كان النظام السوري شديدَ التوجُّس من تبعات غزو العراق، ولعلّ بين أركانه مَن كان يعتقد أن دمشق هي الهدف القادم في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنت عنه إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وهو ما دفع النظام إلى اتخاذ خطواتٍ متناقضة: الرفض العلني لغزو العراق رغم الخلافات المديدة مع نظيره البعثي في بغداد، التعاون مع القوات الغازية أمنياً واستخباراتياً وتسليمها مسؤولي نظام صدام حسين الذين فرّوا إلى سوريا، تأخّر الاعتراف أو التعاون الرسمي مع الطبقة السياسية العراقية التي تسلّمت البلاد بوصاية الحاكم العسكري الأميركي، ولكن أيضاً رعاية الفوضى وإتاحة حرية التحرك أمام مجاميع المقاومين والجهاديين (السنية تحديداً) التي حاربت ضدّ القوات الأميركية، وجعل دمشق مركزاً للإعلام العراقي «المُقاوم» للاحتلال والمُموّل من معمر القذافي، والذي كان ينشر صور استهداف «المقاومة العراقية» لجيوش قوات التحالف، وصوراً أخرى لتعليم صناعة العبوات الناسفة، ويعمل على تأجيج المشاعر العربية الملتهبة آنذاك من خلال بث البيانات العسكرية والأغاني الحماسية التي تدعو إلى المقاومة وطرد الاحتلال الأجنبي.
وباندلاع الحرب الأهلية العراقية بين عامي 2006-2008، بدا واضحاً الحنق العراقي الرسمي والشعبي على نظام الأسد، خصوصاً مع استهداف وزاراتٍ وأسواق شعبية ومراقد ودور عبادة يرتادها الشيعة في بغداد ومحافظات جنوب البلاد، واتهامه بدعم منفّذيها من بقايا الصداميين وأتباع القاعدة أو ممّن انتقلوا من البعث إلى القاعدة، وإيوائه بعضاً من قادتهم وداعميهم العراقيين. لذا، فإنه مع انطلاق الاحتجاجات السورية المطالبة برحيل نظام بشار الأسد عام 2011، لم يكن ثمة ما يدعو الطبقة السياسية الشيعية العراقية للوقوف إلى جانبه ومساندته، بل إن التاريخ القريب السابق لذلك يدعو للخصومة أكثر من التحالف، وهو ما كان واقعاً أصلاً وعلى أعلى المستويات. ففي مطلع أيلول (سبتمبر) من العام 2009، تقدّم العراق بطلبٍ رسمي إلى مجلس الأمن الدولي لفتح تحقيقٍ في سلسلة تفجيراتٍ استهدفت مدينة بغداد وخُطّط لها في سوريا، متسببةً بمقتل 95 شخصاً في شهر آب (أغسطس) من العام ذاته. بلغت حينها حدّة الاتهامات بين حكومتي المالكي والأسد ذروتها، مع قول رئيس الحكومة العراقية الأسبق نوري المالكي إنه «يعتقد أن جرائم منظَّمة بمثل هذا الحجم والتعقيد ما كان يمكن تخطيطها وتمويلها وتنفيذها دون دعمٍ من قوى وأطراف خارجية»، وأن هذه الهجمات «ترقى إلى مستوى جرائم إبادة وجرائم ضد الانسانية يُعاقِب عليها القانون الدولي»، وهو ما أكّد عليه وزير الخارجية العراقي الأسبق، هوشيار زيباري، واصفاً دور نظام الأسد في التفجيرات بـ«التواطؤ».
لم يتأخّر الرد السوري على الادعاءات العراقية، فقد وصفها بشار الأسد بـ«غير الأخلاقية»، مطالباً بغداد بتقديم أدلةٍ تدعمُ تلك الاتهامات، ومندّداً بتدويل القضية ومطالبةِ العراق تشكيلَ محكمةٍ دولية لمحاكمة المسؤولين عن الهجمات: «لم أفهم ما الذي يمكن أن يدوّل في العراق، فالعراق كلُّ وضعه مدوّلٌ منذ غزو الكويت عام 1991. لكن بغض النظر عن العراق، وهذا شأنٌ عراقي، نحن نتحدث عن مبدأ. التدويل لم يكن حيادياً ولم يحقق إنجازات، حقق فقط مآسٍ لنا. الحلول الصحيحة تأتي من أبناء المنطقة تحديداً. التدويل هو دليلٌ على ضعفنا، دليلٌ على عدم قدرتنا أو عدم أهليتنا، وهو اعترافٌ منا بعدم أهليتنا بإدارة شؤوننا سواء كانت هذه الشؤون صغيرة أم كبيرة»، هكذا علّق بشار الأسد على الشكوى المُقدّمة إلى مجلس الأمن.
لم تستطع إيران في هذه الحقبة، متوترة العلاقات بين البلدين العربيين الجارين، أن تقود جهود التهدئة، وذلك رغم طيب العلاقة الدائم مع النظام السوري، ذلك أنها لم تكن بعدُ قد أحكمت نفوذها على العراق كما هو الحال اليوم، بل كانت الكلمة العليا للأميركيين، لا سيّما مع تنوّع انتماءات الطبقة السياسية العراقية وميل بعض رموزها إلى العلمانية أو انتمائهم لأحزاب دينية سنّية لم تكن لترضى الانصياع الكامل لطهران ومشروع الولي الفقيه.
وإزاء ضعف التأثير الإيراني المباشر، وبينما كانت الأمور بين العراق وسوريا متوترةً إلى حد قطع الاتصال المباشر والاقتصار على إيصال الرسائل عبر الإعلام، ظهر الوسيط التركي لتخفيف الاحتقان العراقي السوري؛ وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو. بعثت بغداد عبر داود أوغلو مقاطع مصورة حصلت عليها لتدريب مقاتلين عراقيين في سوريا، ومقطعاً من مقابلةٍ تلفزيونية لسجينٍ عراقي في سوريا، وقائمةً بأسماء شخصياتٍ تطلب بغداد من دمشق تسليمهم إليها. أنكرَ نظام الأسد وجود هذه المعسكرات، وعبّر عن استعداده لاستقبال وفدٍ عراقي للتأكد من ذلك، كما رفض تسليم المطلوبين. علّقت حينها مديرة دائرة الإعلام في الخارجية السورية، بشرى كنفاني، لـ بي بي سي بأن «البعض من المطلوبين راغبٌ في المشاركة في العملية السياسية في العراق، أي إن توجههم يرتكز على المشاركة في الحياة السياسية العراقية وليس القيام بعمليات إرهابية».
لحظة تغيير الأعداء
بينما كانت الثورة في سوريا تتحوّل إلى حربٍ مسلحة، كان العراق بدوره يشهد تقلباتٍ سياسيةً أدّت إلى نهاية التوازن الحضوري في السلطة بين الشيعة والسنّة والعلمانيين المتحالفين مع أحزاب سنّية، بدايةً من انقلاب حزب الدعوة بدعمٍ إيراني على نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2009 وعدم قبوله بخسارتها، ومن ثمّ تشكيل حكومة بقيادة نوري المالكي من جديد، ووصولاً إلى إخراج أهم القيادات المناوئة والمنافسة له من السلطة أو من العراق كله، مثل ما حدث مع طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب أسامة النجيفي بين عامي 2013-2014، واللذين كانا يشغلان أعلى منصبين سياسيين من حصّة السنّة في البلاد. وعلى التوازي، كانت احتجاجاتٌ ضد التهميش وإبعاد السنّة من السلطة وتنامي السطوة الإيرانية قد اندلعت في مناطق محدودة في بغداد وفي عموم المحافظات الغربية بدءاً من عام 2012 وبلغت ذروتها في ربيع 2013. وأسوةً بالسيناريو السوري، قرّرت حكومة المالكي مواجهتها بتحريك القوات الأمنية وقطعاتٍ من الجيش نحو محافظات غرب العراق، وانطلقت مواجهاتٌ عسكريةٌ أخذت مرةً أخرى طابعاً دموياً وطائفياً.
مع هذين المسارين لتطور الأحداث السورية والعراقية، والدعم العسكري المفصلي والمباشر الذي قدمته إيران لنظامي البلدين، وبروز دور قائد الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، كمهندس عملياتٍ في البلدين، ودخول العراق فعلياً إلى حلف الممانعة، طفا إلى السطح ما ستبني عليه حكومات إيران والعراق (علناً) وسوريا (بأشكال أقل علنيةً) خطابها لاستقطاب وحشد المقاتلين الشيعة في الميليشيات الآخذة بالتشكُّل حديثاً تحت إشراف سليماني وبعد انتزاع فتوى الجهاد الكفائي من المرجع الشيعي الأهم في العراق؛ علي السيستاني في العام 2014. ارتكز الخطاب على أنّ سنّةً في سوريا حملوا السلاح ضد حكمٍ علوي، وسنّةً في العراق فعلوا الأمر ذاته ضد حكمٍ شيعي، ويجمع الحُكمَين فوق ذلك تحالفٌ راسخٌ مع النظام الإيراني في محور الممانعة الآخذ بالاتساع نحو العراق واليمن، والذي سيبرُز الحرص على التعريف عنه في وسائل إعلام المحور على أنه جبهةٌ واحدةٌ باسم «المقاومة والممانعة»، بما صارت تحمله هذه التسمية من حمولاتٍ جديدة بعد العام 2011، حيث ممانعة الغرب الاستعماري وإسرائيل من جهة، وكذلك مقاومتهم من خلال التصدي العسكري المباشر «لعملائهم وأدواتهم». للمزاوجة بين الشعارات، سيستخدم المحور في تجييش المقاتلين خطاباً يشجّعُ على مواجهة القوى الغربية، ولكن أكثر من ذلك حماية العتبات المقدسة في سوريا، وبما ينطوي على ترجمة دعوات الحماية في شعاراتٍ طائفية مثل «يا لثارات الحسين» و«حتى لا تُسبى زينب مرتين».
الميليشيات العراقية تدخل سوريا
في أيار (مايو) من عام 2012، وخلال حفلٍ ديني شهدته مدينة النجف، مَنَح وكيل وزارة الأوقاف السورية، بالنيابة عن بشار الأسد، وسام الجمهورية السورية لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر «تثميناً لمواقفه الإيجابية تجاه الأحداث في سوريا»، ولعلّ هذه أولى الإشارات الواضحة إلى انخراط مقاتلين عراقيين مقرّبين من الصدر في المعارك الجارية على الأراضي السورية. لم يُعلن الصدر في أيّ مرةٍ قتال عناصر تابعةٍ له في سوريا، ثمّ قلّبت سنواتٌ من المعارك مقتدى الصدر وأخرجته عن صمته بشكلٍ مفاجئ، ليدعو بشار الأسد في ربيع العام 2017 للتنحي وإخراج جميع القوات الأجنبية من سوريا، بيد أن القوات الميليشيوية العراقية كانت في أوج انخراطها في الحرب السورية، بل ويقود أوس الخفاجي، مساعد مقتدى الصدر في جيش المهدي «المُنحل» عام 2004، أكبر فصائلها وأوّلها انخراطاً في الحرب السورية؛ لواء أبو الفضل العباس.
كما أن أكرم الكعبي، قائد الميليشيا الكبيرة الأخرى؛ حركة حزب الله النجباء، كان أيضاً من ضمن عناصر جيش المهدي والتيار الصدري. ويبدو أن تبدُّل موقف الصدر من بشار الأسد كان انعكاساً لعدم رضاه عن انشقاق مَن كانوا يعملون تحت لوائه واستقلالهم في ميليشياتٍ يقودونها بأنفسهم مع تبعيةٍ كاملةٍ لإيران التي حلّت محله. هذا لا يمنع الأثر الكبير للتيار الصدري على الميليشيات العراقية في سوريا إلى اليوم، حتى أن أحدها، ورغم أنها ولائيةٌ وليست صدرية، فإنها تحمل اسم أبرز مؤسسي حزب الدعوة الإسلامي؛ محمد باقر الصدر.
وقد اتّسع انتشار المقاتلين الشيعة الأجانب وصار انخراط الفصائل العراقية منذ العام 2013 أكثر أهميةً ووضوحاً في الحرب السورية، ليس فقط في محيط دمشق وحول مقام السيدة زينب، وإنما أيضاً في حلب وريفها؛ خصوصاً داخل وفي محيط قريتي نبّل والزهراء. توالدت الفصائل العراقية من بعضها وحصلت فيها انشقاقاتٌ كثيرة، بالديناميكية ذاتها التي اتّسم بها الجيش السوري الحر، كما انتقلت بعض الفصائل إلى سوريا بعد انتهاء المعارك ضد تنظيم الدولة في العراق عام 2017، على أنّ هذه الانشقاقات ووجود عشرات الميليشيات بأسماء مختلفة، لم يُخرجها يوماً عن سيطرة الناظم الإيراني لعملها، والذي كان بمقدوره النجاح في إدارة الخلافات فيما بينها وضمان ألا يتغير أي ولاءٍ نتيجة الخلافات والانشقاقات. كما لم تعد هذه الميليشيات عراقيةً صرفة، بل دخل فيها عناصر سوريون كثر من البلدات الشيعية الأربع في الشمال السوري، وحازوا مواقع قيادية، ولكنهم ظلوا أقل شأناً وتأثيراً من نظرائهم العراقيين رغم أعدادهم المتزايدة داخل هذه الميليشيات، ما دفع علي حسن عجيب جظة، المنحدر من بلدة نبل والملقب أبو عجيب السوري، إلى قيادة ما يشبه الانشقاق داخل لواء أبو الفضل العباس نتيجة تزايد الخلافات بين السوريين والعراقيين وبعد موت مؤسِّسيه، ما أدى إلى وضع السوريين تحت قيادته، في حين صار العراقيون تحت قيادة هيثم الدرّاجي.
لا يمكن حصر حضور الميليشيات العراقية بمقاتلين منخرطين في مشروعٍ إيراني، بل إن الحكومة العراقية نفسها متورطة في القتال، ليس فقط لكون هذه الميليشيات تتبع لأحزاب وسياسيين عراقيين هم جزءٌ من السلطة الحاكمة، أو انتساب قسم من الميليشيات إلى الحشد الشعبي الذي بات فيما بعد قواتٍ نظامية تتبع للجيش العراقي دون أن يكون للجيش سلطة فعليه عليه، بل أيضاً من خلال حضور فوج قوات التدخُّل السريع (سوات) التابع للداخلية العراقية، حيث ظهر عناصر يرتدون زيه الرسمي في عددٍ من المعارك على الأراضي السورية.
اليوم، بعد سنواتٍ من انخراط الميليشيات العراقية في الحرب السورية، يبدو أنها لم تستفد في سوريا بقدر ما استفادت في العراق، حيث صارت تدير اقتصاداً أضخم بكثير من اقتصادها المحدود في سوريا، وتُشكِّل جزءاً وازناً من مفاصل الدولة والحياة السياسية فيها. لهذه الميليشيات مساحة محدودة في الاقتصاد السوري، تعتمد أساساً على إدارة مناطق السياحة الدينية في سوريا والاستفادة من عوائدها، والاستثمار في المناطق التي يزورها العراقيون وعموم الشيعة. في حين أنها على الأراضي العراقية صارت تستنسخ تجربة الحرس الثوري الإيراني، وآخر ذلك تأسيس شركة عامة تحت مسمى «المهندس» ترتبط بهيئة الحشد الشعبي.
المكسب الأهم للميليشيات من قتالها في سوريا هو تقوية صلتها بطهران، وما لذلك من انعكاساتٍ جوهرية على ثقلها فوق الأراضي العراقية؛ حيث ترعى إيران طيفاً واسعاً من القوى السياسية الشيعية وتتحكم بها بشكلٍ كامل. في حين ثمّة مكاسب أخرى هي التي باتت طاغيةً على وسائل التواصل الاجتماعي رغم أنه لا وزن فعلياً لها، ومنها رفاهية الذهاب إلى قبرٍ يعتقد البعض أنه ليزيد أو معاوية، والبصق عليه أو ضربه بالأحذية. ولكنّ هذا ما يفتح الباب أمام التساؤل الأهم: هل كان ذلك يستحق بذل مئات الأنفس واستعداء شعب بلدٍ جار والاصطفاف إلى جانب «يزيدٍ» جديدٍ لم يفرّق بطشه بين بغداد في 2009 وحلب في 2015؟