تسكن غالية وأسرتها حيَّ صلاح الدين في الجزء الجنوبي من مدينة حلب، الذي كان على مدار أربع سنواتٍ أحد أبرز جبهات القتال بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة، والذي انتهى ببسط النظام السوري كامل سيطرته على ما كان يُعرف حينها بحلب الشرقية بعد حملةٍ عسكريةٍ دموية، تبعها إجلاءٌ كاملٌ للفصائل المناوئة للنظام من المنطقة نهاية عام 2016. وحين ضرب زلزال السادس من شباط سوريا وتركيا، ظهرت سريعاً آثارُ سنواتٍ من القصف العنيف على أبنية الحي، فانهار بعضها تماماً وتصدّع قسمٌ آخر، فيما قرّرت لجنة السلامة الإنشائية التي شكّلها النظام بعد الزلزال إزالة قسمٍ آخر من المباني المُهدّدة بالسقوط.
في اليوم الأول للزلزال اضطُرت غالية للتوجه مع أسرتها إلى المدنية الرياضية القريبة من منزلها مثلما فعل معظم أهالي الحي، وظلوا هناك ليومين. ثمّ بدأت أعمال السرقة لتقرّر العائلة أن تنقسم إلى نصفين: الشباب والصبايا الكبار عادوا إلى المنزل متصدّع الجدران لحراسته، كونهم الأقدر على التحرّك بسرعة والنزول إلى الشارع عند حدوث الهزّة الأرضية؛ وظلّ القسم الثاني رفقة الأم والأب في المدينة الرياضية. تقول غالية: «لم يكن اتخاذ القرار سهلاً، ولكنّ هذا البيت وما بداخله هو كل ما نملك، ولا بدّ من حمايته».
عاد جميع أفراد أسرة غالية إلى المنزل عشية الزلزالين اللذين ضربا ولاية هاتاي وامتدّ أثرهما مجدداً إلى سوريا يوم 20 شباط الجاري، ولكن مع اهتزاز البيت عاودت الأسرة النزول إلى الشارع: «الناس خائفون، يقضون أوقاتهم خارج المنازِل ويتجنّبون المشي أسفل المباني. طفلي الصغير يُرعبه البقاء تحت أيّ سقف، واضطُررنا لنقله إلى المستشفى نتيجة الرعب الذي لحق به من الزلزال الثاني. حينها قررت أن أعود مع كامل أسرتي إلي المدينة الرياضية، وما زلت أقيم فيها حتى اليوم».
غرفة نوم في منزل حلبي بعد الزلزال-الجمهورية.نت
لا-إحصائيات
ذكرت أولى الإحصاءات الصادرة عن مجلس مدينة حلب أنّ عدد المباني المُدمّرة بشكلٍ كامل قد بلغ 54 مبنىً، مع وجود 50 مبنى آخر آيلٍ للسقوط جرى هدمها جميعها. وتقع معظم هذه المباني في أحياء الصالحين والسكري والفردوس والشعار والميسّر والصاخور وتل الزرازير والسكري والمشارقة وصلاح الدين وبستان الباشا والحلوانية. أما في حلب القديمة، فقد كانت أحياء باب أنطاكية وباب قنّسرين أكثر المناطق تضرراً. وبمراجعة أسماء هذه الأحياء، نجد أنها نفسها التي تعرّضت للقصف العنيف بالبراميل المتفجّرة خلال فترة سيطرة المعارضة 2012-2016، وكان تداعيها أمراً محتوماً بعد الزلزال نتيجة ما ألحقت العمليات العسكرية من ضررٍ في بنيتها.
في وقتٍ لاحق، بلغ عدد اللجان الهندسية المُكلفة بالتأكد من مدى سلامة المباني 116 لجنة، كشفتْ حتى يوم 19 شباط على 13 ألف مبنى، ونتج عن عملها ارتفاع عدد الأبنية التي تمت إزالتها إلى 220 مبنى، وتحديد 306 مبانٍ بوصفها غير آمنة ويجب إزالتها. وقد تشكّلت هذه اللجان الهندسية التي حملت اسم «لجان السلامة الإنشائية» من أعضاء في نقابة المهندسين ومجلس مدينة حلب والشركة العامة للدراسات والخدمات الفنية وجامعة حلب وعددٍ من الجهات الحكومية الأخرى، وهي تعمل بموجب دليلٍ واستمارةٍ موحّدين وضعتهما وزارة الأشغال العامة والإسكان، تتضمنان بشكلٍ رئيسي تقييم الأبنية وتصنيفها إلى أربع فئات: أبنية متضرّرة بالكامل، وأخرى متضرّرة تحتاج إلى تدعيم، وأبنية تحتاج إلى صيانةٍ بسيطة، وأبنية سليمة. حتى الآن لا يوجد أرقام رسمية نهائية عن عدد أبنية المدينة التي ستُهدم بالكامل، إلا إن رئيس غرفة صناعة حلب، فارس الشهابي، قال على صفحته في فيسبوك إن العدد سيصل إلى 1000 مبنى. بدوره، قال محافظ حلب حسين دياب إن اللجان قد كشفت، حتى يوم الأحد الماضي 19 شباط، على 11277 مبنى، منها 8684 آمن إنشائياً، ما يعني أن هناك 2593 مبنى متضرر، إلا إنه لم يحدّد عدد الأبنية التي سيتم هدمها أو التي سيُكتفى بتدعيمها.
ما أمكن إخراجه من بيتٍ آيلٍ للسقوط-الجمهورية.نت
الإيواء والإيواء الوهمي
أشار محافظ حلب خلال مؤتمرٍ صحفي إلى أن أكثر من 13 ألف أسرةٍ حلبية تضرّرت من الزلزال بشكلٍ مباشر، وقد بلغ عدد مراكز الإيواء 188 مركزاً. غير إنّ لجان السلامة الإنشائية تواصل الكشف على المباني، وقد تؤدي نتائج عملها إلى تشريد مزيدٍ من العائلات التي تصرّ اليوم على البقاء في بيوتها رغم الخطر. تعلّق إحدى المتطوعات في مدينة على حلب على كلام المحافظ بالقول إن هذه الأرقام تقديرية وليست دقيقة: «لا يوجد هذا العدد في مراكز الإيواء، والقسم الأكبر من الأُسر التي تركت منازلها يُقيم حالياً لدى أقارب أو معارف، ولذا فإنّ معظم حالات النزوح مستترة. كما أن المدارس التي استقبلت النازحين عاودت نشاطها يوم 14 الشهر الجاري، وجرى إخراج الأسر منها، وهو ما خفّض من عدد مراكز الإيواء». وبالفعل، صرّح وزير التربية في حكومة النظام دارم الطباع أن مدارس حلب التي تم إعلانها آمنةً قد عاود الطلاب دوامهم فيها. لا بد من الإشارة هنا إلى أن المُشردين لم يقصدوا المدارس بالدرجة الأولى، وإنما المساجد والحدائق، وما تزال الخيام موجودةً حتى الآن في الحديقة العامة وحديقة بستان القصر بحسب معايناتٍ نقلها لنا سكان المدينة وصورٍ حصلت عليها الجمهورية.نت.
كما زعم محافظ حلب «تأمين 150 شقة في حي مساكن هنانو تابعة لمجلس المدينة، و25 شقة تتبع للسكك الحديدية في مبنى التأهيل والتدريب في حي الشيخ طه لتأمين الإيواء المؤقت لعشرات العائلات المتضررة». تشير المتطوعة إلى أنها لم «تسمع خلال عملها بوجود شققٍ مخصصةٍ لاستقبال النازحين، ولم يصلهم إخطاراتٌ بذلك حتى يقدموا المساعدة الإغاثية للأسر التي نزحت إليها».
تحدّثت الجمهورية.نت إلى متطوعةٍ أخرى زارت المدينة الرياضية الواقعة على مقربةٍ من حي الحمدانية، والتي تضمّ التجمّع الأكبر من الأسر التي شرّدها الزلزال. تقول إنّ متعهّد صالة الأفراح الموجودة هناك قرّر إيواء عشرات الأسر المُشردة، والوضع فيها أفضل من باقي مراكز الإيواء لأنها مجهّزة بتكييفٍ يقيهم البرد. لا تقيم غالية في هذه الصالة، إنما في أحد الممرات المؤدية إلى ملعب كرة السلة، وتشتكي من انعدام الخصوصية: «تنام العوائل إلى جانب بعضها البعض. الأُسرة بالكامل؛ الرجال والنساء والأطفال، فوق حصيرٍ وبعض ألواح الإسفنج. العراقيون هم الذين يديرون الأمور الإغاثية هنا، ويتبعون للحشد الشعبي. جاؤوا مع مطابخ ونقاط طبية مجهّزة، ونصبوا قرابة 10 خيام قبالة المدينة الرياضية لتخديمها، ووزّعوا البطانيات وألواح الإسفنج».
مشردون في الخيام بمدينة حلب-الجمهورية.نت
زيارة بشار الأسد غيّرت كل شيء
صبيحة اليوم الأول للزلزال، نشرت صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فيسبوك صورةً قالت إنها لاجتماعٍ طارئ أجراه رئيس النظام السوري بشار الأسد لدراسة تداعيات الزلزال، ثم غاب عن المشهد بشكلٍ كامل. وفي اليوم الخامس للكارثة وصل الأسد إلى حلب وزار المشفى الجامعي وحي المشارقة ومركزاً للإيواء، ثم عقد اجتماعاً صحبة زوجته مع غرفة العمليات في المدينة. تقول إحدى المتطوعات للجمهورية.نت: «في الأسبوع الأول للكارثة لم تتدخل السلطات والمنظمات الكبيرة القريبة منها مثل الأمانة السورية للتنمية والهلال الأحمر في عمليات الإغاثة بحلب، وكان ثمة مساحة للمبادرات الأهلية من أجل العمل على التخفيف من نكبة المشردين ومساعدتهم عبر التبرعات التي كانت تصل من داخل وخارج سوريا، ولكن بعد زيارة بشار الأسد للمدينة تغيّر كل شيء، وأصبح عملنا مكبّلاً بالعراقيل».
تركت هذه العراقيل خيبة أملٍ كبيرة لدى المتطوعة: «أنت ترى دماراً جديداً في مدينتك وتريد المساعدة، وهم -أي النظام- يعرقلون كل شيء. صار يُطلب منا موافقاتٌ أمنية وصورٌ عن هوياتنا عند الوصول إلى أي مركز إيواءٍ لتقديم المساعدة. أحد العسكريين قال لنا ‘نريد التأكد من أن الطعام ليس مسموماً’. أدت هذه المضايقات إلى توتّر المتطوعين، واستطاعت الإجراءات الأمنية ترهيبنا، إلى أن أوقفنا العمل بسبب الأنباء التي وردتنا عن إمكانية طلبنا إلى الأفرع الأمنية في حال واصلنا العمل دون تصريح».
وتضيف المتطوعة أنها تسمع الكثير من «الشائعات» في حلب عن أن النظام لم يسلّم قسماً كبيراً من المساعدات إلى مستحقيها، وعمد إلى تفريغ محتوياتها وتبديلها، وتعتبر أنّ «لجنة الإغاثة الوطنية» هي المسؤولة عن هذا الفساد بالدرجة الأولى. تتوافق الشائعات التي نقلتها لنا المتطوعة مع ما يمكن استنتاجه من الصور التي نشرتها سانا ووكالة الصحافة الفرنسية وقناة العربية للمساعدات السعودية التي انطلقت من مطار الملك خالد الدولي ووصلت إلى مطار حلب، وتظهرُ فيها معداتٌ كهربائية وأواني منزلية وخيام، ولكن لم يُسلّم شيءٌ منها حتى الآن إلى المتضررين الذين تواصلنا معهم، كما لم يلحظها المقيمون في مراكز الإيواء ممّن تحدّثنا إليهم.
كما تنقل لنا المتطوعة ما حصل مع أحد المتطوعين اللبنانيين الذين وصلوا حلب: «احتوت المساعدات بشكلٍ أساسي على البطانيات، إلا إن قواتٍ عسكريةً تابعةً للنظام صادرت نصفها لكي تسمح بمرورها إلى حلب. عدا عن السرقة، النظام يريد السيطرة على كامل العملية الإغاثية، حتى إننا لم نعد نجرؤ على استقبال الأموال عبر مكاتب التحويل، وإنما عن طريق الاستلام باليد. هذا الواقع، والمشي بين حطام مدينتي مرةً جديدة سبّب لي الكثير من الغضب». تكرّر فرض النظام الحصول على نصف المساعدات للسماح بتمريرها مع القافلة التي حاول الهلال الأحمر الكردي إيصالها إلى حي الشيخ مقصود في المدينة بحسب فيديو نشرته موظفة ألمانية في المنظمة، وبقيت القافلة عالقةً على معبر التايهة لعشرة أيام.
يرفض عناصر النظام العسكريون في كثيرٍ من الأحيان إدخال المساعدات الأهلية إلى مراكز الإيواء بموجب تعليماتٍ أمنية، ولكنّ المتطوعين «صاروا يعرفون أنهم مضطرون إلى تقديم رشاوى للمفارز الأمنية المسؤولة عن مركز الإيواء حتى تسمح لهم بالدخول وتقديم المواد الغذائية»، تضيف المتطوعة. للتخلّص من العراقيل الأمنية التي يضعها النظام أمام العمل الإغاثي الأهلي، حاول بعض المتطوعين-ات الحصول على تراخيص لمبادراتهم من خلال مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل، ولكنهم تفاجأوا بوجوب إجراء معاملةٍ طويلةٍ ومعقدة، والخضوع لدراسةٍ أمنيةٍ تطال جميع الأفراد المنخرطين-ات في المبادرة، وأن تكون حساباتهم البنكية مراقبةً إلي حين توقّف المبادرة وحصولهم على براءة ذمة من المديرية.
أنقاض المباني المُهدّمة في حلب-الجمهورية.نت
رغم الوعود التي قدّمها وزير الأشغال في حكومة النظام السوري ببناء 350 وحدة سكنية مسبقة الصنع لإيواء المتضررين جرّاء الزلزال في مدن حلب واللاذقية وجبلة ريثما تتم إعادة إعمار وتنظيم المناطق المدمرة بشكلٍ كامل، سيبقى المشردون من الزلزال عرضةً للإخراج من مراكز الإيواء المؤقتة والانتقال إلى العراء. ولا يبدو أن النظام جادٌ في إغاثتهم وتأمين أوضاعهم أو حتى السماح للمبادرات الأهلية في تقديم يد العون، كما أنّ التعهّد الذي قدّمه رئيس غرفة صناعة حلب بتقديم مبلغ مليوني ليرة لكل عائلة متضررة لتتمكن من استئجار سكنٍ مؤقت، وفي حال الالتزام به فعلاً، لن يكفي إلا لبضعة أشهر، كما أنه لن يؤمّن مستلزمات العيش الأساسية التي تحتاجها العائلات بعد أن تدخل البيوت المُستأجرة.
إنّ معظم الأبنية التي طالها الانهيار بعد الزلزال كانت مهترئةً أساساً بالبراميل المتفجرة، وتقع في مناطق أهملها النظام بعد سيطرته عليها إلى درجة أنه لم يرحّل الأنقاض منها حتى اليوم. اليوم، تعيش حلب ركامين؛ قديمٌ من فعل النظام وجديدٌ أحدثه الزلزال، وعلى هذين الركامين تتربّع عنجهيةٌ أسديةٌ لا ترحم المنكوبين ولا تقبل من أحدٍ رحمتهم والتخفيف عنهم.