على بعد بضع بنايات من محطة القطار المركزية في مدينة بوسطن الأميركية، تومض رموزٌ صينية مذهّبة على بوابة من الفولاذ المطلي تطل على تقاطع شارعي بيتش وهَدسون. ووراءها تماماً تظهر اللافتات البرّاقة لمحلات مثل هوت بوت بوفيه وهِنغ شِنغ للمعجنات. نحن الآن في الحي الصيني، حيث يتزاحم السكان اليوم ليشتروا فطائر لحم الخنزير والمعمول الصيني. ولكنهم خلال مرورهم من هنا، سيتذوقون الكبة ويدخنون الأراجيل أيضاً. فمنذ قرن مضى، كانت هذه الزاوية ملاصقة لحي سوريا الصغيرة.

في أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر، انتقل مهاجرون من سوريا ولبنان، كانوا جميعهم يُعرَفون بالسوريين، إلى حي ساوث إند في بوسطن. كان ذلك جزءاً من أول موجة هجرة من السلطنة العثمانية إلى الأميركتَين، ووقتها ظهرت «سوريات» صغيرة في مدن عديدة، من نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية إلى هافانا في كوبا وريو دي جانيرو في البرازيل. وخلال ثلاثين عاماً، أصبحت معظم العقارات في الحي العربي في ساوث إند ملكاً لعائلات مثل حداد وشبلي والحمصي والحاج. كان أغلب هؤلاء من المسيحيين (موارنة، روم كاثوليك، أورثوذوكس)، وجاء معظمهم من المنطقة الواقعة بين دمشق وزحلة، وهي منطقة ضربها انهيار صناعة الحرير والحرب والمجاعة. قاتل أعضاء هذه الجالية مع الجيش الأميركي في الحربين العالميتين، وناقشوا القضايا السياسية في صحف عربية محلية مثل فَتاة بوسطن والوفاء، كما أسسوا كنائس مثل كنيسة القديس يوحنا الدمشقي وسيدة الأرز، وجمعيات خيرية مثل جمعية مساعدة السيدات السوريات في بوسطن. وبالإضافة إلى ذلك مارست هذه الجالية الضغط ضد سياسات الهجرة العنصرية الإقصائية في الولايات المتحدة.

تقرير حكومي من 1911 يَظهر فيه أول مركز تجمع سوريّ في بوسطن، ناحية أوليفر بليس وشارع هدسون (من ديلينغهام، مهاجرون في المدن)

انضم السوريون إلى العديد من جاليات المهاجرين الأخرى، فشكّلوا ما يمكن وصفه بـ«بوسطن العثمانية»، التي تألَّفَ سكانها من عائلات وأفراد هاجروا من الأراضي العثمانية إلى شرق ماساتشوستس خلال الفترة الواقعة بين ما قبل تأسيس الولايات المتحدة وما بعد الحرب العالمية الأولى. عمل الرجال الأتراك بشكل مؤقت في صناعة الجلود في بلدة بيبودي المجاورة، وأنشأت بعض العائلات اللبنانية المسلمة مجتمعاً خاصاً بها ناحية أحواض بناء السفن في كوينسي. أصبحت ووترتاون تُعرَف بسكانها الأرمن، وجنوب بوسطن بسكانه الألبان، وسومرفيل وكامبريدج بسكانهما اليونان.

استقرّ بعض السوريين وعملوا خارج المدينة. تُظهر هذه الصورة التي التقطها لويس هاين عام 1911 أطفالاً يخوضون في المستنقعات لكي يقطفوا التوت البري، وهي أحد الثمار الأصلية في نيو إنجلاند (من مكتبة الكونجرس)

مع أواخر ثلاثينات القرن العشرين، وصل عدد «السوريين» (من سوريين ولبنانيين) في ولاية ماساتشوستس إلى أربعين ألف نسمة، وفقاً لصحيفة بوسطن غلوب، استقر خمسة عشر ألفاً منهم في بوسطن.«Syrian American Club to Note Anniversary,» The Boston Globe, April 8, 1937, 6. ولكن لم يمض وقت طويل حتى أخذ هؤلاء يخرجون من سوريا الصغيرة. قبلها قاد السوريون إلى جانب جيرانهم الصينيين حملة مناهضة لبرامج التجديد الحضري التي بدأت في منتصف القرن بمدينة بوسطن، والتي هدفت إلى «تحسين» الأحياء التي اعتبرتها حكومة البلدية متداعية وغير صحية. ولكنّ بناء الطرق السريعة، والوحدات السكنية الفاخرة، وكلية الطب، وكذلك التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والجيلية، عجّلا مغادرة سكان الحي إلى أطراف المدينة وضواحيها. 

لم يبق اليوم إلا القليل من آثار سوريا الصغيرة بالنسبة لمن يسير في بوسطن. الأسماء تُواريها تهجئات غريبة كانت تُعتبر أسهل على الناطقين وقتها، والأبنية تغيّرت استعمالاتها منذ فترة طويلة؛ والأجيال الأولى التي وصلت ميناء بوسطن، أو أسفل ساحل جزيرة إليس في نيويورك، اختفت منذ أمد بعيد. ولكن مع انتشار الشتات السوري اليوم في جميع أصقاع الأرض، ربما تضيء قصة سوريا الصغيرة على جيل أبكر من المهاجرين وطريقتهم في إعادة تشكيل الأماكن التي وصلوها.

* * * * *

تجمعت أولى العائلات السورية التي وصلت إلى بوسطن في أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر، في المنطقة الواقعة بين شارع أوليفر بْليس (الذي يعرف الآن بممشى بِنغ أون) وشارع أكسفورد، شمال بوابة الحي الصيني الآن، وكذلك جهة الجنوب عند شارع هدسون. وقد جذبهم الحي لعدة أسباب، فقد كان مركز عبور قريب من الأرصفة البحرية التي شغّلت صناعة الشحن الأطلسي في بوسطن، ومحطات سكك الحديد المركزية في المدينة التي أُنشئت في ثلاثينات القرن التاسع عشر. شهد منتصف ذلك القرن امتلاء الموانئ والمستنقعات بوتيرة سريعة، فتحول مكب النفايات هذا إلى منطقة سكنية أنيقة بها منازل مصفوفة وفخمة. ولكن عندما انهار سوق البورصة في سبعينات القرن التاسع عشر، تعثرت الرهون العقارية، وانتقل السكان الأثرياء إلى مناطق أخرى، وحل محلهم السود والمهاجرون. وبحلول 1910، أصبحت معظم المنازل في المنطقة مساكن من الطوب، تتألف من أربعة طوابق مشتركة بين 4-6 عائلات، في 10-14 غرفة، ومرحاض واحد في الهواء الطلق يستخدمه الجميع.Delia Khoury Tinory, «The First Years in America,» in Eugene Tinory, Journey from Ammeah: The Story of a Lebanese Immigrant (Brattleboro, Vt: Amana, 1986), 81-84.

يقع أحد هذه المباني في شارع 6 هدسون، وهو نموذج مصغر عن تاريخ الحي. اليوم، هو عبارة عن مساحة فارغة بجوار حديقة عشبية صغيرة، يجتمع فيها المسنّون للدردشة باللغة الصينية. كان هذا المبنى قبل أن يُهدم عام 1989 مطعماً شهيراً يدعى روبي فُوز دِن، ومن أوائل المحطات التي روجت للمأكولات الصينية بين غير الصينيين في الولايات المتحدة. تحت هذه الطبقة من الماضي، توجد طبقات أخرى طواها النسيان.

المبنى ذو الطوابق الأربعة شُيّدَ في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكان مجمعاً سكنياً مزدحماً بالمهاجرين الأيرلنديين الذين تدفقوا على بوسطن خلال مجاعة البطاطا.City of Boston Archaeology Program, Site History of 6 Hudson St., Boston (Chinatown), 2020. ثم في عام 1899، سُجّل اسم أول الملاكين السوريين فيه: زوجان اسمهما ثيودور وفوتين نحّاس، افتتحا بقالة في الطابق الأول، وأجّرا الطابق العلوي لثلاث عائلات سورية أخرى على الأقل. كما أعلن عن عنوان البناية تحت اسم اللوكاندة الوطنية، وكان يتفاخر بامتلاكها وإدارتها شخص يدعي حنا نقولا (أو جون نيكولز، حسب الاسم الذي اختاره لنفسه)، كونها المؤسسة الوحيدة في المدينة «المشهورة بإتقان مأكولاتها الشرقية» وتقدم القهوة التركية والتبغ.

كان نظام مشاركة المساحة الذي طبقه نحّاس وزوجته شائعاً في سوريا الصغيرة. استُخدمت أقبية البقالات لتخزين البضائع الجافة، مثل مستحضرات التجميل والملابس الداخلية والأوشحة، وكان المهاجرون الجدد يضبّون هذه البضائع في رزم كبيرة ويبيعونها في الشارع، حتى صارت مهنة البيع بالتجوال مرتبطة بالسوريين في جميع أنحاء القارة. كان البيع بالتجوال مصلحة يمكن للمرء أن يبدأ بها فور وصوله إلى بوسطن، فقد تطلبت القليل من المعرفة باللغة الإنكليزية في البداية. سرعان ما امتلأت شوارع سوريا الصغيرة بنداءات أولئك الباعة المتجولين، وأصوات عرباتهم ومساوماتهم مع الزبائن حول أسعار البضائع. كانت أقمشة الدانتيل أكثر البضائع رواجاً، وقد تعلمت النساء صنعه في سوريا، فاستمررنَ بصنعه لإعالة عائلاتهنّ في بوسطن. وفي حين كان أغلب الباعة المتجولين في البداية من الرجال، إلا أنهم سرعان ما أدركوا أن للنساء حظاً أوفر في بيع بضاعتهنّ للزبائن الأكثر تردداً عليهم: أي ربات البيوت اللائي يعشنَ في ضواحي بوسطن بعيداً عن متاجر المدينة. مما ساهم في نجاح تجارة البيع بالتجوال وبيع السلع الجافة أن المنطقة قريبة من حي الملابس المزدهر، الذي أُنشئ خلال منتصف القرن التاسع عشر، وكان يقع بالقرب من شوارع واشنطن وإسيكس وكينغستون ونيلاند القريبة. هناك، كان العمال يصنعون الملابس الجاهزة والأحذية الجلدية في مصانع عالية من الطوب، وكان السوريون يعملون جنباً إلى جنب مع شغيّلة يهود وطليان ومجريين ومصريين ويونانيين وصينيين وأرمن.

أبواق السيارات هي الصوت السائد الآن في شارع نيلاند المزدحم. لكن خلال السنوات الأولى من القرن الماضي، كانت أذن المرء تسمع بدلاً منه صوت النجم المصري الشيخ سلامة حجازي، صادراً عن غراموفون المحل في البناية رقم 30. فبعد أقل من ست سنوات من إصدار أولى التسجيلات العربية التجارية في القاهرة عام 1903، أعلنَ مالك بقالة أراكس في شارع نيلاند، وهو أرمني يدعى مايكل أجاميان، وبكل فخر، عن بيعه للتسجيلات المستوردة من العالم العربي إلى جانب المواد الغذائية. لم يمر وقت طويل حتى ذاع صيت بوسطن بصفتها مورداً لنخبة الموسيقى العربية المحلية في أميركا الشمالية. وكان من أبرز شخصياتها أنطون (أو طوني) عبد الأحد (1915-1995)، وهو ابن أبوين مُهاجرَين من دمشق، سحَرَ الجماهير في دوائر الحفلات والمهرجانات في جميع أنحاء القارة بأنغام العود، ولعب تسجيلات كلاسيكية مثل «إفرح يا قلبي» لأم كلثوم و«أم العيون السود» لناظم الغزالي. كما أسس شركة تسجيل خاصة به، سمّاها تسجيلات عبد الأحد، مقرها في شارع هدسون، وأطلق أغنية «مصرلو» أو ميزيرلو التي لاقت رواجاً كبيراً. كانت «مصرلو» عبارة عن لحن قديم تبادله الموسيقيون اليونان والعرب واليهود والأرمن، قبل أن تجد طريقها إلى فيلم كوينتن تارانتينو بلب فكشن. حتى أن ديك ديل (1937-2019)، الذي ألّف نسخة سيرف روك من أغنية «مصرلو» التي استُخدمت في الفيلم، كان نفسه من بوسطن، واسمه بالأصل ريتشارد منصور.

أسطوانة ميزيرلو بإصدار تسجيلات عبد الأحد (بإذن من طوني عبد الأحد)
أنطون عبد الأحد يغني مع جوقة كنيسة مار يوحنا الدمشقي (بإذن من طوني عبد الأحد)

ما هي تصورات الأميركيين عن السوريين الواصلين حديثاً؟ تقول جانيت حجّار (1928-2004)، التي أقامت طوال حياتها في أميركا: «لم يعرفوا من نكون.. كانوا يسألوننا، ماذا تكونون؟». وعندما تأتي على ذكر جبل لبنان، الذي غادره والدها عام 1902، كان يقال لها: «هل هذا بلد مثل الصين أو اليابان؟». حرصت السلطات الحكومية على قياس ومقارنة قدرة المجتمعات المختلفة على الاندماج الثقافي، فقد اعتقدوا بوجود سِمات مهنية وثقافية مشتركة لدى مختلف الأعراق. أجرت وزارة التعليم في ولاية ماساتشوستس عام 1921 دراسة حول «أجناس المهاجرين في ماساتشوستس» وصفت فيها السوريين بأنهم «وُلدوا تجّاراً»، في إشارة إلى عملهم كبائعين متجولين للبضائع الجافة. السلطات وضعت السوريين في التسلسل الهرمي المقارن في مرتبة عالية؛ ولكن حتى التعليقات التي تنم عن الإعجاب اتسمت في كثير من الأحيان بالاستعلاء: «فمع أنهم يملكون الدهاء الشرقي»، كما يقول مؤلف تقرير عام 1921، «إلا أنهم صادقون تماماً». ثم يضيف أن السوريين أحبوا الحديث عن «أمجاد سوريا القديمة»، ولكن «السوري […] هو أولاً وأخيراً ودائماً أميركي، قولاً وفعلاً. وليس لديه دولة أخرى تحظى بأدنى جزء من ولائه».William Isaac Cole, Immigrant Races in Massachusetts: The Syrians (Boston: Department of Education, 1921).

* * * * *

صدر تقرير وزارة التعليم ذاك بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي عاثت خراباً في الأراضي التي أتى منها سكان سوريا الصغيرة. حفزت تلك الفترة نمو علاقة هذه الجالية بوطنها الجديد، فقد تم إدراج السكان الذين لم يحصلوا بعد على الجنسية الأميركية بصفتهم رعايا تركيا، ولم يدرك إلا قلّة من المسؤولين الأميركيين آنذاك تعاسة العلاقات العربية-التركية. وقتها اغتنم السوريون الأميركيون الفرصة للتأكيد على وطنيتهم ​​وولائهم للولايات المتحدة، وعززوا في الوقت ذاته صلتهم بسوريا ولبنان من خلال تنظيم حملات جمع التبرعات وإرسال المساعدات.For a detailed study of the Syrian and Lebanese diaspora in the Americas during World War I, see Stacy D. Fahrenthold, Between the Ottomans and the Entente: The First World War in the Syrian and Lebanese Diaspora, 1908-1925 (Oxford: Oxford University Press, 2019).

من بين الآلاف الذين التحقوا به من جميع أنحاء البلاد، حوى الجيش الأميركي بين عامي 1914-1918 نحو 300 سوري من ماساتشوستس. العديد منهم سقط في ساحة الحرب، من بينهم كان شاب يدعى جون لوفتي، خُلدت ذكراه في هيرو سْكْوير (ساحة البطل) عند زاوية شارعي أوك وتايلر. كان لوفتي ابن مُهاجرَين سوريَّين، التحق بالجيش في السادسة عشرة من عمره، وتوفي في أرغون بفرنسا في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1918، قبل أيام من إعلان الهدنة. وفي 25 أيلول (سبتمبر) 1921، نظَّمَ نادي جبل لبنان حفلاً لتكريمه، استقطبَ ثلاثة آلاف نفر معظمهم من السوريين. وخصصت مدينة بوسطن الساحة للوفتي، فأصبحت بذلك واحدةً من عدة مناطق سميت تكريماً لوطنية الأميركيين السوريين في الخدمة العسكرية. فكأنما الاندماج النهائي لا يتحقق إلا من خلال التضحية بالنفس. اللافت بالنسبة للناطقين باللغة العربية هو أن لوفتي هو تحريف إنكليزي لكلمة «لطفي»، وقد ابتكر المجنّد هذا الاسم ليَسهُل على الناطقين بالإنكليزية. كانت مثل هذه التحريفات اللغوية من أساليب المفاوضة الشائعة على الهوية، اعتمدها المهاجرون وأطفالهم في سعيهم للاندماج، مع الحفاظ على لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم الخاصة.

استقر نجيب جورج كنان (كنعان؟) في شارع تايلر عام 1912، وتطوع في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الأولى. عند فرز وحدته المدفعية في فرنسا، تعرض كينان لهجمات غاز سام من العدو الألماني، لكنه نجا وعاد إلى بوسطن عام 1919، قبل أن يتوفى متأثرا بتلف رئوي بعد عامين فقط، عن عمر يناهز 24 سنة (بإذن من الأب تيموثي فيرغسون)
بطاقة التجنيد العسكرية الأميركية لأسعد شابو، في الحرب العالمية الأولى. كان شابو سريانياً يتكلم العربية من مديات، بالقرب من ماردين التركية. فرّ شابو مع عائلته إلى دمشق خلال مذابح الأرمن في تسعينات القرن التاسع عشر، حيث تعرض مسيحيون غير أرمن للقتل أيضاً. كان شابو حسب البطاقة يعمل كبائع متجول، وكان مقيماً في شارع هدسون (إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية الأميركية)

شارك السوريون الذين بقوا في بوسطن خلال الحرب بطرق أخرى، من بينها الصحافة. فوفقاً للإحصاءات الحكومية، كان لدى قرابة 80 بالمئة من الرجال في سوريا الصغيرة في تلك الفترة مقدرة على القراءة والكتابة باللغة الإنكليزية؛ لكن العدد كان أقل بكثير – حوالي 30 بالمئة – لدى النساء.Dillingham, Immigrants in Cities (Reports of the Immigration Commission) (Washington: Government Printing Office, 1911), 499. مع ذلك صدرت صحيفة خاصة بهنّ، صُمّمت لتغطية العنف والدمار الحاصل في سوريا، فلبّت بذلك حاجة مُلحّة، في وقت انصبَّ اهتمام معظم سكان بوسطن على الجبهة الأوروبية. اسم الصحيفة فتاة بوسطن، وقد كانت تصدر بالعربية مرتين في الأسبوع، ثم ثلاث مرات خلال سنوات الحرب. كان صاحبها رجل أعمال محلي بارز اسمه وديع شاكر (مواليد 1886)، عمل في شارع 40 تايلر، في قلب سوريا الصغيرة. وقبل أن يهاجر شاكر مع والدته الأرملة من زحلة، في الخامسة عشرة من عمره، كان طالباً في مدرسة بروتستانتية، وكانت هذه المدارس التبشيرية بمثابة نقط تواصل رئيسية مع الأميركيين في سوريا ولبنان. وقد اختار شاكر بوسطن وجهة لعائلته بعدما سمع، حسب رواية ابنته عالمة الأدب الراحلة إيفلين شاكر، أن بوسطن كانت «المركز الأدبي لأميركا».Evelyn Shakir, Bint Arab: Arab and Arab American Women in the United States (Wesport: Praeger, 1997), 18.

ترويسة صحيفة فتاة بوسطن، 8 أيار (مايو) 1919 (مركز خيرالله لدراسات الشتات اللبناني)

كانت فتاة بوسطن أكثر من صحيفة محلية، فقد انتشرت في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية وكوبا والمكسيك و«الخارج» باشتراك لم يتجاوز 3-4 دولارات في السنة. وكانت بمثابة دليل حي على الروابط القائمة بين الجاليات السورية في شتى أنحاء الأميركيتَين. لم تكن فتاة بوسطن الصحيفة العربية الوحيدة في ولاية ماساتشوستس، فقد أصدر جوزيف خوري، بالشراكة مع م. أ. نجّوم، صحيفة الوفاء من مدينة لورنس الصناعية المجاورة. وكان الوصول الجغرافي لصحافة الشتات واسعاً إلى درجة أنه اعتُبر تهديداً محتملاً من قبل المسؤولين العثمانيين في اسطنبول، ممن قرأوا المنشورات العربية والأرمنية التي تطبع في الولايات المتحدة، وحظروا في كثير من الأحيان دخولها إلى الأراضي العثمانية.

نشرَت فتاة بوسطن خلال الحرب العالمية الأولى مواد من العراق وسوريا وشتى أنحاء المنطقة العربية، ونقلت إلى قُرّائها تسارع عمليات النزوح البشري، ودسائس جمال باشا، والي سوريا آنذاك، وهزيمة قوى المحور في آخر المطاف. كما احتوت صفحاتها على دعايات للأدوات المالية التي باعتها الحكومة الأميركية للمواطنين بهدف تمويل الحرب. افتتاحية الصحيفة يوم 8 أيار (مايو) 1919 ناشدت قراءها من الأميركيين السوريين أن يفتحوا محافظهم ويشتروا «قروض النصر»، بعدما ساهموا أكثر من أي جالية أخرى في شراء «قروض الحرية». ثم هل كانوا سوف يتراجعون الآن عن اتخاذ الخطوة الأخيرة التي تضمن وفاء العم سام بوعده «لتحرير الشعوب الصغيرة المستعبدة على الأخص كالشعب السوري»؟ احتوت هذه المناشدة على صدى لعبارات الرئيس وودرو ويلسون في خطبته حول النقاط الأربع عشرة، والتي ألقاها قبل ذلك بعام أمام هيئة الكونغرس، وسمعتها الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار بقدرٍ غير هيّنٍ من الشكّ. مع ذلك، وجد خطاب مثل هذا مساحة له في صحف مثل فتاة بوسطن، في وقت كان الدبلوماسيون الفرنسيون والبريطانيون يستعدون لتقسيم الشرق الأوسط إلى إقطاعيات خاصة بهم. 

ترجمة عربية لحملة دعائية بعد الحرب تصف العم سام بأنه «الأخ الكبير» لجميع الدول الصغيرة في العالم. فتاة بوسطن، 8 أيار (مايو) 1919 (مركز خيرالله لدراسات الشتات اللبناني)

كان سكان سوريا الصغيرة فاعلين سياسيين على كافة المستويات، المحلية والوطنية والدولية، وقد ناقشوا مصير الدول العربية المجهول بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، وكان من بين الخيارات التي بدت معقولة آنذاك إقامة انتداب أميركي على الأراضي السورية. ومع اقتراب الحرب من نهايتها، قَدَّمَت الرابطة الوطنية في سوريا الجديدة، وكان مقرها نيويورك، يد المساعدة للنادي السوري الأميركي في بوسطن. هذا النادي، الذي كان يبعد مسافة شارع واحد عن مكتب صحيفة فتاة بوسطن، عزّز هذه الفورة الثقافية وأضاف لها بعداً سياسياً. وقد قدم النادي، خلال الحرب العالمية الأولى، ما كان على الأغلب أول أداء عربي لمسرحية هاملِت في الولايات المتحدة، ظهر فيه رجال ونساء من الحي على خشبة المسرح معاً.«Hamlet Given in Syrian,» Boston Daily Globe, April 6, 1914. كما قامت هَنا صبّاغ شاكر، التي كانت عاملة نسيج وخياطة متزوجة من وديع شاكر، مؤسس صحيفة فتاة بوسطن، بجمع النساء من أجل تشكيل جمعية إغاثة لسوريا ولبنان (سمّيت فيما بعد جمعية مساعدة السيدات اللبنانيات السوريات). ركزت المجموعة على جمع الأموال من أجل إرسالها إلى الخارج – إلى السوريين واللبنانيين والأرمن – ثم تحولت لاحقاً إلى جمعية عامة لمساعدة النساء المهاجرات في بوسطن. 

سوريون في بوسطن كومون، وسط المدينة، أثناء حملة لجمع التبرعات من أجل قروض الحرية عام 1918 (إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية الأميركية)
أهالي بوسطن من 11 دولة، بمن فيهم فتى سوري في المقدمة، يرتدون «الزي الوطني» خلال حملة قروض الحرية. هدفت الحملة إلى حشد الدعم من المقيمين الذين ولدوا في الخارج (إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية الأميركية)

أتت موجة النشاط المدني هذه في لحظة مفصلية في حياة السوريين بصفتهم جالية مهاجرة في الولايات المتحدة، فقد كان المسؤولون الحكوميون منشغلين وقتها بتصنيف الوافدين الجُدد والمحتمل وصولهم حسب العرق، وفقاً لفهمهم لعلوم الأعراق الزائفة آنذاك. واقتصر حق الحصول على الجنسية على من كانوا يُعتبَرون إما بيض البشرة أو ذوي أصل أفريقي (وكان ذلك إرث أحد قوانين ما بعد الحرب الأهلية الأميركية). لكن لم يجرِ اتفاقٌ حول ما إذا كان السوريون – وكذلك الأرمن، الذين كان وجودهم وازناً في أجزاء أخرى من بوسطن – يُعتبرون بيض البشرة أم لا، وبدلاً من ذلك ألصقت صفة ’المشرقيين‘ أو ’المنغوليين‘ بهم، وهي مصطلحات خرقاء تشمل أشياء مختلطة وكانت جزءاً من جهود السلطات الأميركية لاستبعاد وطرد المهاجرين الصينيين واليابانيين. أظهر قضاة ماساتشوستس تساهلاً أكثر من غيرهم في تفسير للقوانين، إلا أن حق السوريين القانوني في التجنّس بقي رهناً لأهواء القضاة، خصوصاً بعدما احتدم النقاش حول السِمات العرقية للمجموعات المختلفة في المحاكم. هذا إلى أن حلَّ عام 1915، ونجح مواطن سوري في ولاية ساوث كارولينا الجنوبية يُدعى جورج ضو بالطعن في رفض طلب حصوله على الجنسية من قبل قاضٍ ادعى أنه ليس أبيض البشرة. وقضت محكمة الاستئناف الفيدرالية بالحكم لصالح ضو، مما أرسى سابقة دائمة: أصبح السوريون الآن رسمياً بمثابة «بيض البشرة» في نظر الحكومة، ولديهم حقٌ قانونيٌ لا لبس فيه في التجنّس.On the reverberations of the Dow case, see Sarah MA Gualtieri, Between Arab and White: Race and Ethnicity in the Early Syrian American Diaspora (Berkeley: University of California Press, 2009). لكن، ولأن معظم المهاجرين الواصلين من سوريا ولبنان حينها كانوا مسيحيين، بات مصطلح «سوري» يعني الشخص المسيحي. بينما بقي تصنيف المسلمين السوريين غير واضحا في التصنيفات العرقية للحكومة الأميركية، وبالتالي حقهم في التجنس لم يكن مضموناً، فبقيت المحاكم الفيدرالية منقسمة حتى منتصف الأربعينات على حق العرب المسلمين أوالـ Arabians في التجنّس.

كانت مدرسة كوينسي الإعدادية، التي تقع في شارع تايلر، مؤسسة تعليمية التحقَ بها أبناء العشرات من ذوي الجنسيات المحظوظة وغير المحظوظة، وتعلموا في صفوفها جنباً إلى جنب. «كان بإمكان الواحد منّا أن يشتم بست لغات مختلفة»، تتذكر جانيت حجّار. وفي الليل، كان الموظفون، من الكهنة إلى عاملي البناء، يجلسون مقابل بعضهم على طاولات التلاميذ، ويتعلمون اللغة الإنكليزية و«كيف يصبحون مواطنين أميركيين صالحين»، على حد تعبير صحيفة بوسطن غلوب.«Making Good American Citizens: Evening Schools of Boston,» Boston Daily Globe, November 5, 1905. ونظراً لانشغال السلطات بالتحقق من قدرة المهاجرين على الاندماج الأخلاقي، فقد عملت باستمرار على قياس ميولهم المُتصوَّرة حيال المشاركة المدنية. مدرسة كوينسي نفسها أُنشئت لتكون مصدر إلهام فكريّ فيما يتعلق بمُثُل الديمقراطية المرتبطة بالحرب الثورية الأميركية. وقد صممها عام 1848 المهندس المعماري الشهير غريدلي ج. ف. برايَنت، ابن بوسطن الذي اشتُهر ببنائه جامعتي هارفارد وتافتس على طراز الإحياء اليوناني الكلاسيكي الذي شاع في منتصف القرن التاسع عشر. انغمس السوريون الملتحقون بمدرسة كوينسي في ما كان وقتذاك أكثر طرق التدريس تقدماً وحداثة، حيث يوزَّع الطلاب على عدة فصول، ويتلقى كل فصل حصة في مادة مختلفة في الوقت نفسه، وهو نظام ما يزال مستخدماً حتى اليوم. أغلقت مدرسة كوينسي أبوابها عام 1976 ونُقلت إلى موقع آخر. ثم اشترت المبنى الجمعية الصينية الخيرية الموحدة في نيو إنجلاند، ثم نصبت تمثال كونفوشيوس الكبير الذي يشرف على الموقع اليوم. 

مدرسة كوينسي الإعدادية، 2022. يعتبر القوس في الواجهة من سمات عمارة الإحياء اليوناني، وكذلك الهيكل الصغير الذي يشبه المعبد على السطح. بحلول ثلاثينات القرن الماضي، خلّفَ حريقٌ وإعصارٌ سقفَ البناء مسطحاً كما يرى اليوم (نيل لارسن، السجل الوطني للأماكن التاريخية – دائرة الحدائق الوطنية)

في يومنا هذا، نهاية شارع تايلر هادئة وساكنة أغلب الأحيان. ولكن بدلاً من كتلة الطوب الصرفة والطويلة التي تواجه مدرسة كوينسي القديمة، انتصب ذات يوم مركز للخدمات الاجتماعية للوافدين الجدد. كان اسم المركز دنيسون هاوس، وقامت بتأسيسه عام 1892 مجموعة نساء أعلنَّ تطبيق فلسفة الإخاء في نظامهنّ الاجتماعي، واعتبرنَ المركز مُحرِّكاً للارتقاء في السلم الاجتماعي. كان دنيسون هاوس من أول «منازل الاستيطان»، حيث تلقى عمال من الطبقة الوسطى حصصاً مختلفة في الطهي والنجارة واللغة الإنكليزية والخطابة العامة، فضلاً عن حصول المحتاجين على الإقامة والعمل والطعام في بعض الأحيان. وعندما وصل الصبي جبران خليل جبران برفقة والدته من قرية بشرّي، وكان يبلغ الثانية عشر من عمره آنذاك، التحق بصفوف الفن في دنيسون هاوس، وكان ذلك مدخله إلى عالم الفن البوهيمي في مدينة بوسطن.

دنيسون هاوس (من التقرير السنوي لدنيسون هاوس، 1913)

تغذية الروح مشت جنباً إلى جنب مع تعليم الأذهان والأيادي في مدرسة كوينسي الإعدادية ومركز دنيسون هاوس. ولأن جميع سكان سوريا الصغيرة تقريباً كانوا مسيحيين – موارنة أو كاثوليك أو أورثوذوكس – فقد كانت الكنائس مراكز للحياة الاجتماعية، وأماكن للتجمع والعبادة والتحدث باللغة العربية والاحتفال بالأعياد. ومع حلول ثلاثينات القرن الماضي، انتهى تشييد أربع كنائس سورية تبعد عن بعضها البعض مشية خمس دقائق، هي كنيسة سيدة الأرز المارونية، وثلاث كنائس أورثوذوكسية: مار جرجس، والقديس يوحنا الدمشقي، والقديسة مريم. ازدهرت كل واحدة منها. وقد كرّس الأب جوزيف يزبك كنيسة سيدة الأرز المؤلفة من أربعة طوابق بجوار مدرسة كوينسي الإعدادية عام 1899، واستدعى في تسميتها رمزاً لا لبس فيه لوطن رعاياها لبنان، بحيث تكون ملاذاً روحياً دائماً لهم في بوسطن. وبحلول عام 1902، نما عدد المصلين بما يكفي لجمع التبرعات لعيد الفصح، كما جذب عمدة المدينة الأيرلندي المولد باتريك أندرو كولينز. بعدها بعامين، حصلت كنيسة سيدة الأرز على قطعة قيلَ إنها من الصليب الذي قضى عليه المسيح، وأقيمت صلاة التأبين المحلية لجبران خليل جبران بعد وفاته عام 1931. توسعت الكنيسة بشكل متكرر لكي تستوعب المزيد، إلى أن حلت بدلاً منها، في الموقع نفسه بشارع 78 تايلر، بعثة مسيحية صينية في عام 1946.

كنيسة مار جرجس (القديس جورج) الأورثوذكسية في شارع تايلور، التي بنيت بين عامي 1919 و1921 وتم هدمها من أجل مشروع بناء الطريق السريع الذي تم تنفيذه في خمسينيات القرن الماضي (بإذن من الأب تيموثي فيرجسون)

* * * * *

مع نمو سكان سوريا الصغيرة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وانتقال أهلها إلى الجنوب، بعيداً عن حي الملابس، وبمحاذاة السكّة الحديدية المرتفعة التي حملت السكان من أقاصي المدينة إلى قلب الحي التجاري، تغيرت الأسماء المسجلة في صكوك الملكية على طول شارع شوموت، من أسماء إنكليزية مثل كابوت وآدمز ودوبسون، إلى أسماء عربية مثل خوري وشاهين وصليبا.

خريطة في أطلس مدينة بوسطن تُظهِرُ ملكية العقارات لفترة قصيرة في شارع شوموت عام 1938، معظم الأسماء عليها تعود لأشخاص سوريين (بإذن من مركز ليفنثال للخرائط، مكتبة بوسطن العامة)

قد يشعر المارّة بأن الحارة الأصلية التي كانت تحيط بشارعي تايلر وهَدسون قد انفصلت تماماً عن الامتداد الجديد لسوريا الصغيرة على طول شارع شوموت. ففي حين قسمَت السكة الحديدية الحيّ من شرقه إلى غربه في السابق، إلا أن الحماس للتخطيط الحضري استولى على مسؤولي البلدية في جميع أنحاء البلاد خلال الخمسينات والستينات، مما دفع بعضهم إلى تغيير البيئة العمرانية بشكل جذري: فأنشأوا طريقاً أعرض وأعمق على طول السكة، بهدف استيعاب زحمة الطريق السريع بين الولايات، وتغذية شبكة متداخلة وقبيحة من الطرق التي تخترق المناظر الطبيعية. إضافة إلى ذلك، أشرف مسؤولو المدينة على جرف أطراف الحي برمتها، بما فيها الحارات المجاورة، بغية إفساح المجال لأعمال تنمية لن تؤتي ثمارها إلا بعد عقود من الزمن.  

بادئ الأمر، سعت هيئة إعادة تطوير بوسطن، وهي القسم المكلف بإعادة تشكيل الأحياء التي تُعتبر قديمة وقبيحة المنظر، إلى إشراك السكان في تَخيُّل مستقبلهم. وكانت نبيهة حجّار، والدة جانيت حجّار وإحدى مالكات المنازل في الحي، من بين من وافقوا على المشاركة. ولكن ست سنوات من الحديث أصابتها بالاشمئزاز، على حد تعبيرها. فقد رسمت البلدية خريطة تلو الأخرى، وخطة بناء وهدم تلو الأخرى، من دون أن يفيد أيّ منها الناس الذين يعيشون هناك. 

«لا أظن أن [ساوث إند] كان أسوأ من أي مكان آخر، سواء نورث إند أو ويست إند على سبيل المثال»، تقول حجّار في مقابلة لها. «ولكن لسبب ما … كانوا يشيرون إلى الطرف الجنوبي ويطلقون عليه صفة الحي الفقير». وعلى الرغم من وجود الكثير من الحانات التي تجذب السكارى وأعمال الدعارة بإثرهم، إلّا أن أياً من ذلك لم يهدد النسيج الحياتي للسكان. بل قد يقول مشكك بالهيئة الحكومية إن أكثر جوانب هذا الحي غرابة هي التي تميزه وتجعله محط اهتمام حقاً.

لفريدريك شبلي (1905-1970) سيرة مهنية حافلة، فقد عمل بهلواناً مسرحياً ثم صحفياً محلياً يعطى حصصاً جانبية في الرقص، قبل أن يُزَج في السجن بتهمة سرقة بنك. في عام 1910، صدر تقرير حكومي أشار في سياق دراسة عن حارات حي هدسون إلى وجود «مراكز انحلال أخلاقي لا تخص أي عرق على وجه التحديد». ولكن حتى عام 1938، لم يتمكن أحد قبل شبلي من تحويل عوالم الحي السفلية إلى مواضيع شيقة وحصرية للصحف المحلية. تبنّى شبلي في مشروعه الصحفي الذي امتد ثمانية وعشرين عاماً اسماً مستعاراً هو «ابن سنوبين»، الذي يحتوي على تورية ثنائية تجمع بين كلمتي «ابن» العربية وsnooping الإنكليزية (والتي تعني «تطفّل»)، في إشارة إلى طبيعة عمله وتقصّيه حياة الآخرين. وامتلأت صفحات ميدتاون جورنال التي أطلقها بالعناوين النارية والفاحشة، مثل «قُبض عليه وهو يزعم أنه هي» أو «ثلاثة حسناوات في سرير واحد، بل شيخ وفتاتان».Iben Snupin, Reeling Around (Boston: Journal Publishing Company, 1945), 5, 23. وجد ابن سنوبين متعة في سرد تلك الحكايات الفاسقة. وبينما انشغلَ مسؤولو المدينة برصد التدهور المجتمعي في الحي، رأى ابن سنوبين فيه مرتعاً يفيض بالقصص الرائعة.

صورة لعائلة شبلي: فريدريك وإخوته، ووالديه موسى شبلي وإيما أبراهام، 1925. من كتاب قصص حب حقيقية المطبوع عام 2000 (بإذن من ريتشارد شبلي)
فريدريك شبلي المكنى بابن سنوبين، متلصص في الأنحاء (بإذن من ريتشارد شبلي)

كانت سادي بيترز (بالعربية سعدية بطرس)، التي توفت عام 1975، شخصية اجتماعية من كفر حلدا في لبنان، نجحت خلال حياتها في الدفاع عن جيرانها من السكان المحليين ضد الخطط التي أعدتها هيئة إعادة تطوير بوسطن لحيّها. اسم سعدية وزوجها صانع الأحذية جورج بيترز منحوت على صخرة عند أحد مداخل حديقة بيترز، على بعد خطوات قليلة من منزلهما السابق. على الطرف الآخر من الطريق السريع، واجه حي الملابس الذي بدأ فيه الكثير من السوريين حياتهم المهنية، وصار فيما بعد يوظف النساء الصينيات في المقام الأول، خططَ إعادة التطوير أيضاً، وكُلِّلَت محاولاته ببعض النجاح. ولكن الصناعة نفسها تراجعت بأي حال، مع اشتداد المُنافسة الأجنبية وانتقال الجيل الثاني والثالث من المهاجرين إلى وظائف أعلى مرتبة. 

سعدية بطرس في سبعينات القرن العشرين (Peterspark.org)

بحلول السبعينات، انتقل كثير من السوريين إلى أطراف المدينة وضواحيها. مع ذلك استمرّ نشاط تجاري واحد على الأقل بلا انقطاع. افتتحت عائلة منصور الشركة السورية لاستيراد البقالة في شارع 270 شوموت عام 1940، وما تزال الأجيال اللاحقة تُبقي المحل مفتوحاً من وقت لآخر. تَعرِضُ نوافذ المحل الأمامية الكبيرة أواني خزفية ملونة، وأطقم قهوة وأرجيلة حلوة، تشبه تلك التي استخدمها السكان الأوائل في سوريا الصغيرة. هذا المتجر مثال على محلات الاستيراد التي ما تزال تضفي حيوية على الحي الصيني، كما على أحياء سايغون الصغيرة وسوريا الصغيرة، التي تزود المهاجرين بمواد من بلدانهم الأصلية، وتدفع الزبائن الفضوليين لتجربة شيء غير مألوف.

انعكاس شارع شوموت في نافذة شركة البقالة السورية المستوردة، 2022 (بإذن من أليسون ترندروب)

في آخر الشارع، عند 296 شوموت، توجد لافتة قديمة باللونين الأبيض والأصفر تحمل اسم مطعم صحارى السوري. تقع اللافتة عند زاوية مبنى رثّ ومُغطى بالألواح، شُيِّدَ بالأصل على طراز الإحياء اليوناني في منتصف القرن التاسع عشر. كان هذا البناء كنيسة لوثرية ألمانية في البداية، ولكن بحلول ستينات القرن العشرين أصبح أحد أهم الوجهات في المدينة. فقد أثار اسم مطعم صحارى السورية، بالإضافة إلى الأهرامات التي ظهرت في بعض إعلاناته، فضول المستشرقين، وقدم المأكولات السورية لأبناء الحي، والمأكولات الأميركية لمن هم أقلُّ فضولاً. وتُظهِرُ الصحف من أيام عز مطعم صحارى السوري أن قائمة المأكولات اشتملت على الحُمّص، وورق العنب، والكبّة، والشيش كباب، ولحم الضأن، والمعجنات، والأهم من كل ذلك: «شرائح وقطع لحمة تليق بسلطان!». أغلق المطعم أبوابه عام 1972، وبِيعَ لعائلة منصور التي تمتلك محل مواد مستوردة قريب. ورغم أن المبنى ما يزال مغلقاً جراء ظروف غامضة بعد مضي أكثر من خمسين عاماً، إلا أن اللافتة تبقى مَعلَماً مميزاً في ذلك الشارع. وغالباً ما يتوقف سكان بوسطن والزوار المتجهون إلى المطاعم الراقية في المبنى، ويفحصون بفضول وحيرة هذا التلميح الغريب إلى الصحراء.

مطعم صحارى سوريا يعلن عن حفلة طوال الليل بمناسبة رأس السنة الجديدة (من سجلّ بوسطن، 27 كانون الأول 1965)
مطعم صحارى سابقاً، 2022

بمجرد أن يبدأ المرء البحث عن سوريا الصغيرة، حتى تظهر آثارها في الحي الصيني وحي ساوث إند، مرتبطة بالإرث الأكبر للهجرات الأطلسية من الإمبراطورية العثمانية والدول القومية التي ظهرت بعد انهيارها. ورغم أن سوريا الصغيرة قد لا تبدو حياً متماسكاً بالنسبة إلى المارّين منها اليوم، إلا أن الميادين المسماة على اسم محاربين قدامى من أهلها، ومحلات مثل شركة البقالة السورية المستوردة، تمثل ذكرى لمجتمع ما يزال يعيش في بوسطن. لقد اختفت الكنائس التي كانت منتشرة في شوارع تايلر وهَدسن، والتي شكلت ذات يوم جزءاً من هذا المشهد الحضري. ولكن المؤسسات نفسها ما تزال باقية، وإن أعادت ضرب جذورها في أماكن غير سوريا الصغيرة، أو جددت مواردها لاستقبال موجات وفود تالية.

وبصرف النظر عن هذه الاستمرارات، إلا أن إغلاق مطعم صحارى تقاطعَ مع عدة أحداث، منها تعطيل المشهد العمراني وتشتت السكان، وكذلك التحولات السياسية والديموغرافية في كافة أنحاء البلاد. وقد أدى إقرار قانون الهجرة الجديد في الولايات المتحدة لعام 1965 إلى إلغاء الحصص القائمة على أساس علوم الأعراق الزائفة، مما فتح باب الهجرة على أوسعه للقادمين من غرب آسيا وشمال إفريقيا. ورغم أن عملية الهجرة ظلت مُرهِقة وتعسفية في كثير من الأحيان بعد 1965، إلا أن الأصول الجغرافية للوافدين الجدد ازدادت تنوعاً، كما ازدادت نسبة المسلمين بينهم زيادة حادة. بقي جميع هؤلاء، على الورق – مثل استمارات التعداد على سبيل المثال – في عداد ’بيض البشرة‘، وهو تصنيف مارست الموجة الأولى من السوريين المهاجرين ضغطاً قوياً وناجحاً بخصوصه، ولكن الناشطين والناشطات في السنوات الأخيرة صاروا يدفعون لتغييره. كان المبشرون قبل الحرب الباردة هم الأميركيين الوحيدين الذين يعرفون المنطقة العربية، إلا أن عقد الخمسينات شهد تسارعاً كبيراً في وتيرة التدخلات العسكرية والاقتصادية. وفي عقد السبعينات، شهدت البلاد تبنياً واسعاً لأيديولوجيا التعددية الثقافية، صَحِبَهُ مباشرةً تَحولٌ مقلق في الخطاب المتعلق بالعرب وأزمة النفط. وقد أدت سلسلة من عمليات الاختطاف التي قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية، بالإضافة إلى الفهم المشوّش لثورة 1979 في إيران، إلى تبلور صورة نمطية عن العرب وانتشار الشكوك بخصوصهم. بذلك مثلت حقبة ما بعد 1965 أبواباً جديدة مفتوحة، وقوالب نمطية ستؤول إلى نشوء سياسات الذعر التي تحثّ على «الحرب على الإرهاب» أو على «حظر المسلمين» كما جرى عام 2017. 

* * * * *

بوسطن مدينة ملأى بالتاريخ. تأسست عام 1630، على أرض قبيلة ماساتشوستس. ربما جاء ذلك بعد أكثر من قرن من غزو السلطان سليم الأول للأراضي العربية، ولكن التاريخ يُنَصِّبُ بوسطن كواحدة من أقدم المستعمرات الاستيطانية المستمرة في أميركا الشمالية. يحتشد السياح في شوارع وسط المدينة قبل كل شيء لكي يروا المكان الذي لطالما احتفي به بوصفه «مهد الثورة الأميركية». مع ذلك، فإن قلّة من الذين يتجولون في هذه الغابة الكثيفة من اللوحات التاريخية التي أُقيمت تخليداً للقرن الثامن عشر – بل والقليل من الذين يعيشون بداخلها – يدركون أن سوريا الصغيرة كانت جزءاً منها.

يُظهِرُ الخطاب الحالي على المسرح الوطني الأميركي وجود ضرورة سياسية ملحة لتأكيد وجود هذه الجالية، وإيضاح الطرق التي ارتبطت فيها بالشبكات المحلية والوطنية وتلك العابرة للمحيطات. لكن التجوال في سوريا الصغيرة يتطلب أيضاً نهجاً للتعامل مع الماضي، يتجاوز سياسات الوقت الحاضر، ويتجاوز حدود المدينة الأميركية التي يمر منها.

فقط من خلال ذلك يمكن أن نلمح حياة أناس مثل النحّاس وشبلي وشاكر وعبد الأحد وحجّار وبطرس من خلال الصور العائلية، وسجلات الممتلكات، ومقتطفات الصحف، والمذكرات، والتواريخ الشفوية المسجلة على الكاسيتات… وكذلك لافتات الشوارع المثيرة للفضول، والالتفافات الغريبة في الشوارع الخلفية. مثل هذا النهج يتيح لنا فرصة التوقف مؤقتاً في مساحات فارغة، قبل أن نعود للمشي ببطء وانتباه، لكي نجمع شظايا الماضي ونضمها إلى لوحة تاريخية أكبر وأكثر وضوحاً.