ها أنا مضطرّةٌ لكتابة هذه السطور من منفايَ في برلين، المدينة التي قصدها كثرٌ من قبلي، بمن فيهم سوريات وسوريون سعوا للخلاص من قبضة نظام بشار الأسد الوحشي. على غرار آلاف النشطاء والناشطات الروس ممّن وقفوا ضد سياسة شنّ الحروب، تعرّضتُ للاعتقال، والغرامات، وأشكال عدّة من العقاب على يد السلطات الروسية، فما كان لي سوى أن أهمّ بالمغادرة لأحميَ نفسي من عنف الدولة المتصاعد ضد الفنانات والفنانين ذوي الصوت العالي الرافض للبطش.
خلال سنوات عملي في روسيا، كنتُ على درايةٍ بما اقترفته قوى بلادي العسكرية ومرتزقتها في جورجيا وأوكرانيا. عقب اجتياح روسيا لأوكرانيا مطلع عام 2022، ازداد التزامي بوجوب إعلاء الصوت لتسليط الضوء على جرائم الجيش الروسي، إن كان من خلال المشاركة في تظاهرات داخل روسيا وخارجها، أو من خلال تنظيم الأنشطة المُندِّدة بالحرب، وتشكيل مبادرة نسوية، وكتابة رسائل تضامن موجّهة إلى المعتقلين السياسيين، والعمل على نشر معرفةٍ أوسع بما يقاسيه المدنيّون المتأثّرون بعنف روسيا وأجندتها الاستعمارية.
بالمقابل، وحالي حال معظم أهل روسيا، لم أكن أمتلك سوى القليل من المعرفة عن ممارسات حكومة بلادي في سوريا وتحمّلها مسؤولية أعداد عالية من الوفيات في صفوف السوريين والسوريات، وسحقها لأحلامهم، ودفعها بالكثيرين منهم نحو الخروج من منازلهم بحثاً عن بقعةٍ آمنة… إلى أن وصلتُ إلى ألمانيا، حيث التقيتُ الكثير من اللاجئات واللاجئين السوريين الذين صادقتُ عدداً منهم.
منذ عامٍ ونيّف تحديداً، أجبرني لقاءٌ مميّز على الانطلاق في مسيرة تثقيف نفسي حول ما جرى ويجري في سوريا وتغيير الطريقة التي كنتُ أتحدّث بها عن انتهاكات روسيا في الخارج. خلال مشاركتي في إضرابٍ عن الطعام استمرّ ثلاثة أيام احتجاجاً على اجتياح أوكرانيا، التقيتُ بأمير، وهو مصوّر صحافي سوري، سرعان ما صار رفيقي وساعدني جداً في تفتيح عينَيْ أكثر على ارتكابات روسيا في سوريا.
في إحدى محادثاتنا الطويلة والصعبة، أخذ أمير يستذكر مشاهد مرعبة عايشها حين كان محاصراً مع آلاف المدنيين في حلب، بما فيها مشاهد قصف روسيا للمشافي والمراكز الصحية، وإصابة والده، الإطفائي، وموته المُفجع إثر القصف الروسي.
في الحقيقة، لستُ أبالغ حين أقول إن تلك المحادثة قَسَمت حياتي إلى نصفين: قبل المحادثة وبعدها.
بعد هذا التبادل الصادق بيني وبين أمير وغيره من النقاشات، قضيتُ أشهراً في حالةٍ من الحيرة، والرعب حتّى: كيف لي أن أستمر في حياتي وكأن شيئاً لم يكن، وكأنني لم أتلقَّ أو أتعلّم شيئاً من الحكايات الشخصية التي وصلتْ إلى مسمعي عن فظائع ارتكبتْها حكومة بلادي بحق بشرٍ أعزّاء؟
في روسيا، لا مجال لنقل هذه الفظائع والانتهاكات إذ تُمحى بشكلٍ ممنهج من إعلامنا وصفحاتنا وتاريخنا. فقط حين وطأتْ قدماي برلين وسمعتُ قصص السوريات والسوريين منهم مباشرةً، بدأتُ أفهم أكثر فأكثر سياسة بلادي في سوريا وما كانت تفعله هناك.
ببساطة، لم أعد أستطيع صرف النظر عن كل ذلك. وعليه، قرّرتُ كسر الصمت المطبق على الملف السوري وإعلاء الصوت ضد الأفعال الوحشية التي بدأتُ لتوّي التعرّف إليها أكثر، والتي تم توثيقها بتأنٍّ على مدى سنواتٍ خلت، قبل شنّ روسيا حربَها على أوكرانيا.
من نافل القول إنني لستُ أنوي بذلك الاحتفاء بنفسي أو بما شعرتُ أنه نوع من أنواع الانتصار. لكن أن نصلَ إلى المعلومات الصحيحة في روسيا يشبه طعمَ الانتصار حقاً، حيث أن تثقيف الذات يشكّل تحدياً جدياً بالنسبة إلينا، وقد يشعر المرء أنه حقق إنجازاً فيما لو نجح في ذلك.
مطلع هذا العام إذاً، قطعتُ على نفسي وعداً بعد إصغائي لكمٍّ من القصص السورية الموجعة، وهو أن أُضيء أكثر على انتهاكات روسيا في سوريا. شرعتُ في هذه الرحلة منطلقةً من كتابة منشور بسيط ومجّاني على صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي. خصّصتُ المنشور لسوريا، في ذكرى مرور عدد محدّد من الأيام على إعلان روسيا عمليّتها هناك، متّبعةً الأسلوب المعتمد لدى إحياء ذكرى مرور العدد كذا من الأيام على اعتقال المعارض الروسي نافالني أو على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا. يوم 10 شباط (فبراير)، تاريخ مشاركتي المنشور، كان قد مرّ 2690 يوماً مُذْ أطلقت روسيا عرضَها الإجرامي في سوريا.
لم أتفاجأ بكون معظم الردود على منشوري تضمّنت اعترافات لأصحابها بجهلهم التام لهذا الموضوع. منذ ذلك الحين، علمتُ أنه عليَّ الاستمرار في تثقيف نفسي والآخرين والأخريات من حولي، ونشر الوعي حول تجاوزات الحكومة الروسية وجرائمها الشنيعة، ولكن أيضاً، حول ما بمقدور المجتمع الروسي المنفي الذي أنتمي إليه أن يفعله لسوريا.
بإمكاننا الوقوف إلى جانب السوريات والسوريين عن طريق المشاركة معهم في التظاهرات المُطالِبة بالمحاسبة والعدالة والحرية. بإمكاننا الوقوف إلى جانبهم من خلال الاحتفال معهم بإنجازاتهم، وليس آخرهم الحملة الناجحة التي قادتها عائلات المعتقلين والمخفيين قسراً لإنشاء آليّة دولية مستقلّة متخصّصة بالكشف عن مصائر ذويهم، وعددهم يفوق المئة ألف، ودعم جهود تلك العائلات المستمرّة حتى اليوم من أجل إجلاء الحقائق ولقاء أحبّتهم من جديد. بإمكاننا الوقوف إلى جانب السوريات والسوريين عبر دعم رحتلهم الشاقة إلى العدالة، بالاستناد إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، في ألمانيا وغيرها من الدول. بإمكاننا الوقوف إلى جانبهم عن طريق دعم الخوذ البيضاء وجهود المجتمع المدني السوري. أخيراً وليس آخراً، بإمكاننا الوقوف إلى جانب السوريين والسوريات عبر مواجهة موجة التطبيع التي تزداد رواجاً اليوم مع نظام الأسد.
في آذار (مارس) 2023، شاركتُ في تجمّعٍ في برلين لإحياء الذكرى الـ12 للثورة السورية. رأيتُ فتاةً توزّع أحجاراً نُقش عليها العلم السوري، فيما كان بالقرب منها شابٌ يلوح بالعلم الأوكراني. حسٌّ ملموسٌ من الرفاقية بينهم. شيء جديد هنا يستحق الاحتفال. بطريقةٍ ما، أصبح المشاركون والمشاركات في التجمّع مقرّبين بعضهم من بعض؛ وكأنهم أعضاء الجبهة نفسها ضد قوّة عدائية إمبريالية واحدة.
في تلك اللحظة، عرفتُ أن الثورة السورية مستمرّة في نفوس هؤلاء الناس. إذا كانوا لم يستسلموا بعد، فعلينا نحن أيضاً ألا نستسلم.