من الرواية. ومع ذلك، تحدثُ المصارحة العشقية المثلية في نهاية الرواية، حيث يُعبّر الراهب نرسيس عن مشاعره بنوع من العتب التراجيدي على المصير: «غولدموند لم أتمكن من قولها من قبل، دعني أعبر لك عن مبلغ حبي لك، وكم كانت حياتك تعني لي الكثير، وكم أغنيت كياني. إن هذا لا يعني لك شيئاً. أنت اعتدتَ على أن تُحَبّ، فقد ضمتك الكثير من النساء بين أذرعهنّ، وتعلقنَ بك. أما أنا فكانت حياتي فقيرة بالحب. ومع ذلك فأنا أعرف ما هو الحب والفضل يعود إليك. إنه أنت من أحببت، وأنت وحدك، من بين كل البشر. لن تتمكن من سبر عمق ما يعنيه هذا لي».الصفحة 329 من الرواية. رغم أنّ المشاعر العشقية المثلية تُعالَج على مستوى الفكر والفلسفة في هذا العمل، إلا أنها تمثل شعوراً مأساوياً بالذنب على نحوٍ يماثل حضورها في السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي، المعنونة بالوجدانية (Pathetique)، والتي يقرأها النقاد كتعبير عن الصعوبات والآلام التي عايشها تشايكوفسكي من ميوله الجنسية المثلية.
المثلية كموضوعة أدبية كوميدية: تقويم المثلي من قبل الشرقي
من الأعمال الأدبية العربية النادرة التي تتناول المثلية بطريقة كوميدية، هي رواية عودة الألماني إلى رشده لرشيد الضعيف (2006). تقوم الحكاية الأساسية على لقاء بين كاتب لبناني شرقي وكاتب ألماني مثلي في إطار برنامج إقامة لكاتب عربي في برلين لستة أسابيع، يلتقي الروائي اللبناني فيها مع يواخيم هلفرر ضمن برنامج «ديوان شرق غرب»، وهو بمثابة حوارٍ ثقافي بين الكُتّاب بشكلٍ خاص. يقرر الرواي اللبناني بداية ألّا دخلَ له بمثلية الكاتب الألماني، ثم ما يلبث أن يبدي اهتمامه: «الفراش هو المكان الذي يجري عليه الصراع الفعلي بين الشرق والغرب، إن الفراش جبهة من الجبهات المفتوحة بين التقليد العربي والحداثة الغربية».الصفحة 8 من الرواية. وفي مقطعٍ آخر: «أنا من بيئة تحتفل بالذكورة كلما سنحت المناسبة، والأب عندنا يُكنّى باسم ابنه البكر، والبكر على جده؟ والمثلية عندنا عمل مشين معيب يجب قمعه، وجرمٌ يحاسب عليه القانون. والمثليون يسمون شاذين، والممارسة المثلية هي الإتيان بخلاف الطبيعة». ويوظف الروائي في أسلوبه الساخر كل الصور النمطية السائدة عن المثلية، فيذكر بانتشار فيروس الأيدز مثلاً أواخر الثمانينيات والذي عزاه البعض إلى الممارسات المثلية. أما الكاتب المثلي الألماني يواخيم فهو يبحث عن الحب، ويروي للكاتب عن علاقته العاطفية والعشقية مع نون حبيبه وشريكه لأكثر من عشرين عاماً، والذي هجره بعدها لأسباب عاطفية.
تجري نقاشات بين الكاتب العربي والألماني عن موضوعات المرأة والجسد والعلاقة العاطفية والظلم الذي لحق بالمثليين أثناء الحكم النازي الذي اضطهدهم كما اضطهد اليهود، وهي ثيمة يتطرق إليها فيلم بينت (Bent) من إخراج سيانت ماتيس (1997) الذي يضيء على معاناة المثليين في معسكرات الاعتقال النازية. تتطرق رواية رشيد الضعيف أيضاً إلى المثلية في التاريخ الإسلامي، وإلى القوانين اللبنانية بما يخص الموضوع. يتقارب الكاتبان العربي والألماني، ويتصارحان حول الذات والأنا، ثم ينجح الكاتب الشرقي في أن يدفع زميله يواخيم إلى أول ممارسة جنسية مع امرأة في حياته، وهو ما يعتبره الروائي: «عودة الألماني إلى رشده»، الذي جعله عنواناً للرواية، وهي عبارة تحمل مضموناً هزلياًـ ذلك أن انتصاره الشرقي تجسد بإعادة الكاتب الألماني إلى رشده الجنسي، أي الغيرية.
مغامرة توثيقية مثلية في عالم القيم الغيرية
يحمل فيلم برونو (2009) من كتابة وإخراج لاري تشارلز وتمثيل ساشا كوهين، عنواناً فرعياً ساخراً: «برونو: أو الرحلة الممتعة عبر أميركا لجعل الغيريين غير مرتاحين في حضرة مثلي أجنبي بكنزته الشفّافة». الفيلم من نوع الوثائقي الساخر، ينطلق من شخصية برونو، صحفي أزياء نمساوي، طرد من برنامجه (funkyzeit mit Brüno) على أثر فضيحة في أسبوع ميلانو للموضة، وتركه حبيبه من أجل رجل آخر. مصحوباً بمساعده يسافر إلى الولايات المتحدة ليصبح شهيراً في هوليوود. يحاول دخول عالم الشهرة ككومبارس ويفشل في ذلك ثم يجري مقابلة مع بولا عبدول تنتهي بخوفها وهروبها من المكان بعد أن يحاول القيام بلفتةٍ مميزة تجاهها عبر تقديم السوشي لها على صدر رجلٍ عارٍ. يرقص في حفلات الممثلين الفاخرة بطريقة مبتذلة، ونشاهد ردود الفعل في حضور نجوم حقيقيين مثل هاريسون فورد. ويهجم على أحد المشاهير معتقداً أنه «كوينه» المفضل. ويبدأ الجانب السياسي من الفيلم مع انتقال برونو إلى القدس، ليجري لقاءات مع شخصيات فلسطينية وإسرائيلية، وتزداد فرص المواقف المحرجة وسوء الفهم، حتى يقابل قيادياً في كتائب شهداء الأقصى في زيارة لمخيمٍ في لبنان، ويحاول إهانة القيادي أملاً في تحقيق فانتازي يراوده حول أن تقوم المنظمة بخطفه، ولكنه يطرد من المكان وحسب. ينتهي بعد سلسلة من الإخفاقات هارباً إلى ألاباما بعد أن يكتشف أن كل مشاهير هوليوود غيريون. الفيلم عبارة عن تجربة وثائقية في مجتمعات تتراوح بين المحافظة والتشدد، ترصد التجربة ردود الأفعال بعد لقاء الشخصيات مع شخصية مثلية تمارس ميولها بشكل فضائحي، لم يدّخر ساشا كوهين جهداً في أداء الشخصية المبالغ والاستفزازي لهذا الغرض.
شهوات الأميرة النائمة بالمضاجعة الكويرية
في مشروع المخرجة والمختصة في تطوير محتوى صناعة البورنو السويدية إيركا لوست، يشارك الراغبون والراغبات في كتابة اعترافاتهم الجنسية على موقع المشروع (XCONFESSIONS)، ليعمل المشروع على تحقيق فيلم سينمائي بورنوغرافي مُستمد من الشهادات المكتوبة. في المشروع القائم منذ سنواتٍ عشر والذي حقق ما يقارب المائة وخمسين فيلماً موزعة على ثلاثين قرص دي في دي (DVD)، لم تَظهر أي اعترافات تتعامل مع الشهوة والأحلام الجنسية بأسلوب كوميدي، وتأخر حضور تصنيف الكوميديا من بين الاعترافات المقدمة حتى أعوام متقدمة من عمر المشروع. أكثر من ذلك، اتضح أن تصنيف الجنس الكوميدي لم يمنح إلا على عدد من الاعترافات – الفيديوهات لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة من بين ما يقارب مئة اعتراف جنسي من كافة أنحاء العالم. حمل أحد هذه الاعترافات عنوان الأميرة النائمة وهو خيال جنسي لامرأة تهرب فيه من الصور النمطية في صناعة الجنس، والأدوار الجندرية المقلقة، إلى عالم من الفانتازيا – الحكاية الخرافية. تعبر صاحبة الشهادة- الحلم أنها تفضل الحكايات التخييلية، حيث تدخل إلى عوالم سحرية فانتازية تقدم لها المتعة وما يتجاوز الخيال. ما يبدو كوميدياً في استلهام حكاية الأميرة النائمة، هي استبدال الأميرة فائقة الجمال، بالممثلة آنا فوكس المدججة بماضٍ من الإغراء والجاذبية الجنسية. وتروي الحكاية المعاصرة بأنه وفي بلاد بعيدة كانت الأميرة ليز واقعة تحت تأثير السحر الذي عجز كل من حاول تخليصها منه، فكان يعاقب حالما يلمس جلدها أو يسعى لإيقاظها، إلى أن أتى الأمير ديف مُصمماً على إيقاظها، وتَذكُرُ الشروحات المرافقة للفيديو بأن الأمير كويري، ويتضح في الفيديو تردده طويلاً من الوقت قبل الإقدام على إنقاذ الأميرة النائمة لكونها صاحبة الحلم ومؤلفته في الآن عينه.
في فيلم آخر بعنوان فالنتين، بيير، كاتالينا، يعدنا المخرج بحكاية حب ثلاثية تبرهن لنا أن الحب الحقيقي لا يتعلق بعدد الشركاء، ذلك أن فالنتين يحب كاتالينا، وكاتالينا تحب بيير، وكذلك فالنتين يحب بيير. الغيرية والمثلية تتعاونان هنا مع مسحةٍ كوميدية، فتبدو المثلية حلاً لمعضلة الحب الثلاثي التي طالما عالجتها الأفلام بحبكة تتضمن منافسة بين أقطاب العلاقة، يقترح الثلاثي هنا حلّاً وهي العلاقة المثلية. الإطار أيضاً في الفانتازيا المستقبلية، ديستوبيا، فالحكاية تجري في عالم خرج للتو من أكبر حروبه العالمية التي انتهت إلى حصول دونالد ترامب على السلطة. طالما مزج المخرج بروس لا بروس الجوانب الجنسانية والسياسية في حكاياته، ليجعل هنا من نضال القناعة بعلاقة الحب الثلاثية جزءاً من نضال المهمشين ضد القيم السائدة التي كُرِّسَت في الممارسات ومنعت الحب عن الإنسان: «ذلك أن الحب الحقيقي يتجاوز حدود الجندر».
الكوميديا والتراجيديا وتاريخ المثلية النسائية في السينما العالمية والعربية
من فيلم Wild side
تعود حكايات المثلية النسائية الأولى في السينما إلى علاقة الحب بين الطالبة في المدرسة الداخلية وبين المُدرِّسَة، حيث يتمظهر الحب خلال الطقس الليلي اليومي في تقبيل الفتيات عند الجبين قبل الخلود إلى أَسرّتهم، لكن المعلمة تمنح مانويلا قبلة حميمة تكشف عن العاطفة، وذلك في فيلم فتيات اللباس الموحد (1931) الذي أعيد إنتاج نسخة أخرى منه عام 1958. واستمر الجزء الأكبر من سينما المثلية النسائية بتقديم علاقات الفتيات اليافعات، بميل نحو جنسانية طفولية، يظهر ذلك مع شخصية تشايلدي في فيلم قتل الأخت جورج (1968)، إذ سببت ملامح البراءة والطفولة لدى شخصية تشايلدي في الفيلم موجة من الاتهامات لمخرجه دايفيد هاملتون، الذي وجد نفسه متهماً بتشجيع البورنوغرافيا الطفلية، فقال موضحاً في معرض الرد عن فيلمه، المستوحى من رواية الكاتب بيار لوري: «أفلام المثلية النسائية تحمل في طبيعتها حالة شاعرية وجمالية من الجنس». أما المخرج دونالد كاميل فقد لاقى مصير الانتحار التراجيدي بعد فيلمه الجانب البري (1995)، الذي يروي قصة علاقة مثلية بين عاملة الجنس وموظفة المصرف أليكس لي، وبين فيرجين شو الزوجة الصينية لأحد عملائها. يتم اللقاء في حمام أحد المصارف العالمية: «شفتاك طريتان، أنت فاتنة، أستطيع أن ألمسك، بكل تأكيد». بعد عرض الفيلم، انتحر المخرج وأعلنت العلاقة المثلية بين الممثلتين. بمقابل هذا المسار التراجيدي، تحضر القبلة الفرحة بين بطلتي فيلم نوايا قاسية (1999)، أولاهما هي الممثلة سارة ميشيل غيلر التي تؤدي شخصية المراهقة المتسلطة والفاسدة، والتي تؤثر بسلوكها على الطالبة الجامعية التي تلعب دورها سيلما بلير، والتي ستغير هذه القبلة مصيرها، فهي تعلمها التقبيل الشهواني مع اللسان واللعاب، القبلة التي تصفها سيسل بأنها: « شيء رائع». كذلك نذكر فيلم وحش الجنس (1999) بحبكته الكوميدية الهزلية من إخراج مايك بندر، وهي حكاية رجل الأعمال مارتن بارنر الذي يشجع زوجته على اختبار فانتازماته التي تجمعها مع ثلاث فتيات، وتتطور الأحداث حتى تتقرب الزوجة بعلاقة حميمة مع أحد شريكاتها – ديدي – فيكتشف الزوج أن التجارب الجنسية تحولت إلى رغبات مثلية شديدة، ما جعل منها وحشاً جنسياً لا يشبع، ومن هنا يأتي عنوان الفيلم.
في السينما العربية تحضر الجنسانية دوماً من منظور معالجة من الخطيئة السلوكية أو فقدان الطهارة الذاتية أو القيمة الاجتماعية، وعلى أي حال فيندر معالجة الجنسانية كوميدياً في السينما العربية. في فيلم صمت القصور (1994) لمفيدة التلاتلي، يخيم الصمت على القصر، المكان الذي يشهد الانحرافات الجنسية، أي الاعتداءات الجنسية من قبل طبقة الأسياد على طبقة الخدم، ويكتسي العالم الجنساني بصورة من العيب الواجب عدم التصريح به، ولا يقطع صمت القصور إلا الغناء والموسيقى الذين يخلقان عالماً موازياً لعالم الواقع الإجرامي، لصالح مساحات الفن والغناء التونسي. وهكذا تكبر عليا – تلعب دورها هند صبري – وهي تراقب التجاوزات الجنسية الحاصلة من حولها مع والدتها أو معها هي لاحقاً. أما في فيلم ريح السد (1986) لنوري بوزيد، يتحول الصمت المتراكم طيلة ساعات الفيلم إلى بركان لينفجر بالمجتمع من حوله، فالمراهقان هاشمي وعموري يفضحان النجار المعلم فرفات الذي كان يعتدي عليهما بانتظام في مشغله حيث يعملان. إن الصمت المتبادل بين الشابين والعواطف البطيئة التي تجمع بينهما تتم بصمت كامل ودون أي تواصل لغوي أو إشارات تقليدية. إن الصمت يُبنى في الفيلم تدريجياً حتى لحظة الانفجار الأخير الذي يعيد بعضاً من العدالة الضائعة على طول الحكاية. لكن عند متابعة خطوط الحكايات الدرامية في فيلم سكر بنات (2007) لنادين لبكي، نجد أن الشخصية التي تعمل في صالون التجميل والتي تكتشف ميلها العاطفي والحسي المثلي خلال مجريات الفيلم، هي التي تنتهي نهاية سعيدة، ذلك أن الزبونة التي أُعجبت بها قررت في نهاية المطاف أن تغير حياتها وتهم بإقبال لتحقيق رغبة مشاعرهما المشتركة بالتقارب، وينتهي الفيلم بمشهد الركض في الشوارع للقاء العاشقتين. ويبدو أن مصير ريما – تلعب دورها جوانا مكرزل – هو الوحيد الذي يحمل هذا الوعد بالأمل وهذه البسمة الفرحة من بين شخصيات العمل. فحتى صاحبة الصالون ليال – تلعب دورها نادين لبكي – ورغم خوضها علاقة عاطفية مع رجل الشرطة، لكن المعالجة توحي بأنها راضية بصمت محزون فاقدٍ للأمل بالحصول على فرصة أخرى، حتى أن الغيرية التقليدية بين الشابة الجميلة وضابط الشرطة تنتهي نهاية مأساوية كما يطرحها الفيلم، مقارنة بمصير شخصية نسرين – تلعب دورها ياسمين المصري – وهي الفتاة التي تنشأ في بيئة مسلمة محافظة، بينما تسوقها الرغبة نحو الجنس الغيري إلى فقدان عذريتها، وتبدو العلاقات المثلية النسائية وكأنها تشق طريقها لتحقق إمكانية اختبار تجربة جنسية في مجتمع الرقابة العربي.
بوستر فيلم صمت القصور
بعض النقاد صنّفوا فيلم 9 مثليين ميتين (2002)، من إخراج لاب كي كعلامةٍ فارقة في السينما الكوميدية، لكن نقاداً آخرين وجدوا الإضحاك على هذا المستوى مربكاً. القصة التي كتبها المخرج، تروي حكاية شابين إيرلنديين في معرض بحثهما عن العمل وقد وجدا نفسيهما للمرة الأولى في أحد أبرز وجهات المثليين في لندن، حيث يواجهان الكثير من المصاعب والمواقف التي تعيق تواصلهما مع المكان، ولكن الأحداث في الآن عينه تضع كل التابوهات في موضع السخرية، حتى تبدأ تطورات خطيرة بالكشف عن نفسها، مع مقتل 9 شبانٍ مثليين بطريقة يكتنفها الغموض، وسرعان ما توجه الاتهامات للثنائي الغريب عن محيط المكان وثقافته، واللذين لا ذنب لهما إلا تلازم وجودهما حين وقوع الجرائم. يدخل في حبكة العمل شخصيات مثلية مبالغة في نمطيتها، تعبر بين الذكورة والأنوثة لتزيد من حيرة البطلين، بعضهم غاضبون وآخرون حريصون على إخفاء هويتهم الجنسانية، رغم إظهار الرغبة العارمة في ممارسة الجنس.سرمد العاصي، مجلة موالح العدد 11، 07-2013، ص43.
من فيلم 9 مثليين ميتين
يتفرد فيلم كل شيء ترغب بمعرفته عن الجنس، وكنت تخاف أن تسأل عنه (1972) لوودي آلن، بالمعالجة الكوميدية الهزلية وأحياناً الغروتسكية لموضوعات الجنس والجنسانية، فالفيلم يتألف من ست سكيتشات كل منها تعالج سؤالاً من أسئلة الجنس، والفيلم يستند إلى كتاب بالعنوان نفسه للمؤلف ديفيد روبين نُشر عام 1969. في سكتش كوميدي بعنوان هل المتحولون جنسياً شواذ؟ تحضر شخصية سام، الرجل المتزوج في منتصف العمر، والذي يشعر بميل شديد إلى ارتداء الأزياء النسائية، وهو يهرب من محيط زوجته الاجتماعي وأصدقائهم المشتركين لأجل رغبته في ارتداء الأزياء النسائية، ولكن يتم توقيفه من رجل شرطة على الرصيف المقابل لمنزل الأصدقاء، الذين يكتشفون أمره ومعهم زوجته. وبينما يُهيء الفيلم لردود فعل ساخطة أو متنمرة على سام في أزياء النساء، فإن اعترافه الصريح أمام زوجته يدفعها إلى التفهم والتقبل، فيجري الحوار التالي بين سام وزوجته جينا – تلعب دورها لويز ليزر – والذي يمكن لنا، وانطلاقاً من الدافع الكوميدي لهذه المقالة أن نتخيله بين الرئيس بوتين معتذراً عن تهجمه اللفظي الجنسي على نظيره زيلنسكي:
ز: كان عليك أن تخبرني بذلك يا بوتين. كنت سأتفهم الأمر.
ب: ليس من السهل التحدث… عن هذا الموضوع.
ز: كان عليك أن تقول لي.
ب: لديّ عقل مريض. أنا شخص مريض. أحتاج الى المساعدة، أحتاج إلى علاج. أنا منحرف. أنا لست مؤهلاً للانسجام مع الأشخاص العاديين. لدي موعد مع الدكتور فيلمور الأسبوع المقبل.
ز: أنا سعيد بذلك. – يضحك – لن أنسى تعابير وجوههم عندما قامت الشرطة بنزع قبعتك.