الفهرسالفصل الأول: السلطة |
يستعرض الفصل الأول من هذا الكتاب حكم حافظ الأسد الشمولي في سوريا بين عامي 1970-2000. يمتد تاريخ سوريا لآلاف السنين قبل ذلك، فمدن شرق المتوسط، وهي ما يعرف ببلاد الشام، هي من أقدم المدن المأهولة في التاريخ. وقعت بلاد الشام تحت الحكم العثماني في بداية القرن السادس عشر. وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، قسّمت دول التحالف المنطقة إلى عدة دول منفصلة تحت سيطرة الاستعمار البريطاني أو الفرنسي. كانت سوريا من حصة فرنسا في حينها. قسمت فرنسا أرض سوريا على أساس طائفي، فرّقت بموجبه حلب عن دمشق في دولتين منفصلتين سكانهما من أكثرية سنية عربية، مع أقليات دينية مختلفة كالمسيحيين واليهود والشيعة والإسماعيليين، بالإضافة إلى مجتمعات إثنية أخرى كالتركمان والأرمن والشركس والأكراد. أما الإقليم الساحلي المتمثل في اللاذقية فقد خُصص دولةً للعلويين، وهم فرقة من الإسلام الشيعي كانت تعاني من اضطهاد مديد. وفي الجزء الجنوبي الشرقي، استقرت أقلية عرقية ودينية مختلفة هي الدروز. بعد ذلك، تجندت كل تلك المجتمعات – بدرجات مختلفة – لمقاومة الاستعمار، لتستسلم فرنسا وتعترف بكل تلك الأقاليم تحت دولة واحدة. وفي عام 1946 أصبحت سوريا دولة ذات سيادة.
أبقت سوريا على نظامها البرلماني الذي سيطر عليه الأعيان التقليديون المحافظون قبل الاستقلال. كان النظام ضعيفاً وغير تمثيلي، وقد تم سحب الثقة منه بعد هزيمة سوريا في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948. لعقود متلاحقة، بدا أن التطور الصناعي ومكننة الزراعة وتطوير التعليم قد نجح، وصاحبته عدد من التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وصولاً إلى تسييس الفلاحين وظهور طبقة وسطى. بالنسبة لمجموعة من الشباب الريفييين – من خلفيات دينية مختلفة – لم تكن هناك أنظمة اقتصادية أو سياسية تناسب تطلعاتهم، فانضموا إلى أحزاب سياسية متطرفة. كان حزب البعث حركة ثورية يدعو في شعاراته إلى الوحدة العربية والاشتراكية. وقد حصد نجاحاً واهتماماً كبيراً، كما استطاع كسب موطئ قدم له في الجيش، وكان الالتحاق به مطمحاً لكثير من شباب المجتمعات المهمشة.
وعلى خلفية هذا الصراع الطبقي والشحن العقائدي، تدخل الجيش ليُطيح بسبع حكومات بين عامي 1949 و1963. وهي السنة التي سيطر فيها ضباط في الجيش من حزب البعث على الحكم. شجَّع النظام الجديد الصناعة والتجارة، وأعاد توزيع الأراضي ودعم الخدمات الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية والرّي والإعانات. ورغم أن تلك الإصلاحات نالت دعماً شعبياً كبيراً، إلا أنها استفزت المعارضين من القطاعات الثّرية والحركات السياسية المنافسة. وبعيداً عن تلك التحديات، كان الضعف يعتري حزب البعث بسبب انقساماته الداخلية التي زادت بعد هزيمة سوريا في حرب 1967 وما نجم عنها من احتلال إسرائيلي لمرتفعات الجولان.
كان من بين زعماء البعث المتعطشين للسلطة هو الفريق حافظ الأسد، وزير الدفاع وقائد الدفاع الجوي. وفي تشرين الثاني 1970، أزاح منافسيه واستولى على الحكم في انقلاب بلا دماء.
استبدل الأسد عقوداً من الاضطراب السياسي بدولة أمنية ذات حزب واحد، فيها مؤسسة عسكرية أمنية رادعة، تضمُّ أفرع مخابرات داخلية تقوم بمهام أمنية متنوعة. كانت المخابرات تراقب وتتابع وتنكّل بالمواطنين وبرجالات الدولة أيضاً. وقد عيَّن الأسد مُواليه والمقربين منه في مناصب قوى الأمن، واحتكر الموثوقون من أبناء طائفته العلوية المناصب القيادية. أدار حزب البعث الدولة عبر آلاف الخلايا ومكاتب الأفرع المنتشرة في طول البلاد وعرضها، كلها تعمل كجهاز مراقبة وتحكم داخلي. كما ضم الحزب الملايين من السوريين والسوريات الذين طمعوا بالامتيازات المهنية والاقتصادية التي تُمنح لأعضائه.
إضافةً للمؤسسات الرسمية، استخدم الأسد حلفاء له داخل المجتمع السوري ليقنعوا المواطنين بجنّة النظام وجهنّم معارضيه. وفي الوقت الذي روّج لنفسه بصفته حامياً للأقليات الدينية، كسب الأسد ودّ الأكثرية السنية عبر شخصيات ذات ثقل في المجتمع، بالإضافة إلى شخصيات دينية وقفت في صفه. فقد أرضى طبقة رجال الأعمال السنة عبر السماح لهم بمزاولة أعمالهم وتوسيع شركاتهم الخاصة، وفي الوقت نفسه وَضَعَ يده على ثروات الدولة وسيطر على الوظائف في القطاع العام الضخم. وساعدته سياسة المحسوبيات على حصد دعم أصوات ناخبة مهمة كالفلاحين والعمال، لكنها أيضاً أثقلت كاهل الدولة بالهدر والديون والفساد. في النهاية لم ينجح النمو الاقتصادي في تلبية حاجات التضخم السكاني.
وحين لم يجد النظام الدعم المطلوب، لم يتوانَ عن فرض الطاعة القسرية عبر انتخابات هزلية تُفضي إلى تمديد فترة حكم الرئيس وتنصيبه لولاية جديدة بنسبة 99 بالمئة. صوره وتماثيله المنتشرة في كل مكان جعلته حاضراً حتى في الأماكن العامة. دأب النظام على تلقين الشعب – في المدارس وعبر الإعلام الذي يديره – ما هو مسموح وما هو محظور، في حين ارتفعت جرعة التلقين لفئة الشباب خلال تأديتهم للخدمة العسكرية. وجنّدت شبكة المخبرين السريين الناس للتلصّص على بعضهم البعض ومراقبة أنفسهم. كان ثمة شعور دائم بالخوف وانعدام الأمان. شبّ الأطفال على جملة «وطي صوتك، الحيطان إلها آذان». كان الخطر الذي يهدد الناس حقيقياً وملموساً. فقانون الطوارئ الذي صدر عام 1963 منح قوى الأمن صلاحيات كبيرة للحد من حرية التعبير، وتقييد صلاحيات مجلس الشعب، ومصادرة الممتلكات، كما أعطاها الحق في التوقيف والاعتقال والتحقيق مع أي كان في أي وقت. المعتقلون السياسيون في سجون النظام لا يُحاكَمون، بل يتعرضون لكل أشكال التعذيب والتنكيل، مكدسين في زنازين قذرة يواجهون المرض والجوع.
بهذه الأساليب والممارسات القمعية، كان من السهل الإطاحة بأكثر مجموعات المعارضة تنظيماً. كُسرت تلك القاعدة مرة وحيدة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عندما تدخل جيش الأسد، ما زاد غضب السوريين الذين يعانون أصلاً ما يعانونه من تضخم وفساد وتجاوزات لقوى الأمن وافتقار معظم المؤسسات المهنية والمدنية لأبسط حقوق الإنسان. كان الفرع المحلي لجماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة إسلامية سياسية تأسست في مصر في عشرينات القرن العشرين، من أشد المعارضين لحزب البعث الحاكم. وقد قام هذا الفرع بتصفية بعض رجالات النظام، فردّ النظام بحملات قتل واعتقال وتغييب عشوائية طالت عشرات آلاف المدنيين. وبعدما بدا أن الإخوان المسلمين يقومون بحركة تمرد في مدينة حماه عام 1982، ارتكب الأسد الأب جرائم وحشية في المدينة أدت إلى محو أحياء كاملة، وقتل عشرات الآلاف من السكان. تلك المجزرة التي يسميها السوريون «الأحداث» شكلت رادعاً وهاجساً مخيفاً للأجيال المقبلة لكلّ من يتجرأ على تحدي النظام.
فادي، مسرحي (حماه)
المواطن السوري مجرد رقم، لا يحق له أن يحلم.
حسام، مبرمج كمبيوتر (التل)
حين تلتقي مع أي سوري خرج حديثاً من بلده للمرّة الأولى، ستسمع الجمل ذاتها، من قبيل: كلّ شيء على ما يرام في سوريا، دولة رائعة، الاقتصاد في أحسن أحواله. يحتاج السوري من ستة أشهر إلى سنة ليصبح إنساناً طبيعياً ويعبّر حقيقةً عن رأيه وما يشعر به. مع ذلك لن يرفع صوته خلال الحديث، لأنّ التحدُّث بحريّة أمر مرعب بالنسبة إليه. حتى بعد خروجه من سوريا ومع مضي الوقت سيشعر دوماً أنّه مراقب، وأنّ أحدَهم يسمعه ويسجّل حديثه.
محمد، معلم (جوبر)
ثمة اختلافات في المجتمع السوري كأيّ مجتمع آخر، لكنّنا جميعاً سوريون. المشكلة الرئيسية كانت في بناء الدولة وإدارتها. ورثت الدولة السورية الجيش السوري عن فرنسا بعد أن أنشأته الأخيرة على مبدأ «فرّقْ تَسُدْ». فقد أغرت فرنسا الأقليّات للانضمام إلى الجيش، وكان معظم أبناء تلك الأقليات في حالة اقتصادية سيّئة ويبحث عن عمل. في الوقت نفسه، حاربت الأكثرية السنّية الفرنسيين من خلال محاربة ذلك الجيش، القائم إلى حد كبير على مجنّدين من الأقليّات.
جاء حزب البعث بفكرة العروبة التي جمعت، إلى حدّ ما، السوريين بمختلف خلفياتهم، لكنّها لم تعالج المشكلة الأساسيّة، وهي أنّ سوريا متعدّدة الأديان والأعراق.
استخدم حافظ الأسد حزب البعث أداة له. كان رجلاً عسكرياً لا يؤمن بالأفكار الليبرالية التي كانت تعتنقها بعض الشخصيّات الوطنية في حينه كالديموقراطيّة والتعدّدية.
اعتمد الأسد على العلويّين أكثر من غيرهم، رغم أنّه قتل الكثير منهم لاحقاً بسبب منافستهم له. وساعده اعتماده على معارفه وأقاربه وأبناء طائفته في ترسيخ سلطته، لكنه زاد من الانقسامات في المجتمع السوري.
كان الأسد سياسياً محنّكاً أدار مختلف أطياف المجتمع السوري لينتج نظاماً موالياً له ولاءً مطلقاً. أعطى طبقة التُجّار مساحةً أكبر لكسب المال، ليضمن بذلك ولاءهم، وحرص في الوقت ذاته على إبقاء الطبقة العاملة والفلاحين راضين عبر فتات المساعدات والإعانات الحكوميّة.
ولم ينسَ أن يكسب رجال الدين السُّنّة إلى طرفه، إذ كان يعي تماماً سلطة خطابهم الديني على المجتمع. في نهاية السبعينات حاولت جماعة الإخوان المسلمين فرض رؤيتها بالقوة، لكن حافظ حاربها واستخدم مؤيّديه من رجال الدين السُّنّة الذين وقفوا معه ومع ابنه بشّار من بعده. حتى المعارضة اليساريّة قُضي عليها في زمن حافظ الأسد.
عصام، محاسب (ريف حلب)
برأيي كان التعايش موجوداً، لكنّه خاضع لوطأة النظام الأمنية والقانونية. لم يكن تعايشاً حقيقياً، إذ لم يكن ممكناً الإشارة لأحدهم أنّه كردي أو سُنّي أو شيعي. فذلك ممنوع، وقد يعرضك للعقاب. لم نتعلّم أو نتثقّف حول اختلاف الأديان والأعراق في بلدنا، لذلك لم يكن هناك اندماج حقيقي بين الجميع. لا يعرف العرب شيئاً عن الثقافة الكرديّة، ولا يعرف الأكراد والعرب شيئاً عن التركمان. نسمع بوجود السّريان والآشوريين لكن لا نعرف مَن هم ولا كيف يعيشون. الدروز أيضاً نعرف أنّهم يشاركوننا هذه البقعة الجغرافيّة، لكننا لا نعرف أكثر من ذلك. كنّا عبارة عن مجموعات غريبة لا تعرف عن بعضها شيئاً، وتُحكم جميعها بالقوّة.
عبد الرحمن، مهندس (حماه)
قام الإخوان المسلمون بمحاولة انقلاب ضد حافظ الأسد، لكنها باءت بالفشل، وهربوا من حماه مقرّ حركتهم.
اجتاح الجيش المدينة من جهات عدّة، وقام بقصفها، وتم بعدها قتل سكّان أحياء معينة.
في أحد الأحياء، جمعوا الشّباب ممّن تجاوز عمرهم ثلاث عشرة سنة، وقاموا بإعدامهم جميعاً، وتركوا جثثهم لترهيب الناس.
وصل الجيش إلى حيّ جدّي، وأخذوا أربعة من أعمامي، وبعدها بأيّام اجتاحوا حيَّنا، وقاموا بالشّيء ذاته، أخذوا رجال الحيّ، وكان والدي من ضمنهم.
ذكر أبي لأمي أنّه من المحتمل ألّا يعود، لكن صديقه المقرّب تواصل مع أحد الضبّاط في القيادة، وطلب منه إيقاف الإعدامات، لأنّ جميع مَن اعتقلوهم كانوا مِنَ الموظّفين في الحكومة. قال له «الحيّ مسالم، وجميعهم يعملون لصالحنا»، وتلك حقيقة، فأبي كان عضواً في حزب البعث. هكذا نجا أبي، وقُتِل اثنان من أعمامي مع أنّهم أيضاً أعضاء في الحزب. نجا عمّي السّكّير من قبضتهم لأنّه حين اقتحموا منزله كان عارياً ويهتف:
«يعيش الأسد.. يعيش حافظ.. يعيش الجيش».
جُنّت جدتي بعد أن أخذوا أبناءها، ولم تصدّق أنّهم قُتِلوا، واستمرّ أبي بالبحث والسؤال عن إخوته. ذهب إلى المقبرة فوجد جبالاً من الأحذية، غاص بها آملاً أن يجد أحذية إخوته لتكون دليلاً على موتهم. يقول أبي إنّ الدّم كان منتشراً في المكان وإنّ الرائحة كانت كريهة جداً لدرجة أنّه كان يفقد الوعي ويعاود البحث بين الأحذية. حفر كثيراً دون فائدة.
عزيزة، مديرة مدرسة (حلب)
أنا من حماه لكني لم أكن فيها عام 1982 وقت الأحداث، عُدتُ إليها لاحقاً للعمل مديرةَ مدرسة. يأتي كثير من الناس ليتحدّثوا معي، كلّ منهم لديه قصّة مختلفة.
من الصعب جداً تخيُّل كيف سرقوا ونهبوا واغتصبوا النساء. تقول إحدى قريباتي إنّها رأت جثثاً مربوطة بعضها ببعض وملقاة في نهر العاصي. وتذكر أخرى من صديقاتي، كانت تعمل طبيبةً في إحدى المستشفيات التي تعالج عناصر جيش النظام، أنّه عندما قاموا بجمع متعلّقات أحدهم بعد موته وجدوا في جيوبه سلاسل ذهب. وحين أخذتْهم للضابط المسؤول وقالت له إنّه يجب إعادتها لأصحابها، شتمها وأمرها أن تعيد الذهبَ إلى جيب الجندي لأنها «غنائم حرب» حسب قوله.
تسلَّوا بحياة البشر كلعبة. يقول بعض مَن شهدوا الأحداث إنّ الجيش كان يدخل أحد الأحياء، ليجمع جنودُه الرجالَ ويصفّونهم على الحائط وبعدها يُطلِقون عليهم النار ببساطة. وفي إحدى المرّات، تأخّر أمر إطلاق النار، وحين سأل الجنود القائد ماذا يفعلون بهؤلاء الرجال إلى الحائط، قال لهم: «انزعوا بناطليهم، فإن كانوا يرتدون سراويل قصيرة فهذا يعني أنّهم معنا فاتركوهم، أما إن كانت سراويلهم طويلة فهذا يعني أنّهم إرهابيون وعليكم قتلهم».
ولأنّ الفصل كان شتاءً، كان كلُّ الرجال يرتدون سراويلَ طويلةً، فقتلوا الكلَّ إلّا رجلاً كان سروالُه للركبة، فاحتار الجنود، وحين سألوا الضابط قال لهم: «اتركوه ليخدمنا ويروي للناس ما شهده اليوم»، فتركوه فعلاً، وهكذا نجا الرجل من الموت.
كريم، طبيب (حمص)
ولدت في سنة 1981 في الفترة التي تعرّض فيها الكثير من الناس للاعتقال أو القتل. منع النظام الناس حتى من السؤال عن ذويهم المعتقلين، بل هدّد كلّ مَن يتجرّأ ويسأل عن معتقل بتعريض نفسه للاعتقال أيضاً.
لذا فإنني من الجيل الذي لا يعلم فيه كثيرون إن كان آباؤهم على قيد الحياة أو قُتِلوا. نحن مسلمون وفي مجتمعنا المحافظ نصلّي، كما يصلّي المسيحيون في الكنيسة، لكننا كنّا نصلّي في المنزل سراً، خوفاً من النظام. كانت عائلتي تنبّهنا في حال اتصل أحد عبر الهاتف وطلب أبي وهو يصلّي أن نكذب ونقول إنّه في الحمام. كنا نخشى، في حال علم النظام أنّ أحدنا يصلّي، أن يعتقد أنّ له ميولاً إسلاميّة ممّا سيعرّضه لعواقب خطيرة. كنت مجرّد طفل، لكن كان يُطلب إليَّ أن أكذب حفاظاً على عائلتي.
إلياس، طبيب أسنان (ريف حماه)
بدت سوريا للعالم بلداً مستقراً، لكنها في رأيي لم تكن كذلك قطّ، بل كانت بلد الخوف، كلّ المواطنين خائفون، حتى النظام والمسؤولون خائفون أيضاً. كلّما كثرت مسؤولياتك كبر خوفك. ببساطة، كان الجميع يخاف بعضُه من بعض، ولا أحد يثق بأحد. الأخ لا يثق بأخيه، والأبناء لا يثقون بآبائهم.
«الحيطان إلها آذان» شعار الجميع لالتزام الصمت، وحين يتفوّه أحدُهم منتقداً أمراً ما، ينظر إليه الجميع على أنّه مُخبِر للنظام يحاول استفزازَهم لأخذ انطباعهم والإيقاع بهم.
نظام مبنيّ على الأمر والطاعة، إذا رضي على مواطن أعطاه أكثر ممّا يستحق، وإذا سخط عليه أيضاً عاقبه أكثر بكثير ممّا يستحق. كلّما كان الشخص فاسداً سهل على النظام استخدامه متى شاء وكيفما شاء، ولهذا السبب تجد الفاسد يقفز إلى أعلى المراتب.
بُنيت كلّ المؤسسات والجهات الحكومية بتلك الطريقة. وكما كانت لدى الرئيس سلطة مطلقة في البلد، كانت للمدير أيضاً سلطة مطلقة في مدرسته، لكنّه في الوقت نفسه يخاف، مِمّن؟ مِن الآذِن أو عامل النظافة لأنّهم جميعاً مُخبِرون للنظام.
فؤاد، جراح (حلب)
تخرّجت في كلية الطب بعلامات عالية عام 1982، ورغبت في إكمال دراستي والحصول على الدكتوراه، وكان السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو السفر إلى الخارج، وهو ما يلزمه موافقة أمنيّة من الدولة.
كنت في الكافتيريا مع أصدقائي حين تقدّم إلينا أحد رجال المخابرات وطلب أن يتحدث إليّ. يوجد مكتب لحزب البعث في كلّ كلّية من كلّيات الجامعة. رافقتُه إلى أحدها فقال لي: «سنكون لطيفين قدر الإمكان معك، ولن نطرح عليك الكثير من الأسئلة، لكن عليك أن تكون متعاوناً معنا، وأن تبقينا على اطّلاع في حال حدوث أمر ما». أخبرته أنني لا أريد أن أصبح مخبراً، بعدها جاءني الخبر برفض طلب سفري، وتحطّمت أكبر أحلامي.
بعدها أنهيت أربع سنين الزمالة في مستشفى حلب، وبقي لي ثلاثة امتحانات لأتخصّص في الجراحة العامة. أجريت الامتحان الكتابي الأوّل، وعند عودتي للمنزل رأيت أبي والرُّعبُ على وجهه، قال لي: إن الأمن السياسي جاؤوا إلى المنزل وسألوا عني.
راجعتُ فرعَهم صباح اليوم التالي، دخلت وأخذوا بطاقة هويتي، وبعدها جلست منتظراً لست ساعات دون أن ينطق أحدهم بكلمة لي، وكانت تلك طريقتهم المُتّبعة. بعدها جاءني أحدُهم وقال لي: إن الضابط يريد أن يراني.
دخلتُ إلى مكتبه، وحال رؤيته لي هنّأني وقال: «مبروك لقد نجحت في امتحانك الأوّل، متى موعد الثاني؟»
قلتُ: «الأسبوع القادم».
فردّ: «أعتقدُ أنّك ستنجح فيه أيضاً، ونحن فخورون بك جداً. ما هي خططك للمستقبل؟».
أجبت: «ربما أفتتح عيادتي الخاصّة أو قد أعمل في المستشفى»
قال: «هذا جيد. سمعنا أنك شخص جيّد لذلك نرغب في أن تعمل معنا».
سألتُه: «ما نوع العمل؟».
أجابَ: «لا تقلقْ، ليس عملاً سياسياً، أنت طبيب ويزورك العديدُ من المرضى، وقد تلاحظ أشياء عديدة، وكلُّ ما عليك فعله هو أن تنقل لنا مشاكل الناس».
قلتُ له: «لكن ذلك ليس من اختصاصي، لديكم مَن يقدم لكم تقارير عن الناس غيري».
فردّ: «لكن المعلومات التي تصلنا من باقي المخبرين غير المتعلّمين تختلف عن المعلومات التي قد تفيدنا أنت بها، لديك العديد من المرضى والأصدقاء والزملاء في العمل وبالتأكيد ستتمّ دعوتك إلى الكثير من المناسبات الاجتماعية…».
قلتُ له: «أنا لست الشخص المناسب».
قال: «لِمَ تعاندني؟ العديدُ من أصدقائك يقدّمون لنا التقارير».
رددت: «عظيم، إذاً ما حاجتكم لي؟».
فقال: «تعلم أنّه يمكنني أن أحتجزك هنا لأسبوع آخر».
أدركتُ هنا حجم التهديد، وأن من السهل عليهم جداً احتجازي لعشرة أيام أو أسابيع أو حتى أشهر.. وحينها سأفوّت امتحاناتي. قلت: «منعتموني من السفر لمتابعة دراستي، العديد من زملائي حصلوا على الموافقة الأمنية وسافروا للدراسة على أن يعودوا، لكنهم لم يفعلوا. أمّا أنا فلم أهرب من البلد، واخترت البقاء هنا لأساعد الناس. يمكنك احتجازي هنا فلا سلطة لي لمنعك، لكن بذلك لن يكون لي فائدة لكم ولا للناس».
سكت قليلاً ثمّ رمى لي بطاقتي الهوية بغضب وقال: «اخرج من هنا، واعلم أنك لن تستطيع إيجاد وظيفة لك في الحكومة لاحقاً».
خرجت وبعدها أجريت امتحاناتي كلّها.
صلاح، بستاني (ريف درعا)
لا حكومة عندنا؛ إنّهم مجرد عصابة، وإذا تجرّأ أحدهم وعبّر عن رفضه فإنه يذهب إلى «بيت خالته»، وهي مقولة متداولة تعني أنّه سيذهب إلى السجن ويتعرض لشتّى أنواع التعذيب ويختفي، ولن تسمع عنه خبراً.
تيسير، محامي (درعا)
كنت موظفاً في الحكومة، وكانت لدي صلات مع المعارضة السياسية ومنظّمات حقوق الإنسان. كنت دوماً تحت عين المخابرات، يراقبون منزلي وهاتفي ومعارفي، ويلاحقونني على الدوام. بمجرد ما انضممت إلى حزب سياسي جديد، اعتقلوني.
قضيتُ ثماني سنوات ونصف في السجن، وفي أوّل ستة أشهر لم تكن زوجتي تعلم أين أنا أو ما حلّ بي. السجون السورية من أبشع الأماكن وأكثرها رعباً على الكوكب. السبب ببساطة أنّ حياة البشر هناك لا تساوي شيئاً. كنتُ في جناح خاص بالمعتقلين السياسيين، وهناك تعرّضنا لأشنع أساليب التعذيب منذ أوّل يوم، وكنّا منفصلين تماماً عن العالم الخارجي.
يبدأ يومنا حين يُفتَح باب الزنزانة لنخرج إلى ساحة صغيرة ونتمرّن. بعدها نقرأ أو نعقد حلقات دروس يعطينا إيّاها أحدنا من خرّيجي اللّغة الإنكليزية أو الفرنسية مثلاً. معظمنا مِن تخصّصات مختلفة، أطباء ومهندسون ومحامون، لذلك تشعر وكأنّك في جامعة مصغرة. وبعد الغداء يُعيدوننا إلى الزنزانات.
كنّا نحو 400 سجين موزّعين على سبع زنزانات. الأوضاع الصحية والغذائية كانت سيئة جداً، كما كان يتلاعب بنا السجّانون، وخاصةً عندما تأتي عائلاتنا لزيارتنا، فيبتزّونهم بالنقود ويسرقون كلّ الهدايا القادمة لنا.
من أصعب الأشياء وأكثرها إيلاماً لي أنني لم أرَ ابني وهو يكبر؛ لم أرَه إلّا من خلف الشبك خلال الزيارات. من الصّعب جداً أن يكون ابني أمامي لكنني لا أستطيع ضمّه إلى صدري وملاعبة شعره بيدي. لم أعطِه قطعةَ حلوى، ولم آخذه إلى المدرسة، ولا حتى جلس في حضني. أذكر أنه كسر قدمه في عمر الرابعة وجاءني وهي مجبورة، ولم أتمكّن حتى من تقبيله. تلك التفاصيل الصغيرة كانت الأشدّ إيلاماً.
تُوفّي أخي ولم أودّعه، وتُوفِّي العديد من أقاربي وأنا في السجن. مرض أبي ولم آخذه مرةً إلى المستشفى. أعراس وأعياد تمرّ وأنا في السجن. لا سينما، لا مسرح، ولا حتى أمان شخصي. بينما أنت تعيش كلّ بشاعة الأرض هناك في السجن، يفوتك كلّ شيء جميل في الحياة.. لثماني سنوات لم أرَ شجرة.
مرّت سنوات حتى عُرضْتُ على المحكمة القضائيّة، كان القاضي يمرّ سريعاً على القضايا. كان بين يديه ثلاثون متّهماً، نطق بحكمهم جميعاً خلال خمس عشرة دقيقة فقط. في الحقيقة لم يكن هناك محاكمة أصلاً، ولا محامون، ولا حتى تُهَم. كانت كلّها تُهَماً جاهزة تُلقَى علينا: إقامة تنظيمات سرّية، نشر أنباء كاذبة عن النظام، أو محاولة تغييره، أو نشر شائعات، أو الانتقاص من هيبة الدولة. حُكِمَ عليّ لخمس سنوات، ولأنّي قضيتها أصلاً سقطت عني، وبعفو عامّ سقطت عنا التُّهَمُ الباقية أنا وباقي المتّهمين.
عدتُ إلى المنزل بعد أن كان اختفائي محتوماً. كنت كرجل الكهف الخارج إلى النور حديثاً. لم أستطع التعرّف على شيء، لأنّ كل شيء تغيّر تماماً. الأطفال أصبحوا مراهقين، وابني الصغير أصبح شاباً.
مُنِعْت من السفر، وكذلك إخوتي وأخواتي، الذين كانوا يتعرّضون للاستجواب بين الحين والآخر بسببي. كثير من الناس جعلوا علاقتهم معي محدودة مخافة أنّي ما زلت موضع شك للنظام. كان عليّ أخذ موافقة أمنية لكلّ حركة أقوم بها مهما كانت صغيرة. منزلي وهاتفي كانا تحت المراقبة الدائمة، كأنّني خرجت من سجن صغير إلى سجن أكبر.
غيث، خرّيج جامعي (حلب)
أنت في العشرين من عمرك وفي عزّ طموحاتك وفرصك في الحياة كبيرة، لكن عليك أن تُفني سنتين من عمرك في الخدمة العسكرية الإلزامية. بينما عليك المضي للأمام في حياتك، يحصل العكس ويدفعونك إلى الخلف، لأنّ النظام مصمّم لتحطيم حياتك.
عندما كان أخي الأكبر يؤدّي خدمته العسكرية، أُصِيبَ بعدوى بكتيريّة في عينه، ولأنّ المستشفى العسكري لم يستطع تشخيصها أو معالجتها ساءت حالتُه أكثر، وفقد إحدى عينيه، وإلى اليوم لا يمكنه الرؤية جيداً.
أُصِيب أخي الآخر أيضاً خلال خدمته العسكرية. كان عليهم أن يحفروا الأرض ويزحفوا تحت أشعة الشمس ودرجات الحرارة العالية. أصيبت إحدى قدميه بشظية، فالتهبت وتورّمت وتضاعف حجمها. بعدها سجنه أحد الضبّاط العلويين في الجيش بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين، وذلك بعد أن وجد مصحفاً بين أشيائه، وهو ما كان ممنوعاً في الجيش. أخرجه أبي بعد أن دفع أموالاً طائلة.
عانى والداي كثيراً بسبب ما أصيب به أشقّائي في الجيش، لذا حين جاء دوري أرسلوني خارج البلد. كنت إذا عملت في الخارج ودفعت للحكومة مبلغ 8000 دولار تُعفَى من الخدمة العسكرية، ويسمى هذا المبلغ بـ«بدل الجيش». قرّر والداي وقالا لي: «ستغادر من هنا».
هادية، معالجة (دمشق)
ذهبت إلى مدرسة خاصة مسيحية في صغري، وكنت أرى سلطة النظام وقوّته. صور حافظ الأسد في كلّ مكان، حتى على دفاترنا. كان الطلّاب يخافون من الرّسم عليها، وفي نهاية السنة قد تجد بعضَهم رسمَ له شواربَ أو أشكالاً مضحكة، لكن بالطبع على الكتب القديمة أو التي لن تُحمَل في العَلَن.
مُنع الحجاب في المدارس الخاصّة والحكومية في عهد حافظ. كنت أخلع حجابي عند باب المدرسة لأتمكّن من الدخول. الزيّ المدرسي كان بدلة عسكريّة. كنّا – نحن البنات – نرتدي قمصاناً طويلة مع حزام عسكري وحذاء خاص، تماماً كما في الجيش. من الصف الأول حتى السادس، كنا نرتدي وشاحاً حول الرقبة، عليه جوزة تحمل شعار «طلائع البعث». أما في المرحلة المتوسطة والثانوية، فنصبح أعضاء فعليين في الحزب ويقال لنا «رفاق» في حزب البعث.
كنّا نصطفّ بطريقة عسكرية، ونؤدّي وقفة الانتباه العسكري. الغاية من ذلك كلّه أنّنا كنّا نعيش تحت قانون الطوارئ، وأن نكون دوماً في أتمّ الاستعداد والجاهزيّة للدفاع عن بلدنا.
كنا نردّد كلّ صباح: «عهدنا أن نتصدّى للإمبريالية والصهيونيّة والرّجعيّة وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة». كان مجرد نطق اسم تنظيم الإخوان المسلمين أمراً مرعباً للناس.
كان من أصعب الأمور خلال سنوات الدراسة المسيرات المؤيّدة للنظام، والتي كانوا يُجبروننا على المشاركة فيها. يخبروننا أنّ هناك مسيرة مؤيدة في اليوم التالي، وأن علينا المشاركة فيها. كان البعض يفكر بادّعاء المرض والبقاء في المنزل، لكن كنّا نخاف أن يأتوا إلينا ويأخذوا آباءنا. لم يقولوا ذلك، لكن الرعب الذي في داخلنا كان يقول لنا دائماً: «رجال الأمن قادمون».
حتى الأعراس كانت تحت سيطرتهم. عليك الحصول على موافقة أمنية للاحتفال. رجال المخابرات على الطرقات للسّاعة الثانية صباحاً، بهيئة عامل بلدية أو بائع جوّال. أتذكّر كيف كان أبي يُخفي بعض الكتب الممنوعة ويحذّرني: «انتبهي أن تخبري أحداً أن لدينا كتاباً للكاتب الفلاني». نذهب كلّ سنة إلى معرض الكتاب في دمشق، وكان الناشرون يبيعون بعض الكتب بالخفاء. ليست بالضرورة كتباً سياسية، لكن سحابة الخوف كانت فوق الجميع، فلا تشعر بالراحة أبداً.
سناء، مصممة جرافيك (دمشق)
علّمنا المدرّسون أنّ القضية الفلسطينية أهمّ شيء على الإطلاق، وأنّ علينا أن ننسى كلّ حقوقنا ومشاكلنا في بلدنا لنركّز على هدف واحد وهو محاربة إسرائيل. أمّا أبي فقد كان يقول: «إنّ الأمرين مختلفان، ولا علاقة للأوّل بالثاني، من الممكن أن نحارب إسرائيل وأن نكون مرتاحين في بلدنا». كان يزعجني كثيراً ذلك الاختلاف بين ما يُقَال في المدرسة وفي البيت، لكن بالطبع لا يمكن أن أعبّر عن ذلك.
كنا 400 طالبة في المدرسة، وكنت أظن أن أحداً لن يلاحظ أني لم أكن أنشد النشيد الوطني مع البقيّة صباحاً. إحدى المعلمات لاحظتْ وعاقبتْني. كان العقاب أن أحبو على قدمي وأكواعي في ساحة المدرسة. نزفتُ، وكانت تشتمني بألقاب كـ«حقيرة» أو «خسيسة». لا أنسى ذلك اليوم أبداً.
كان عمري خمس عشرة سنة، وكانت المدرسة متّسخة، فأنشأت مع صديقاتي مجموعة للنظافة. غضبت المديرة، واستدعت أبي لتستفْهم منه عن صاحب الفكرة هذه، وعن نوع الكتب التي أقرؤها في المنزل، فقال لها أبي: «إنني مجرد طفلة ولا داعي للقلق».
في تلك الفترة ألغَت المدارس حصص الفن والموسيقى واستبدلت بها ثلاث ساعات من «وقت الفراغ»، وأعتقد أنّ النظام هو من اختار هذه الكلمة بالذات عوضاً عن «وقت حرّ» المستخدمة في باقي أنحاء العالم. هذا بالضبط ما أرادوه لنا: عقول فارغة!
ألا نفعل شيئاً أبداً كان أفضل لهم من أن نفعل شيئاً قد يحفّز لدينا التفكير أو يوسّع أحلامنا وخيالنا.
هدفهم الوحيد هو التأكّد من انهماك الناس بشكل حصري بأكلهم وشربهم وأمان أطفالهم.
أيهم، مطوّر ويب (دمشق)
تبدأ عملية غسل الدماغ في المدرسة منذ الصغر: نحبّ الرئيس، نحبّ النظام، بدونهم الدولة ستنهار.. كبرنا وفي رؤوسنا ذلك الصوت الذي يذكّرنا صباح مساء أننا نعيش بفضل عائلة الأسد.
حتّى كطفل، يمكنك أن تلاحظ تعفّن المنظومة بالكامل. الفساد أخلّ بأركان النظام كلّها. لتحصل على جواز سفر عليك أن ترشو هذا وذاك، وأن تقبّل مؤخّراتهم – اعذروا كلماتي – إذ لا يمكن أن تنجو في هذه البلد سوى بهذه الطريقة. هذا ما كبرنا عليه: دائرة فساد لا نهاية لها. ستُفتَح لك الأبواب لتحصل على درجات أعلى وفرص أكبر وتحظى بتعليم أفضل أو وظيفة أهمّ، لكن فقط في حال كنت عضواً فعّالاً في حزب البعث. كلّ شيء مرهون بولائك للنظام، لذا كبرنا على مبدأ واحد وهو أن عليك إظهار الولاء الخالص والتامّ.
تجرّعنا كراهية كبيرة لأعداء الشعب، حتى لو لم نكن نعي معنى ذلك أصلاً، أو لماذا علينا أن نكرههم. يعتقد كثير من الناس أنّهم بدفاعهم عن النظام يحمون مصالح وطنية. كانت المعادلة لديهم هكذا: أعلم أنّ النظام فاسد، وأنّ مستقبل أطفالي بائس في ظله، وأعلم أنّ قوات الأمن تستطيع أن تكسر باب منزلي في أيّ وقت وتقودني للسجن وتعذبني، أعلم هذا كلّه، لكن أرفض أن أكون عبداً للإمبرياليّة والرأسماليّة!
من المستحيل عقد أيّ مناسبات أو لقاءات اجتماعية خارج النطاق المسموح به من قبل النظام، فهو يسيطر على المدارس والأندية الرياضية والبيوت الثقافية وكلّ مكان يلتقي فيه الناس ويجتمعون، وقد يتيح ذلك التجمُّع فرصة للتآمر ضدّه. لا تستطيع الحديث بأريحيّة مع شخص قابلتَه منذ أسبوعين خشيةَ أن يكتب فيك تقريراً للمخابرات. فالنظام لديه آذان وعيون في كلّ مكان. قد يبدو ذلك غير منطقي، لكنه حقيقي، وأصبح جزءاً من حياتنا. النظام متغلغل في مسامات الجميع وهو جزء من كل أحد بطريقة أو بأخرى، إمّا خائفاً أو فاسداً ومستفيداً منه. نتج عن ذلك كلّه نوع من الفوضى الخلّاقة. انهار كلّ شيء لأنّ الناس كانت جاهزة لمحاربة بعضها.
آدم، منسق إعلامي (اللاذقية)
اعتدنا أن يخاف الأطفال من الظّلام أو من شيء ما تحت السرير مثلاً، لكن لم نعتدْ أن يخاف الكبار. أذكر المرّة الأولى التي عرفت فيها الخوف فعلاً. كنّا في التسعينات، في الفترة التي كان حافظ الأسد يجهّز ابنه الأكبر باسل ليرث الحكم بعده. اعتدت أن أراه على التلفاز وهو يمتطي حصانه ويقفز به فوق الحواجز، وكنت أراه شاباً رائعاً.
ذات يوم كنت ذاهباً مع أبي لِلَعب الكرة، وكان ينتظرني عند الباب، فسمعت من أحد أصدقائي أن باسل الأسد قُتِل بحادث سيارة، فذهبت لأبي وقلت بصوت مرتفع: «بابا.. مات باسل الأسد».
تغيّر وجه أبي. فأمسكني من يدي، وأدخلني إلى المنزل، وأغلق الباب دون أن ينطق بكلمة واحدة. لم أكن بحاجة لأن يشرح، فطريقة تصرّفه معي كانت كفيلة بإيصال الرسالة. هذا أمر يجب عدم الحديث عنه. كان واضحاً من قبضه على يدي وإدخالي وإغلاق الباب، وعدم ذهابنا ذلك اليوم للعب الكرة، أنّي اقترفت خطيئة. وهنا زُرِعَت هذه الفكرة في رأسي إلى الأبد. هذه العائلة ذات سلطة عالية ولا يمكننا حتى التفوّه بأسماء أفرادها. حتى موتهم مرعب… مرحباً بكم في سوريا.