يعيش الكيماوي مع شهوده إلى الأبد. يتعامل ذهنهم كل يوم مع مشاهد الجريمة التي خنقت الضحايا مرةً، وتخنق ذويهم والشهود والناجين والناجيات في كل يوم.
عشر سنوات مرَّت منذ مجزرة الغوطة في 21 آب (أغسطس) 2013، ومنذ أن تَبنَّى مجلس الأمن القرار 2118، الذي أقرَّ صفقةً روسية أميركية تقضي بأن يُسلِّمَ الأسد سلاحه الكيماوي مقابل إفلاته من العقاب. وخلال هذه السنوات، ملأت ذاكرة الشهود وذوي الضحايا أهوالٌ كبيرة وكثيرة، مئات الضربات وأكوامٌ من التحقيقات، وإنكارٌ أدواته ترهيبُ الشهود والتلاعبُ بالأدلة والبروباغندا وشهود الزور.
يتصل صديقٌ ليطلبَ مشاركة رقم هاتفي مع صحفي يُعِدُّ تقريراً عن الذكرى العاشرة لمجزرة الغوطة. اعتذرتُ عن التحدُّث كشاهد عن تلك الليلة، وأوضحتُ رغبتي بالتحدُّث عن عشر سنوات تلتها، حيث آلام الناجين والشهود لا تقلّ عن شعور الاختناق بالسارين.
في ذاكرتي فجوةٌ من السابعة والنصف صباحاً حتى السادسة مساءً من يوم 21 آب 2013، إذ يبدو أن ما رأيته كان أقسى بكثير من أن أتذكَّره، فحاول ذهني أن يدافع عن نفسه بالنسيان. إذا كان حفظُ الذاكرة هو وسيلتنا الدفاعية ضد النسيان والتهاون مع المجرم، فإن النسيان هو وسيلتنا الدفاعية ضد الاختناق كل يوم.
في صيف 2016 كتبتُ مقالاً في الذكرى السنوية لضربة الغوطة الكيماوية، وصفتُ فيه كيف يحاول الصحفيون توضيحَ هول المجزرة باستحضار القصص الشخصية، تماماً كما يستحضرون ذاكرتنا عن ظروف الغوطة وحصارها لكي ينقلوا الصورة إلى جمهورهم، وكيف يَحفرُ كل سؤال جرحاً جديداً في نفوس الشهود، كيف تقتلنا الأسئلة عن البديهيات، عن حصار الغوطة وعدم وجود معدات للتعامل مع السلاح الكيماوي، عن عدم وجود كهرباء، عن عدم كفاية الكادر ليقوم بتوثيق كافة الحالات أثناء المجزرة.
لم يُنشَر المقال وقتها، وعند حدوث ضربة خان شيخون بعد 8 شهور وافقت New York Books على نشر المقال. لاحقاً، انتحلَتْ إحداهنَّ شخصية صحفية واتصلت بي مصطنعةً اهتمامها بالمقال، وبعد عدة أسئلة اكتشفتُ أنها تحاول شقَّ جرح آخر في الذكريات، بشكل يتعمَّد السخرية من كل ما ذكرته عن آلام الشهود عندما تُوجَّه لهم الأسئلة؛ كانت تتعمَّد أن تطلب مني إعادة ما قُلته عدة مرات مُتذرِّعة مرةً بسوء التسجيل، ومرةً بعدم وضوح الفكرة. بعد ذلك تحقَّقتُ من أن الاسم الذي استخدمَته كان لأحد آخر.
ساديٌّ هذا النظام هو وكُلُّ أنصاره، ساديٌّ ومكيود ولا مُسوِّغَ لاستخدامه الكيماوي غير ذلك.
بعد عشر سنوات نحاول الحفاظ على الذاكرة، الذاكرة كوسيلة لحفظ الحقيقة، كرصيفٍ لطريق المُساءلة الطويل، الذاكرة المليئة بالآلام والاختناق وسادية النظام، الذاكرة التي لا يستطيع أن يداويها النسيان.
ضربة 21 آب 2013 الكبرى هي الضربة الكيماوية رقم 32 في سوريا، والضربة رقم 10 في الغوطة. منذ تلك الضربة كنتُ صِلةَ الوصل لعشرات الشهود مع لجان التحقيق المختلفة التي حققت في ضربات الكيماوي في سوريا. هناك على الأقل خمسة فرق تحقيق دولية حقّقت في هذه الضربات، التي تجاوز عددها الـ 200 ضربة في عشر سنوات.
يُقدِّمُ الشهود شهاداتهم مرة أو مرتين، أو عدة مرات إذا كان حظهم سيئاً وعثرت عليهم كلُّ اللجان التي حققت بشكل متكرر في بعض الضربات، سواء لاختلاف صلاحيات هذه اللجان، أو اختلاف منهجياتها. عَصرُ الذهن وشحذُ الذاكرة لاستحضار اختناقك، أو وصف آخرين يختنقون أمامك، مؤلمٌ بقدر الاختناق أو أكثر. وصفُ الجثث المتناثرة يجعلك تشمُّ رائحة الموت مرةً أخرى.
المحققون، وخاصة عندما يعملون في سوريا، يدركون أن مجال الخطأ معدوم، حيث الحليف الروسي للنظام يهاجمهم كأفراد وكمؤسسات، فيكونون حذرين جداً، وبالتالي يبدو التحقيقُ صارماً أكثر ممّا يحتاج وضوحُ الحقيقة. يُثير هذا حفيظةَ الشهود، وفي معظم الأحيان غضبهم.
بالنسبة إلى طبيبٍ يعمل في مشفى كبير مثل مشفى إدلب المركزي أو مشفى معرة النعمان على سبيل المثال، وهما المشفيان اللذان استقبلا حصةً كبيرة من ضحايا ضربات الكيماوي في شمالي سوريا، فإنه سيقدم شهادته بشكل متكرر، إذ يتم تحويل كثير من الحالات إلى مشافٍ كهذه بسبب قدراتها الأعلى. في البداية كان الأطباء يرغبون في تقديم شهاداتهم، وكانوا يسألون دائماً عن: «كيف» يجمعون الأدلة؟ بعد سنوات طويلة من التحقيقات وعدم وجود أي تحرُّك فعلي من المجتمع الدولي، بدأوا يسألون: «لماذا» يجمعون الأدلة؟
على مدار عشر سنوات، انتقلت تساؤلات الشهود من التَحقُّقِ من هوية فرق التحقيق (إذ تعرَّضوا لمحاولات اختراقٍ من النظام)، إلى سؤال الجدوى من كل هذه التحقيقات: «بتعرف يا دكتور محمد، إذا بيجيني طفل صغير مكرِّب على المشفى وبيكون بده وصفة بسيطة، أشرف مليون مرة ما أترك مناوبتي وروح قدم شهادتي. لو بدهم يعملوا شي مالهم منتظرين تحقيقات»؛ يجيب أحد الأطباء على طلبي تقديم شهادته لأحد فرق التحقيق.
حين أنهى الفيتو الروسي عام 2017 تجديد التفويض لآلية التحقيق المشتركة التي أنشأها مجلس الأمن في العام 2015، قامت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بتشكيل فريق للتحقيق وتحديد الهوية في سابقة لم تحصل من قبل، إذ كانت فرق المنظمة تُحقِّقُ في الحادثة دون أن تملك صلاحية تحديد هوية الفاعلين. كان هذا تطوراً ملفتاً، في حين كان من الصعب أن أشرح للشهود لماذا عليهم تقديم شهاداتهم مرة أخرى عن الحادثة نفسها لفريق تحقيق آخر من المنظمة نفسها.
تُشكِّلُ الشهادات والتحقيقات جزءاً مهماً من ذاكرة السوريين حول الكيماوي. حصل الكيماوي السوري على نصيب كبير من التحقيقات، ليس بسبب اهتمام المجتمع الدولي به بشكل كبير، بل كبديل عن فعل شيء. لقد أَلهَونا بالتحقيقات.
صدرت سبعة تقارير من آلية التحقيق المشتركة JIM، وثلاثة تقارير من فريق التحقيق وتحديد الهوية IIT وعدة تقارير من لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا COI، وجميعها أدانت النظام بعشرات الضربات. بالمقابل، واظبَ النظامُ على الإنكار، واستخدم ترهيبَ الشهود في كل جرائمه كتكتيك أساسي ضمن سياسة الإنكار: «مرحبا كيف حالك؟ مبارح شفت أخوك يلي ساكن في كذا، والله هوي هكلان همك وخايف عليك من قصة الكيماوي»؛ مكالمةٌ تلقَّاها معظم الشهود في ضربة دوما التي حصلت في 7 نيسان (أبريل) 2017 ممَّن هُجِّروا إلى شمالي سوريا. تأتي المكالمة من شبّيح معروف في البلد، ولا تذكر شيئاً آخر خوفاً من أن يكون الشاهد شجاعاً إلى درجة تسجيل المكالمة. يُشير الشبّيح بشكل واضح إلى مكان إقامة أحد ذوي الشاهد، لكي يشرح له أن أهله في متناول يد النظام.
الشهود في مناطق سيطرة النظام رهائن تم تحويلهم إلى شهود زور، والشهود الذين هُجِّروا مع قوافل التهجير يقبعون تحت التهديد بسلامة ذويهم ممّن يقطنون في مناطق سيطرة النظام.
يتصل أحد الشهود بعد منشور لي على فيسبوك عن السلاح الكيماوي: «تصوَّر أنني كنت شجاعاً في تقديم إفادة وشهادة على مجزرة وقعت بحق أهل مدينتي، ثم جبُنتُ عن لايك لك في العلن لعلمي أن عصابة الكبتاجون تُتابع حساباتنا على الفيسبوك»؛ يُكمل الشاهد: «أنت تعلم أن أهلي يُستدعَون بشكل مستمر لأفرع الأمن ليحققوا معهم حول أي اتصال معي».
الإنكار والترهيب يشكلان الركنَ الأكثر ألماً في ذاكرة السوريين حول الكيماوي.
يقدم النسيان حلاً لكل هذا؛ أجبرني دماغي على نسيان 11 ساعة كاملة لهول ما فيها، ولربما يكون النسيان هو الحل، ولكن على العكس من ذلك: يحمي الشهود وذوو الضحايا ذاكرتهم المليئة بكل هذا الألم. هَجَّرَهم الأسد في بقاع الأرض، فعادوا يجمعون أنفسهم ويبنون من شتاتهم قوة يشحذون ذاكرتهم بها ليخبروا العالم في كل عام عن الجريمة التي خنقت ذويهم مرة، وتخنقهم كل يوم، ليُواجهوا البروباغندا والترهيب بكل شجاعة.
بقدر ما يُقدِّمُ النسيان حلاً للشهود، فإنه يبقى أكثر ألماً من كل هذه الذاكرة، وتبقى تلك الساعات التي نسيتُها أكثر ألماً من عشر سنين مليئة بذاك الاختناق، ذلك بينما يبدو أنه من الأسهل على العالم أن ينسى، أو حتى أن يصدق أن الكيماوي لم يحصل وأن تلك الفظائع أوهام، ومن الأسهل على أعضاء مجلس الأمن أن يُقدِّم لهم الفيتو الروسي حلاً يمنع أي جهود حقيقية، ومن الأسهل على الدول الغربية أن تستخدم العقوبات كوسيلة للمُساءلة بدلاً من أن تُحاكم المجرم.
يقول الصديق المصوِّر محمد بدرة، الذي ساهم في توثيق ضربة الغوطة في 2013، عن بروباغندا النظام وإنكاره مجازر الكيماوي: « هم يعرفون أنه من المستحيل تزوير جريمة بآلاف الشهود كما من المستحيل إنكارها، ولكن سيبقى دائماً هناك من يقول إن الإنسان لم يصعد للقمر وإن الأرض مسطحة».
ستبقى الحقيقة أقوى من الإنكار، وسيبقى الناجون من الكيماوي أقوى من الترهيب، وسيبقى ذلك الاختناق أقوى من النسيان.