لحظة تلاقي القط «روكّا» مع الفنانتين عُلا الخالدي وديالا الخصاونة، شكّلوا عائلة، أسموها «عائلة روكّا». أسست العائلة «مدرسة الزيزي»، وهو عملٌ فنيٌ تعاوني؛ مساحة فلسفية بطلتها شخصية عجيبة\خيالية\خرافية تدعى زيزي. تقول عائلة روكّا إن زيزي أتت خصيصاً من الفضاء لأنها لاحظت أن البشر «خوّيفة» وهذا الخوف يشلّهم عن الحياة. ويرى أهل الفضاء أنهم متصلون بأهل الأرض، وأن ما يحدث مع أهل الأرض يعنيهم؛ لأننا وِحدةٌ واحدة، مصلحتنا واحدة، مُتعتنا واحدة، ورحلتنا واحدة في هذا الكون.

في مدرسة الزيزي، تأتي زيزي لتحتل جسد ديالا الماديّ وتنشر رسالتها من خلاله. فيصبح وسيلة زيزي في التفاعل والتواصل مع البشر. تُخرجك من منطقة راحتك، تُكركبك، تدفعك للتفلسف، وتُشجّعك على أن تصفن.  

وإن كنتَ محظوظاً جداً، ستزورك زيزي خاصّتك في لحظة «جَنّونتك»، تحمّسك وتتحدّاك. لا أعدك أن تزول عنك الحيرة بعد زيارة الزيزي لك، حتى وإن كان لديها كل الإجابات على كل الأسئلة. لأن الإجابة ليست نهاية السؤال، وإنما البداية لطرح ألف سؤال آخر. وهذا لا يزعج الزيزي! إذ أنها تشجّع على الفضول، وعدم أخذ الإجابات كمسلّمات. حتى ولو كانت تلك الإجابات إجابات الزيزي نفسها.

في هذا اللقاء نحاور ديالا الخصاونة، وهي فنانة تتنقل في ممارساتها الفنية بين الفن الأدائي وأدوات الفنون الأخرى، الفن ذريعتُها لفعل ما تحب. وهي الآن تكتشف البرّية، ليس فقط لأن زيزي لا تعمل إلا في البرّية بعيداً عن المدينة، وإنما لأن البرّية وسيلَتها للاتصال مع برّيتها «الجوّانية». تصرّ ديالا على مواجهة لحظة النمر ومصادقة «العَوْ» أسفل السرير. لم أتفقّد إصبع قدمها الصغير، ولكنها تبدو بخير.

******

كيف تحب ديالا التعريف عن نفسها؟

من فترة وأنا أريد الإجابة على سؤال «من أنا؟»، على أساس أن الشيء الوحيد الصادق في رحلة الحياة يبدأ وينتهي عندي أنا. كلما كبرت كلما أدركت أنني لا أعرف، وعدم المعرفة أمرٌ يشجعني على العودة للداخل.

فمن ناحية من أنا، وُلدت عام 1975 في عمّان .عندما كبرت، كانت عمّان يسارية قومية عربية، ولم يستطع أهلي تجاوز «كسرة قلب» احتلال فلسطين، وما زالوا.

وعلى المستوى الشخصي، أعتقد أن انفصال والدَي حين كنت في عمر الست سنوات أثَّر في تكويني وإدراكي للحياة. جعلني أعتاد منذ الصغر على أن الأمور لا تسير بالضرورة كما أفكر وأتوقع. وأن الطبيعي ليس بالضرورة خطاً واضحاً. ساعدني ذلك جداً في أبحاث الحياة.

هناك أيضاً حرب الخليج عام 1990؛ أولاً دخول صدّام الكويت، وثانياً غزو العراق. أشعر أن غزو العراق نقلني من براءة الطفولة إلى التعقيد. كنت أفكر أن العرب شيء معين، أو تعريف معين، وهذا ما فرض عليّ أسئلة كبيرة.

هذه نقاطٌ مفصلية في حياتي، شكّلت هويتي بشكل عام. وهويتي طبعاً متغيرة ومتفاعلة بطبيعة الحال.

أعمل في مجال الفنون منذ وقت مبكّر، أحب الفن، وأعتقد أنه ليس لدي خيارٌ إلا أن أعمل به. وأعتقد أن الكثيرين من الفنانين يُنتجون الفن من باب مسؤوليتَهم تجاهه في الحياة. هناك من يقاوم أكثر من غيره، وهناك من يستجيب أكثر من غيره، لكنها في الغالب مسؤولية يجب علينا تَحمُّلها بجدية. وأنا أحاول، لكن ليس من السهل أن أعيش ممارستي الفنية، أن تكون هي حياتي. بمعنى أن ما أريد استكشافه، والأسئلة التي أحاول إلحاقها بالفن، هي حقيقيةً تأتي من حياتي. وما أتفلسف به في الفن، أحاول عكسه في حياتي. لا أنجح دائماً بالطبع، لأن محرك العالم اليوم قوي جداً.

لنتحدَّث عن آل روكّا، كيف تشكّلت عائلة روكّا، ومن هم أفرادها؟ وهل هي مشروعٌ فني أم أنها أكثر من ذلك؟

عائلة روكّا هي عنوان العمل الفني التعاوني بيني وبين علا الخالدي. أدركنا أننا نصنع عملاً فنياً له خصوصيته عام 2010، له علاقة بهجرتنا إلى أميركا. اسم روكّا يأتي من اسم القطة التي سافرت معنا من عمّان إلى أميركا. والتي «الله يرحمها» فارقت الحياة في ديسمبر 2022. مرّت خمسة أشهر على وفاتها.

«تعيشي!»

«تسلمي، يطوّل عمرك». روكّا، التي أسمينا العائلة على اسمها، واريناها الثرى وزرعنا فوقها شجرة صنوبر. ودفناها في العالوك-بيرين، حيث عاشت آخر أربع سنوات مع أختي في أميركا لأسباب افترضنا أنها أفضل لها.

عائلة روكّا هي استجابةٌ لمفهوم العائلة كبنية أساسية في المجتمع، هي «نُكتة»، لكنها شيء جدّي جداً في الوقت نفسه. في الاسم طرحٌ لأسئلة عن الوطن، الهجرة، تعريف العائلة، عن العائلة بمعانيها المختلفة. مثلاً، ماذا تعني العائلة عندما تكون مكوّنة مني أنا وعُلا وقطة؟ قد يكون لها تعريف في أميركا، لكن ليس بالضرورة أن يكون لها نفس التعريف هنا في الأردن، لكن لأننا كنا في أميركا مهاجرين، ونحتاج للوطن ولبعضنا، وحملنا الشيء المألوف هناك ومعناه، وكيف يراه الناس في محله الجديد. فهو علاقة لتلك الفترة الزمنية والمساحة الجغرافية وعلاقتنا مع الحياة. فالعمل الفني، خاصّة في أوله على الأقل، كان يتحدث عن موضوع الهجرة والعائلة والعادات والتقاليد و«التيتا» وهذه الأمور. ولكننا إلى حد الآن نتعاون فنياً، فمثلاً آخر عمل فني لعائلة روكّا نقوم به الآن هو «مدرسة الزيزي». كما أن عائلة روكّا هي امتداد لحياتنا، أعني أنه لا فصل بين حياتنا وعملنا.

تستخدم «مدرسة زيزي» الفنون، الكتابة، الحركة والحضور في الطبيعة كمدخل للتأمل و«الصفنة» بأفكار معينة. تقول زيزي بأنّ الصّفنة هي أساس الفلسفة وهذا تعريف قد يبدو قريباً ومطمئناً وبسيطاً، لأنّ التفلسف في المخيال الجمعي تمرينٌ صعب وليس في متناول «البشر العاديّين».

«أوه ماي جاااد»!!! كارثة اللي عم تحكيه كارثة! زيزي لا تحب أي شيء سهل! لا تحب ولا شي مريح!! يعني لأ !.. راحة وسهل؟! كارثة كارثة كارثة!!.

المدرسة شعارها «مبلا فلسفة»، وهو يأتي من «بلا فلسفة». على افتراض أن رد الناس على كلامك عندما تتمادى قليلاً برأيك، يقولون لك «خلااااص عاد بلا فلسفة». يمكن أن يكون صديقك أو أمك أو أي أحد. ومعنى «بلا فلسفة» أن تفكيرك «اللي شوي زيادة، بليز وقفلنا اياه. مش منيح».

وبالفعل موضوع الصفنة مهم! شخصياً عشت في زمن يرفض الصفنة ومع عائلة ترفض الصفنة، وتؤمن بأنّها للكسالى وترى بأّنه علينا الانشغال بأمر مفيد وعدم تضييع وقتنا. في الحقيقة ليس من السهل عليَّ أن أصفن، المدرسة تساعدني، لكنه ليس سهلاً. الأمر فعلاً صعب. الصفنة هي المساحة التي يذهب فيها عقلك وفكرك بعيداً. تتخيّلي أشياءَ وتبتعدي وتتفلسفي.

كل هذا يأتي مع الصفنة. مثل أن يذهب أحدنا للمشي مشواراً طويلاً، أو يجلس عند البحر، أو يختار فعل شيء قد يكون عنوانه الكسل أو يصفه البعض «بالهَمالة»؛ هذه هي المساحة التي ليس بالضرورة أن يكون الإنتاج فيها واضحاً جداً، في عالم يعتبر الإنتاج شيئاً أساسياً، وأنه يتوجب عليك أن تنتج وأن تكون جزءاً من المصنع الكبير. فكرة الإنتاج هي أن تصنع مالاً أكثر لشخص ما. فأي شيء، مثل الفن والفلسفة وحتى النبوة والرياضة، هو شيءٌ ليس واضحاً ما الذي يقوم بإنتاجه، أقصد إذا لم تُسخِّر الرياضة لتَدرَّ عليكَ المال من خلال الإعلانات أو.. لا أعرف، لا يكون لها معنى في عالم الإنتاج والاستهلاك. هذا من ناحية. ولكن من ناحية أخرى، تُدرك المؤسّسة بأنّ هذه المساحات خطيرة، وأنه في الواقع إذا تفلسف الواحد منا أو صفن أو كان فناناً، أو مستعداً كي يسمع الرسالة ويقدم النبوة. يمكن أن يؤثر ذلك على  الوضع القائم؛ بالثورة أو التشجيع على التغيير أو حتّى بفتح الباب أمام طرح الأسئلة التي تُخيف. 

زيزي تشجّع على الصفنة حتى نسأل السؤال «اللّي بخوّف». الأسئلة التي تخيفنا ليست فقط أسئلة ضد النظام، وليست المسألة أننا لا نريد لعجلة الرأسمالية أن تستمر. هي أسئلة عن حالنا أيضاً، أسئلة «جوّانية» تخيفنا أكثر في أغلب الأحيان. «لماذا أفعل هذا الشيء؟…لماذا لم أفعل ذلك الشيء؟… من أنا؟… ما هو معنى الحياة؟». كلّ الأسئلة التي يمكن أن نجدها مُخيفة.

كنتِ تقولين بأن زيزي لا تحب أن نعبّر عن الصفنة بأنها أمر سهل ومريح، لماذا؟

لأن الهدف ليس السهولة. يعني أننا نفعل الكثير من الأشياء، وإن كانت هي القرار الصحيح، تكون مريحة، لكن ليس دائماً. ليس دائماً الأفضل لك سيكون هو المريح. بمعنى أننا لسنا دائماً على مفترق طرق ويجب علينا اختيار الأسهل. أحياناً نختار الطريق الأصعب. وأحياناً نختار الطريق الذي لا نعرفه لأنه يمثّل الفضول والتغيير والثورة. والمرّات الـ«لأ، ولكني سأفعله فقط لأني أرغب بذلك» مُهمّة. أحياناً يفترض أحدنا أنّه شخص فاشل فقط لأنّ حياته صعبة ومعقّدة. هناك افتراض سائد بأن النجاح هو الوصول إلى الراحة. ولكن الحياة معقدة وصعبة جداً. سوف نمرض ونتوجّع، وتنكسر قلوبنا عندما نحبّ، ونتعب بسبب صديق، ونكتئب بسبب الطقس البارد. كلّ هذه الأشياء جزءٌ من الحياة الحقيقية!

أحيانا تكون المساحات المألوفة والأشياء السهلة ضارّة لأنّها تؤدّي إلى الخمول، فيضمر خيالنا أو يختفي نهائيّاً. قد نعتاد الأشياء السهلة والمريحة ولكن مع ذلك يكون علينا تغييرها، فقط لنمرّن أنفسنا على التغيير. إذا بقينا نقاوم التغيير والتغيّر وظللنا ثابتين، سينتج عن ذلك الركود. والركود يقتل الخيال. لا شك.

تؤكد زيزي على أهمية الخيال «خيالك هو بحرك، خيالك هو بحرك، خيالك هو بحرك»، كيف نكون مثل زيزي في سعة خيالها، أن ننقله من مرحلة الخمول إلى خيال في أعلى مستويات نشاطه؟

الخيال عَضَلة، كلّما مرّنته أكثر، كلّما «بتروحي» فيه أكثر. أيضاً الخيال موجود بكثرة في الأدب والموسيقى والأفلام والميثولوجيا والأساطير، هذه الأماكن من الجيد لنا أن نواصل الذهاب إليها والاستفادة والتعلم منها.

الفكرة هي أن أي شيء لا تستطيعين تخيله، لن تستطيعي الوصول إليه. يمكن لأحدهم أن يقول لك أن تحرير فلسطين مستحيل، جيشٌ إسرائيلي كبير، مسيطر، وأميركا تدعمه. بالتالي لن تستطيعي تخيّل ذلك، ثم لن يتم تحريرها. واحدة من طرق تحرير فلسطين، هي أن تتخيليها محررة. ثم يأتي السؤال في التفاصيل. أي ما هي فلسطين  التي تحلم بها. عندما تقوم بتحريرها، هل ستُحرّرها بالسلاح؟ الجيوش؟ هل فلسطين التي تحلم بها هي فلسطين محررة عن طريق الدم؟ محررة عن طريق الشعر؟ هذه بالتفاصيل، ولكن إن لم تتخيّل فلسطين محررة، فلن تحررها طبعاً.

 إن لم تتخيلي نفسك في علاقة مع الطبيعة، من المؤكد أنك لن تخلقي علاقة مع الطبيعة. فالموضوع يبدأ دائماً بالخيال.

واحدة من طرق أي نظام للتأكد من عدم وصولك إلى محل ما، هو أن يتأكد أن خيالك نحوه صعبٌ عليك. هنالك إعادة تكرار في الخطاب السياسي لسقف معين. مثلاً هناك تركيزٌ على أنك إذا لم تشتغل لتستطيع شراء شقة، معنى ذلك أنك ستسكن الشارع، بالتالي ستبيع جسدك، وسيكون ذلك مؤلماً جداً، ستمرض وتموت مبكراً. بالتالي، هدفكِ في الحياة أن تشتغلي وظيفة تُعطيكي المَعاشَ المُعيّن حتى تأخذي القرض المناسب لشراء الشقة. خلقوا القصة ولم يتركوا مجالاً  للخيال، لأنك عرفت القصة من الألف إلى الياء. وبالتالي ستحل هذه القصة محل خيالك أنت. لذلك الخيال مهم جداً.

كيف نتفلسف على طريقة الزيزي؟ ما هي الأدوات التي تمنحها زيزي لطالباتها وطلاّبها في المدرسة كي تعينهم على أن يَصْفنوا؟

أول شيء، يجب عليكِ التعرّف على زيزي طبعاً. ولتتعرفي عليها يجب أن يكون قلبك وعقلك مفتوحين. تفترض زيزي أنّ بداخل كلّ واحد منا زيزي، ولكن يبقى أن تفتح قلبك وعقلك لتستقبل هذه الزيزي. لأنه يأتي معها لحظةُ رعب. إن لم ترتعب فلن تجد زيزي بداخلك.

يجب كذلك أن تتصلي بالطبيعة. وألاّ تخافي الطريق الصعب. بالعكس، أن تختاريه مرّات. وأن تبحثي عن البرّية بداخلك. وأن تُخرجي الوحش من داخلك.

المدرسة لحظةٌ في الحياة، نخرج فيها من المساحة التي اعتدنا عليها حرفياً. نذهب لمساحة جديدة، نحاول أن تكون أقرب ما يمكن للطبيعة. نخرج عن المألوف ونبتعد عن الروتين. وبالتالي عندما نجلس على الأرض، نجلس بطريقة جديدة، ونبدأ بالشعور بعضلة أخرى، و يبدأ مشروعك في أن تقتربي جسدياً من نفسك، لأنك تجلسين في مكان لا تشعرين فيه بالراحة كثيراً.

ثم الحركة والرياضة والمشي، نتحرك حركات معينة، يمكن أن تكون غريبة قليلاً، بمعنى أنه يتفكك شيء جديد، وأيضاً تدعو إلى «الهَبَل». والهبل يأتي معه اللعب «وهيك أشياء».

ونستخدم أيضاً الكتابة والرسم، لأنهما يسمحان لك في تأمل فكرتك. حرفياً كل ذلك هي أدواتٌ للفلسفة. أن تمسك فكرتك وتستمر في الكتابة حولها، وتعيد كتابتها، وأن تكتب أموراً خطرت على بالك أثناء تفكيرك بفكرتك الفلسفية وترى إلى أين يمكن أن تأخذك. يمكنها أن تبدأ من إحساس، من شعور، من عضلة تؤلم إلى لا شيء. والرسم يسمح بنفس الشيء أيضاً. هذه أدوات تقليدية كلاسيكية في الصفن.

والتفاعل مع أُناس آخرين وبناء علاقات، هذه أيضاً أداة، فهي جماعية دائماً؛ تبادلية، تشاركية، تعاونية. وفي كثير من المرات، البيئة التي نكون فيها تفرض علينا التفاعل مع أشخاص آخرين. أستطيع أن أعُدّ لك 22 أداة أيضاً. أعتقد أن هذا يكفي… لا أعرف إن كانوا 22 فعلاً.

كيف اكتشفت زيزي التي بداخلك؟ حدّثيني عن لحظة الرعب!

أحد مهماتي في الحياة أن أواجه مخاوفي. أحاول، ليس سهلاً ولكني أحاول.

لست متأكّدة من أنّني اكتشفت زيزي. اسمحي لي أن أشرح لك من زيزي. حسناً؟ زيزي كائن فضائي كما تعلمين طبعاً، لأن كل شخص بالعالم… الملايين يعرفون زيزي، ويعرفون أن زيزي تأتي من الفضاء. من محل بعيد جداً جداً. اجتمع أهل الفضاء وقرروا أن أهل الأرض من البشر، «خوّيفة». وأن هذا الخوف يقف في طريقهم للحياة. الخوف في الأصل مهم جداً. إذا هجم عليك النمر، عليك أن تهرب؛ فهو أساسي لتعيش. ولكن عندما يصبح الخوف عائقاً أمام قدرتنا على العيش، يصبح هناك مشكلة في الخوف. فزيزي قادمة حتى تشتغل مع أهل الأرض من البشر، ليتصالحوا مع خوفهم، وليصيروا أصدقاء معه، وليُميزوا بين لحظة النمر، وبين المخاطر التي تأتي مع الخوف والذي يجب عليهم مواجهته.

زيزي هي شخصية، والفكرة منها لا أن تكون مريحة وتمسك بيدك. هي شخصية «بتدفشك» بعيداً عن المساحات المألوفة حتى نختبر مخاوفنا. شخصيّاً أجد صعوبة في القيام بعروض حيّة «بيرفورمانس» ولكنّ زيزي تساعدني على ذلك، وهنا تكمن أهميّة مدرسة الزيزي بالنسبة لي ولعُلا، فنحن نمتحن بفضلها أنفسنا لأنّها مساحة غير مريحة، ليس فقط بالنسبة للطلاب والطالبات، بالنسبة لنا أيضاً. ويكمن عدم الراحة بالنسبة لنا في المجهود الذي نبذله من قراءات وترتيبات، وفضولنا القاتل تجاه الأشياء في الأماكن التي نذهب إلى اكتشافها مع أشخاص لا نعرفهم أيضاً، ويجب علينا أن نعمل معهم ونلعب الموسيقى معهم ونحاول معهم بناء المعرفة. هذه كلّها مساحات تحدٍ ونمو.

 وما هي لحظة النمر التي ذكرتها منذ قليل؟

لحظة النمر هي أن تهربي من شيء حقيقي. تهربي من شي يخيف فعلاً، لا أن تستمري في الهروب من شيء لا يخيف أصلاً، أو يخيف قليلاً لكنه لا يقتل. على افتراض أن البشر يبنون ردودهم على ثنائية «fight or flight» إما أن تواجه الشيء، أو تهرب منه. وهذا يأتي من محل افتراض أنه كان هناك وحش كبير في الغابة، ويجب عليك الهرب منه، لازم تهربي، و إذا لم تهربي منه سيأكلك. صح؟ وأنت لا تريدين أن تُؤكلي؛ هذا الافتراض. لا أعرف، يمكنك أن تختاري غير ذلك، لكن الافتراض الغريزي هو أنك ستهربين من النمر. لكن ماذا لو كانت قطة؟ من المؤسف أن تهربي، الكثير من الناس يهربون من القطة، فيخسرون علاقة كان يمكنها أن تأخذهم لمكان مثير للاهتمام، حتى لو كان بايخ، من الجيد لك أن تذهب إليه، لأنك إن لم تذهب ستكون قد تسببت بحرمان نفسك من شيء مثير،  أن تصاحب نمراً صغيراً، يمكنك احتماله، حتى أن خدشته معقولة، التهاب صغير. أما ذاك النمر فمن الجيد لك أن تتفاداه.

هناك خوف هستيريّ من الصفنة أي من الفلسفة، كيف تردّ زيزي على المجتمعات التي تخاف من الرأي المخالف وتخاف من فكرة تغيير العالم؟ 

زيزي ستقول لك إن تغيير العالم لن يكون سهلاً، ولا أدري إن كان يجب عليكِ التواضع قبل التفكير بتغيير العالم، وعليك أن تتذكري أنه من الممكن، إن كان لديك رأي مخالف، «إنو يوجّع كتير» .

واحدة من الفلسفات والقصص التي تتفلسف فيها زيزي، هي أنكِ في كثير من المرات تخافين؛ تشعرين أنه يجب عليك أن تكنسي تحت التخت، بسبب العتمة، ولأنه يجب عليك أن تتأكدي أنه لم يبقَ شيء عالق. لكن «العَوْ» الموجود تحت التخت، كان بإمكانك إقامة علاقة مثيرة للاهتمام معه، بالتالي لديك الخيار، إما أن تلغي تماماً وجود العَوْ تحت التخت، أو تسمحي لخيالك أن يذهب معه. وزيزي تقول لك «خلّي خيالك يروح مع العَوْ تحت التخت. مش دايماً لازم تكنسي كل قرنة».

عوالم زيزي وبالتالي عوالم عائلة روكا قريبة نوعاً ما من الكرنفال. صحيح أنّ الكرنفال في الأصل هو احتفاليّة دينيّة ولكنّه مساحة للحريّة والانعتاق، حيث يتنكّر المشاركون والمشاركات ويرتدون لباساً غير اعتياديّ ويتقمّصون شخصيّات من نسج خيالهم ويرقصون بجنون، هل «زيزي شو» هو كرنفالٌ معاصر؟ 

حلو! لم أكن أعلم أن الكرنفال ارتبط في نشأته بالدين، لكني أفهم كيف كان ذلك، بمعنى أن  زيزي عندما تصبح زيزي، تلبس أشياء معينة فتنقلها؛ أقصد أن الشخصية تسمح لنفسها بالذهاب لذاك المحل، لأنها ارتدت لباساً معيناً، وهذا يساعدها كثيراً. مثل طقوس معينة أو شعائر، زيزي تستخدمه طبعاً، لتتحرر أكثر.

عن العلاقة التشاركية\التعايش بين البشر والحيوانات ضمن عائلة روكّا، نجد أن القط روكّا محوري ومصدر الإلهام العنفواني، كيف للعائلة أن تستمد قوتها من قط محب للنوم والأكل والمغامرات السرية؟

واحدة من الأشياء الأساسية كانت في مدرسة الزيزي هذا العام مثلاً، هي أن تصنع علاقة و«نشبّك» مع القمر، وفكرة القمر هي أن تنظر للسماء. الناس لديها علاقات مختلفة مع القمر، شيء جيد وشيء ليس بجيّد وشيء صفر إلى آخره. جزء من الدعوة للعلاقة مع القمر هي أن ترفعي رأسك وتتطلَّعي إلى السماء؛ فرصة لأن ترى الكون، ما بعد النجمة، الغيمة، ما بعد الحائط، ما وراء هذا المحيط الضيق والقريب، القط نفس الشيء. أشعر أننا مدينون في مكان مثل المدينة للقط لأنه مازال يعطينا خيطاً مع البرّية، القط هو نمر كذلك، هو نمر حرفياً، يعني بإمكانه أن يستخدم كل الأدوات الحادة التي يمتلكها ليؤسس مساحة لنفسه، فهو وحش. ولكن لأنه صغير ووزنه خفيف، فإنّ حضوره مطمْئن نسبيّاً لكنه على الحافّة، هي مجرد محاولة لبناء علاقة أليفة، لأنه فعلياً، لا يمكنك التنبؤ أو أن تكون أكيداً من أفعاله في اللحظة القادمة. ولا لحظة كنت أكيدة أن روكّا لن تعضني أو لن تُخرج أظافرها علي، أو لن تقرر أن تعمل «خخخخ» وتذهب. فهناك في محل ما أنت تبني علاقة. لكن الجميل فيها أنك لا تفهمها، وهي ما زالت ملك هذا الحيوان. وهذه المساحة دعوة لتذهب معها لمكان آخر، غامض، مازال برّياً، وأن تسمحي لنفسك بالاقتراب منه قليلاً. هي رمزياً دعوة لهذا المحل البرّي، لعلاقة بينك كبشرية مع البرّية وبالتالي مع البرّية التي بداخلك.

والقطة بالذات، لأن هناك الكثير من الميثولوجيا المرتبطة بها تاريخياً ( العالم السفلي، الإلهات، سحر)، قدرات خاصة مع الليل، القط يأتي مع تلك القصص .

إيتيل عدنان تقول: «أيها الشعراء، غيّروا العالم أو اذهبوا إلى بيوتكم!»، فِكرك بيقدروا الفنانين والشعراء يغيروا العالم؟ وأصلاً هل هي غاية الفن تغيير العالم؟

هم يخلقون هذه المساحة، نعم، إذا افترضنا أن التغيير هو الأساس، الثبات ليس متوفراً أصلاً، وأي ثبات هو موت، الموت نفسه يمكن له أن يكون متغيراً أكثر من الثبات. أعتقد أن الفنانين لديهم دور كالفلاسفة، وهو وصلٌ بين الماوراء والماوراء؛ أعني أننا مَمَرّ، حاملو رسالة، تقع علينا مسؤولية. لذلك أشعر في مرات كثيرة أنه ليس من المنطق أن يختار أحدٌ ما أن يكون فناناً، في عالمنا اليوم هو ليس اختياراً منطقياً أو عملياً، بالتالي طريقتي لتفسيره هو شيء أكبر من فردي، كشعورهم أنهم أداة بيدٍ ما، مثل النبي؛ هو أداة بيد الله، تقريباً من هذا النوع.

ولكن ليس لدي تصوّر لما سيصير العالم عليه، وليس لدي رسالة واضحة. حين أقول لك إنني أشعر أن «الكركبة» التي نحن فيها اليوم علينا عدم قبولها، أنا صادقة بذلك، أنا لا أريد أن أوافق على هذا كله؛ هوس الناس التي تشعر أنها فاشلة طوال الوقت، أننا طوال الوقت نتخانق مع جسمنا لأنه يكبر، أننا طوال الوقت محشورون بشقّة، عادي وأنا موافقة عليه؟ لا، لست موافقة عليه. عندي جواب له؟ لا. ولكن ألا أكون سعيدة أكثر وأنا أمام شجرة؟ بلى. كيف أشبكهم مع بعض؟ لا أملك جواباً. ولكني أستطيع أن أقول لك أن مسؤوليتي في عملي الفني أن أقول أن الشقّة ليست خيارنا الوحيد، ليس خيارنا الوحيد أن يعيش أحدنا حياته منذ الصغر إلى الموت وهو «ميّت» رعباً من الحياة، لا، هذا هو عملي.

 كيف تحافظين على أن لا تنطفئ الشعلة بداخلك؟ ما الذي يغذي ممارستك الفنية ويلهمك للاستمرار؟

حلو السؤال! لا أنجح في ذلك دائماً طبعاً، هنالك مراحل فشل دائماً. ولكن بالتأكيد علاقاتي مع الآخرين، مثلاً لأني أعمل مع عُلا، هذا مهم، أن يكون هناك شخص آخر «بشيّك»، دائماً، نتأكد من بعضنا. المدرسة مهمة جداً، علاقتي مع المدرسة هو أن أكون مع فنانين آخرين. ممارستي الفنية دائماً كانت معتمدة على أن أكون جزءاً من حالة أكبر، أحتاج أن أكون مع فنانين آخرين، أو أن أعرف عن أشخاص آخرين يعملون في الفن، ماذا يفعلون وأتعرّف على أعمالهم، وهكذا، يجب أن أسمع أسئلتهم. أعتقد أن أهمية المدرسة لي، أني أستفيد منها بقدر ما يستفيد الطلاب. هي مدرسة لي أيضاً. يجب على المدرسة أن تكون دائرة، أن تكون مجموعة، لأن كل أحد فيها يأتي بتجربته وأسئلته و«خَبْصَتُه». لا شك أني أنا وعُلا من نخلق مساحة للمجموعة والهيكل الذي يحمل، ولكن العمل جماعي.

يللا نتفلسف؟! هل يمكن للمساحة الآمنة أن لا تكون مغلقة؟ والتي ترتبط لا شعورياً بنقيض الأمان، في استحضار الخطر في الخارج؟

أنا عندي مشكلة مع كلمة مساحة آمنة، أصلاً، هو وعدٌ فاشل؛ وعدٌ لا يمكن تحقيقه، ويصبح الأمن هو جزءٌ من هذا الخمول الذي تحدثنا عنه. إذا دخلت على محل وأنتِ متأكدة أن كل كلمة تقولينها وكل حركة تميلينها، لن يسألك عليها أحد، ولن يتحداك أحد، لا أدري ما هذه المساحة ولماذا علينا خلقها أصلاً. يجب علينا أن نتعلم كما القطة، أن نخرج أظافرنا عندما نحتاجها، ويطلع غضبنا عندما نحتاجه، وأن نعرف كيف نترك مساحة عندما نحتاج لترك المساحة. المشكلة تحدث عندما «يشلّنا» الخوف، أي عندما تعرف أن عليك ترك المساحة، وأقصدـ أي مساحة تكون. لأن الأسرة أيضاً يمكن أن تَعِدك بمساحة آمنة، وأن تكون غير آمنة، المهم أن تعرف كيف تترك المساحة؛  يبدو أنه سلوك بشري عادي، أن تكون في مساحة سيئة، وما تزال فيها، وفي مرات أخرى تعود إليها.

الذي يحدث في هذا المساحات، أن المركزية تكون لأشخاص يشعرون أنهم في الهامش. ولكني أيضاً لا أُفضّل خلق مساحات محصورة لنوع معين من الأشخاص، مفترضين أن هذا النوع المعين يحمل نفس الأخلاقيات والمبادئ والأهداف والأحلام. هذا بحد ذاته تعصب، و«طفس».

السؤال الأخير. هل ما زالت زيزي  تعتقد أن أهم مساهمات البشرية على مستوى المجرة سنـ ….

سندويش جبنة مسيّحة؟! «أبسولوتلي!» مع شيبس مملّح، بدون مكونات أخرى، فقط بطاطا مقلية مع ملح، أهم مساهمة بشرية، أكيد!

السؤال البعد أخير. « في البدايات نهايات وفي النهايات بدايات». لو أردتِ أن تمنحينا مهمّة مكونة من خمس لسبع خطوات، أكثر أو أقل، لصفنة فنية. ماذا يمكن أن تكون؟

مثل: « كرشي كبير بحبه كتير سبع مرات في اليوم تلاتين ألف مرة»؟ عمرك سمعتي كرشي كبير؟! زيزي تشجعك لتبني علاقة قوية مع ذاتك ومع وحشك اللي جوّا، تبدئي أولاً، بأن تضعي يدك على «كرشك»، وتقولي «أنا كرشي كبير و بحبه كتير.. أنا كرشي كبييييير و بحبه كتييييير».. بتعيشي اللحظة.. «أنا كرشي كبييييير و بحبه كتييييير ..يعني بتحبيه كتير! عالآخر». مثلاً بتعيديها ستين ألف مرة باليوم، سبعمية مرة كل مرة. يعني أعداد لا نهائية، بتعيدي بتعيدي بتعيدي.. وبتاخدي نفس وهيك. فهذا نوع من الطقوس يعني.

بالنسبة للصفنة أول شيء، زيزي دائماً تنصح كل أحد أن يشرب الماء، يعمل «بيبّي»،  بتلاقي شجرة، بتقعدي تحتها وبتاخدي أنفاس عميقة، بتعملي أنا كرشي كبير وبحبه كتير، و ما بتعملي ولا إشي لساعتين وراها.