تنتشرُ على جدران العاصمة باريس عباراتٌ كثيرة تنتقدُ الدولة والشرطة هذه الأيام. تحتوي تلك العبارات على كلام لاذع وأحياناً على شتائم بحق الرئيس إيمانويل ماكرون ووزير داخليته جيرالد دارمانان، لكن أقساها على الإطلاق عبارة «فرنسا دولة بوليسية»، التي زاد من مبررات متبنّيها مصادقةُ مجلس الشيوخ، الذي تهيمن عليه قوى اليمين، في 13 حزيران (يونيو) الماضي على مشروع قانون «عدالة أسرع»، الذي قدّمه وزير العدل الفرنسي إريك دوبوند موريتي، وتنصُّ المادة الثالثة منه على إعطاء صلاحيات لأجهزة الشرطة والاستخبارات بتنشيط المايكروفونات والكاميرات الخاصة بالهواتف المحمولة بغرض التنصّت في حالات الضرورة القصوى، والتهديدات الكبيرة مثل العمليات الإرهابية، لكن المنظمات الحقوقية تعتبر أنه لا ضمانة لحصر استخدام هذه الصلاحيات في الظروف التي يذكرها وزير العدل، خصوصاً وأنه منذ العام 2015 استخدمت السلطات الأمنية الفرنسية ما لا يقل عن 300 تقنية تجسس دون علم رئاسة الوزراء.
خلال التظاهرات التي نظّمتها النقابات العمالية، وعمّت أنحاء فرنسا في الأشهر الأولى من السنة الحالية، احتجاجاً على رفع سن التقاعد، وخلال أعمال العنف التي اندلعت عقب مقتل المراهق الفرنسي من أصل جزائري نائل مرزوق، كانت عبارة «فرنسا دولة بوليسية» حاضرةً بقوة، ما جعل التظاهرات تبدو وكأنها سلسلة مترابطة وممتدة رغم اختلاف أسباب خروج الناس إلى الشارع.
وغالباً ما تَحيد هذه الاحتجاجات عن سلميتها مع أول احتكاك مع الشرطة، ما جعل، على سبيل المثال، الاحتجاجات على رفع سن التقاعد تتحول من مطلبٍ يتعلق بالمعاشات وقضية سن التقاعد إلى احتجاج على سلوك الشرطة. لكن كل ذلك لم يصل إلى درجة السماح للشرطة باستخدام أساليب يحظر القانون بعضها، وأخرى لم يكن أحد يتخيّل أن تلجأ إليها السلطة التنفيذية.
خلال أعمال العنف التي رافقت الاحتجاجات على رفع سن التقاعد، سجّل استخدام الشرطة لما يسمّى بالمصيدة (La nasse)، وهو سلوكٌ محظور قانونياً في فرنسا إلا في حالاتٍ استثنائية جداً تتعلق بالعمليات الأمنية ذات التهديد القومي العالي، تقوم خلاله الشرطة بإغلاق مداخل ومخارج شارعٍ ما وتحاصر مجموعةً من الأشخاص لإلقاء القبض عليهم جماعياً. ذلك ورّط عناصر الشرطة بتنفيذ عمليات اعتقالٍ عشوائية لمئات من الأشخاص الذين تواجدوا صدفةً في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ، ما دفع مئات القضاة والمحامين إلى التحذير من هذا الأسلوب، قبل أن تصل القضية إلى مجلس الدولة، أعلى هيئة قضائية في فرنسا، حيث أُعلن في العاشر من حزيران (يونيو) الماضي إلغاء قرار وزير الداخلية وقائد شرطة باريس لوران نيونيز باستخدامها لعدم قانونيتها ولما تمثّله من اعتداء على حرية التجمهر.
ذلك الأسلوب كان ينفّذه عناصر من الشرطة الوطنية (Police Nationale) ولواء قمع العنف السريع (Brav-M Brigade de répression de l’action violente motorisée)؛ الذي يتألف من عشرات الدراجات النارية التي يتمتع راكبوها بصلاحياتٍ واسعة في التنقل والتحرك حتى لو شكّلَ ذلك خطراً على السلامة المرورية. وفي حالاتٍ كثيرة، زاد عناصر هذين الجهازين التابعين للشرطة من حالة الفوضى بدل أن يضبطاها، خصوصاً مع تسجيلاتٍ بُثّت أثناء توثيق اعتقال طلابٍ نظّموا تظاهراتٍ ليلة 24 آذار (مارس) الماضي ضد قانون رفع سن التقاعد. في أحد التسجيلات التي بثتها منصة لوبسايدر، يظهر عناصر الشرطة وهم يقومون بترهيب 6 شبان قاموا بمحاصرتهم في أحد شوارع العاصمة، فضلاً عن القيام بضربهم وتوجيه كلماتٍ نابية تضمّنت إيحاءات جنسية، ما جمع الآلاف في اليوم التالي أمام مبنى بلدية باريس للتنديد بهذه الممارسات.
ويُحيل كثيرون تورُّط عناصر هذين الجهازين بتجاوزاتٍ كثيرة أثناء قمعهم للاحتجاجات إلى نقص التدريب والخبرة، إذ يخضع عناصرهما إلى تدريبٍ قصير (بين 8 أشهر إلى سنة) قبل أن توكل إليهم مهمات ميدانية، وهذا الأمر كان محطّ انتقادِ وتحذير عددٍ كبيرٍ من الحقوقيين والسياسيين، لاسيّما اليساريين منهم، إذ طالب زعيم حزب فرنسا الأبية جان لوك ميلانشون بحل هذا اللواء نظراً للعنف المفرط الذي يقوم عناصره بممارسته.
ونتيجة الانتقادات السياسية وفتح نحو 59 تحقيقاً بحق عناصر لواء الـBrav-M خلال تدخله لقمع الاحتجاجات على رفع سن التقاعد، لم يُسجَّل حضور هؤلاء في الضواحي الفرنسية بعد انطلاق الاحتجاجات التي تلت مقتل الشاب نائل برصاص أحد عناصر الشرطة، فتُركت المهمة لعناصر الشرطة الوطنية. لكن الأخيرة أظهرت فشلاً ذريعاً في مواجهة المحتجين الذين تحصنوا داخل أحياء الضواحي، وفي السيطرة على أعمال العنف التي قاموا بها. فخلال الأيام الثلاثة الأولى لم تتمكن الشرطة من اعتقال أي شاب من حي بابلو بيكاسو الذي كان شرارة انطلاق الاحتجاجات وأعمال العنف في نانتير، والذي يسمى cité مثل كثيرٍ من أحياء الضواحي المصنفة على أنها ذات أولوية أمنية. وبحسب وزير الداخلية، فإن أول مُعتقلٍ تم إلقاء القبض عليه من قبل جهاز الشرطة الوطنية يبلغ عمره 11 عاماً، وهو أصغر شخصٍ أُودِعَ الحبس رهن التحقيق نتيجة التظاهرات وأعمال العنف التي اندلعت بعد مقتل نائل. وأوضح الوزير أن متوسط أعمار المعتقلين تراوحت بين 16 إلى 17 عاماً، 60 بالمئة منهم لم يكن لديهم أي سوابق جنائية، كما أنهم لم يكونوا معروفين لأجهزة الاستخبارات بمخالفاتٍ للقانون أو ارتكاب أعمال عنف وسرقات. هذا دفع الرئيس الفرنسي ووزير عدله إلى ما وصل حد تهديد ذوي هؤلاء القصر، تارةً بقطع المساعدات الاجتماعية عنهم، وتارةً بفرض غرامةٍ مالية إذا لم يتمكنوا من منع أولادهم من الخروج ليلاً، بالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من المدن والضواحي فرضت حظراً للتجول على القُصَّر في الليل للحد من تحركاتهم وأعمال الشغب التي قاموا بها.
بيد أن هذا الوضع أخذ يتغير بدءاً من الليلة الخامسة الأحد/الاثنين الثاني والثالث من تموز (يوليو) الحالي. في تلك الفترة واجهت وسائل الإعلام صعوبةً شديدةً في التقاط إشارات البث، حتى أن شبكات الهواتف النقالة شهدت انقطاعاتٍ في ساعاتٍ محددة، كانت غالباً ليلاً مع نزول مدرعات لواء التدخل والبحث والتحقيق، المعروف اختصاراً باسم Bri – Brigade de recherche et d’intervention، وهذا اللواء يتم الزجّ به عادةً لإنهاء عمليات استعصاء أو احتجاز رهائن أو حتى مكافحة عمليات إرهابية معقدة.
تقاطعت روايات عددٍ من الصحفيين والمصورين، الذين تواجدوا في المكان لحظة اقتحام هذا اللواء للحي الساخن في نانتير، بشأن عدم قدرتهم على استخدام الإنترنت أو إجراء الاتصالات لفترة زمنية معينة. ترافق ذلك مع تحليق لطائرة مروحية وطائرات درون كانت تزود عناصر هذا اللواء والشرطة بإحداثيات الحي والزوايا التي تحصّنَ بها شُبّانه. هذه المسألة وضعت المراسلين الميدانيين لوسائل الإعلام والمصورين الصحفيين في دائرة الخطر، فشبكة الإنترنت كانت وسيلة التواصل لكل الفاعلين في ذلك الحي، للشبان الذين واجهوا الشرطة، ولمراسلي ومصوري وسائل الإعلام، ما دفع قناة BFM الإخبارية الفرنسية للتوقف عن ذكر اسم مراسلها أو إظهار صورته خشيةً على سلامته، بحسب شهادة أ.ت، أحد مراسلي المنصات الفرنسية على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يضيف: «مراسل قناة بي إف إم تراجع إلى أحد مداخل الحي، حيث كان هناك نقطةٌ يتجمّع فيها الصحفيون عفوياً بين ضاحية نانتير ومدينة بوتو كل يوم بانتظار أن تبدأ الاشتباكات».
مسألة قطع الاتصالات وشبكة الإنترنت أُثيرت في الأيام اللاحقة من تمكن لواء Bri من فرض حالةٍ من الهدوء داخل الحي، ووُجهت الكثير من الأسئلة إلى قائد شرطة باريس ووزير الداخلية والمتحدّث باسم الحكومة أوليفيه فيران الذي أجاب على سؤالٍ لأحد الصحفيين حول هذه المسألة بالقول: «قد يتم استهداف بعض الشوارع والأحياء بقطع خدمات الإنترنت والاتصال عند الحاجة». ومع ترك الحكومة لهذا الموضوع مُعلَّقاً من دون تقديم إجابةٍ حاسمة، جاء اجتماع الرئيس الفرنسي مع أكثر من 220 رئيس بلدية في قصر الإليزيه في الرابع من تموز (يوليو) الحالي. لم يسمح لوسائل الإعلام بحضور هذا الاجتماع، لكن قناة بي إف إم ومنصة بروت سرّبتا عن أحد الحضور قول ماكرون لرؤساء البلديات: «نحن بحاجة إلى التفكير في الشبكات الاجتماعية، في المحظورات التي يجب أن نضعها. وعندما تخرج الأشياء عن السيطرة وتتجدد أعمال عنف، قد نضطر إلى قطعها».
عزّز من صحة هذه التسريبات مطالبة ماكرون في الأول من تموز لتطبيقَي سناب شات وتيك توك بمراقبة «المحتوى المُحرّض على العنف، وحذفه». في ذلك اليوم، وبعد الرسالة الرسمية التي وجهها ماكرون إلى التطبيقين، اجتمع وزير الداخلية مساءً مع ممثلي شبكات التواصل الاجتماعي في فرنسا لنقاش الموضوع ذاته، وكذلك لم يسمح لوسائل الإعلام بحضور الاجتماع.
ولا ينصُّ القانون الفرنسي الحالي صراحةً على حالاتٍ تبرّر للحكومة حظر الوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعية، سواء كان ذلك بشكل جزئي داخل أحياء أو شوارع معينة، أم حتى بشكلٍ كاملٍ في عموم الأراضي الفرنسية. ويثير المبدأ ذاته أسئلةً قانونيةً مهمة، إذ يضمن الدستور الفرنسي الحق في حرية التعبير، وأبطل المجلس الدستوري مراراً وتكراراً العديد من الإجراءات التي تحدُّ من حرية التعبير تحت ذريعة حماية النظام العام.
كل تلك الإجراءات دفعت الكثير من القوى السياسية إلى الاستنفار، خصوصاً قوى اليسار، إذ اعتبر السكرتير الأول في الحزب الاشتراكي أوليفيه فور أنه «لا يمكن لفرنسا، كدولة حقوق إنسان، أن تسلك طريق الديكتاتوريات في الصين وروسيا وإيران» من خلال تقييد الحريات.
خلال تظاهرات النقابات ضد رفع سن التقاعد، حذّرَ مدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سيباستيان روشيه من أن فرنسا باتت تعيش في «ديمقراطية تحكمها الشرطة». الباحث البارز قال في مقابلة أجرتها معه صحيفة ليبراسيون في نيسان (أبريل) الماضي: «تظلُّ فرنسا دولةً ديمقراطية، مع انتخاباتٍ حرة ومعارضة سياسية ومجتمع مدني لا ينهار. لكن استخدام الشرطة يُخرجنا من مفهوم سيادة القانون. لقد قيَّدنا بشكلٍ موضوعي حرية التظاهر عندما تحدث وزير الداخلية عن المتظاهرين الذين كانوا يخرجون بشكلٍ عفوي للتظاهر، وأراد القول في الجوهر: إذا كنت تريد التظاهر بشكلٍ عفوي، فهذه جريمةٌ تستحقّ الاعتقال… كرَّرَ قائد شرطة باريس أيضاً 50 مرة أن جميع إجراءات الشرطة كانت قانونية».
بيد أن الأمور لم تعد متوقفةً على أساليب تستخدمها الشرطة في إلقاء القبض على متظاهرين، فبين تظاهرات النقابات ضد رفع سن التقاعد ومقتل نائل، والمدة الزمنية بينهما لا تتعدى ثلاثة أشهر، يبدو أن فرنسا تغيّرت بسرعة تحت حجة «استعادة الأمن بأي ثمن» حتى لو شمل ذلك تقييد الوصول إلى الشبكات الاجتماعية، والذي هو ببساطة السمةُ المميزة للأنظمة الديكتاتورية والسلاحُ الأول الذي تلجأ إليه. في تكتّل الاتحاد الأوروبي، ستكون فرنسا البلد الأول الذي يمارس نوعاً من الحظر والتقييد على مواقع التواصل الاجتماعي، برغم أنها كذلك أول بلدٍ ينتقد هذه الإجراءات عندما تتخذها ديكتاتوريات الشرق الأوسط وآسيا.