قضيتُ الأيام العشرة الأخيرة من شباط (فبراير) هذا العام في اليابان بترتيب من صديقي ومُترجمي هيروكي أوكوزاكي، المختصّ بالفكر العربي الحديث، وبرعاية من جامعات كيوتو وهيروشيما، ثم طوكيو حيث يدرس هيروكي اليوم. كان هيروكي قد ترجمَ كتابي بالخلاص يا شباب إلى اليابانية، ونشرته دار النشر ميسوزو شوبو في طوكيو، ولكن وباءَ كورونا حال دون إطلاقه بحضوري. الدعوة متصلة بهذا الكتاب، ولكن أكثرَ من أي شيء آخر بصداقة هيروكي، واهتمامه المُطّلع والمُثابر بالقضية السورية.
في المدن اليابانية الثلاثة شاركت في ثلاثة نشاطات عامة. أولها مع سجين سياسي كوري جنوبي سابق، كانغ جونغ هون، وهي الأوثق صلة بكتاب السجن. والثانية في هيروشيما عنوانها: إبادة تُحكى وإبادة لا تُحكى، عن سورية طبعاً. ثم في طوكيو، أتكلّم عن سورية كعالم مُصغَّر. وكلا الموضوعين من اقتراح هيروكي. كما التقيتُ بسوريين يقيمون في العاصمة اليابانية، وتكلمنا في الشأن السوري.
كتبتُ انطباعاتي في شكل يوميات، غالباً صباح اليوم التالي، وآثرتُ الاحتفاظ لها بهذا الشكل هنا لتبقي أقربَ إلى صيغتها الأولى. على أني دققتُ بعض المعلومات والأسماء أثناء إعداد المادة للنشر، مستعيناً بكرم الأصدقاء اليابانيين وصبرهم وتعاونهم.
19 شباط 2023
كانت الرحلة إلى اليابان مرهقة، 28 ساعة بين خروجي من المنزل في برلين إلى بيت هيروكي في كيوتو، مروراً بأربع مطارات: برلين وهلسنكي وطوكيو وأوساكا. وخلال هذه الرحلة الطويلة نمت بالكاد ساعة واحدة بين هلسنكي وطوكيو. على أني شاهدت خمسة أفلام، منها «لوست إن ترانسليشن»؛ وفيلم من بطولة جوليا روبرتس وجورج كلوني، مَشاهده في جزيرة ساحرة في إندونيسيا.
أخذني هيروكي من مطار أوساكا، ثم عبر قطارين وصلنا إلى كيوتو، وعرجنا فوراً على مطعم سوشي شعبي نتعشى، ثم قصدنا بيته مشياً بعدها، نحو 12 دقيقة. أخذت حماماً سريعاً ونمت… حين نهضت أخيراً من الفراش، كنت قد قضيت فيه 12 ساعة.
على طاولة في غرفة المعيشة، كانت والدة هيروكي سطرت عبارات ترحيب على ورقة شغلَ زواياها الأربعة قلوب بالأحمر، وفي داخلها فروعٌ خضراء. تقول العبارات: إلى السيد ياسين، أهلاً وسهلاً بك في اليابان، وهي بلدٌ بعيد عنك. أرجو لك الراحة في منزلنا في كيوتو. وسوف نلتقي مباشرة في هيروشيما.
بداية جميلة في مدينة جميلة.
داخل بيت هيروكي، أو بالأحرى بيت أهله الذين يقيمون اليوم قرب هيروشيما، نتحرك حفاة. الشحاطة للخروج من الشقة، وليس للسير داخلها. هنا تسير حافياً. لكن هناك شحاطة شتوية مبطنة للمرحاض الياباني ذي الأزرار المتعددة للتحكم بالعناية المرغوبة بالمؤخرات، وفي مراحيض الأماكن العامة هناك زرٌ للموسيقا لزيادة الانبساط. هناك شحاطة ثالثة للبلكون، زوجان من الشحاطات بالأحرى، زرقاء ووردية، أَفترضُ أنهما للمذكر وللمؤنث على التوالي.
كان يجب أن نكون في جامعة كيوتو في الواحدة، للقاء السيد كانغ جونغ هون، وهو معتقل سياسي سابق في كوريا الجنوبية، ينحدر من الأقلية الكورية في اليابان، وذهب إلى وطنه الأم في السبعينيات للدراسة هناك، وبعد عامين اعتُقِلَ بتهمة التجسس لمصلحة كوريا الشمالية، وتعرض للتعذيب الشديد، ثم حُكِمَ عليه بالإعدام قبل أن يُخفّف الحكم إلى عشرين عاماً، ليُفرج عنه بعد 13 عاماً. الرجل في الحادية والسبعين، لكنه يبدو أصغر سناً، وبصحة جيدة، وابتسامة عريضة ودودة. قلت له إنه يبدو شاباً، قال إنه أسقط سنوات السجن من عمره. قيل لي إن معنى اسمه جونغ هون عقيدة الدستور أو المبدأ الدستوري (كانغ هو الكنية)، ويبدو أن والده كان قومياً كورياً ومناضلاً من أجل توحيد الكوريتين. وهو نفسه كذلك.
عاد إلى اليابان بعد خروجه من السجن الذي جرى بفعل حملات ضغط أطلقها أصدقاؤه، وسقوط الدكتاتورية في كوريا الجنوبية. وبعد سنوات زار وطنه الأصلي وزار سجنه نفسه، وقد تَحوَّلَ إلى متحف. قصة سجن السيد كانغ عكس قصتي بصورة ما، بدأت كبيرة (حكم بالإعدام) وصغرت مع الزمن (13 عاماً في السجن)، ثم إن السجن صار حدثاً من أحداث الماضي بكل معنى الكلمة فيما يخصه، بالنظر إلى أنه استطاع زيارة سجنه كحُرّ، برفقة أصدقاء له، قبل أن يذهبوا جمعاً إلى مطعم. هذا كان من أحلامي: زيارة سجوني مع أصدقاء والخروج منها والذهاب على مقهى أو مطعم. لا شيء من ذلك حدث، والسجن في سورية نظام أو بنية مستمرة وليست حادثة من حوادث تاريخ مُنقضٍ. وبعكس قصته، قصتي بدأت صغيرة، شخص لا على التعيين يتوقع أن يُعتقَل لشهور أو ربما لعام أو عامين، لكن زمن اعتقاله كان مفتوحاً، ثم يقضي في السجن سنوات أطول من حكم المحكمة الاستثنائية التي قُدًّم لها بعد نحو 11 عاماً ونصف من الاعتقال. قلتُ ذلك في الندوة. ولم أقلُ إني لا أسقط سنوات السجن من عمري، لعلّها من الأكثر أساسية في حياتي. وفي العموم، يبدو لي أن القصتين تُكثفان مسارين تاريخيين متباعدين لبلدين، كانا أقل تباعداً بما لا يقاس منتصف السبعينات وقتَ اعتقل «المبدأ الدستوري»، وانتهيا إلى بلد مزدهر وحُرّ، وبلد مُدمَّر سُكّانه بلا أمل.
بعد ساعتين في مكتب الدكتورة ماري أوكا، وهي ترأس قسم اللغة العربية في جامعة كيوتو، ومع كانغ وبحضور هيروكي ومترجم ياباني آخر دائم الابتسام اسمه شنتارو موري، ذهبنا إلى القاعة حيث عُرض فيلم رحلة إلى الذاكرة لهالا محمد، وفيه نتكلم، الراحل غسان جباعي وفرج بيرقدار وأنا، عن تجاربنا في سجن تدمر، نرويها في باص صغير انطلق من دمشق إلى المدينة. وبعدها لساعتين ونصف تكلمنا، السيد كانغ وأنا، عن تجاربنا وعَلَّقنا على تجارب بعضنا، وتفاعلنا مع أسئلة الجمهور، 33 شخصاً أحصيتهم أثناء الندوة التي أدارها هيروكي وتولى الترجمة لي شنتارو موري، وتكلّمتُ بالعربية.
تعلمت أول كلمة يابانية أثناء النقاش، حين طرح شاب ياباني سؤالاً تكررَّتْ كثيراً فيه كلمة أنو، فقدّرتُ أنها تعني: يعني، وقد ظهر أن هذا صحيح. وبعدها تعلمتُ هَيْ التي تعني نعم. ثم أوريغاتو التي تعني شكراً، وسيماسيه: من فضلك، أو لو سمحت. أما كلمة سان فتعني سيد أو سيدة، وتأتي عقب الأسماء وليس قبلها.
بعد الندوة ذهبنا إلى مطعم، عشرة أشخاص، بينهم خمسة طلاب شبان للدكتورة، يتكلمون العربية بوجل، ومع الدكتورة نفسها وهيروكي وشنتارو وكانغ. وَجَّهنا نادلٌ إلى مقصورتنا التي يُصعَد إليها بدرجة عالية بعض الشيء. كنتُ أول الصاعدين، لكن هيروكي نبهني إلى وجوب أن أخلع حذائي على عتبة المقصورة. وبدلاً من أن نجلس على كراسٍ، جلسنا على طرحات خاصة على أرض المقصورة، بينما تدلت أقدامنا نحو الأسفل حيث نُصبت الطاولة في خفض مستطيل من أرضية المقصورة.
جاء الطعام على دفعات، وبكمية وفيرة، وشرب أكثر القوم بيرة، أما أنا فطلبت ساكي مثلما كان أوصاني إيشيكو يامادا، الشاب الياباني الناشط في القضية السورية والمقيم في برلين. الساكي نوع من النبيذ بلون الماء، مصنوع من الرز، وبنسبة كحول 14%. وقد جاء ساخناً في إبريق خاص، معه فنجان خاص كذلك، وفقاً للشكليات التي يبدو أنه تجري مُراعاتها بقدر طيب في اليابان. كان الجميع يضعون الكمامات حتى في الشارع، بينما كنت أتحين فرصة مغادرة وسائل المواصلات لخلعها. قالت الدكتورة ماري شيئاً عن الشكلانية اليابانية، وقلت شيئاً عن غياب الأعراف لدينا. البُنى السياسية وعموم ما هو حديث بلا أعراف كلياً، وهو ما لا يتيح التوقع والتخطيط للحياة. ولعل في البحث عن عُرف وعن شكلٍ ما يفسر جزئياً ارتفاع الطلب على الدين لدينا في زمن الدولة الاعتباطية. مفارقتنا أن ما هو تقليديٌ له شكل وينضبط بعرف، وما هو حديثٌ لا شكل له، غوليٌ ومجنون.
انطباعي، السريع والسطحي بلا شك، هو أن اليابانيين منضبطون، لعلهم يثقون بالسلطة ويطيعونها، وهذه من جهتها لم تَعُد إكراهية إلا في حدود دنيا.
طلبتُ ساكي من جديد بعد أن انتهى إبريقي، ونُصِحت بأن يكون الساكي في الطلب الجديد بارداً، وهو ما امتثلت له. وما انتهت السهرة قبل الحادية عشر ليلاً بقليل إلا بثلاثة أباريق، شاركني جيراني بعض فناجينها.
اليوم وغداً في كيوتو دون التزامات، يخطط لنا هيروكي للسياحة في المدينة التي كانت عاصمة اليابان حتى ستينيات القرن التاسع عشر، قبل أن تنتقل في عصر الميجي إلى طوكيو. البناء في كيوتو منخفض، أعلاه خمسة طوابق، خلا استثناءات قليلة. يقول هيروكي إن الأميركيين لم يقصفوا كيوتو إثناء الحرب العالمية الثانية لأنها تُحفة معمارية، وهذا مثلما امتنع هتلر نفسه عن قصف باريس. لا يستطيع ذهني الامتناع عن عقد مقارنات لا تَسرُّ الخاطر.
20 شباط 2023
سِرنا البارحة 11 كيلومتراً، خرجنا من البيت في نحو الواحدة وعدنا في الحادية عشر ليلاً. زرنا معبداً لبوذية الزن، تنريو جي، بني في القرن الرابع عشر حذاءَ بحيرة صغيرة رائعة الجمال. خلعنا أحذيتنا مثلما يقتضي العرف عند مدخل المعبد ووضعناها في أمكنة مخصصة لها، وسِرنا في أروقته. في غير مكان ترى رسوماً لتنين تبدو سريالية. شرح هيروكي أن التنين هو أشبه بالبراق في قصة المعراج الإسلامية، ينقل بشراً إلى السماء، هيروكي ليس لديه معلومات أكثر من ذلك. قال إنه سيبحث في الأمر حين سألته.
وتبيّنَ بعد البحث أن التنين رمزٌ إلهي، تنحدر أقدمُ طقوسه من ديانة الشنتو القائمة على عبادة الطبيعة، حيث هناك 8 ملايين إله؛ التنين يبدو أنه الرمز العام للألوهة، يُستند به في مواجهة الفيضان والجفاف، وتُنسب إليه فاعليةُ سيوفِ مقاتلي الساموراي، فيُقال إن قوة التنين كامنة في السيف.
المكان مناسب جداً للتأمل لولا كثرة السيّاح، ومنهم أسرة مسلمة نساؤها محجبات، قدّرَ هيروكي أنها من إندونيسيا. جلسنا في الرواق الذي يطل على البحيرة الصغيرة، ووراءها الغابة ثم الجبل. منظر خلّاب.
تَجوَّلنا قليلاً بعد ذلك في غابة البامبو، أو الخيزران. قال هيروكي إن أشجار الخيزران تعيش نحو عشر سنوات، وأن براعمها تؤكل وطعمها طيب جداً. لاحظتُ أن هناك أشياء كثيرة جداً مصنوعة كلياً أو جزئياً من البامبو: أسيجة، أرضيات أو أجزاء منها، قطع أثاث، تحف، وحتى حليّ.
كان الجو وقت خرجنا من البيت ماطراً وبارداً، وفي دربنا إلى المعبد تناولنا حلوى يابانية مصنوعة من الرز ملفوفة بورق الكرز المخلّل، الذي يؤكل معها. طيبة ومختلفة. صفا الجو وقت كُنّا في المعبد وطوال الوقت في غابة الخيزران.
عُدنا إلى المدينة بعدها وتجولنا في أحيائها القديمة التي كانت فتيات الغيشا (تعني حرفياً الفنانات، لكن هناك كلمة أخرى مشتقة من الجذر نفسه في اليابانية لتعني فنانة بالمعنى المعاصر). من سنوات يفاعي أتذكر كلمة «أرتستات» منسوبةً إلى حلب، النساء اللاتي يعملن في كباريهات المدينة، يرقصن وقد يذهبنَ مع رجال بعدها. فتاة الغيشا تعزف الغيتار وترقص وتغني، وتقدم خدمات جنسية، لكن الظاهرة أرستقراطية، وليست شعبية.
تعشينا مع الأستاذة ماري (وتعني الحقيقة باليابانية، فلا علاقة لها بماري-مريم الشرق أوسطية) في مطعم كوري، تلبية لتفضيلي للطعام الحاد. هيروكي (ومعنى اسمه: الشجرة الواسعة) وماري (الحقيقة) داعمان للقضية الفلسطينية المُكرّسة أكثر، ومتضامنان بقوة مع القضية السورية.
21 شباط 2023
ما كتبته البارحة مساء، نحو 600 كلمة، ضاع. يبدو أني حين أغلقت الملف أجبتُ ساهياً على سؤال هل تريد حفظ التغييرات بلا. لي سوابق في هذا الشأن [حدث الشيء نفسه عند تحرير هذه المادة، وضاع عمل أربع ساعات أو أكثر من إعدادها للنشر].
مشينا البارحة عشرة كيلومترات و800 متر، وهو ما يُحسِّن معدلات سَيري اليومي والأسبوعية التي لا يكف تطبيق خاص على هاتفي المحمول عن تذكيري بمُنحناها المنحدر.
البارحة أخذني هيروكي إلى معبد بوذي آخر اسمه ريوأنجي. كان علينا خلع أحذيتنا هنا كذلك وإيداعها في مكان مخصص، لكن ارتدينا هذه المرة خِفافاً خاصة وتجولنا في الأروقة التي تحف بأبهاء الدير، وليس في الأبهاء ذاتها التي لم يكن الدخول فيها متاحاً. أكثر ما فتنني في الدير هو حديقة الصخور، وهي مستطيل بعرض نحو 10 أو 12 متراً وطول 25 أو 30 متراً، وفيها خمسة عشر صخرة متفاوتة الحجم والارتفاع، لا تتميز بضخامتها. قال هيروكي إنه لا يمكن رؤية الصخور كلها من أي موقع بعينه حول الحديقة، وإن كان موقع النظر المتاح هو أحد طولي المستطيل فقط، حيث تَحلَّقَ أناسٌ مع كاميراتهم أو موبايلاتهم يقيدون اللحظة. اختبرتُ استحالة رؤية الصخور كلها بنفسي، وأعتقد أن الأمر يبقى صحيحاً أياً يكون موقع النظر على محيط الحديقة. وهو ما استخلصت منه فكرة منظورية المعرفة البشرية. فقط ربما من موقع عُلوي، إلهي، يمكن رؤية الصخور الخمسة عشر كلها، وهو ما يمكن أن يُستخلَصَ منه أن الله افتراضٌ محتملٌ من افتراضات المعرفة المطلقة، التي هي بدورها افتراضٌ من افتراضات المعرفة الإنسانية، النسبية والمنظورية دوماً.
وحول الصخور المتجمعة أحياناً اثنين أو ثلاثة معاً، كأنها عوائل صغيرة (وهي بسبب تجمعاتها هذه لا ترى كلها من موقع واحد، إذ يُخفي بعضهاً بعضاً)، أقول حولها حقلٌ من الحصى، حُرثت بخطوط متوازية كأنها حقلٌ يُعَدُّ للزراعة، لكن حول تجمعات الصخور ذاتها أخذت الحراثة شكل دوائر أو أشكال مستديرة، ويبدو الأمر متروكاً لتأمُّل المتأملين.
تجوَّلنا بعد ذلك حول الدير. هنا أيضا ثمة بحيرة، وأشجار وجبل. الديرُ على سفحه.
ومن هناك أخذنا هيروكي إلى طريق الفيلسوف، وهو مَسلكٌ غير عريض، وأحياناً مسلكان متوازيان، أحدهما على كتف مجرى مائي موازٍ للمَسلكين كليهما. طولُ طريق الفيلسوف أقل من كيلومترين بقليل، وهو سُمي كذلك لأن الفيلسوف كيتارو نيشيدا (1870-1945) كان يتمشّى هنا. تمشينا إلى نهاية الطريق بأمل أن نُصاب بشيء من العدوى. كان الطريق جميلاً بالفعل، والأرجح أنه كان أهدأ وأكثر مؤاتاة للتأمُّل أيام الفيلسوف من أيامنا هذه. الشيء الطيب هنا أن السيارات ممنوعة من السير على هذا الدرب. ليس لها أن تكون سيارات فلسفية.
على يمين الطريق مَساكن ومحلات تجارية، وعلى يساره أديرة أخرى، واحد منها لديانة الشنتو، وهي تقوم على عبادة الطبيعة والأرواحية والشامانية. وفي موقع ما من فناء أحد الأديرة براميل صغيرة من الساكي، مغطاة بقش مظفور، كتبت عليه عبارات تحدد نوع الساكي في كل منها وتاريخ إنتاجه. هناك رابط خاص بحسب هيروكي بين الشنتو والساكي، مأتاه عبادةُ الطبيعة وغِلالِها. قلت لهيروكي إني أريد التحول إلى ديانة الشنتو كُرمى للساكي، لكن صديقي لم يكن مبالياً بأي دين. ويبدو أن الديانة التي رغبتُ بالاهتداء إليها ارتبطت بالامبريالية اليابانية وتَحمُّسِ كهنتها لاستعمار اليابان لكوريا والصين، فَخَسِرَتْ غير قليل من تقديرها.
جياعاً ومتعبين، قصدنا بعد ذلك مطعما شعبياً قريباً من بيت هيروكي. تناولت طعاماً ساخناً وحاداً، وكان هناك رسم ثلاثة قرون فليفلة في قائمة الطعام قرب الطبق الذي اخترته، ولم أجرؤ على طلب طبق خماسي القرون. وطلب هيروكي لكلينا طبقاً يشبه في المظهر السمبوسك المعروف لدينا، يغمس في مزيج من زيت الصويا والخل والثوم. كان الطعام وفيراً وطيّباً، وأتينا عليه بسرعة، مع كأسين من البيرة لكل منا.
عُدنا إلى البيت قبل الثامنة بقليل، مبكرين نسبياً خلافا لليلتين السابقتين. واستغللتُ الوقت في كتابة اليوميات التي وجدت قبل قليل فقط أني لم أحفظها.
أخبرني هيروكي أن الأستاذة ماري وصفتني بأني غير متسلط خلافاً لمن عرفت من مثقفين عرب. سألته عن معنى ذلك، ويبدو أنه يتضمن انطباعاً عن حرص مثقفين من مجالنا على خلق انطباع بالسُلطة والتفوّق، وكذلك عن الاستبداد بالرأي.
الآن أكتب من القطار السريع الذي يأخذنا إلى هيروشيما. لم أنتبه إلى الطريق، لكن يبدو أننا مررنا في أنفاق كثيرة في الرحلة التي تأخذ ساعة وربع الساعة.
وكنت تناولت في القطار طعاماً يابانياً لا أعرف ما هو، من الصنف الذي تشتريه في رزمة صغيرة من المحلات الكبيرة. ومع وجبتي كان هناك رزٌ بارد. هيروكي قال إن الطعام اسمه بنتو، وهو ما لم يَزدني علماً.
22 شباط 2023
من محطة القطار في هيروشيما أخذتنا الأستاذة تانامي التي تتكلم العربية، وهي أستاذة في جامعة هيروشيما ومهتمة بصورة خاصة بالشؤون الفلسطينية والأدب الفلسطيني، والأستاذ شينجي الناشط في مجال حقوق الإنسان، في جولة في جزيرة مياجيما التي نصل إليها بعبّارة مثل عبّارات البوسفور في إسطنبول، ولمسافة مُقاربة كذلك. من بعيد تبدو الجزيرة غابة خضراء تصعد من مستوى البحر إلى جبل أعلى. لكن كنا نقصد معبد شنتو، تسبغ قداسته القداسة على الجزيرة. عن قرب، المعبدُ والأماكن المأهولة من الجزيرة مكتظةٌ بالسياح، أغلبهم يابانيون فيما يبدو، وهناك محلات تبيع تُحفاً وتذكارات، اشتريت بعضها، هدايا متنوعة لأصدقاء وصديقات.
لعامين كوفيديين كانت المحلات التي تعيش على السياحة مغلقة كلياً، وهي لم تَستعِد كامل نشاطها إلى اليوم. في اليابان تشعر أن حالة الطوارئ الكوفيدية لا تزال سارية، وفي مطار برلين كانت قد طُلبت مني شهادة لقاح من كوفيد، لم تكن معي لأني افترضتُ أنها لم تعد مطلوبة، تدبرت أمر الحصول عليها في النهاية بعد انتظار.
أخذتُ صوراً من الجزيرة أرسلتها لبكر صدقي من أجل ابنه سيزار الواقع في هوى اليابان، على أني لست متأكداً أن ما أراه من البلد هو ما يحب أن يراه. لكن في الأيام الماضية عملت مراسلاً له مع ذلك، أصور فيديوهات قصيرة وأرسل صوراً مع شروح مختصرة.
لم يكن ما شاهدت في الجزيرة مثيراً للتأمل على نحو خاص، لكنه يعزز في النفس حب التنوع البشري. كنتُ أُسائل نفسي عما إذا كنت مثل السائح النموذجي الذي يسارع إلى إصدار تعميمات وإطلاق أحكام بناء على مشاهدات سريعة، وعمّا إذا لم يكن غير قليل من الأحكام بين-الثقافية نتاج تعميمات وأحكام قام بها عابرون. أن تحفل ديانة الشنتو بثمانية ملايين إله، ولها أبعاد أحيائية وطبيعية، وتكون مع ذلك ديانة إمبراطورية اليابان الاستعمارية التوسعية حتى هزيمة البلد في الحرب العالمية الثانية، أمرٌ يدفع المرء للحذر من الأحكام المتعجّلة، ربط الإمبراطوريات بعقائد التوحيد والإله الواحد مثلاً.
بعد الجزيرة، كان يُفترض أن نذهب إلى قصر على جبل، إيواكوني، نطل منه على القاعدة الأميركية، فوق التمتع بجمال المكان نفسه. قلتُ: إذن نتجسس على وكر الجواسيس، وهو ما وجده هيروكي وصفاً طريفاً لغايتنا. لكن تكشف أنه لا يمكن الذهاب إلى هناك بعد الخامسة مساء، وكانت الساعة تقترب من ذلك سلفاً، ونجا الجواسيس من مكائدنا. أَرضينا أنفُسنا بالسير على جسر كنتايكيو متعدد القناطر فوق النهر الذهبي. قال هيروكي إن بناء الجسر الأصلي خالٍ كلياً من المسامير. وهو بالفعل مبني من الخشب على ركائز من الحجر. لكن يبدو أنه جرى تدعيم مفاصله حديثاً بملازم حديدية ومُثبِّتاتها.
عدنا بسيارة الأستاذ شنجي واستلمت غرفتي في فندق متسوي غاردن هوتلز في الطابق الثاني والعشرين. حولت بعض ما معي من مال باليورو إلى الين (اليورو نحو 130 ين)، وسعر الصرف هو نفسه في كل مكان بحسب هيروكي الذي قال إن ثقافة العمولة والبخشيش ليست موجودة في اليابان.
وفي السابعة عُدنا للالتقاء من أجل العشاء. غيرُ أربعتِنا كان هناك مهندس مدني سوري يعيش في اليابان منذ 28 عاماً، وعرفت من لهجته أنه من دير الزور. ذكر كلمة الأحداث وبِدءَ الأحداث غير مرة أثناء كلامه، في إشارة إلى الثورة السورية، وهو ما تحفظّتُ عليه ومررها الرجل، لكنه عاد إلى ذكر الأحداث غير مرة. قال المهندس إنه تَحوَّل إلى معارضة النظام بعد… الأحداث، وأسهمَ في أنشطة إغاثية، ولم يَعُد إلى سورية بعد 2010.
23 شباط 2023
عبر«طريق السلام» ثم «جسر السلام»، أخذتني الأستاذة تانامي لجولة في «حديقة السلام» التي تضم متحفين لضحايا المجزرة النووية في 6 آب (أغسطس) 1945، وعدة نُصُبٍ لتذكُّر وتكريم الضحايا. في متحف البلدية لفتني جداً أن الشروح تحت الصور الكبيرة الكثيرة، وهي باليابانية والإنكليزية تتكتم على الفاعل، فلا تكاد تعرف منها أن الأميركيين هم من فعلوا ذلك. وفي واحدة منها يقال إن تنامي النزعة العسكرية اليابانية والهجوم الغادر على بيرل هاربر قاد إلى الحرب اليابانية الأميركية، وسقطت القنبلة النووية على هيروشيما (هذا ما قاله أوباما فيما يبدو في هيروشيما في 2014، كان أول رئيس أميركي يزور المدينة بعد قتل 140 ألفاً من سُكّانها في يوم واحد: لقد سقطت قنبلة من السماء على هيروشيما؛ لم يعتذر). تبدو القنبلتان النوويتان الأميركيتان على هيروشيما وناغازاكي استمرارين عاديين للحرب، سلاحان مثل غيرهما، أو ربما بفارق قليل عن غيرهما يُسرّع انتهاء الحرب.
في مدخل متحف البلدية للمجزرة النووية، ترد سطور شارحة تختم بعبارة No more Hiroshimas، وهو ما يذكر بـ Never again الخاصة بالهولوكست. وخطر لي بالمناسبة أنه إن كان الهولوكوست فريداً ولا يقبل الدخول في مقارنة بغيره، فما معنى Never again؟ عدم قبول المقارنة يلغي أي دلالة للتعهُّد بعدم تكرار الإبادة والمعاناة الهائلة، لأنه يتضمن بحد ذاته أن ما حدث لا يمكن أن يشبهه شيئاً ولا هو قابل للتكرار. والتعهد بعدم التكرار يقتضي بالمقابل نفيَ الفرادة وإقرار القابلية للمقارنة مع مآس أخرى كثيرة عرفها التاريخ.
رافقنا خلال المشوار كله رجل سوري في الأربعين أو أزيد قليلاً، من درعا، يقيم في اليابان منذ نحو 12 عاماً. وأثناء تناولنا القهوة، ذكر شيئاً عن «بداية الأحداث»، وهو ما لم أصمت عليه هذه المرة أيضاً.
أخذتنا الأستاذة تانامي إلى موقع خارج الحديقة حرصتْ أن نراه. بين الأشجار على الضفة الثانية للنهر كان ثمة صخرة أو صخرتان… قالت إن نصبُ ضحايا القنبلة النووية الكوريين كان هنا منذ بنائه عام 1972 حتى نقله إلى الحديقة عام 1999. كان الكوريون يجتمعون هنا، يتذكرون ضحاياهم المُهمَلين، ويبدو أنهم لا يقلون في هيروشيما عن 30 ألفاً، ويعزفون ويغنون لهم. بعد احتجاجات متكررة نُقِل نصبُ الضحايا الكوريين إلى حيث تَجمُّعُ نُصُبِ الضحايا اليابانيين. ليس لمن جمعهم الموت النووي أن تفرقهم القومية.
أفشت الأستاذة تانامي معلومة قالت إنه يجري التكتم عليها في اليابان عموماً، وهي أن هيروشيما كانت في الواقع مركزاً عسكرياً مهماً للقوات اليابانية. التكتم أو التقليل من أهمية بعض المعلومات مُرافق للكتابة عن الهولوكوست كذلك. مثلاً دور المجالس اليهودية الذي ركزت عليه حنة آرنت، وجلب لها الكلام على تلك المجالس في آيخمان في القدس كثيراً من وجع الرأس.
تكلَّمَ البارحة هيروكي والأستاذ شينجي عن المركزية الهيروشيمية، ويبدو أنها تفيد بأن كل ما دون القتل النووي شيءٌ أقلُّ أهمية، وهذا أيضا يذكر بالهولوكست واللاقابلية للمقارنة. أريد أن أتقصّى هذا الموضوع اليوم.
ألقيت كلمة بعنوان «إبادة (جينوسايدو باليابانية) تُحكى وإبادة لا تُحكى» (العنوان من اقتراح هيروكي)، حاولت أن أجيب فيها لماذا لا تُرى الإبادة في سورية. كنت كتبت النص في شكل فقرات قصيرة، قرأتها واحدة واحدة وترجم هيروكي بعدي، باستفاضة وشرح فيما بدا لي. كان هو والأستاذة تانامي، التي قالت إن أستاذها للعربية (لعله الراحل شوقي بغدادي) سماها منى (اسمها الياباني ليس ميسور اللفظ حسبما قالت)، حَضّرا قبل الفاعلية معلومات أساسية عن سورية والصراع السوري. وبدا لي الجمهور مهتماً وراغباً في المعرفة بحسب ما تلقيت من أسئلة. يريدون امتلاك حس عن شكل حياة السوريين وأوضاعهم اليوم، وحاولت قدر المستطاع الاستجابة لذلك بمعطيات وأرقام وصور بيانية.
قبل الكلمة عُرض من جديد فيلم هالا محمد، رحلة إلى الذاكرة، ومن جديد استغربت أكثر مما في السابق كيف أُنتِّعُ في الكلام. يخيل لي أن انفعالات محصورة في داخلي لأمد طويل خرجت على لساني بتلك الطريقة العصبية.
في نهاية الكلمة سعدتُ بالتعرف على والدة هيروكي.
وبعد الكلمة ذهبنا إلى مطعم شعبي ياباني، تانامي وهيروكي وصحفية يابانية شابة اسمها هانا ماتسو تعمل في مكتب صحيفة شمبون في هيروشيما، كانت قالت إنها ستنشر شيئاً عن الأمسية وأجرت مقابلة قصيرة معي. وكانت طاولة الطعام في مقصورة مثل أول عشاء جماعي لنا في كيوتو: مركوزة في أرض منخفضة ونحن نجلس على مستوى أرضية المقصورة، بعد أن نكون قد خلعنا أحذيتنا خارجها. لم أكن جائعاً بشكل خاص، فقد اشتريت وجبة سمك يابانية من نوع ما مع الرز بعد جولة حديقة السلام، وتناولتُها في نحو الرابعة والنصف في الفندق. لكن هنا أيضاً طلبت الساكي، وجاء هذه المرة في كأس مستديرة صغيرة، لكنها موضوعة في صندوق صغير مُبطَّن بالأحمر، ظننت أن فيه ماء قبل أن ينورني شركائي أنه ساكي كذلك. لكن هذا التنوير جاء عند نهاية الكأس الأولى التي دلقت نصف محتوى صندوقها على الطاولة لأني كنت أحمل الصندوق إلى فمي وأشرب من الكأس. كان أدائي أفضل في الكأسين الثانية والثالثة: أرفع الكأس وحدها وأشف منها، وحين تفرغ أصب محتوى الصندوق فيها. المحصلة نحو خمس كؤوس صغيرة.
طرقنا من جديد مسألة الشكلانية اليابانية أو المراعاة الشديدة للأشكال والأعراف، ولم أكن أريد أن أقول شيئاً عن الطاعة والانضباط وعن ألمانيا، لكن الموضوع كان حاضراً في بال هيروكي وبادر هو إلى ذكر آيخمان. تذكرت ونحن نتكلم، ثم غابت عن بالي فلم أَقُلها، نكتة وردت في كتاب توم سيغيف المليون السابع، تقول إن يهودياً ألمانياً نموذجياً كان في قطار في فلسطين ومقعده عكس جهة سير القطار، وهو ما يسبب له دواراً عانى منه طوال رحلته. حين شكا من الأمر لأصحابه بعد الوصول استغربوا أنه لم يحاول أن يبادل مسافراً في المقعد المقابل، فكان جوابه أنه لم يكن هناك أحدٌ في المقعد المقابل ليسأله المبادلة!
قد يكون اختزالاً الربط بين الطاعة وبين الفاشية أو النزعة القومية المحاربة (أو «الجهادية»)، لكن لعل هذا العنصر يجد مكانه الصحيح في تحليل أوسع اطّلاعاً وأغنى بالمعرفة.
عدتُ إلى الفندق بعد الثانية عشر ليلاً بقليل، ونمت قبل الواحدة. حاولت لليلة الثانية على التوالي العثور على زر كهرباء يُمكنني أن أطفئ الأضواء دون نزع بطاقة فتح باب الغرفة وتشغيل الكهرباء من مكان التشغيل، وذلك من أجل شحن هاتفي المحمول. دون جدوى.
غرفة الفندق هذه صغيرة نسبياً، وإن ليس بصغر غرف الفنادق الفرنسية التي جربتها لثلاث مرات أو أربعة، لكنها أول غرفة أجد فيها شيئاً يشبه البيجاما، أو الغون. لم أرتده، إذ لا أقضي غير وقت قليل في الغرفة عدا النوم، ولا أحتاج لبيجاما أثناء النوم.
أكتبُ من القطار الذي يأخذنا، هيروكي وأنا، من هيروشيما إلى طوكيو. يفترض أن نصل إلى هناك في الثانية بعد الظهر، بعد أقل من ساعتين من الآن.
وصلنا الفندق قبيل الثالثة. لزم قطارٌ إضافيٌ لنحو نصف ساعة في طوكيو من أجل الوصول إليه. وضعت أغراضي التي زاد ثقلها بفعل ما اشتريت من هدايا لأصدقاء وصديقات، منها مجسمات 7 بومات على الأقل، تضاف إلى نحو 25 اجتمعت لدي تدريجياً، خمسة منها من الصديق الصدوق فاروق مردم بيك الذي تنتشر في بيته في باريس مئات منها، ويبدو أن بعضها مُخزَّن في صناديق في قبوه أيضاً. ليس لدي إجابة عمّا أحتفي به بتجميع مجسمات للبومة، ليس الحكمة وحدها ولا الخراب وحده (هناك مثل شعبي في حلب يقول: إلحق البوم يدلك عالخراب!) ولا الثأر وحده، هذا إن كان طائر الصدى الذي يخرج من جسد القتيل صارخاً بطلب الثأر هو البوم حسبما قرأتُ في مكان ما. ولا أجد تركيباً أو تقريباً بين هذه الدلالات الثلاثة. قد تبقى بوماتي عالقات هناك دوماً، بين الثأر والحكمة والخراب.
نمتُ كالقتيل (تعبير حلبي كذلك) لأكثر من ساعة ونصف. عانيت من «كسر نوم» في الأيام الثلاثة السابقة، وحين صحوت كان الساعة بعد الخامسة سلفاً. قصدت محطة المترو القريبة بعد قليل للاقتراب من بيت هيروكي ونوريكو حيث كنت مدعواً إلى العشاء. وصلت المحطة التي سيأتي هيروكي لأخذي منها مبكراً، وسيصل هو بعد عشر دقائق. كان قد أعطاني جهاز راوتر مُتحرِّك، يبقيني على اتصال بالنت من أجل اتصالاتي حين لا أكون معه ولا في الفندق. قضيتُ وقت انتظاره أرقب الناس دون همّ، والنساء بخاصة. كنت لاحظت أن أوراك النساء اليابانيات ضيقة بعض الشيء، ولم أر قط امرأة يابانية بذينك الردفين الضخمين اللذين تجدهما لدينا وفي أوروبا. هناك بالمقابل من هُنّ عجفاوات. الصدور كذلك أقرب إلى الصغر، والأوزان قلّما تكون زائدة للنساء والرجال. لم أرَ أي مُصارع سومو حتى الآن في قطارات ومحطات وشوارع كيوتو وهيروشيما وطوكيو.
جاء هيروكي مع ولديه كانتا (7 سنوات) وكاي (5). الولدان تَحرَّرا من الخجل بسرعة ورَحَّبا بي: أهلاً وسهلاً، وأراد كانتا أن يجلس بقربي في الباص بينما ظل كاي مع أبيه.
كان استقبال نوريكو مُحباً ودافئاً وبالغَ اللطف. قلت لها إنها لم تتغير منذ رأيتها قبل 15 عشر عاما في سورية. ردت بالعربية: بلى، صرتُ عجوزاً! لم تكن كذلك. أظنها في النصف الثاني من ثلاثينات عمرها، أصغر من زوجها بنحو عشر سنوات إن لم أكن أخطأت التقدير كثيراً (وفي تقدير الأعمار لست محصناً من الضلال المبين). بدأنا بالبيرة مع الطعام الذي كان دجاجاً مقلياً مما يسمونه كرسبي في سورية، مع السلطة، والطبق الرئيس هو شيء أعدته نوريكو ونحن على الطاولة، نودلز (شعيرية مصنوعة من الرز) وقطع خاصة من لحم الخنزير ونوع من الخضار يشبه السِّلْق لدينا. ومن البيرة تَحوَّلنا إلى نبيذ أبيض، فأنهينا زجاجة، ثم زجاجة أيضاً من الساكي. أحببتُ الولدين وأحباني، وشاركاني بعض ألعابهما: أحصل على علبة أختارُ رقمها بين 1 و2 و3، وحين أحملها بيدي ينفتح غطائها العلوي فيثبُ منها ما يشبه أفعواناً ورقياً تبقى قاعدته مرتكزة على قاع العلبة.
أهدتني نوريكو كأسين صغيرتين جميلتين، كأنهما من الفخار، قالت إن واحدة لسميرة وواحدة لي. كنا، سميرة وأنا، قضينا معهما وأصدقاء سوريين آخرين سهرة في عيد الحب عام 2007 أو 2008 في مطعم في الشام القديمة، وعدا نوريكو وهيروكي، كان السوريون معتقلين سياسيين سابقين، وهو ما أثار إعجاب صديقينا اليابانيين. وكنا زرناهما كذلك في بيتهما في الشعلان قرب السفارة اليابانية، وقتَ كان هيروكي دبلوماسيا شاباً. أَهدياني كذلك قميصاً مُقلَّماً، قسته عندهما وكان مناسباً جداً. ومما يشبه أغطية موائد صغيرة مطرزة لدينا، صممتها أمها، خيرتني نوريكو في قبول أحدها هدية كذلك. كان جواً كريماً ودافئاً، جو أصدقاء.
نام كاي في حضني وأخذ هيروكي صوراً لنا. كان يأخذ صوراً طوال الوقت.
ومع كانتا أوصلني إلى محطة القطار ذاتها، التي كنت أرقب فيها النساء اليابانيات بغرض تحسين المعرفة البشرية. من هناك وجدت طريقي إلى الفندق بسهولة. كانت الساعة نحو العاشرة والنصف. رددتُ على إيميلات وقمتُ باتصالات من أجل جمعية سميرة والجائزة والتفاصيل الكثيرة التي تعرض كلما اقترب موعد حفل منح الجائزة.
25 شباط 2023
ليس هناك حاويات زبالة صغيرة في شوارع المدن اليابانية التي زُرتها. يقال إنه قبل عقدين أو ثلاثة وضعت قنبلة في إحداها، فأُزيلت كلها. لكن فلسفة الأمر مثلما سمعتها من كاأوري (أريج) هيزوم، وهي إعلامية تعمل على شريط وثائقي عن زيارتي لليابان، كما من أنس، وهو شاب سوري من حمص، يعيش في اليابان منذ ثلاث سنوات، تتعارض مع هذا التفسير الحدثي. يقولان إنك مسؤول عن زبالتك، وليس البلدية أو الدولة، ويجب أن تحملها معك إلى بيتك حيث تستطيع تصريفها لاحقاً فيما خُصِّصَ لها من مواقع تصريف. على أن الشوارع نظيفة، واليابانيون المنضبطون لا يرمون أوساخهم في الشارع.
سألتُ إن كان هناك تحرّش جنسي في البلد، فقالت كاأوري، وكان هيروكي قال الشيء نفسه، إنه موجود وقد يأخذ شكلاً فيزيائياً: لمس أو مسك أو ما يقاربه: مثلاً تصوير بالموبايل ما تحت التنانير القصيرة للفتيات في القطارات ووسائل النقل العامة أو المناطق المزدحمة. لذلك هناك إلزامٌ قانونيٌ بأن يترافق التصوير بالموبايلات في اليابان بطقّة من أجل تنبيه من قد يجري تصويرهن وهُنَّ غافلات.
يبدو ممّا يُرى من مظهر الناس أنهم طبقة وسطى متفاوتة الرفاه، أقرب إلى مُنعمين، والأناقة ظاهرة على كثير من الفتيات الشابات. وعلى كل حال لم أر ملامح الشقاء على وجه أيٍّ كان. لم أرَ مشردين في الشارع، لكن هيروكي أكد وجودهم، وكذلك كاأوري من بعده، وقد ذكرت منطقة في طوكيو ينتشرون فيها، منهم من بلدان آسيوية قريبة ومنهم يابانيون. قال هيروكي إن الفقر في اليابان موجود، ويصيب بخاصة كبار السن وأمهات عازبات ومن يعانون من أمراض مزمنة. الدولة تساعد، وهؤلاء الناس لا يجوعون، لكنهم فقراء. هناك طبقة وسطى قد تبلغ 70% من السكان، لكنها مُوزَّعة على شرائح متفاوتة مثلما هو متوقع. ويبدو أن هناك شكوى من عدم تناسب الأجور مع حجم العمل المطلوب ومن ضعف الضمانات الاجتماعية في العمل. سمعتُ ذلك من أنس.
يلتزم المشاة اليابانيون بشدة بإشارات المرور، ربما أكثر حتى من الألمان. وحين يكون حق السير للمشاة، تترافق الإشارة الخضراء بصوت صافر مُوقّع، قيل لي أنه من أجل المكفوفين بين العابرين.
أخذتني كاأوري وأنس البارحة إلى ساحة مزدحمة في طوكيو، شيبويا، قد يناسب أن تسمى ساحة الكلب تيمناً بتمثال لكلب في أحد أركانها. كان صاحب الكلب قد تركه على باب محطة قطار، وكانت هذه أخر مرة يراه الكلب، إذ يبدو أن الرجل رحل فوراً بعدها. وقف الكلب في المكان نفسه منتظراً صاحبه لعشر سنوات إلى أن رحل هو الآخر، فنُصِبَ له تمثال يحجُّ إليه الناس، وقد يصطفون طوابير للمسه أو أخذ صورة بقربه، وهو ما فعلته بدوري. ليس هذا هو الكلب الشعري «في أيام دولته»، تحتاط منه «بأطواق من الزرد» على رجليك، بل هو الكلب الروحي إن صح التعبير في أيام محنته. طفرت الدموع إلى عيني وأنا أسترجع القصة صباح اليوم بينما أتناول قهوة الصباح في كافتيريا الفندق. أتماهى بالكلب، أشعر أني في العام العاشر لغياب امرأتي ذلك الكلب، ليس بوفائه بالتأكيد، لكن لَعلّي بجزعه ولَوعته.
لم تكن الساحة بالزحمة الأمثولية المفترضة، ولا كان هناك طابور عند تمثال الكلب، وبالكاد احتجنا لنصف دقيقة كي يكون لنا دور في أخذ الصور مع هتشيكو، اسم ذلك الشريك الوفي. على أن ذلك الزحام المعتدل كان لافتاً مع ذلك. لا أذكر أني رأيت مثله من قبل.
تناولنا سوبا في مطعم خاص لهذا الطبق الياباني، أخذني إليه أنس وكاأوري، وهو نودلز تغمس في زيت الصويا والواسابي الذي أحبه، وإلى جانبه وقع اختياري على خضار مقلية مع قريدس مقلي كذلك. ومن هناك أخذتنا كاأوري إلى محل ستاربكس المشرف على الساحة كي نرى الزحام من موقع أعلى قليلاً. لعلها كانت خائبة الرجاء بزحام ذلك الخميس الرمادي البارد قليلاً، مع نثيث من المطر بين حين وآخر، وأرادت تحسين سمعة الزحام الياباني، فلم يتغير الانطباع كثيراً.
أخذتنا بعد ذلك إلى ضريح ميجي، وكان علينا أن «نتوضأ» قبل الاقتراب من محراب الإله: نغسل أيدينا بماء يسيل من أنبوبات بامبو خضراء، وأفواهنا كذلك. ثم يمكن أن نكتب رسالة نُضمّنُها أمنية نضعها في مغلف خاص، ونضع المغلف في صندوق يتشكل سطحه العلوي من قضبان معترضة، نزلق رسائلنا بينها، فكأننا نُصوّت في انتخابات حرة، مما أخبرت مرافقي بأني لم أقم به قط (كان يجب أن أقول إنه لم تحدث انتخابات حرة قط في حياتي في بلدي). وبعد ذلك قصدنا محراب الإله وانحنينا أمامه باحترام، وكررت الأمنية المزدوجة نفسها، وانحنيت غير مرة من جديد مقلداً كاأوري، قبل أن نعود أدراجنا إلى ساحة قريبة، حيث سنلتقي بنجيب الخش. في المسالك العريضة التي تقود إلى الضريح الذي زرناه للتو، تجد براميل متوسطة الحجم من الساكي، كتب على ظاهرها عبارات تقول شيئاً عن نوع الساكي، وفي الجهة المقابلة براميل خشبية أكبر للنبيذ جاءت تكرمة للإله من بلدان أخرى. سألت لمن هذا النبيذ؟ قالت كأوري للإله، فاستنتجت أنه لا بد سكران، وهو ما أضحكها.
قال أنس إنه ينظم نشاطاً عن سورية كل شهرين أو ثلاثة، لكن تواضعَ يابانيته يحد من تأثيره حيث يحدث أن يحضر يابانيون أسديون، وذَكَرَ واحداً منهم، يتعاون مع السفارة الأسدية في طوكيو.
التقينا بنجيب في ساحة ضريح آخر، ياسوكوني، دُفن فيها من أُعدِمَ من الجنرالات اليابانيين في محكمة طوكيو بعد خسارة اليابان الحرب العالمية الثانية، وفيها نصبٌ لأحد القوميين التحديثيين اليابانيين، ماسوجيرو أومورا، وقد تعرض لمحاولة اغتيال من قبل المحافظين أودت بعد شهور بحياته، وكان في أربعينات عمره. في الساحة عمل فني مثير للإعجاب: نصب لأسرة فيها طفلان أحدهما رضيع بين يدي أمه، ثم أم الزوجة أو الزوج، ثم الزوج، وعلى وجوه الجميع ملامحُ الهَمّ. قالت كاأوري إن النصبَ يمثل دفعَ الرجال للحرب وقت الحرب العالمية الثانية وتركَ الأسر تتدبّر أمرها في غيابهم.
نجيب رجلٌ في النصف الثاني من أربعينياته، نشيط الحضور، مراسل تلفزيوني وإعلامي نشط، يتكلم اليابانية بطلاقة ويُدافع عن القضية السورية.
أخَذَنا لكأس من البيرة في أحد المطاعم على نهر قريب. يمكن لذلك أن يكون جميلاً جداً في الربيع والصيف، وقال إنه في موسم إزهار الكرز، وهو لا يكاد يدوم أكثر من أسبوع، ويكون في عزه لثلاثة أيام أو أربعة فقط، يحتاج الناس لحجز موقع من أجل شواء اللحم على ضفاف النهر قبل شهرين كاملين. لعلهم بدؤوا الحجز سلفاً، بالنظر إلى أن الإزهار في أواخر آذار حسبما فهمت. بعد ذلك سِرنا في شارع تجاري نشط، ضيق بعض الشيء، يسير صعداً. اشتريت بومتين من أحد المحلات، واختار نجيب أن يهديني واحداً من فنجاني قهوة مع طبقه الصغير، وهُما معاً من تصميم مهندس العمارة فرانك لويد رايت بحسبه، وكان من المتأثرين بالأساليب اليابانية في التصميم والعمران بحسب نجيب كذلك. وكان الشاب الودود أنس أصرَّ أن يدفع ثمن تشكيلات من الخيوط تُشبه البومات اشتريتها من محل قرب ضريح ميجي.
ومن هناك ذهبنا إلى العشاء، متواعدين مع جينوبيه، وهو صحفي ياباني كان معتقلاً لثلاث سنوات عند تشكيل مسلّح سوري معارض، ليس داعش ولا القاعدة، ولا يَعرف من كانوا. موقفه من القضية السورية داعم وفاهم، ولديه أفكار بخصوص الأسلمة قلّما تُسمع مثلها من صحفي أجنبي. ذكَّرني بنيكولا هينان، الصحفي الفرنسي الذي خطفته داعش وبقي أسيرها لعام أو عامين قبل أن تفتديه سلطات بلده، وقد حافظ على موقف إيجابي مساند للقضية السورية. بدا جينوبيه مهتماً بسماع تحليلي للمسارات الباكرة للثورة السورية والديناميات الفاعلة، وقد قلت ما لدي وشعرنا بتقارب في الرأي والمزاج. في المطعم يعمل رجل من ميانمار، بورما كما يسميها هو، وكما أعرف أنا اسمَ البلد من سنوات المدرسة. الرجل كان مُعتقلاً سياسياً سابقاً في بلده وتعرض للتعذيب هو الآخر. اسمه وين كياو، وبحسب كاأوري هذا كله اسمه الأول، إذ ليس للبورميين اسم عائلة. تعارفنا وتشاركنا نحن المعتقلين السابقين الثلاثة صوراً أخذتَها كاأوري.
من اليمين: وين كياو، جينوبيه، والكاتب
تناولتُ ثلاثة كؤوس من الساكي، جاءت في الصندوق الخشبي المبطن بالأحمر نفسه، لكن الاثنين هذه المرة في طبق أوسع من طبق الفنجان، يطفح الساكي من الكأس في الصندوق المفتوح، ثم إلى الطبق. طلبنا كثيراً من الأطباق اليابانية الصغيرة وشربنا كثيراً.
أوصلتني كاأوري إلى محطة قريبة من فندقي، واطمأنتْ على وصولي بعد قليل عبر الواتساب. كانت تُصور بكاميرا أو بالموبايل معظم الوقت.
26 شباط 2023
ألقيتُ في جامعة طوكيو محاضرة بعنوان «سورية كعالم مُصغَّر، العالم كسورية مُكبَّرة»، كان هيروكي من حدد عنوانها استناداً إلى معرفته الطيبة بشُغلي. حاولتُ أن أوفر للجمهور وقائع وأُقدِّمَ منظوراً. كان هيروكي، مع شاب سوري، محمد م، أخذاني من الفندق إلى الجامعة. في مرحلة من الطريق، بعد القطار الأول، اكتشفَ محمد أننا أخذنا القطار الخطأ، وهو ما أربك هيروكي. أنا لم أوفّر الفرصة للتعليق على حاجة الياباني إلى سوري ليهتدي إلى الطريق الصحيح في طوكيو! وكان علينا أن نتلمس طريقنا تلمُّساً تقريباً في محطة شينجوكو الكبيرة والمتاهية قبل الوصول إلى برج الحرية (ليبرتي تاور) في الجامعة. عُرض فيلم رحلة إلى الذاكرة للمرة الثالثة في اليابان في الأيام الثمانية الماضية. قال هيروكي إنه الأنسب لأنه ليس طويلاً، ولأني فيه، وأنا متكلم أو المتكلم في المناشط الثلاث التي عرض فيها. خرجت بانطباع جيد عن «الإيفنت»، وكانت أسئلة الجمهور مهتمة ومحفزة، والمترجم شنتارو موري متمكناً وقديراً. التقيت في المحاضرة بسوريين وسوريات مهتمين، يفترض أن ألتقي بعدد أكبر منهن ومنهم في هذا اليوم قبل الأخير من زيارة اليابان.
يبدو اليابانيون لي مستعدين دوماً للذهاب خطوة إضافية فيما يفعلون، ليسوا بحال مستعجلين للانتهاء، بعكسنا. عزمهم يبقى قوياً حتى النهاية، أو بعدها بقليل. يعطون الأشياء وقتها وحَقَّها ونيّف.
أُتيحت أثناء الأسئلة فرصة لنَجيب كي يتكلم على مساعدة السوريين الذين أصابهم الزلزال، ولسيدة يابانية كانت متزوجة من سوري وعاشت في سورية لـ21 عاماً حتى رحيله، على عملها ضمن مجموعة للمساعدة اسمها «إبرة وخيط» (وكانت أعطتني قبل بدء المحاضرة هدية صغيرة من المجموعة، دمية من قماش محشوة بالإسفنج، من الأمام صورة لرجل بلباس شامي تقليدي مع مسبحة معلقة على حزامه، ومن الخلف خيطت عبارة: إبرة وخيط). كِنّتنا اليابانية تساعد نساء سوريات على تَدبُّر المعيشة ومعالجة المصاعب النفسية.
قصدنا بعد ذلك، عشرة أشخاص أو أكثر مطعماً لتناول العشاء، أطباق كثيرة بمحتوى قليل لكل منها، دون طبق رئيسي. ليست هذه هي الحال دوماً، لكنها حال متواترة. بعد ذلك ذهبنا إلى بار لتناول الساكي، وجاءت أطباق طعام إضافية بعد أن كُنا مكتفين. قيل لي إننا لم نطلبها، لكن لا بد من طعام مع المشروبات في البارات اليابانية. كان محمد العطار الذي سبق له أن زار اليابان قد أوصى أن نتناول ساكي الحوت السكران، لكنه لم يكون متوفراً في ذلك البار، فكان أن اكتفينا بالفتاة الثلجية والتنين الأسود والعنقاء، ثم المزيد من العنقاء.
26 شباط 2023، كذلك
الآن أكتب في مكتب هيروكي في جامعة طوكيو، كأوري وفريقها يصورونني، وأنا أُمثّل الكتابة على الكمبيوتر، هذه الكتابة، وهذا بعد نحو خمس ساعات من مقابلة مصورة طويلة بالانكليزية أجرتها كاأوري والفريق (رجلان؛ شابٌ وكهل) في المكتب كذلك، ثم دردشة طويلة كذلك لأكثر من ثلاث ساعات ونصف مع سوريين في إحدى قاعات الجامعة نفسها، جرى تصويرها كلها كذلك. قد يتمخض هذا كله عن بثُّ خمسة دقائق من المادة المصورة أو عشرة.
الجو اليوم كان مشمساً في النهار مع ريح باردة، وحين عُدنا إلى مكتب هيروكي قبل قليل كان بارداً والريح أخف.
أنا جائع جداً الآن. عيب الفندق الذي أقيم فيه أن خيارات الفطور فيه ضيقة، وكميته قليلة. وبعد ساعتين تشعر بالجوع. وأنا تناولت ذلك الفطور الشحيح قبل أكثر من ثماني ساعات.
غداً في مثل هذا الوقت سأكون في المطار، في رحلة تأخذني إلى هلسنكي، ومنها إلى برلين. كانت أياماً غنية وملهمة في اليابان، وسعدتُ بلقاء عشرات الأشخاص المميزين وبالتداول في شؤون عامة، وكذلك بالطعام والشراب، دَعْ عنك المراحيض اليابانية الذكية.
– «بضع كلمات إضافية فقط!» تزعم كاأوري. وهذا المصور اللعين لا يكف عن الدوران حولي ويصور الآن ما أكتبه. أرجو ألا تبث صورة هذه السطور.
لم يخطر ببالي أن أكون ضحية لاستعداد اليابانيين الدائم للذهاب خطوة إضافية. أخشى أنها اليوم بالذات خطوات.
27 شباط 2023
كان اللقاء بسوريين ويابانيين مختارين جولة في قضايا متنوعة، لا تُحيل حصراً إلى كتابي بالخلاص يا شباب. بين الحضور طبيب سوري ثلاثيني، مؤمن وممارس، ويخشى الانقسامات الإيديولوجية بين السوريين، وألّا يقبل البعض منا نتائج العملية الديمقراطية لأنها قد تؤول لمصلحة المتدينين. ناقشت هذه الفكرة بتوسع، وقلت إن الإسلاميين صاروا سلطة وسلطات في الواقع في سورية، وقد كانت عنيفة ووحشية وارتكبت جرائم، وإن العملية الديمقراطية التي قد تؤدي لفوز إسلاميين في جولة، لن تؤدي على الأرجح لفوزهم في جولات أخرى لأنهم لا يملكون حلولاً لأي من مشكلاتنا الكبيرة: التعليم، العمل، الاقتصاد، الدفاع، الثقافة والفن، العلاقات الدولية، فضلاً عن الحريات العامة والسياسية. قلت إن من يُحكِّمون إيديولوجيتهم في العلاقات بين الجماعات السياسية هم الإسلاميون، وليس الديمقراطيين السوريين، وضربت أمثلة متعددة على ذلك. تكلم نجيب على المنطقة المنكوبة بالزلزال وتسونامي عام 2011، وعلى ما يقارب وحدة الحال بيننا وبينهم، وعن كيفية التعامل مع المحن الكبيرة. دافعت عن سياسة الذاكرة ضد سياسة النسيان التي قال نجيب إن محافظ المنطقة المنكوبة مارسها، وهدم بناءاً أراد كثيرون جعله مَعلماً للزلزال وتحويله إلى متحف لآثاره.
استغرقَتْ هذه المداولة ثلاث ساعات ونصف على الأقل، وبعدها استعمرتني كاأوري لنحو ثلاثة أرباع الساعة وأنا أكتب على الكمبيوتر أو أتصفّح الجمهورية.
كانت هدية المترجم القدير شنتارو موري زجاجة من ساكي الحوت السكران، وأوصى أن يذوق محمد العطار منها شيئاً. وعدتُه خيراً بنية غير صافية، يقلل من إثمها أن محمد مقلٌّ جداً في الشرب.
ومن كاأوري أشياء بابانية متنوعة صغيرة، منها عيدان الأكل، ودُفيترات صغيرة، وما يبدو أنها مصابيح أو لدّات صغيرة زرقاء، وأقلام. وفي المطعم، وبعد أن انتهينا من الطعام قدم محمد م. حلوى سورية من صنع زوجته، تقاسمتها مع الجماهير على طاولتنا وبقي لي منها قطعتان فوق قطعتين تناولتهما في المطعم. وكانت نوريكو انضمت لنا قرب نهاية الندوة مع كانتا وكاي، ولداها المحببان جداً، وكنا معاً في المطعم، مع كنّتنا ونجيب ونور، وهي شابة سورية شامية تدرس شيئاً في مجال الإنسانيات، ومحمد م والطبيب المتدين، الذي لم يشاركنا الشرب بطبيعة الحال، لكنه ودودٌ وبَشوش.
28 شباط 2023
هذا يومي الأخير في اليابان. يجب أن أكون في المطار قبل الثامنة مساء، طائرتي قبل العاشرة بخمس دقائق. ويجب أن أسلم غرفة الفندق خلال أقل من ساعة. أغراضي موضَّبة، لكني أحتاج إلى حقيبة ظهر أخرى لأحمل أشياء اشتريتها أو أُهدِيتها، ولأن حقيبة كتفي الحالية مهترئة تقريباً وأخشى أن يسقط كمبيوتري منها على الأرض في وقت قريب. سألتقي بهيروكي في الثانية عشر ونذهب لشراء حقيبة، وسأتجوّل قليلاً حتى ذلك الوقت.
انتبهت مرة أخرى قبل قليل وأنا أنهي حمامي الصباحي أن هناك مربعاً من المرآة فوق مغسلة الحمام لم يتكثف عليه البخار، خلافاً لمعظم مساحة المرآة. الآن بعد نحو ساعة من الاستحمام، المرآة مجلوّة كلها. قد لا تكون الحيلة التكنولوجية وراء ذلك معقدة من وجهة نظر المختصين، لكن هذا الانتباه الياباني إلى تفصيل إضافي يبدو لي شيئا مميزاً.
مطعم الفندق هو كافتيريا تقترح عليك كفطور واحداً من أربعة أطباق شحيحة لا تسد رمقاً. في الأيام الثلاث السابقة كنت أطلب قهوة ثم طبقي، ثم آخذ قهوة من جديد أعود بعدها إلى غرفتي بانتظار المواعيد، غالباً عند منتصف النهار. هناك مطعم آخر قريب يمكن أن يفطر المقيمون فيه، وقد آثرت أن أذهب إليه في صباحي الأخير في الفندق. يجب أن أسلم غرفتي في الحادية عشر. سألت أين موقع هذا المطعم الآخر، فأخذتي بنفسها موظفة الاستقبال، امرأة شابة مليحة، بكمامة على فمها وأنفها مثل الجميع في اليابان. كان المطعم قريباً جداً، دقيقتَي مشي من الفندق، والطعام سوبا لم تعجبني هذه المرة، فلم أكد آكل منها شيئاً. وكي يتأكد القول السائر أن من يغير عادته تقل سعادته لم يكن هناك قهوة في هذا المطعم الجديد، فكان أن عدتُ إلى قديمي ودفعت من أجل قهوتي، لأني كنت قد أعطيت كوبون الفطور سلفاً للمطعم الآخر.
أودعتُ أغراضاً في الفندق وبحثتُ عن مقهى أقضي فيه ساعة أو ساعة ونصف قبل أن يجيئ هيروكي. وجدت مكاناً لطيفاً، وطلبت قهوة من جديد. وقضيت بعض الوقت أقرأ في كُتيّب A Bomb, A city tells its story عن هيروشيما. كنت اشتريته من متحف البلدية عن المجزرة النووية في المدينة.
مع هيروكي ذهبنا لشراء حقيبة جديدة وحزام جديد بدل حزامي الذي يوشك أن ينقطع. أفرغت أغراضي الفائضة عن الحقيبة الكبيرة والحقيبة الكتفية القديمة في الجديدة، ومضينا متخففين لتناول البيرة قرب إحدى البحيرات. ومن محل تبيَّنَ أنه يبيع أشياء تقليدية مرتبطة بديانة الشنتو اشتريت إسوارة من أحجار لِسمور، وحجرين غير مصقولين لصديقة في برلين تذكرتُ أنها قالت شيئاً عن أحجار من اليابان. قدَّسَ البائع ما اشترينا بأن قرع جرساً فوقها ورجانا أن نبقى لخمس دقائق، ربما من أجل أن يأخذ التقديس مفعوله. أو كي تأخذ الرأسمالية عائداتها.
وبعد البيرة ذهبنا إلى حيث نلتقي بنوريكو وكانتا وكاي الذين ينوون توديعي، وقصدنا نحن الخمسة المطار. شققنا دربنا من داخل القطار إلى أولى عرباته كي يرى الصغيران المشهد أمامه. سلَّمنا الأغراض لمكتب شركة الطيران الفنلندية، واحتفظت فقط بالحقيبة الجديدة وفيها الكمبيوتر وأشياء قليلة. ثم قصدنا مطعماً، مُقسَّماً إلى مقصورات بدوره، وتناولت العشاء الأخير مع هذه الصحبة الطيبة. تعلمت أثناء العشاء أن صيغة التحبب من اسم كانتا هو كانجان، ومن كاي هو كاي فحسب وربما كاي كاي. ومن هيروكي هيروكو، ومن نوريكو نوريجان. لكن سيبدو الأمر مضحكاً أن تقول، مثلاً، كانجان سان، أن تستخدم صيغة التحبب لاسمٍ ما وتتبعها بلقب سيد.
وَدَّعني أصدقائي بحرارة، وبكت نوريكو، وكنتُ شديد التأثر. لبثَ الكبيران والصغيران طوال الوقت الذي كنت مرئياً لهم، دقائقَ طويلة.