قالت حلا مغامز: «اليوم قررت أحكي عن حادثة التحرش يلّي تعرضتلها».
منذ أن تحدثت حلا مغامز عن التحرّش الذي تعرضت له على يد أستاذ رياضيات في حلب، عرفتُ أن عليَّ أن أفعل المثل ولو خلف قناع رغم أنني في البداية رأيت الفيديو ولم أجرؤ على مشاهدته، بل وفضلّت عدم التفكير فيه أصلاً وأكملت السكرولنغ العشوائي في الفيسبوك كعادتي. ألتقطُ الميمز وأُرسلها لأصدقائي ونضحك، أقرأ بعض البوستات الجميلة أو المثيرة للسخرية، وأتجاهل بسرعة أي شيء قد يثير مشاكل إضافية في قولوني العصبي.
أعرف من جولات السكرولنغ على الإنترنت أن الجسد يخزن الصدمات العاطفية، وبدلاً من مواجهة هذه الصدمات أُحاول عدم إيقاظها لأتجنَّبَ رسائل الرفض المزعجة التي يرسلها جسدي، فقد عانيت لسنوات من مشاكل الضغط المنخفض. يهبط ضغطي حتى يصل إلى رقم 6 على 4. قال ثلاثة أطباء الكلام نفسه: لا توجد مشاكل جسدية، السبب نفسي. لم أفهم كيف يكون السبب نفسياً، فلا أذكر أن هبوط ضغط دمي كان مترافقاً مع قلقٍ ما، على الأقل حسب علمي. عرض عليّ الطبيب الثالث أن يصف لي بعض الأدوية المهدئة وأكد لي بأني لست بحاجة إلى طبيب نفسي وهذه الأدوية تكفي. رفضتُ عرضه، ولم أذهب إلى طبيب نفسي. بعد سنوات قليلة أخذ القلق مكاناً مختلفاً في جسدي واستقر في قولوني العصبي. والأمر نفسه يحدث، فلا أعرف لماذا يشعر جسدي بالقلق في الوقت الذي يبدو فيه عقلي هادئاً؟ في داخلي أعرف إن عقلي انفصل عن جسدي منذ زمن طويل، منذ كنت طفلة في الابتدائية ومرة أخرى عندما صرت مراهقة في الثانوية.
رغم ذلك تفاعلَ جسدي مع شهادة حلا حتى قبل مشاهدتها؛ عادت نوبات التشنج ولم أكن بحالٍ تسمح بتدهور قولوني العصبي أكثر فأخذت دواءاً مهدئاً خفيفاً، لكنه لم ينفع هذه المرة. عادت لي الصور مرة أخرى، عندما كنت طفلة في الابتدائية تحاول فهم درس بسيط، وعندما كنت مراهقة في الثانوية تحاول فهم الرياضيات واللغة الفرنسية. لا أملك الشجاعة لأفعل ما فعلته حلا، لكن كان عليَّ مشاهدة الفيديو من أجلها ومن أجلي ومن أجلنا جميعاً. وقف كثيرون ضد حلا. مديرية التربية قالت إنها مُدرَّبة، وكأنه اعترافٌ ضمنيٌ بأن التحرش لا يمكن أن يحدث إلا لمن لا تجيد الكلام، أو لمن يَسرِقُ هذا الحدثُ لسانها إلى الأبد. لم ينتبهوا أبداً إلى إمكانية نمو اللسان مجدداً، ولساني الذي يريد أن ينمو بعد أن قُطع سيتكلم؛ سأكتب تجربتي من أجلنا جميعاً ولأقول لهم إننا مُدرَّبات بالفعل. كل الكوابيس دَرَّبتنا، كل الشهادات دَرَّبتنا، سبع سنوات دَرَّبتنا، وأكثر من عشر سنوات في حالتي قد تكفي ولو اضطررت للاستعانة بدوائي المهدئ للسيطرة على قولوني العصبي، وكل الملح في البحر للسيطرة على ضغط دمي. هذه حرب مع نفسي الهاربة لأَضعها حيث يجب أن تكون بجانب قريناتي. شاهدتُ الفيديو وقررتُ أن أكتب. دون أسماء، دون حروف أولى، لأنهم يظهرون في وجوه مختلفة وأسماء مختلفة ومدن مختلفة كذلك، لأنهم مروان السبع وغيره، لأنهم ليسوا حالات فردية. وأنا أيضاً، راية نعمان ليس اسمي الحقيقي.
أردتُ أن أقول إني لا أتذكر متى كانت أول مرة تعرضتُ فيها للتحرش، حتى دَفَعتْ ذاكرتي بمشهد لطفلة في الصف الأول الابتدائي مع شاب في الثامنة عشرة من عمره تقريباً. تحمل الطفلة كتاب الرياضيات أو القراءة وتُقرِّبه من الشخص البالغ بقربها، لكنه يضع يده في مؤخرتها، ويقول لها: «لا يمكنني التدريس دون اللعب». هذا الطفلة كانت أنا، والشاب كان قريباً لي طلبت منه أمي مساعدتي في الدراسة. هذه كانت أول مرة، وأتذكرُها كمشهد في فيلم شاهدتُه وكأني لست بطلته. حاولت محوه من ذاكرتي حتى اهترأت هذه الذاكرة، وحتى اكتسبتُ مع الذاكرة المهترئة جسداً ينهار عند أي حالة قلق بسيطة. ربما كانت هذه الحادثة الأساس الذي أخافني إلى الأبد من «المُعلّم».
* * * * *
قالت حلا مغامز: «دائماً بيحكي مع طلابه بمواضيع جنسية والأهالي بتعرف والمدرسة بتعرف».
لم تشرح حلا هذه الجملة أكثر، لكنها بدت مألوفة جداً وأظنني لست الوحيدة التي فَهِمتْ ما الذي تتكلم عنه، بل أغلب من درسوا التاسع والبكلوريا في سوريا يعرفون معنى هذا جيداً.
إن كنت طالباً أو أحد أفراد عائلتك كان كذلك، ستعرف قائمة الأساتذة المشهورين في مدينتك، جميعهم من الرجال ولا توجد مُدرِّسة واحدة بينهم. الأسماء المعروفة هم أساتذة رياضيات وفيزياء وكيمياء ولغة عربية، أي المواد الأساسية الأكثر صعوبة. يكتسب هؤلاء المعلمون شهرة كبيرة عن طريق التدريس في عدّة مدارس خاصة ودورات مستقلة، ولديهم خبرة كبيرة في تَوقُّع أسئلة امتحانات التاسع والبكلوريا، وشائعات حول معرفتهم للأسئلة عن طريق علاقاتهم. يمكننا أن نميزهم أحياناً عن غيرهم من مظاهر تُعَدُّ علامات ثراء لا نراها على أي مُعلّم آخر، مثل تدخين المارلبورو وموبايل الآيفون ومفاخرتهم بالشقق التي يمتلكونها. تُجمع هذه الثروة من الدروس الخصوصية التي يبلغ سعر الساعة فيها هذا العام 60 ألف ليرة، أي ما يقارب 10 دولارات. هذا السعر لا يُعدّ شيئاً أمام أسعار ما قبل 2011 إذ كان سعر ساعة الدرس الخصوصي لدى أستاذ رياضيات مشهور يصل إلى ما كان يعادل 50 دولاراً. يكتسب هؤلاء المعلمون سمعة محترمة كأشخاص يؤهلون الطلبة ليصيروا أطباء ومهندسين وغير ذلك، ولو كان هذا التأهيل ليس مجانياً بل وليس رخيصاً حتى، ومخصصاً لطبقات معينة. بالإضافة لما سبق، تتميز غالبية هؤلاء المعلّمين بصفة مهمة في التعليم وهي الظرافة والهضامة، فالدرس الممتع هو الدرس الأكثر فائدة وهذه حقيقة. المشكلة تكمن في الخيارات الترفيهية التي يتجه إليها بعضهم، فقد يستخدم أحدهم التنمر مثلاً، وهذا ما حدث مع ابنة جارتنا التي سخر أستاذ الفيزياء من وزنها في الصف الثامن، لكن الطالبات كنّ يحببن مزاحه الثقيل، ليس تأييداً لأفكاره وإنما لأن هذا المزاح يجعل الدرس مختلفاً عن دروس المدرسة الابتدائية الجافة غالباً.
المسلك الآخر هو الذي ذكرته حلا: النكت الجنسية. أتذكر سماعي لبعض التلميحات في الصف كنكتة لم تفهمها أغلبنا وفهمتها أخريات كنّ يتبرعنَ بشرحها لاحقاً. أذكر أن واحدة من تلك النكات كان تتضمن كلمة «بيضتين»، ولم نفهمها لأن غالبيتنا لم نعرف أصلاً أسماء الأعضاء الجنسية بالعامية وكل ما نعرفه هو الكلمات في كتاب العلوم. يتكرر الأمر مع صديقات أُختى التي تدرس في الثانوية الآن – وربما أختي ولكنها لا تريد التكلم عن الأمر – لكنهنّ لا يشتكين، لأنه وبحسب صديقتها لا يجب لمراهقة في عمر السابعة عشرة أو السادسة عشرة أن تفهم المعنى الجنسي وراء جملة «افتحي تمك لأسكبلك مي… لا مو هيك بدك تفتحيه أكتر» التي قالها أستاذها في المدرسة، لأنه إن بدا أنها فهمتها فستبدو فاسقة تعرف ما لا تجب معرفته في عمرها، وقد تلاقي من أهلها عقاباً مخيفاً وفي الوقت نفسه سينفدُ الأستاذ المتحرّش بجلده. في الغالب، لا يشتكي أحد لعدم وجود دليل أولاً، ولأن هؤلاء المتحرّشين يعرفون كيف يقومون بالأمر.
* * * * *
قالت حلا مغامز: «أنا كشخص مراهق بعض الإشيا ما كنت بفهم ايش هي، ما عندي خبرة فيها ولا حدا حكالي».
أخبرتني أختي عن فتاة اشتكت لإدارة مَدرستها عن تحرّش أحد الأساتذة بها. قام الأستاذ بالتحدث عن القصة أمام جميع الطالبات في دروسه مُمثِّلاً دور الضحية، وذلك لجمع حلفاء قبل أن تبدأ المدرسة في التحقيق. بعد فترة كان الأستاذ بريئاً وصارت الطالبة فتاة سيئة ربما قامت بإغوائه. هذه طريقةٌ للتملّص لكنها ليست الوحيدة، فيمكن أن يكون الأستاذ المُدرّس تقيّاً أمام طالبة في درس خصوصي، ويستأذن للصلاة، ويضع يده على فخذ طالبة أخرى في وقت آخر لتتناقض بذلك الروايات حوله.
أيضاً، لا تستغني المدارس الخاصة بسهولة عن «أستاذ مشهور»، فهو جزء من سمعة المدرسة وبالتالي اقتصادها، وهذه المدارس تحرص دائماً على التعاقد مع أستاذ مشهور أو أكثر في سوق تنافس شديد بين المدارس، فيكون وجود الأسماء الشهيرة علامة على أهمية المدرسة وقدرتها على تخريج طلاب بمعدلات عالية. بينما تتفاوت طرق المنافسة الأخرى لجذب أهالي الطلاب المستعدين لدفع ما استطاعوا، بين مدرسة ذات طابع ديني مثل المدارس المسيحية أو مدارس متشددة إسلامياً مع طاقم معلمات يرتدين الحجاب والمانطو، أو مدرسة مختلطة متحررة تناسب نوعاً آخرَ من الأهالي. العامل المشترك بين هذه المدارس هو بذل قدراتهم للحصول على أستاذ مشهور، وبعد الحصول عليه سيتمسكون به بأسنانهم وأظافرهم حتى وإن لم يَكُن على قدر سمعته حقاً، فيحدث أن يشتكي الطلبة من شرح أحد المدرسين المشاهير لكن المدرسة لا تستجيب للشكوى لأنه مدرسٌ شهير ولامع، فالخلل حتماً من الطلاب. يسري هذا على حالات التحرش، فبدون أدلة كافية أو فاقعة كأن يحدث الأمر أمام الكاميرا، يتم صرف النظر عن القصة التي قد تُسيء لسمعة المدرسة وبالتالي لضخ الأموال. الحالة الأسوأ هي عندما يحدث الأمر في درس خصوصي في دورة خارجية أو في المنزل، دون رقابة الكاميرات التي تفاخر بها كثير من المدارس الخاصة.
درستُ في إحدى هذه المدارس الخاصة. مدرستي كانت من النوع المتشدد دينياً حيث لا توجد مُعلّمة دون حجاب. في حصص الفراغ كانت الموجِّهة تقرأ لنا فصولاً من كتاب همسة في أذن فتاة، أو كتاب ضحايا الحب. يتضمن الأول نصائحَ دينية وأخلاقية للفتيات، أما الثاني فقصصاً مرعبة لفتيات دخلنَ في علاقات حب وانتهينَ نهايات مأساوية. الكتاب الثاني انتهت بعض قصصه بفقدان عذرية البطلة دون زواج، أو أنها راحت ضحية اغتصاب جماعي أو خسرت عائلتها. كانت المدرسة تقدم توعية جنسية بطريقتها غير المباشرة والمنفرة غالباً، لكنهم لا يخبروننا أي شيء عن التحرش الذي لا نذهب إليه بأقدامنا، في رسالة مفادها أننا السبب فيما قد يحدث لنا.
لو كانت هناك معلمات شهيرات لما استعانت مدرستي المتشددة بغيرهنّ لتعليم الفتيات، لكن الشهرة في مجال التعليم كانت للرجال فقط، وبهذا اضطرت مدرستي للتعاقد مع مجموعة أساتذة شهيرين لكنهم مسنّون ولا خوف على الفتيات منهم، ليشعر الأهالي بالراحة معهم.
* * * * *
قالت حلا مغامز: «نحنا محسبين انو هادا متل أبوي ولا جدي، وهادا شخص موثوق من الجميع وهو أكيد ما عم يعمل شي غلط».
حصلتُ مثل قريناتي على دروس خصوصية في المنزل من هؤلاء الأساتذة، فقد كانت أسرتي تنتظر مني دخول كلية مثل كلية الصيدلة. تضع أمي قطع الشوكولا والقهوة أمام الأستاذ العجوز، ويُخبره أبي عن اهتمامه بمستقبلي في كلية الصيدلة وكيف أن الرياضيات هي المفتاح الأكبر لتجاوز البكلوريا، ويوافقه الأستاذ المختار على ذلك. يغلقان الباب ويفتح الأستاذ الكتاب ويبدأ الدرس.
ذاكرتي حول ما حدث ضبابية، لا يمكنني تَذكُّرُ إن كان كل هذا قد حدث في يومين متتاليين أو أوقات أخرى. ما أعرفه هو إني كنت شاردة الذهن كثيراً، غير راغبة بالمستقبل الذي رسمه والداي، وغير راغبة بالدرس الخصوصي هذا. ربما لاحظ الأستاذ المسنّ ذلك، لكن هل كانت هذه الملاحظة كافية ليقول لي «صدرك طالع حلو ومدور بهالكنزة». لماذا يقول لي شيئاً كهذا؟ كيف ذلك وهو في هذه السنّ؟ تَوقَّفَ عقلي الذي عجز عن الإجابة عن هذه الأسئلة. تابعنا الدرس بعدها وكأن شيئاً لم يكن. كان من المريح بالنسبة له ألّا أقوم برد فعل جرّاء الصدمة، وربما كان يعرف من خبرته إني سأخبئ ما حدث في مكان ما في عقلي ولن أصدق حدوثه، وبهذا سمح لنفسه بالتحرّش بي مرة أخرى حين سألني إن كنت أعرف كيف تتم العملية الجنسية. ادّعيت الصلابة وأنكرت فكرتي البسيطة حول الأمر، فقال: «فاتك كتير، لازم تعرفي». ربما لاحظ شحوبي وقتها وقرر عدم إكمال حديثه، فلو رأى أي نظرة فضول في عينيّ، ربما رآها عند مراهقة صغيرة أخرى يدفعها الفضول لاستكشاف ما يمنع عليها استكشافه، لقالَ أكثر من ذلك. شعرتُ بالخطر، في الوقت نفسه لم أفهم كيف لرجل في هذه السنّ أن يقول أشياء كهذه لمراهقة أصغر من أبنائه. تخيلتُ زوجته التي لا بدّ أنها في عمر جدتي، هل ستصدق أن زوجها الجد يقول أشياء كهذه أمامي؟ تخيلتُ ابنه الأصغر الذي يعطي دروساً في مدرستنا نفسها، هل يمكنه تَخيُّلُ ذلك؟ بعدها كنت أشعر بالمرض في كل مرة يأتي فيها موعد الدرس الخصوصي، وكانت تلك المرة الأولى التي يتعامل فيها جسدي بدفاعية. في ذلك الوقت كنت أصاب بالزكام. استطعتُ التوقف عن أخذ الدروس بعد أن رأى أهلي علاماتي المتدينة واقتنعوا بعدم أهليته، مما جعلني أشعر بالأمان أخيراً، حتى جاؤوا لي بأستاذ لغة فرنسية يُنقذ ما يستطيع إنقاذه في شهر الانقطاع.
هذه المرة مع أستاذ اللغة الفرنسية، لم أشعر بالخطر، على العكس فقد أشعرني بكوني أنا الخطرة عليه بكل أنوثتي الصارخة التي لم تكن فعلاً كذلك، فلم أكن سوى فتاة نحيلة جداً تضع مقوم أسنان. كان يحب أن يخبرني عن الأدب لأنه لاحظ اهتمامي به، ثم بدأ يقول لي إنه يحبني ويمسك يدي لأشعر بيده الساخنة ولُهاثه. أقنعني أن هذه علامات حب. وفي إحدى المرات قال إن زوجته عرفت بحبه لي من ثيابه الداخلية. لم أفهم معنى هذا في ذلك الوقت، ولحسن الحظ كانت عدّة دروس فقط ولم أره بعدها مع أنه حاول الوصول إلى رقم هاتفي، لكنّي ولاقتناعي بحبه لي حقاً فضّلت أن أجعله ينساني. حين أخبرت فتاة تكبرني بعدة سنوات عن حرارته ولُهاثه قالت لي «هاد مو حُبّ هاد ممحون» وشرحت لي كل شيء حتى ما حدث لملابسه الداخلية ومعنى كلمة ممحون كذلك.
* * * * *
قالت حلا مغامز: «أنا بالبكلوريا معدية بحالة النكران يلي هي أول حالات الـ PTSD يلي هي اضطراب ما بعد الصدمة. أنا كنت ماحية الذكرى كلها من راسي وعم عيش معها كأنها ما صارت».
لا أذكر أني تأثرت كثيراً وقتها، لكني كنت أمرض كثيراً ولا أدرس أبداً، وكأنني أقسم على عدم دخول كلية الصيدلة التي حلم بها أهلي. في وعيي لم يُشكل الأمر عبئاً، وكأنه لم يحدث. تابعتُ حياتي العادية وكأني أُصرّ على وضع طلاء ثقيل فوق الحدث. فبالنسبة لي كانت الطريقة الأفضل لنسيان حدثٍ ما هي مُراكمة أحداث أخرى فوقه حتى يختفي تحت الكومة. لم يسمح لي عمري ولا مكان سكني وقتها بعيش أحداث كثيرة مختلفة، فقرأت الروايات وانكببتُ على عالم المنتديات في ساعة الانترنت التي أستطيعُ شراءها من مصروفي. تجنبت على وجه الخصوص رواية الأحمر والأسود لستاندال، التي نصحني بها أستاذ اللغة الفرنسية والذي قال لي إنه يشبه بطلها جوليان. قرأت الرواية منذ عامين أو ثلاثة مجبرة لارتباطها ببحث كنت أعمل عليه. تذكرته لكنه لحسن الحظ لم يخرج من الكتاب.
لم أستطع إخبار أحد بأي شيء عن الأمر خصوصاً ما حدث مع أستاذ الرياضيات، فمع نكراني لما حدث، خفت أيضاً من أن أُتَّهم بكوني أغويته، أو أن أُتَّهم بالجبن من أبي الذي أرادني شجاعة وعنيفة. فوق ذلك لا أنفكّ أتذكر المسدس الذي كان يمتلكه أبي، والذي لن يتردد في وضع رصاصة منه في رأس الرجل الذي تحرّش بابنته، وربما رصاصة في رأس ابنته كما أفهمتني أمي في الطفولة. التربية الجنسية التي تلقيتُها من أمي، والتي ورثتها من أمها، لم تكن تختلف عمّا كانوا يعلموننا إياه في المدرسة. نحن المذنبات وستقع الدنيا فوق رؤوسنا. كانت أمي تُخبرني برعب يجعل عينيها تخرجان من محجريهما إنهم سيذبحونني، أي رجال العائلة. كانت أمي تشاهد المسلسلات التي تحبلُ فيها الفتيات ويُقتلن، وتخبرني كل مرة بهذه القصص بالرعب نفسه عندما لم يتجاوز عمري الخمسة عشر عاماً، ثم توقفت عن رواية هذه القصص لأنها رأت بطريقةٍ ما أني فهمت.
توسَّعت معرفتي الجنسية لاحقاً، وكنتُ أدرك يوماً بعد يوم أن ما تعرضت له كان تحرشاً وانتهاكاً، وإني ربما لتعرضت للاغتصاب لو لم أكن في بيتي. تُذكّرني عائلتي كل يوم برسوبي في البكلوريا رغم المبالغ الكبيرة التي دفعوها للدروس الخصوصية، لكني خذلتهم وفضلت دراسة بكلوريا أدبي لا تحتاج إلى أستاذ خصوصي، حتى اللغة الفرنسية التي تمكنت تدبرها بمفردي هذه المرة.
عندما كبرتْ شقيقتي قليلاً، طلبت من أمي أن تسمح لي بأن أقوم أنا بتعليمها. كانت أمي مريضة لذا وافقت على الأمر. حاولت ألّا أُخرج عينيّ رعباً وأنا أُحدثها عمّا قد تواجهه في حياتها، لكن أختي لم تكن تتقبل الأمر بسهولة مهما حاولتُ جعله لطيفاً. حاولَتْ سدّ أذنيها مرة، وقالت لي لا أريد أن أعرف عن هذا. حشوتُ لها الأمر بين أحاديث مختلفة كل مرة، ومع ذلك لست متأكدة إن كانت جاهزة لمواجهة تحرّش أو إخباري بالأمر بأسرع وقت ممكن لو حدث.
قالت حلا مغامز: «ليش أنا طولت 7 سنين لبين ما حكيت عن الموضوع؟ لأن الموضوع صعب إني اعترف فيو بالأول بيني وبين حالي، وأَخَد وقت كتير طويل».