في مقالته «الفن كنظام اجتماعي» يستشهد المؤرّخ الفني ماثيو رامبلي (Matthew Rampley) بعالم الاجتماع والمنظّر البريطانيّ زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) الذي نبّه منذ عام 1998 إلى استنزاف الفن واستهلاكه قائلاً:«عندما أقول إن الموضوع الفنيّ “مُنهك” من عملية استهلاكه، أنا لا أتحدث عن دماره بالمعنى الماديّ والفيزيائيّ، كما هو الحال مع الروايات التي يشتريها المرء في المحطة قبل الرحلة وترمى في سلة المهملات لدى النزول من القطار بعد قراءتها. القضية هنا مختلفة: تناقصٌ حتميٌّ في إثارة الاهتمام، فقدان قدرة الموضوع على الترفيه، والقدرة على خلق الرغبة والمتعة» Rampley, Matthew. De l’art considéré comme système social. Observations sur la sociologie de Niklas Luhmann, Sociologie de l’Art, vol. ps7, no. 2, 2005.. والقصد هنا انتهاء معنى الصورة بسبب تسليعها واستنزافها استهلاكياً. وإذا ما اتخذنا من هذا الاقتباس تعريفاً أوّليّاً لـ«استنزاف الفنّ»، وتجاوزنا وضع تعريف للفن ذاته -إذ خضعَ مئات المرات، خصوصاً في الحقبة المعاصرة، لإعادة النظر في صياغات قوالبه النظريّة والجماليّة، بل حتى التأريخ-فنية- فلعلّه من الأجدى الانتقال فوراً للتفكير في العوامل التي دفعت بباومان لإطلاق الإنذار باستنزاف الفن.

يشير بومان في كتابه الأخلاق في عصر الحداثة السائلة إلى أنّ «إخضاع الإبداع الثقافي لمعايير السوق الاستهلاكية ومقاييسها يعنى المطالبة بقبول الإبداع الثقافي لشروط المنتجات الاستهلاكية المقبلة كلها»، مع أن «الطلب الاستهلاكي متقلب ونزوي وسريع الزوال»، و«إن سجلات قوانين السوق الاستهلاكية حول المنتجات الفنية زاخرة بالتوقعات الخاطئة والتقييمات غير الدقيقة والقرارات الباطلة». ويضيف:«إن العملاء المرتقبين وأعدادهم وحجم المال في حساباتهم البنكية هو الذي يقرر حالياً (بجهل) مصير الإبداعات الفنية، وترسم المبيعات الخط الفاصل بين المنتجات “الناجحة” (التي تتطلب بالتالي انتباهاً عاماً) وبين المنتجات الفاشلة (التي تعجز عن اختراق الشهرة التي تتحقق من خلال المعارض الفنية وفيها فحسب)»، وأن قطعاً زهيدة «تتحول إلى أعمال فنية حالما يتم نقلها إلى معرض تفصل جدرانه وبواباته بين الفن الجيد والرديء، وبالنسبة للخبراء بين الفن وغيره». باومان، زيغمونت، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، أبوظبي، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.

في الواقع، قادتني هذه الاقتباسات، المجتمعيّة-اقتصادية المنطلق، إلى ضرورة تسجيل تساؤلات منبعها التفكير في راهن الفن السوري في الشتات. فهل يلامس مفهوم استنزاف الفن، الأوروبي النشأة، في كلّيته أو بعض أجزائه نشاط ونتاج العدد الكبير من الوافدين من فنانين ومشتغلين في الفن؟ وهل تصحّ أدوات قياس استنزاف الفن، اجتماعية كانت أم اقتصادية أو حتى جمالية، للتطبيق على واقع هؤلاء؟ هل الفنّ بالنسبة لهم مهنة أم منتجٌ ثقافيّ أم هو مصيرٌ فرديٌّ للفنان؟ في الواقع، تنطبق أصول هذا المفهوم وتداعياته على جميع المشتغلين ضمن الجغرافيا التي نشأ فيها، وذلك إذا ما نظرنا إلى الفنّ كفعل اجتماعيّ أو نطاقٍ مهنيّ. إلاّ أنّه لا يمكن تحقق شقّ آخر، فكريّ جماليّ، للمفهوم لدى الوافدين على ثقافة تلك البقعة الجغرافية، إذ أنّه مرتبط بالتراكم الثقافي والفكري والإبداعي والموروثات البصرية.

ولكي نقترب من الواقع، نستحضر أمثلة راهنة تمثّل دلالات على تفكك معنى الفن (وكلمة تفكك لا تشير بالضرورة إلى السلبية). فكيف لأفراد من الجيل الشاب في كل من فرنسا وبريطانيا الشروع في الآونة الأخيرة بتعنيف لوحات مثل الموناليزا لليوناردو دي فنشي وعباد الشمس لفان جوخ، وهما من أهم اللوحات في تاريخ الفن، بغض النظر عن قيمتهما الماديّة؟ إن ما تعرّضتْ له اللوحتان لم يكن بقصد الإفساد حرفياً، وإنما هو حراك عنيف (حتى إن كان منفذوه ذوي مطالب صائبة ورسالة واضحة). ربما من المبكر إيجاد جواب على هذا التساؤل، لكنّ الضروري هنا هو لفت النظر إلى ماهيّة الفنّ واعتباراته القِيَميّة في عيون هؤلاء، وإلى الجو المُهيّء لمثل هذا الفعل. إنّ ظروفاً عديدة، فكريّة ومعرفيّة بالدرجة الأولى، ما انفكّت تتراكم منذ بداية القرن العشرين موصلةً الفنّ المعاصر، الأوروبيّ خصوصاً، إلى ارتباطه الوثيق بالممارسات والتحليلات والمرجعيات والتأويلات والرؤى السوسيولوجية، وإلى انحسار دورِه «القديم» في الإمتاع الجمالي لصالح دورٍ جديدٍ يضمن له أن يكون وسيلةً للتواصل قد يُساء استخدامها أو تلقيها. في كتابها الفنان في رداء الباحث، تقدّم الفيلسوفة الفرنسية كارول تالون-هوغون (Carole Talon-Hugon)، المهتمّة جوهريّاً بفلسفة الجمال، من خلال مقارباتٍ تقيمها بين مهام الاثنين، وعبرَ الاطلاع على عناصر متعدّدة أبرزها النصوص المرافقة للأعمال الفنية، وأيضاً عبرَ تفحّص مفهوم الفن التوثيقي (L’art documentaire) بوصفه نزعة معاصرة سائدة بشدّة على صعيد عالمي، تفسيراتٍ علميّة حولَ حقيقة أنّ الفنان المعاصر قد وجد نفسه متحولاً إلى مهام «بحثية مشتقّة من العلوم الاجتماعية»Carole Talon-Hugon, L’artiste en habits de chercheur, Paris: Presse universitaire française, 2021.، وأن الممارسات الفنية المعاصرة تكشف عن «غايات معرفية» كهمٍّ أول للفنان. نحن إذاً أمام حقيقة تتجاوز صبغة سابقة هيمنت على الفن منذ سنوات الحرب العالمية الأولى، ألا وهي الالتزام. والمقصود بالالتزام هو الانتماء بشكل وثيق إلى قضايا معيّنة يلتصق بها الفنان، ويكونُ لنتاجه، بشكلٍ أو بآخر، هدف إيصال رسالة مباشرة أو غير مباشرة لصالح القضيّة، أي أنّه لا يحصر ذاته في الغايات الجماليّة المحضة. والحقّ أن طرح تالون-هوغون يسلط الضوء من جهة على إشكاليات جديدة تتقاطع مع وجهة نظر بومان حول استهلاك الفن، فإذا أصبح الفنان دارساً أو باحثاً، فمن هو الجدير بتقييم فنه؟ النقاد أم الجمهور أم الرعاة وأصحاب رأس المال أم الأكاديميون؟ ويسلط طرح تالون-هوغون الضوء من جهة أخرى على التهيئة التعليمية والتربوية والفنية للفنانين والمتلقين والفاعلين وعلى مراحل مختلفة من حياتهم في التعليم. وهنا لا بد من تشريحٍ ابتدائيّ مقتضب: في معظم البلدان الأوروبية التي نسوقها هنا كمثال لحواضن معرفية جديدة للسوريين، يتمّ تعليم الفنّ للفئات العمريّة الأولى كنشاط حيويّ هدفه التواصل، وبالتدريج مع التقدم في الصفوف يتم إدخال عناصر معرفيّة تثقيفية حول تاريخ الفن والبدء بمراس فنيّ ينطلق من تدريبٍ على امتلاك المهارات والتقنيات، حتى الوصول إلى المراحل التعليمية المتقدمة المتخصصة. فنجد أن من أبرز ما يجب على الفنان الناشئ تعلّمه هو كيف يقدّم نتاجه وكيف يكون ماهراً في الدخول إلى الأوساط، وكيف يعبّر بقوّة عن رسالته، وتعزز الأوساط المهنية التي يتحرك ضمنها الفنانون هذه المهارات. أمّا التشجيع على صفات الإدهاش الجمالي والندرة والخلق والأصالة فقد تراجعت بوضوح.

نعود مجدداً إلى التساؤل حول وضع الوافدين، لكن هذه المرّة بالنسبة إلى واقع تعليم الفنّ في الشتات ومدى تأثيره على مساراتهم. وهنا نظرة لا أخفي فيها استنادي إلى تجربتي الشخصية، كواحدة من شهادات عديدة، وبحكم اطلاعي على ظروف نضال الفنانين السوريين من الجيل الشاب في فرنسا كنموذج. بصورةٍ عامّة، أدّى لجوء عدد كبير من الفنانين ممن كانوا في محيط ثلاثينيّاتهم لدى انتقالهم إلى البلدان الجديدة إلى زعزعة علاقتهم بالفنّ. فهم من جيلٍ كان قد أنهى تعليمه الفني منذ سنوات قليلة، ولم يكن بعد قد امتلك سجلّاً من العروض والمشاركات (حيث يقاس اليوم استحقاق الفنان بناءً على نشاطه المهنيّ وليس الإبداعي). كما أنّ ظروف الحرب والحواجز اللغوية، بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية المعيقة، لم تتح لهم الاندماج بمرونة في المشهد الفنيّ للبلد الجديد، وخصوصاً عبر الانخراط في تعليم فنيّ جديد، بوصفه أداةَ تأسيسٍ معرفيّ تحقق الصلات اللازمة أو ترممها، وممهداً للدخول إلى «سوق العمل» وطريقاً إلى فهمٍ عميق لمفاهيم جديدة مثل استهلاك الفن والمواضع الجديدة للفنان. إزاء هذا الواقع والفوارق البيداغوجية بين بلد المنشأ التي لم تبلغ بعد تثميناً كاملاً وفاعلاً للفن والفنانين خصوصاً على المستوى الرسمي، وبلدان اللجوء التي توغّل فيها الفنّ لدرجة أصبح عاديّاً ويومياً، تبرزُ قضية أخرى ذات صلة بالتعليم الفني الذي يتلقاه أبناء اللاجئين ممن هم بالمراحل التعليميّة الأولى (في الابتدائيّة والإعداديّة). إن الإشكالية هنا ثقافيّة ومرتبطة بالهوية، لكنها مرتبطة أيضاً بمستقبل الفن السوري ككل. فإذا كان الحلّ الأمثل هو الانصهار، سنكون أمام خطر اندثار تاريخ وجماليات البلد الأمّ، ليس من حيث هي روابط الامتداد إلى الجذور، إنما ككيان ذاكراتي فنيّ. وسنجد أنفسنا مستقبلاً أمام تساؤلات مثل: من يشكّل المشهد الفنيّ السوريّ؟ ومن هو الفنان السوري؟

ولعلّ أفضل منحىً نضع فيه هذا الخوض في التساؤلات الكثيرة المتوالدة أمام السوريين في الشتات حول واقع الفنّ هو المنحى التعليميّ المعرفيّ، عن طريق صياغة بنى فكريّة تتألف أثناء تركيب الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها، وعن طريق مناهج أو منشورات تراعي خصوصية كل جزئية من الشتات السوري، لتخبره ما هو حقّاً الإرث والراهن الفني السوري. وقد نكون أولاً بحاجة إلى إحياء الفنّ السوريّ وتاريخه وجمالياته للتأكيد على دوره، وإلى إقامة التفريّق بين الفنّ كمهنة والفنّ كتجلٍّ عاطفيّ أو ذهنيّ، فصناعة الفنّ ذاتها لا تقع إطلاقاً في المناطق الخاضعة للشهرة والاقتصاد أو للمقاييس الطبقيّة أو الجندريّة، بل إنها كامنة في المساحة الحرّة بين الفنان كمُنتج وذاته كمحرّض للفعل الإبداعيّ. نحتاج أُطراً داعمة غايتها تعليم الأبناء فلسفة الفنّ المعاشة لدى فنانين سوريين مثل الياس الزيات ومروان قصاب باشي وفاتح المدرّس ونذير نبعة وأدهم إسماعيل ومحمود حمّاد، وغيرهم الكثير من الذين لا ينقص فنّهم اليوم إلّا تفنيد رؤاهم الجماليّة العميقة ودراستها بعيداً عن المشهد العالميّ، بهدف التأصيل والفهم العميق وليس العزل.

ختاماً اقتبس مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp) في آخر مقابلة مطوّلة له من عام 1967، قبل وفاته بعامٍ واحد. ودون أن أغفل عن طبيعة دوشامب الرافضة للقواعد، واستنبطُ من هذا الاقتباس مبدأً بيداغوجياً أراهُ جديراً بالاتباع كخطوة أولى، أستنير بها في ظلّ الضبابية والتمييز العشوائي المحيطان بالفن والفنانين اليوم :

«إنّ البشرُ فانون، اللوحات أيضاَ. تاريخ الفن هو شيءٌ مختلفٌ تماماً عن فلسفة الجمال. بالنسبة لي، إنّ تاريخ الفنّ هو ما تبقى من حقبة ما في متحف، لكنّه ليس بالضرورة أفضل ما في تلك الحقبة، بل لربما كان، هو بعينه، تعبيراً عن رداءة الحقبة، لأنَّ الأشياء الجميلة كانت قد اختفتْ، لأنّ الجمهور لم يرغب بصونها»Marcel Duchamp, Entretien avec Pierre Cabanne, Paris : Allia, 1967..