نامت قضية الأستاذ المُتهّم بالتحرّش التي عرضتْ حلا مغامز تفاصيلها في فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ جذور القضية وأسبابها ما تزال يقظةً طالما أنّ التوعية الحقيقية بالمفاهيم الجنسية تقبع في غيبوبة اجتماعية، وطالما أنّ الخوف من تشويه سمعة المجتمع أَولى من الخوف على حيوات أبنائه.
حالات فردية أم قبول مستور؟
كنتُ في الصف التاسع الأساسي حين كُلِّف أحد كهنة مدرسة «الأ.» بإلقاء دروس مادّة الديانة المسيحية على صفّنا. دخل الكاهن، ورمى كتاب المنهج الرسمي الخاصّ بشهادة التعليم الأساسي (الصف التاسع)، ليقرّر أن يعطينا المادّة كما يراها مناسبةً. بدأ بالصراخ، وكتب على اللوح بخطٍّ كبير: العادة السريّة. استمرّ بالصراخ علينا: «لا تقلولي ما بتعرفوا شو يعني. كلكن بتمارسوها».
كان ذلك صادماً للكثيرين-ات منّا، نحن الذين تراوحت أعمارنا آنذاك بين 14 و15 سنة، وبعضنا إن لم يكن أغلبنا لم يكن يعرف حقاً ما معنى هذا المصطلح. لم نتحدّث عن الموضوع، ومضى كأنّه لم يكن حدثاً غريباً يستدعي الشكوى.
مضى عامٌ على تلك الحادثة، لتنتشر عام 2012 ظاهرة نشر صور فتيات المدرسة القاصرات دون ملابس، وذلك بعد أن شرع شابٌّ كان في علاقةٍ عاطفيةٍ سابقةٍ مع إحداهنّ بإطلاق الصور الواصلة إليه عن شخصٍ «ثقةٍ» إلى العلن. كان الشبّان وقتها يتفاخرون بتداول الصور والحديث عنها، إلى درجةٍ تجعل الفتيات المعنيات يشتهين الموت. فماذا حدث في أوساط المجتمع المسيحي، بمدارسه ومؤسساته الكشفية وأخوياته، بعد الصعقة الإباحية؟ لا شيء إطلاقاً.
كان على الفتيات وقتها أن يطلبن «الإنقاذ» من كاهنٍ أو أستاذٍ أو أيّ جهةٍ مسؤولة، ليحصلنَ بعدها على المساعدة الفردية بالكلام والوعظ الذي لا يحمي أخرياتٍ ولا يُعافي ناجيات. لم يُلاحَق ناشرو الصور، ولا متداولوها، ومضى الموضوع بصمتٍ وتكتيم مطبقٍ على الحادثة.. كما يحدث دائماً، كأنها لم تكن.
في مجتمعنا، تأخذُ المؤسسات الكشفية، لا سيما الكاثوليكية منها والتابعة لمنسقية الكشّافات الكاثوليكية، دورَ التوعية في الأمور الاجتماعية والحياتية وغيرها، إذ ينضمُّ الفرد إلى الكشّاف -رسمياً- بعمر العاشرة (انخفض سن القبول بعد الحرب) ليترفّع تدريجياً، وعلى مدى سنوات عديدة، حتى يصبح مسؤولاً كشفياً.
كانت المواضيع الجنسية في الكشّافات مقتصرةً على التثقيف بالدورة الشهرية، أو ما كنا نسمّيه «دومينو» للحفاظ على السرّية، وذلك اعتباراً من سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة. يتكرّر الدومينو مرّةً كل 3 سنوات، وأقصى ما يصل إليه هي العملية الجنسية والحمل، وذلك بطريقة تعليمية «حيائية» بحتة.
وكانت المواضيع العاطفية، على الجانب الآخر، تتركّز على كيفية اختيار العلاقات العاطفية مع الجنس الآخر، والتعامل العفيف المتحفّظ معه. ناهيكِ عن أنّ صُلب تلك المواضيع يتمحور حول «الخطأ الجسيم» المتمثّل في دخول علاقات عاطفية مع مسلمين.
قضيتُ طفولتي ومراهقتي وجزءاً من مرحلة بلوغي، كمعظم المسيحيين-ات في حلب، ضمن الكشّاف والتعليم المسيحي والأخويّات. لم يحدّثنا أحدٌ حينها إطلاقاً عن مفاهيم جنسانية تتعدّى الدورة الشهرية وجهاز التناسل، ولم يخبرنا أحدٌ عن ماهية التحرّش، ولا عن الاستغلال الجنسي، ولا عن الابتزاز، ولا عن كيفية حماية أنفسنا من كل تلك الفوادح، رغم أنّها كانت تحومُ حولنا وتنتشر فضيحةٌ عنها كل بضع سنوات. ولم تكن، في أيٍّ من تلك المؤسسات، آليةٌ واحدةٌ للتبليغ عن قضايا مماثلة، أو مراجعةٌ من قبل اختصاصيين نفسيين، لا سيما أنّ العلاج النفسي ليس ثقافةً شائعةً البتّة في مجتمعنا الصغير.
في الوقت عينه، كانت المؤسسات الكشفية وغيرها حازمةً جداً في أمور أخرى، كالتفكير بطرد فتاةٍ من الكشّاف لأنها قصّت شعرها، أو طرد فتيات أخريات لأنهنّ أخذن أجهزتهنّ المحمولة إلى المخيم، أو دخلن في علاقاتٍ مع أشخاص من ديانةٍ أخرى. كانت المؤسسات قادرةً على تطبيق معايير مُحدّدة ومدروسة، لكنّ أموراً كالجنس، أو بمعنى أوسع، الأمور الواقعية البعيدة عن المثالية التي يدّعيها المجتمع المسيحي الحلبي، لم تكن مدرجةً ضمن تلك المعايير، بل وكانت «تابوه» كفيلاً بطردِ ونبذِ كل مَن يتحدث عنها أو يفكر بها.
استمرّ الوضع على ما هو عليه لعقود: شكاوى لا تجد من يستمع إليها، فظائعُ تُرتكبُ في الخفاء بين من اعتدى على أخته وبين من استغلّها كاهن، وبين من تعرّضنَ للتحرّش من قبل أساتذة، ومَن تحرّش بهم الكهنة، والكثير من الروايات المدفونة وسط تداولٍ خافتٍ في التجمعات الصغيرة، ولكن الأهم، دون أيّ تغييرٍ أو تحرّك.
الإدانة بعد الشعور بالتهديد: علامَ تُلام الناجيات؟
استمر ذلك حتى 2023: يستيقظ الحلبيون للمرّة الأولى على صوت شابّةٍ قرّرت أن تتحدّث علانيةً عن حادثة تحرّشٍ تعرّضت لها عام 2015، والمختلف هذه المرّة أنّ الناجيةَ والأستاذ المتّهم بالتحرّش بها حين كانت قاصراً، ينتميان للمجتمع المسيحي الحلبي ذاته، الذي يُرهبه العلن كما لا شيء آخر.
لم نكن نتوقع قبيل نشر الفيديو أن تتلقى حلا دعماً ولو خجولاً، فلا معطيات لدينا من تجارب سابقة كُشفت على العلن لنتعلّم منها، وكلّ ما نعرفه أنّها ستجابِه مجتمعاً كاملاً لطالما اتّخذ الصمت وادّعاء المثالية شكلاً لوجوده.
انتشر الفيديو، وسرعان ما بدأ الدعم يملأ مواقع التواصل الاجتماعي من قبل مَن كنا نخشى صمتهم. وأعتقدُ أن الحجم الكبير من ذلك الدعم كان نابعاً من معرفة كثيرين بوضع مجتمعنا وآلياته الدفاعية، ويعلمون أن هذا الغطاء من المثالية بُني على كوارث مخيفة طُمِرت تحت ذلك الغطاء، وقد آن أوانُ الكشفِ عنها. فتوالت شهادات الناجيات اللاتي دعمنَ شهادة حلا بشهاداتٍ أخرى عن تعرّضهنّ لحوادث تحرّش مماثلة من قبل الأستاذ المتهم ذاته، وبتواريخ ذات نظاقٍ زمنيّ ممتد.
لم يمضِ يومان على الدعم المجتمعي الصريح حتى بدأت الآراء المناهضة للناجيات، والمدافعة عن المتّهم تتصدّر المشهد. «معقول كان عمرها 17 سنة وما بتعرف انو القعدة بالحضن والتبويس هنن تحرّش»: واحدةٌ من الحجج الأكثر تكراراً وهشاشةً بقصد التشكيك بشهادات الناجيات.
كان يجب على الناجيات خصوصاً، والفتيات في المجتمع المسيحي الحلبي عموماً، أن يعرفن ماهية التحرّش وآليات الاستدراج وتقييم الثقة بالأفراد. صحيحٌ أن المؤسسات الكشفية والدينية والأخويّات والمدارس وكل ما تنخرط فيه الفتيات داخل هذا المجتمع، لم يحدّثنهنّ مرّة واحدة عن التحرّش؛ وصحيحٌ أنهنّ أمضين، وما زلن يمضين حياتهن كلها دون أن يخبرهنّ مسؤولٌ واحدٌ عن حماية أنفسهن من التحرّش والاعتداء، لكن كان عليهنّ أن يعرفن! لا ندري كيف سيحدث ذلك مع غياب التوعية، لكن بحسب الآراء التي قرأناها فقد كان عليهنّ أن يعرفن بشكلٍ أوتوماتيكي. يتناسى أصحاب هذه الآراء أيضاً ما تعيشه الناجيات من ذعرٍ اجتماعي يبدأ بلوم الذات والخوف من المواجهة، وصولاً إلى الخضوع لأصحاب السلطات؛ كسلطة الأستاذ والكاهن والأب والأخ، سواء كان قسرياً أم نابعاً عن ثقةٍ مُستغَلّة. وعلى الهامش، فحتّى الإنترنت، الذي كان يعتبر وسيلةً رائجة للتعرّف إلى مواضيع تخصّ الجنس، بغض النظر عن صوابيّتها، كان مقطوعاً عن حلب لسنين طويلة رافقت مراهقة الناجيات خلال سنوات الحرب. أي إنه حتى الإنترنت لم يكن رفاهيةً يستمتع من خلالها المراهقون بالتعرّف على أجسادهم كملاذٍ أخير.
أمّا عن «ليش اختارت تحكي بعد 7 سنين أو 25 سنة؟»، فهو سؤالٌ بدهيٌّ يطرحه مجتمعٌ تُعتبر فيه ثقافة العلاج النفسي خاصةً بالمصابين بالجنون؛ مجتمعنا الذي عاش صدمات الحرب، وصدمات الفقدان، وصدمات الاعتداء، ولم يلجأ منه إلا قليلون ربما لاختصاصيّين نفسيين يساعدونهم على فهم اضطرابات ما بعد الصدمة وكيفية علاجها. ولا يُلام المجتمع المسيحي الحلبي وحده على ذلك، بل هذه أشبه بظاهرة عامّة تلاحق المجتمع السوري، وغيره من المجتمعات، مع غياب العلاج النفسي الصحيح في حلب على وجه الخصوص، والذي يجعله يَطرح هذا النوع من الأسئلة دون أن يُدرك المجهود النفسي المطلوب للحديث عن التحرّش.
أمّا أخيراً، فلماذا يستميت كثيرون، لا سيما من أبناء المجتمع المسيحي الحلبي الكاثوليكي، في الدفاع عن المتّهم بالتحرّش آخذين على عاتقهم مهمّة التشكيك في روايات الناجيات حدّ الإدانة والابتزاز والتشهير؟ لأن اللجوء للانغلاق والتستر آليةٌ دفاعيةٌ أقلّوية هدفها الحفاظ على هوية وجودية مثالية تحميها من الإدانة، ففتاةٌ واحدةٌ تتشجّع اليوم وتكشف الغطاء عن مأساةٍ عاشتها في مجتمعٍ يدّعي ألّا كوارث تحدثُ داخله لأنه أسمى من كل تلك الحوادث، قد يعني أن فتاةً أخرى، أو شاباً آخر، أو مجموعةً كاملة غداً سيتشجّعون لتعرية واقع هذا المجتمع الصغير المتقوقع.
يُصبح الدفاع في هذه الحالة دفاعاً عن هوية وجودية كاملة، وليس عن فردٍ واحد. يتحول التعاطي مع القضية من إدانة مُتّهمٍ من أبناء المجتمع المسيحي الواحد، إلى حماية اسم مدرسة وطائفة ودين يمثّلون ذلك المجتمع. إنه دفاعٌ عن كيان متّحد يفضّل لوم الضحايا على تحمّل مسؤولية تقصيره وتَستُّره الفادحة.
وفي النهاية، أعرف كما يعرف كثيرون، أنّ ما خَفي أعظم، وأنّ انكشاف ما في الخفاء يعني تهديداً بانهيار كيانٍ لطالما عاش على طمر «الفضائح» في الأقبية.