اليوم هو السادس عشر من شباط عام 2023 ، الساعة التاسعة مساءً و49 دقيقة، تقفز أمي من على الأريكة وتسألني بهلعٍ إن كنتُ أهزها، يرتفع رأسي تلقائياً إلى الثريّا المعلقة في سقف الغرفة فأجدها تهتز قليلاً، «ارتدادية» أقول، وأطلب منها ألا تقلق، لكن لون وجه أمي يتحول للأصفر، تبرد أطرافها وتتزايد ضربات قلبها بشدة. على الدرج نسمع صوت جيراننا في الطابق الأخير وهم يهرعون نزولاً نحو الشارع، دقائق قليلة ويتزايد عدد الناس في الشارع، النساء بأغطية الصلاة، والرجال يتجمعون حول بعضهم وهم يدخنون.
أكتب ما سبق وأنا أشعر بخجلٍ شديد، لأنّ مدينتنا لم تتأذ ولم نفقد أرواحاً كما هو حال مدن كثيرة في تركيا ومناطق حلب واللاذقية وجبلة وحماة والحبيبة إدلب، وهذا ليس يعني أنني لن أخجل لو كانت مدينتي حمص قد انتكبت كما هو حال المدن المذكورة سابقاً، لكن ربما أن بقاءنا على قيد الحياة، بينما الباقون قد رحلوا، بحدّ ذاته أصبح أمراً يدعو للخجل، والرعب، والخوف، والتعلق بأهداب الإيمان، الذي لولاه، لربما فقدنا عقولنا.
صباح يوم الزلزال المشؤوم، في الرابعة وسبعةَ عشرَ دقيقة فجراً، كان أهل المدينة بجلّهم مستيقظين في بيوتهم، غير مستوعبين ما يحدث، زلزال!، زِلزاال!، لم يكن لِأسوأ توقعاتنا أن تحسب حساباً لذلك. في صباح ذلك اليوم راح كلٌ منا إلى أعماله بوجوهٍ كالحةٍ مذهولة، كانت هواتفنا بأيدينا نتابع أخبار الضحايا، أخبار الموت والدمار، وفي ظهيرة ذلك اليوم شعرنا مجدداً بهزةٍ ثانية، كانت أخف من الأولى، تركنا أعمالنا وهرعنا إلى بيوتنا، ومع انقطاع الكهرباء المتواصل، كانت هواتفنا هي السبيل الوحيد لمعرفة ما يجري، الصدمة كانت سيدةَ الموقف، تروما جديدة نعيشها، رغم أن عقولنا وأجسادنا وأرواحنا مازالت غير مستوعبة بعد لتروما الحرب وتبعاتها.
أسأل صديقتي في الشمال عن الأحوال عندهم، كان ذلك صبيحة الزلزال. بصوتٍ متهدج ومذهول تخبرني أن الكثير من معارفها مفقودون ولا تعرف عنهم شيئاً، وأن الوضع كارثي جداً ولا يمكن تصوره، وأنها إلى الآن لا تستوعب أو تصدق ما حدث، وأنها جمعت أشياءها الهامة وجلست مع أسرتها في جامعٍ قريب، فأن يسقط سقفٌ واحدٌ عليهم أهون من أن يدفنوا تحت بناءٍ كامل. أسرة صديقتي تسكن في المدينة، ومثلها كثرٌ ممن لديهم أبناء وأهل في الشمال. عاشت هذه الأسر على أعصابها في انتظار رسالةٍ على الواتس تطمئنهم عن أحوال أبنائهم، لا تنتشر الأخبار كثيراً حول ما حدث لهم، فالكل يخاف أن يعلم حتى أقرب الناس إليهم بوجود أقارب لهم في الشمال، لا سيما مع حوادث الاعتقال المتعلقة بذلك. أما أولئك الذين لهم أقارب في المناطق التركية المتضررة فلهم قصصٌ أخرى، يتداول أهل المدينة قصة امرأةٍ حمصية في هاتاي لديها أربعة أطفال، طلقها زوجها وتزوج بأخرى أنجبت له ثلاثة أطفال، ليموت طليقها وزوجته الثانية معاً بعد الزلزال، وينجو الأطفال الثلاثة ويعودون للعيش في كنف الزوجة الأولى المطلقة، بينما يتحدث آخرون عن قصة الأسرة التي ظنوا أنها قضت تحت الأنقاض، ليتبين أنهم أحياء بعد عدة أيام.
على حائط جامع عمر بن الخطاب وُضعت نعوةٌ لأسرة آل الشرفلي، وهم من أبناء المدينة، تقول النعوة: قضوا في زلزال أنطاكيا. إذن هو الموت، مصرّاً على ملاحقة السوريين في أماكن نزوحهم ولجوئهم. نسأل أنفسنا بلا جواب عن ما هو أسوأ؛ أن يموت المرء تحت بناءٍ قصفته طائرة روسية؟ أم يموت تحت بناء دمره الزلزال؟ ليس لدينا جواب، وليس لدينا حتى سعةُ الأفق والخيال حتى نحلل ذلك، أو نفهمه. الجميع الآن في بيوتهم يتابعون الأخبار، ضحايا في حلب، وضحايا في اللاذقية وجبلة، وضحايا في إدلب، وضحايا في تركيا. هواتف الاطمئنان لا تصمت من المهجرين في دول الاغتراب، «أنتم بخير»؟ يقولون، لتجيب الأمهات عما حدث إبّان اللحظات الأولى للزلزال. يومها لم ينزل الكثير من الناس من بيوتهم، لأننا ببساطة لا نعرف ماذا نفعل، أذكر أني ضممت أسرتي وأنا أتساءل إن كان بناؤنا العتيق سينهار، أكرر خجلي وأنا أكتب ما أكتبه.
وغفرانك يا الله لا أستطيع أن أحمدك لأننا لم نمُت.
ولأننا لم نمت، ورغم أننا، نحن الموجودون في مناطق النظام، محسوبون على «الصامتين السفلة» كما كتب أحدهم على صفحته في تويتر، إلا أن الدم المُراق والأجساد المنهرِسة والوجوه المُغبرّة تحت الأنقاض، حركت الهمّة والنخوة في عروق الناس، حيث لم تلبث أن بدأت حملات التبرع للمنكوبين، وبدأ الناس يتداعون في الاستجابة إليها بكل ما يستطيعون. كما أن المنظمات الدولية والجمعيات الأهلية العاملة هنا، استنفرت بشكل تام للتخطيط للاستجابات الممكنة في المحافظات المتضررة الواقعة تحت سلطة النظام، ولكنّ هذا الأمر كما هو معروف، كان بإشرافٍ وتنسيقٍ كاملٍ مع النظام للحصول على الموافقات الأمنية، حيث لا يُسمح لأي جهةٍ أهلية أو جمعية محلية أو منظمة دولية بالتحرك دون أخذ موافقاتٍ من الجهة العاملة معها، مثل الهلال الأحمر، والبلدية، والمحافظة، ووزارة التربية ومديرية التربية وأمن الدولة وغيرها. فعلى سبيل المثال، تحتاج الجمعيات المحلية إلى موافقة الشؤون الاجتماعية لبدء أي مبادرة، وتحتاج المنظمات الدولية إلى موافقة وزارة الخارجية، بينما تحتاج المساجد إلى موافقة وزارة الأوقاف عند القيام بأي مبادرة.
تشكلت لجنةٌ للكشف عن البيوت المتضررة، وقامت بعض الجمعيات الأهلية بإطلاق حملات التبرع بالمواد العينية، وفي يوم الجمعة العاشر من شباط، كانت خطبة الجمعة موحدةٌ في كل الجوامع، تحثّ الناس على التبرعات العينية لأهالي المدن المنكوبة. وبالفعل امتلأت الجوامع بهذه المواد، أما على المستوى الفردي، فقد لجأ الكثير من الناس إلى التبرع مباشرةً للثقاة الذين يستطيعون إيصال التبرعات المالية للمتضررين، ولا أستثني هنا التبرعات المالية للأماكن المنكوبة في شمال غرب سوريا، إذ توجد عدة طرقٍ للتبرع إلى هناك، لكنّ يبقى من الأسلم التحفظ على تلك الطرق، ولا بدّ من ذكر أن بعض الأسر التي تضررت بيوتها في حلب واللاذقية نزح أفرادها مؤقتاً إلى حمص، حيث أقاموا في بيوت أقاربهم، وأقام قليلٌ منهم في مراكز إيواء خصصها النظام.
يكتب أحدهم على صفحته في فيسبوك «السوري صار عين على الأسعار وعين على التريّا»، ولا أعلم إن كان من المفترض أن نبتسم هنا، وكنت أتمنى أن أقول إنّ ما حدث وحّدنا وجعلنا شعباً واحداً، كنت أتمنى أن يكون الأمر بهذه البساطة، لكن الأمر ليس كذلك. الجميع هنا، بمن فيهم المؤيدين للنظام، قد أظهروا حزناً وتعاطفاً حقيقياً على الكارثة التي حدثت شمال غرب سوريا كما تعاطفوا مع المدن المنكوبة الأخرى، حتى أن معظم الناس شاركوا فيديوهات الكارثة من شمال غرب سوريا، بما في ذلك فيديوهات صفحة الدفاع المدني في الشمال، بل إنّ أحدهم كتب «أنا عسكري وأتمنى أن تدخل المساعدات فوراً إلى الشمال»، لكن المرء يتمنى لو أنّ هذا التعاطف كان موجوداً دائماً، وأنه ليس لحظياً، لأن الدم المُراق بفعل القصف والبراميل وغيره هو ذاته الدم المُراق في الزلزال. ليس الوقت الأنسب الآن للحديث باسترسالٍ عن ذلك، يبقى القول المهم: كثيرون من السوريين يعيشون كارثةً جديدة، رغم أننا لم نستفق بعد من كارثة الحرب المدمرة، ولن أقول إنه لا بدّ أن نتمسك بالأمل، ولا بالحياة، ولا بأي شيء، سأنتظر فقط حتى نستفيق من الصدمة، ونساعد بالقليل الذي نقدر عليه، وعندما نستفيق، وعندما نتمكن من لملمة أوجاعنا، ربما سنجد حينها شيئاً له معنى يمكن أن يُقال.
تحديثٌ أخير: مساء الاثنين، العشرين من شباط، أحسسنا جميعاً بهزةٍ أرضية في الساعة الثامنة وسبع دقائق، هذه المرة نزلنا إلى الشارع، هرع جارنا حافياً إلى الشارع بعد أن اطمأن إلى أنّ أسرته وأطفاله قد سبقوه، الناس تجمعت في سياراتها وفي فسحات الشوارع، بينما أصحاب المحال تركوا محالهم وخرجوا بعد أن أغلقوها، يرفض أبي النزول قبل أن يرتدي ثياباً أنيقة. تخبرني صديقتي في الشمال أنها اضطرت للنزول هي وزوجها إلى الشارع وبالكاد تضع شالاً على رأسها، الأمر الذي جعلها تبكي بسبب ذلك، لكن زوجها يضع سترته عليها كي تغطي ما تريد ستره، تقول: إنّه لا بدّ من وجود حكمةٍ إلهية لا نعرفها وراء هذه الزلازل، يقول الناس إنّه لا بدّ من وجود حكمةٍ إلهية لا نعرفها وراء هذه الزلازل، تقول صديقتي يجب أن نخاف، يقول الناس يجب أن نخاف، تقول صديقتي إن الإنسان لا يعيش خوفين، يقول الناس إن الإنسان لا يعيش أمانين، وبين خوف الدنيا وخوف الآخرة، وأمان الدنيا وأمان الآخرة، ننتظر مصيرنا.
صابرين.