طيلة فترة مراهقتي، وفي آخر الليل، كنتُ أهربُ إلى تلك الشقّة الفارهة التي بنيتها في خيالي. تُطلّ شرفتها الواسعة على شاطئ بحر لم أره يوماً في حياتي لأنّني أعيش في قرية حدوديّة معزولة. أدخلتُ إلى تلك الشقّة رجالاً كثيرين، جميعهم أكبر منّي سنّاً. فلنقل أنّهم في عمر أبي. ليس في الأمر أية دراما أو محاولة للتعويض عن حرمان ما أو بحث طفوليّ عن الأمان. كنت فقط غير مُقتنعة بأداء الذكور في سنّي.
طيلة فترة مراهقتي وأنا أحاول أن أعيش قصص حبّ من نسج خيالي ومن طرف واحد، أبطالها أساتذتي في المعهد. في سنّ الرابعة عشر كتبت «رواية» توثّق قصّة حبّ جامحة غير تقليدية، أو هكذا كنتُ أظنّ. بطلة الرواية فتاة اغتصبها زوج أمّها المُجرم فحملت منه. دخل لصّ إلى المنزل ذات ليلة ووقعت في حبّه من أوّل نظرة. هربت البطلة المُغتصَبة الحامل مع البطل اللصّ المُلثّم وعاشا معا حياة هانئة سعيدة.
هذه الخيالات الهوليو-بوليوديّة هي نتاج ثقافيّ بحت، وتُعبّر بشكل أو بآخر عن عُقدة سندريلا التي شرّحتها الكاتبة الأميركيّة كوليت داولنيغ في كتابها الذي حمل العنوان نفسه. نحن الفتيات الحالمات الرومانسيّات، ننتظر بطلنا المُنقذ. فارس الأحلام الوسيم القادم من بعيد فوق حصانه الأبيض كي يأخذنا معه ويحمينا من الأشرار. كيف يُمكن ألاّ نحلم به وألاّ ننتظره بعد قراءة قصص المكتبة الخضراء، مثل بيضاء الثلج وعروس البحر وأميرة القصر الذهبي والجميلة النائمة؟ كيف يُمكن ألاّ نحلم به وألاّ ننتظره بعد مشاهدة كلّ تلك الأفلام الكرتونيّة التي تنتهي دائماً بزواج البطلة من البطل الشهم الشُجاع؟
هذه الخيالات الغارقة في رومانسيّة مغشوشة، هي أيضا نتاج كلّ تلك المسلسلات المكسيكيّة التي غذّت خيالنا؛ نحن بنات جيل الثمانينات والتسعينات. نتذكر جميعنا غوادالوبي وإزميرالدا وكاسندرا وراكيل وآنا كرستينا. جميعهنّ بطلات فائقات الجمال، ورقيقات، ومُستسلِمات، وطيّبات، وغيورات، وتعيسات، يعشن قصص حبّ مُستحيلة مع رجال وسيمين أقوياء تنتهي دائماً بزواج سعيد. كنّا نبحث عن نهايات سعيدة، ولم نكن نعرف أنّ أبطال قصصنا متحرّشون ومغتصبون ومتملّقون ومستغلّون وأنانيّون وذكوريّون.
نحن بنات جيل الثمانينات والتسعينات، لم نعرف في القصص والروايات غير نموذج واحد للحبّ، طرفاه رجل قويّ وامرأة هشّة. لم نقرأ في الشعر غير نُسخ مشوّهة لحبّ عذريّ مُلتهب. قصائد كتبها الرّجال وروايات كتبها الرّجال ودور نشر يمتلكها الرّجال. ثمّ جاءت روايات عبير التي كتبتها نساء لا نذكر أسماءهنّ. نساء حملن لواء الذكوريّة عالياً وكتبنَ قصص حبّ ساهمت بشكل كبير في تشكيل المخيال الجمعيّ لفتيات مراهقات متعطّشات للحبّ. الحبّ كتِركة ثقيلة ورثناها عن آبائنا الأوّلين.
مثل أغلب بنات جيلي، قرأتُ روايات عبير التي وجدتها صدفةً في مكتبة القرية. كنتُ قد ضقتُ ذرعاً بروايات المنفلوطي الحزينة وقصص حبّه العفيفة وماجدولينه وفضيلته. فهمتُ يومها من ملامح أمين المكتبة «العم توفيق» أنّ هناك خطباً ما. وضعتُ على مكتبه بعض روايات عبير كي أستعيرها بفضل الاشتراك السنويّ الذي لا يتعدّى بضعة دنانير، فاكفهرّ وجهه ولم يقل كلمة واحدة. عُدت إلى المنزل مُسرعة كي أكتشف السرّ الخطير الذي تُخفيه هذه الروايات، والذّي أربك ذلك الرّجل الرّصين. قرأت ثلاث روايات دُفعة واحدة. أذكر جيّداً الرواية الأولى التي قرأتها، عنوانها العروس الأسيرة. تبدأ الأحداث بزواج غير سعيد وتنتهي بزواج سعيد وأطفال. تتخلّل الرواية مشاهد قُبل وعناقات حارّة فهمت أنّها كانت السبب وراء ارتباك أمين المكتبة.
قرأت الكثير من روايات عبير، وكنتُ مثل أغلب بنات جيلي نُخفيها عن الأعين المُتربّصة. في حقيقة الأمر لم أكن أفهم كثيرا كلّ ذلك الحذر لمجرّد أنّ البطل يُعانق البطلة وينامان معا في سرير واحد، لكنّني كنتُ مُضطرّة لاتّباع الأمر العليّ بوجوب حجبها وقراءتها خلسة. قرأت الكثير من روايات عبير، لكنّني لا أذكر تفاصيل الحكايات لأنّها غير مُلهمة وتنساها بمجرّد الانتهاء من قراءة الأسطر الأخيرة. كلّ ما أستطيع قوله أنّني ربيّت داخلي حقداً دفيناً تجاه بطلاتها الناعمات. لم يُعجبني كثيراً دور الفتاة المُضحيّة المُستكينة، خاصّة وأنّني من مُعجبات نازك السلحدار في مسلسل ليالي الحلميّة، تلك المرأة المُتغطرسة التي تتزوّج الرّجال وتُطلّقهم مثلما تشاء.
قرأنا روايات عبير لأنّنا في ذلك الزمن لم نكن نمتلك ترف المعرفة، ولأنّه لم يُوجد بديل لقصص العشق التقليديّة والمُكرّرة. طغت المركزية المشرقية على المخيال المغاربي بسبب قلّة الإنتاج الدراميّ والأدبيّ. لم نمتلك في تونس ماكينة إنتاج ضخمة، وما زلنا. اقتصرت إنتاجاتنا الدراميّة على مسلسل يتيم تُنتجه التلفزة الوطنيّة كلّ شهر رمضان. هل كنّا سنجد هذا البديل في مسلسل غالية أو عنبر الليل أو الخُطّاب على الباب؟ هل كنّا سنجد هذا البديل في نصوص الأدب التونسيّ التي كان وجودها شحيحاً في الكتب المدرسيّة بالمقارنة مع نصوص الأدب المشرقيّ؟ أعتقد أنّنا نعرف نزار قبّاني أكثر ممّا نعرف منوّر صمادح ونعرف نجيب محفوظ أكثر ممّا نعرف علي الدوعاجي.
كانت روايات عبير ملاذنا السريّ لتحرير خيالنا، وتجربتنا الأولى في قراءة الأدب العالميّ المُترجم. شخصيّاتها لا تُشبهنا. لا يتكلّمون لغتنا ولا يأكلون أكلنا. يعيشون داخل الفيلّات الفخمة والقصور المهيبة. يمتلكون الشركات والأراضي والمزارع ويسافرون حول العالم ويتنقّلون في سيّارات لم نرها يوماً في حياتنا. حبّ طبقيّ مُتبرجز وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. بطل روايات عبير وسيم، عريض المنكبين، طويل القامة، ذو أنف دقيق وملامح حادّة، سريع الغضب ولكنّه طيّب، غامض، شبِق، جذّاب وفحل. بطلة روايات عبير ساحرة الجمال، بشرتها بيضاء وخالية من العيوب، شعرها أشقر طويل يتهدّل فوق كتفيها كأمواج ثقيلة، جسدها غضّ ومُثير، عيناها ملوّنتان؛ «خضراء مثل العشب» أو «زرقاء مثل السماء». الجمال الأبيض القادم من أوروبا البيضاء.
أمّا نحن، فكنّا مجرّد مراهقات صغيرات نعيش في بلدان العالم الثالث. لم نبدأ بعد في استكشاف أجسادنا، ولا نعرف جسد الآخر. نتصارع مع الدورة الشهريّة وحَبّ الشباب ومُحاصَرَات بسرديّات جاهزة ومنمّطة عن الحبّ والعلاقات والزواج والجمال. أغرتنا تلك العوالم البرّاقة وذلك الحبّ غير العربيّ الذي لا تشوبه شوائب الفقر وقلّة الحيلة. سرعان ما خفّ لمعان عبير ورواياتها لأنّ البطلات متردّدات وحائرات ومُضحيّات، يتكلّمن بصوت مرتعش وغير قادرات على المُحاججة. انحصر وجودهنّ في أدوار الرعاية، فأغلبهنّ إمّا ربّات بيوت ميسورات الحال أو ممرضّات أو مُعلّمات بالمدرسة أو سكرتيرات أو ثريّات حنونات يتطوّعن أسبوعيّاً لرعاية المسنّنين والأطفال الفقراء القابعين في المستشفيات. جميعهنّ يُجِدنَ الطبخ وأعمال المنزل، وجميعهنّ أنيقات وخبيرات دوليّات في الديكور والبستنة. خفّ لمعان عبير وروايتها لأنّ الرّجال هم المتحكّمون في زمام الأمور والأحداث، وهم الأكثر موهبة وذكاء وقوّة وتحقّقاً.
تُلخّص رواية عاشت له، وهي أوّل رواية نُشرت ضمن سلسلة عبير سنة 1981، المنحى العام للكتابات الرومانسيّة التجاريّة السائدة في تلك الفترة. تلتقي البطلة بالبطل القاسي صُدفة. ينظر إليها فتدخل إلى معبد الحبّ جاثية راكعة. تكتم حبّها المُستحيل وتظلّ عالقة في دوّامة لا قرار لها. تقع في مأزق فيُنقذها فتُحبّه أكثر وتتعذّب أكثر. تظلّ الأحداث هكذا تدور في فَلَك الكبرياء والحبّ والغيرة والغضب. في النهاية وقبل السطر الأخير، تعترف له بحبّها فينهار ويقبّلها ويتزوّجها ويُنجبان أطفالاً في اللّحظة نفسها. تتغيّر الأمكنة وأسماء الشخصيّات وبعض الأحداث لكنّ الهيكل واحد، وكأنّه الشخص نفسه من كتب جميع الروايات في نصف يوم. حتّى الأوصاف والمصطلحات المُستخدمة هي نفسها وتكاد لا تخلو من عبارة «وحدّقَ فيها». حيث يظهر التحديق كسلطة وكشكل من أشكال الأدائيّة الذكوريّة. صحيح أنّ الكاتبات نساء لكنّنا نسمع فقط صوت الرّجال ونرى العالم بأعينهم. لم يُحاولن التأسيس لـ«تحديق مُعارض» على رأي بيل هوكس ولا حتّى قلب الطاولة وكسر روتينيّة الأحداث المتوقّعة. بطلات روايات عبير غير مرئيّات وكذلك كاتباتها، فقد كتبت العديد منهنّ بأسماء مُستعارة مثل آن هامبسون التي كتبت أكثر من 120 رواية تحت اسم جان ويلبي. هنّ أيضاً نتاج مجتمعاتهنّ التي تنتصر للأدباء الرّجال وتحتفي بالجمال المُمعيَر والحبّ المسموم والزواج كنهاية حتميّة.
انتشرت روايات عبير في الوطن العربيّ في الثمانينات بمعيّة فرع دار النشر هارلوكان بقبرص. كانت استراتجيّتهم في تلك الفترة البحث عن أسواق جديدة للكتاب غير السوق البريطانيّة والأميركيّة والأوروبيّة. اختاروا اسم عبير للسلسلة لأنّه ناعم وغير مُحمّل بحمولة دينيّة. لا أعتقد أنّ دار النشر كانت ستختار مثلا اسم إيمان أو تقوى أو ساجدة لسلسلة روايات رومانسيّة. اشتغل مقصّ الرقيب في كلّ الترجمات وعُوّض الجنس بعبارة «وتعانقا». بيعت روايات عبير في دول الشرق الأوسط والخليج العربيّ وشمال إفريقيا وأحدثت ضجّة بسبب «وتعانقا» هذه. ولأنّ قراءة روايات عبير رجسٌ من عمل الشيطان فقد طوّرنا، نحن المراهقات الصغيرات، بعض المهارات في دسّها بين الثياب أو تحت المرتبة. ولأنّ عبير رمزٌ للأدبِ الرخيص والرومانسيّة المُبتذلة، أطلّت علينا زهور المُحتشمة. سلسلة الروايات الرومانسيّة الجديدة التي طرحتها المؤسّسة العربيّة الحديثة ضمن مشروعها روايات مصريّة للجيب.
اتّخذت المؤسّسة العربيّة الحديثة شعارين أساسيّين للتسويق لسلسلة زهور، طُبعا على ظهر أغلفتها، وهما: «سلسلة رومانسيّة رفيعة المستوى»، و«السلسلة الوحيدة التي لا يجد الأب أو الأمّ حرجًا من وجودها بالبيت». هكذا طُرحت سلسلة زهور كبديل عربيّ للانحطاط الأخلاقيّ الغربيّ مُمثّلاً في روايات عبير. نُشر أوّل عدد من سلسلة زهور تحت عنوان من أجلك للكاتب نبيل توفيق. لا يختلف كثيراً هذا العنوان عن عنوان العدد الأوّل من روايات عبير؛ وعاشت له. كلاهما مُحمّلان بمعاني التضحيّة والتفسّخ من أجل الحبّ. شارك في تأليف أغلب روايات سلسلة زهور كاتبان مُختصّان في الأدب البوليسيّ، وهما نبيل فاروق كاتب سلسلة رجل المستحيل وشريف شوقي كاتب سلسلة المكتب رقم 19. تعدّ سلسلة رجل المستحيل الشهيرة النقيض الذكوري لروايات عبير. الرومانسيّة للبنات والقصص البوليسيّة للأولاد. البنات مُنبهرات بعوالم طافحة بالحبّ والحنان والأولاد مُنبهرون بعوالم أدهم صبري ضابط المخابرات المصريّة الأسطوريّ. أضاف نبيل فاروق لـرجل المستحيل بعض البهارات الرومانسيّة، فزوّج البطل أدهم صبري بالبطلة منى توفيق بعد قصّة حبّ عذريّة. انعكست هذه النزعة المحافظة على جميع الروايات الرومانسيّة التي ألّفها نبيل فاروق ضمن سلسلة زهور. تقول ريهام بطلة رواية من أجلك: «الزواج هو النهاية المُنتظرة لكلّ علاقة حبّ نظيفة». فبئساً لعلاقات الحبّ غير النظيفة ومرحى للحبّ النظيف، والجنس النظيف، والأدب النظيف، والسينما النظيفة، والأغاني النظيفة، والمسرح النظيف.
كتبت منى منصور بعض الروايات ضمن سلسلة زهور، لكنّ صوتها خافت وغير مسموع بالمقارنة مع أصوات الكتّاب النجوم. لا أحد يتذكّر منى منصور مثلما يتذكّر نبيل توفيق وشريف شوقي وبدرجة أقلّ فوزي عوض. حاولت منى منصور أن تكتب بشكل مُختلف مُسلّطة الضوء على بعض القضايا النسويّة مثل قضيّة الولاية، لكنّها في نهاية المطاف تنصاع إلى الخطّ التوجيهيّ العامّ لدار النشر. تبدأ رواية زواج العمر بتذمّر يُسر من وضعها لأنّها غير قادرة على استخراج جواز السفر بنفسها. تحتاج إلى زوجها وائل، وليّها الشرعيّ، ليقوم بهذه المهمّة. تطلب والدة يُسر من ابنتها بألاّ تدع أحداً يقف أمام حُلمها في السفر إلى باريس وتَعلُّم اللغة الفرنسية ولو كلّفها الأمر الانفصال عن زوجها. نحن إذن أمام نموذج مختلف لأمومة غير مخصيّة وبُنوّة راغبة في التحقّق. تبدو بداية الرواية واعدة، لكنّها تنتهي بتخلّي يُسر عن أحلامها والتضحية بنفسها من أجل الاستقرار العائليّ. صحيح أنّ شخوص روايات زهور يُشبهوننا، يأكلون أكلنا ويتكلّمون لغتنا، لكنّهم مثل شخوص روايات عبير، يلوكون علكة الذكوريّة ويعيدون إنتاج خطابات الهيمنة نفسها.
تعلّمنا أنّ الحبّ يعني التضحية، فقدّمنا وقدّمت من قبلنا أمّهاتنا وجدّاتنا أرواحهنّ قرابين على مذابح الرّجال. تعلّمنا أنّ الحبّ هو الرومانسيّة فصرخنا غاضبات: «أنا عاوزة ورد يا إبراهيم». تعلّمنا أنّ الحبّ للشجعان فدُسنا على جراحنا وأكملنا الطريق. لكنّنا لم نتعلّم أنّ الحبّ ليس رديفاً للتضحية وأنّنا نحن النساء لسنا حارسات أبديّات لمعبده. الحبّ ليس أعمى. الحبّ لا يعني التفسّخ والانكسار والاستنزاف. الزواج ليس تتويجاً للحبّ وليس نهاية إجباريّة لأيّ علاقة. نحتاج إلى كسر عقدة سندريلا. نحتاج إلى إعادة التفكير في الحبّ من منظور نسويّ. الحبّ كبناء ثقافي. المشاعر كمنظومة مُسيّسة.
منذ أشهر قليلة، أفقنا على خبر مقتل الطالبة نيرة أشرف على يد زميلها محمد عادل بجوار جامعة المنصورة. انضافت نيرة إلى قائمة ضحيّات العنف الذكوريّ الطويلة. تداولت العديد من المواقع الصحافيّة الخبر تحت عنوان «ومن الحبّ ما قتل». تحدّث الجميع عن عشق عادل لنيّرة. عن الحبّ من طرف واحد. لم يكن عادل في نظر المتعاطفين معه مُجرماً يستحقّ العقاب بل كان المُحبّ الولهان الذي لم يحتمل رفض محبوبته فقتلها. هذا التطبيع الصريح مع العنف واعتبار الحبّ سبباً وجيها للقتل هو جزء من ثقافة الحبّ في مجتمعاتنا. الحبّ مرتبط بالسيطرة والتملّك والأذى. محمد عادل مُجرم وليس رجلاً مُحبِّاً. محمد عادل ذبح فتاة بسكّين كي يُرضي رجولته الهشّة. محمد عادل مُجرم ومُبتزّ مهووس ولا شيء آخر غير ذلك.
كبرنا ولم نعد مراهقات وفهمنا بأنّ هناك فروقاً بنيويّة بيننا وبين الرّجال. لا نعيش قصص الحبّ بالطريقة نفسها ولا تنشأ مشاعرنا في الظروف نفسها. نتربّى على الخوف. خائفات من آبائنا ومن الجيران. خائفات من أجسادنا ومن أن تمتدّ يد متحرّش أو مُغتصِب عليها. نبحث دائماً عن الرضا في عين الشريك وفي أعين الآخرين، هل أنا ذكيّة كفاية؟ جميلة كفاية؟ مثيرة كفاية؟
كبرنا ولم نعد مراهقات وخضنا معركة الاستقلاليّة. دفعنا الثمن غالياً وما زلنا ندفعه إلى اليوم. صحيح أنّ المخيال الرومانسيّ الجمعيّ مازال قائماً على فكرة الاحتواء، لكنّ الكثيرات منّا حطّمن صنم الرّجل المُنقِذ. أنقذنا أنفسنا بأنفسنا وصارت شروطنا أكثر وضوحاِ وعلانيّة. لا نُريد شريكاً لا يرى ولا يسمع ولا يتكلّم. لا نُريد شريكاً غير واعٍ بامتيازاته. نُريد علاقات ندّيّة لا مجال فيها للمساومة على حريّتنا. نُريد علاقات مُلهِمة وغير نمطيّة، وقبل الخوض في علاقةٍ ما، نُريد أن نتحرّر من لعبة الغواية بشكلها التقليديّ: رجل صيّاد وامرأة فريسة. فلنكن نحن الصيّادات. فلنتكلّم عن رغباتنا وميولاتنا وفانتازماتنا وتفضيلاتنا. فلنحدّق في الرّجال. فلنُريهم العالم بعدساتنا.
منحتنا النسويّة فرصاً كثيرة لاكتشاف أجسادنا وفهم علاقات الهيمنة. مكّنتنا من تفكيك نموذج الحبّ الغيريّ السائد. نحن اليوم مُتسلّحات بالمعرفة والخبرات والتجارب، لكنّنا ما زلنا نمشي على قشر البيض. هُزمنا مرّات كثيرة وخضنا مغامرات غير محسوبة العواقب. أصابنا رُهاب الارتباط والدخول في علاقات طويلة الأمد. أحسننا بعدم الأمان وبهشاشة أوضاعنا كنساء يعشنَ داخل مجتمعات انضباطيّة. صرنا أكثر حذراً وحوّطنا أنفسنا برفيقاتنا اللاّتي يُربّتن على أكتافنا ويُصغين لنا في أيّ وقت. رغم كلّ هذا قد نقع في فخّ العلاقات المؤذية. يبدو أنّنا ندور في حلقة مفرغة ولا نتعلّم من هزائمنا ونصدّق بسهولة وعد الحبّ النديّ، لكنّ كلّ هذا جزءٌ من رحلتنا في كسر عقدة سندريلا وكلّ العُقد والأساطير والخلاصات الجاهزة والموروثة.
أعدتُ قراءة روايات عبير التي هجرتُ عوالمها منذ عشرين سنة. تحوّل ذلك الحقد الدفين الذي ربيّته تجاه بطلاتها الناعمات المُنكسرات إلى فهم وتعاطف. أردتُ أن أحرّرهنّ من الأذى وأثأر لهنّ من كلّ السفلة والأوغاد. كلّ واحدة فينا يُمكن أن تكون بطلة في قصّة أحدهم. اليوم أنا امرأة ثلاثينيّة تحاول النجاة. امرأة ثلاثينيّة قرّرت أن تكون بطلة في قصّة ترويها بنفسها.