في أصلها اللغوي، تُفيد كلمة أورينت الإنكليزية دلالتي الشرق والنهوض (الدلالة الأخيرة مهجورة اليوم)، يبطّنهما معاً نهوض الشمس من مرقدها الشرقي، أي بزوغها أو شروقها. كلمة الشروق العربية تُفيد دلالتي أصل كلمة أورينت الإنكليزية التي ظلّت تدل على الشرق القديم كإسم، لكنها انفصلت عنه كفعل، فصارت تُفيد الوجهة أو القصد. كانت وجهة الأوروبيين الأقدم في قارّتهم الصغيرة، الباردة، محدودة الموارد، هي الشرق، وذلك حتى نحو نصف ألفية خَلَت من السنين. كان الشرق هو القِبْلة. وفي صيغة «أورينتيشن»، تفيد الكلمة التوجُّه، سواء فيما يخصُّ الأشياء من أبنيه وغيرها، أو الأشخاص أو ثمرات أعمالهم. وفقدان التوجه، «دِسأوريَنتيشن»، هو حالٌ مرضية يفقد فيها المرء معرفة موقعه ووجهة حركته، لكنها يمكن أن تتطور إلى فقدان معرفة النفس وحس الوقت. على أن الكلمة قد تُطلق في حالات مخففة على اضطرابٍ في التوجه في الحياة بفعل أزمة أو خسارة. 

تتعارض هذه الدلالات اللغوية مع مركزية الغرب الحديث والمعاصر. صار الشرق فضاءات مُحتقَرة كثيراً أو قليلاً، تُوزَّع إلى شرق أدنى وأوسط وأقصى، منسوبة إلى مركز غربي ثابت في أوروبا. ونشأ «علمٌ» بحاله اسمه الاستشراق، يدرس فيه الغربيون هذه الفضاءات، متراوحين بين تسامح مترفِّع وازدراء صريح.  

جذرُ كلمة غرب في العربية غني بالقدر نفسه، لكن دلالاته الأصلية مغايرة تماماً وأقرب إلى السلبية. الغرب هو موقع غروب الشمس. والغروب يُستعار للأفول، بما في ذلك الموت. والغريب هو الشخص في غير دياره، كما هو صفة للأشياء غير المألوفة. والغربة هي عيش المرء بعيداً عن موطنه، وهي تجربة مشفوعة بالحنين والحزن. فكأن الغروب يَقرِن الغرب بالنهاية، والغربة بالنأي عن الوطن، مع المصاحِبات الشعورية لذلك. 

وتُضمِر الدلالة المعجمية أن الغريب هو الغربي أو من في حكمه، وهو كذلك ما نستغرب من أشياء تبدو خارج مألوفنا. وبالدلالة المعجمية كذلك، يبدو التغريب هو الطرد إلى الغرب، وليس إلى الشرق أو الشمال أو الجنوب. وقد يكون هو الهجرة غرباً مثلما في تغريبة بني هلال. وربما تستعار التغريبة لعيش المرء بعيداً عن الأهل والخلّان، وفي شروط قاسية، مثلما تكلَّم فرج بيرقدار في كتابه خيانات اللغة والصمت، عن «تغريبتـ»ـه في السجون السورية. 

هذه الدلالات اللغوية تتعارض مع موقع الغرب في إدراكنا اليوم، مثلما تتعارض دلالات «أورينت» التوجُّهية مع دلالاته الجغرافية والتاريخية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. قبل كل شيء كان الغرب في آخر ثلاثة قرون موضع التجدد والفتوّة والحيوية والمستقبل، وليس موضع الأفول بحال. وخلال هذا الوقت كان يبدو أنه مستقبلُ العالم، يتطلع كثيرون منا، ربما أكثرنا، إلى أن نشبهه كي نَقلَّ غرابة. الغريب يكاد يكون غير الغربي بالأحرى. والمرء يستغرب أشياء غربية أقل مما يستغرب غيرها. ولم تنجح دعوة حسن حنفي إلى إقامة علم استغراب، نتناول نحن العرب والمسلمون الغرب فيه، مثلما تناوَلَنا الغرب في الاستشراق. والأرجح أن في جذر ذلك أننا لا نستغرب الغرب، مثلما استغربَنا الغرب حين طلع بالاستشراق، ولأن علاقة القوة الشارطة للاستشراق، على نحو ما تقصَّاها إدوارد سعيد في كتابه الشهير، غائبة في علم الاستغراب الحنفي الذي يقوم بالأحرى على علاقة ضعف إن جاز التعبير، أو على شعور ذاتي بالغضب و«الغيرة الحضارية»التعبير لميشيل فوكو، في مقابلة أجراها معه الراحل فارس ساسين. يقول فوكو إن هناك غيرة حضارية في الغرب من الثورة الإيرانية 1979، تظهر في شكل تشكك في أن تلك المجتمعات يمكن أن تعرف بالفعل ثورات:«لن يقوموا بثورة ناجحة بأساليبهم الخاصة ونحن فشلنا عندما اعتمدنا أساليبنا، سبقناهم إلى فكرة الثورة، واخترعناها، وبلورناها ونظّمنا حولها معارف وعلوماً وأدخلناها في إطار النظم السياسية والحزبية، لذا لن ينجحوا هم حيث فشلنا نحن». على أن فوكو يضيف إنه ليس شديد الثقة بهذا التفسير. ولا ريب في وجود وعمق شعور الغيرة الحضارية من طرفنا، وقد كان دافعاً لبعضنا إلى «اللحاق بالركب الحضاري المتقدم»، ولبعض آخر إلى الاستقلال «والتنمية المتمحورة حول الذات»، ولِآخرين إلى «الإرهاب». يفشل في مَوْضَعة الغرب ودراسته. 

قد يكون الحدث المؤسس للغرب الحديث هو الكشوف الجغرافية التي وسّعت آفاق الأوروبيين ونَشرَتهم في العالم فاتحين، متعزّزي الثقة بأنفسهم، وطورت عبر هذه التجربة الرائدة قدرتهم على التوجُّه في العالم. حين اكتشف كولومبس أميركا كان يُشرِّق بطريق آخر، يقصد الهند. لقد تشكَّلَ الغرب الحديث بدءاً من خطأ في التوجُّه. خطأ التوجُّه هذا مهّد لثورة في التوجه وفي الجغرافيا، وفي وعي الغرب لذاته، وقَلَبَ العالم رأساً على عقب. ويُخيَّل للمرء أن الحرية هي بقدر طيّب نِتاج تجربة التوسع و«الفرفدة» هذه، وما قامت عليه من حركةٍ وجَوبِ آفاقٍ وإحاطة بالعالم (بالدلالتين الحرفية والمعنوية لكلمة إحاطة)، وما أثمرته من شعور بالسيادة والقدرة.   

وعبر العقود والأجيال والقرون، صار الغربي يشعر بأنه في بيته حيث كان في العالم، بينما صار أكثر اللاغربيين، ومنهم بلا شك العرب، يشعرون أنهم غرباء، حتى في أوطانهم بقدر ما.

* * * * *

على أن الوضع الموصوف هنا ليس وضع اليوم، بل ربّما البارحة. ينطوي بتسارعٍ اليومَ عهدُ الغرب الحديث الكلاسيكي الذي ناضل وطنيو العالم الثالث ومثقفوه للتحرر من استعماره، لكن متمثلين قيمه المتصلة بالتنوير والعقلانية والديمقراطية والاشتراكية. غربُ عبدالله العروي وياسين الحافظ لم يعد موجوداً. الغرب ما بعد الحداثي يشكك قبل غيره في التقدم والعقل، ويطالب لنفسه اليوم بالخصوصية أكثر من الكونية، والديمقراطية فيه في أزمة. 

حين كتب هيغل أن تاريخ العالم يتحرك من الشرق إلى الغرب، وأن آسيا بدايته، كان يصف واقعاً مُعايَناً في زمنه، قبل قرنين ونيّف من اليوم. كان منحازاً على نحو مألوف جداً من مُجايليه حين قرر أن أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق. هي نهاية تاريخ محدد وعالم محدد، ويبدو أن هذه النهاية متجهة إلى الانتهاء اليوم. 

ويعرض العالم اليوم انقساماً بنيوياً وغير متوافق مع انقسامه الشرقي الغربي السائد في ثقافتنا، ولعله يُفاقم مشكلة التوجه الخاصة بنا. إنه الانقسام بين شمال وجنوب، مما لا يبدو أنه حاضر في تفكيرنا بقدر ما هي الحال في أفريقيا وأميركا اللاتينية والهند. معيار التمايز في التقابل الغربي الشرقي اليوم هو ثقافي حضاري، بينما هو اجتماعي اقتصادي حقوقي في التقابل الشمالي الجنوبي. والتوجُّه السياسي القيمي المتصل بالتقابل الأخير، بخلاف الأول، مفتوح على النضال وعلى التغير وعلى تجاوز التمايز والتمييز. وفي الوقت نفسه، هناك توجه حياتي، إن جاز التعبير، متصل بالتقابل الجنوبي الشمالي هو الهجرة واللجوء. كان الغرب مقصد متعلمين ومثقفين من «الشرق» كي يتعلموا، وربما ينالوا الاعتراف، أما الشمال فهو مقصد جمهرات شعبية تبحث عن حياة وعن مستقبل بعيداً عن جنوب مُفقَر وغارق في التدمير الذاتي و«الموضوعي». 

وبعد «أزمة اللاجئين» عام 2015 ومطلع 2016 اتجهت النافذة التي فتحها لاجئون سوريون وغير سوريين إلى انغلاق متزايد الإحكام. وقد يمكن التفكير في هذه الهجرة الجنوبية كشكل آخر لمفعول البوميرانغ المرتبط بالإمبريالية، كان شكله الأول بحسب حنة آرنت وإيميه سيزار ارتداد الاستعمار ومناهجه إلى أوروبا عبر النازية. الهجرة تُغير أوروبا، ليس باتجاه ما يُحذِّر منه اليمين المتطرف من «إحلال كبير» وأسلمة، بل باتجاه مجتمعات ما بعد هجرية تطرح سلفاً سؤال الاندماج لا على المهاجرين وحدهم، بل على الأكثريات الأصلية كذلك، مع كل ما يُحتمَل أن يتضمنه ذلك من مشكلات وتوترات، وربما عنف. ولا يبدو أن هذا الشرط يجد انعكاسه النظري في الفلسفة الغربية. الفلاسفة لا يزالون غربيين جداً، ما قبل هجريين. 

مجتمعاتنا أيضاً مجتمعات ما بعد هجرية بصورة ما، مُهجِّرة للبشر، وصارت أفقر بشرياً وثقافياً وسياسياً (وإن ربما «أكثر تجانساً» مثلما أراد بشار الأسد). بلجوئهم إلى الشمال، صوت اللاجئون الجنوبيون، لمصلحة مجتمع حقوق يمكن التخطيط للحياة فيه. بحركتهم ذاتها مَحَوا الحدود، قالوا إن «جمهورية» اللاجئين لا تعترف بالحدود بين الدول، بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. 

شكلا ما بعد الهجرية الشمالي والجنوبي يبدوان مترابطين، وثيقا الصلة بأوضاع التفاوت واللامساواة في عالم يزداد ترابطاً، على نحو يدعو إلى معالجتهما معاً والبحث عن حلول لهما معاً. ليس انتقال الجميع إلى أوروبا هو الحل، وهو يتسبب منذ ما قبل الآن بردود فعل عدائية. ولكن ليس الحل كذلك استمرار أوضاع اللامساواة والتمييز على مستوى العالم، وعلى مستوى البلدان المصدِّرة للاجئين. ربما نحتاج إلى تخيُّل كومونولث عالمي، ما بعد قومي وما بعد سيادي، تتوزع فرص الرفاه والحقوق فيه بصور أقل تفاوتاً. 

* * * * *

لا تحل ثنائية شمال- جنوب مشكلات التوجه الخاصة بنا، ولا يمكنها إلغاء ثنائية غرب- شرق. هناك نسقان من المشكلات متصلان بمحوَري الانقسام هذين. انقسام غرب- شرق تحوَّل في العقود الأخيرة باتجاه حضاري وثقافي وهوياتي، يُحيل إلى جيل أقدم من المشكلات غير المعالجة وغير المحلولة، تتصل بالتاريخ الاستعماري وبقضية فلسطين، وتمثيلاتهما «الطائفية» من الجهتين. الانقسام الآخر أحدث، ينفتح على تفكير وممارسات أكثر عقلانية وتحررية من غرب- شرق. وله فضلاً عن ذلك ميزة مهمة: العالم كله شمال وجنوب، ويغلب أن يجري الكلام على شمال عالمي وجنوب عالمي (غلوبال نورث وغلوبال ساوث)، في إشارة إلى أن هذا التقابُل يُضمر عمليات وديناميات عالمية، وإلى الإطار العالمي لمعالج مشكلات هذا التقابل. أما التقابل الغربي الشرقي فكان يترك مناطق واسعة من العالم في موقع ضائع، لا شرقية ولا غربية.وهذا بالمناسبة من شعارات الإسلاميين في سبعينيات القرن الماضي. يوجه العبارة القرآنية الواردة في سورة النور: «زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو تمسسه نار، نور على نور…» باتجاه تميُّز إسلامي عن المعسكرين الشرقي والغربي، السوفييتي والأميركي، في سنوات الحرب الباردة. ويكثف الشعار تطلعات نظام الخميني الذي يُعتقَد أنه رفعه أثناء الثورة الإيرانية في صيغة: لا شرقية ولا غربية، جمهورية إسلامية! لكن ليس واضحاً متى وأين ظهر الشعار أول مرة. 

ولعل في هذا ما يدعو إلى إعادة تصور نسق مشكلات غرب- شرق ذاتها على أرضية نسق مشكلات شمال- جنوب، مع ما يقتضيه ذلك من تغير في الحساسية والتوجه، ومن أفق عالمي.