قبل أربع سنوات أشرتُ في مقدمة كتابي النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز إلى ماهية الهامش بالأفكار التالية:
«أن تحيا على الهامش يعني أن تكون جزءًا من الكل، غير أنك تقع خارج بنيانه الحيوي. حينما كنا نعيش، نحن الأمريكان السود، في بلدة صغيرةٍ بولاية كنتاكي، كانت قضبان السكة الحديد تذكرنا كل يوم بهامشيّتنا. ففي الجانب الآخر من تلك القضبان كانت ترتسم طرقات مرصوفة مشغولة بدكاكين مغلقة في وجوهنا، ومطاعم لا يُسمح لنا أن نأكل بها، وأناسٍ حُرم علينا النظر في وجوههم. كان العالم في ذاك الجانب الآخر يجيز لنا أن نشغل فقط وظائف الخدم أو البوابين أو الداعرات، أو أيَّ وظيفةٍ مماثلةٍ طالما أنَّ قوامها تقديم الخدمات. كان يمكننا أن ندخل إلى ذلك العالم، لكننا لم نملك أبدًا أن نحيا فيه. كان يتحتّم علينا دومًا أن نعود إلى الهامش، أن نعبر القضبان إلى أكواخٍ وبيوتٍ مهجورةٍ على أطرافِ البلدة.
كانت عودتنا أمرًا يفرضه القانون. ألّا تعود يعني أن تخاطر إذن بسلامتك من التأديب والعقاب. وحيث كانت حياتنا هكذا، طوّرنا نمطًا فريدًا لرؤية الواقع؛ راقبنا ذلك العالم الخارجي من الداخل كما رأينا عالمنا الداخلي من الخارج. وجهنا انتباهنا إلى المركز والهامش على السواء. ثم فهمنا كليهما. كانت هذه الرؤية للواقع هي ما نبّهتنا إلى إدراك كُلّيّة هذا العالم كبنيانٍ حيويِّ يتأّلف من هامشٍ ومركزٍ معًا. ومن هنا اعتمد بقاؤنا على وعيٍ عامٍ يقظٍ ومدركٍ للتمييز الحاصلِ بين الهامش والمركز، وكذلك اعترافٍ داخليٍ متجددٍ بأنَّنا جزءٌ أصيلٌ وجوهريٌّ من ذلك الكل.
إن إدراك تلك الكُلّيّة –التي هي أثر بنية واقعنا اليومي في وعينا– أتاح لنا رؤيةً معارضةً للعالم. هذه الرؤية -التي يجهلها مضطهدونا- هي ما دعمتنا وعضدتنا في كفاحنا لتخطي حواجز الفقر واليأس، وهي ما عززت تقديرنا لذواتنا ووطدت تضامننا».
ورغم عدم تمام الأفكار، كنت أسعى بها إلى طرح تصوّرٍ لماهية الهامش أعقد من كونه فقط بيئةٌ للحرمان. والحق أنني كنت أسعى للقول بعكس ذلك تمامًا، وهو أنّ الهامش كذلك مستقَرٌ محتملٌ للقيم الراديكالية، أي أنه ساحةٌ للمقاومة. هذا التصوّر للهامش هو تحديدًا ما أردت به أن يكون محور تأسيس خطابٍ مواجهٍ للسلطةِ، بحيث يتجاوز هذا الخطاب حينئذٍ الكلمات والشعارات ليتجسّد في العادات وفي أنماط الحياة. وعليه، فأنا لم أكن أتحدث عن هامشٍ قد يرغب المرء أن يفرّط فيه أو يتنصّل منه أو ينصرف عنه مرتحلًا إلى المركز، بل عن هامشٍ يقيم فيه ويتمسك به، ذلك لأنه من شأنه أن يعزز دوافع المرء للمقاومة، وأن يطرح آفاقًا راديكالية يمكن للمرء من خلالها أن يرى ويصوّر، بل يستبصر عوالم بديلة.
إن هذا التصور للهامش ليس أسطورةً أو خيالًا، إنما هو وليد الحياة الواقعية. إلا أنني أرغب في أن أتحدث هنا عن حقيقة المشقّة التي يستلزمها التمسك بتلك الهامشية، حتى عندما يعمل المرء أو ينتج أو يعيش -إن جاز التعبير- في المركز ذاته. أنا لم أعد أعيش في ذلك العالم المعزول الذي تحدّه قضبان السكة الحديد. في ذلك العالم كان عصب الحياة هو الوعي الدائم بحتمية المقاومة. حينما يغنّي بوب مارلي «نرفضُ أن نكون مثلما تريدوننا أن نكون، سنظل كما نحن، وهكذا فقط سيستمر الحال…». فإن مساحة الرّفض هذه – حيث يمكن لأحدهم أن يُجابهَ المستعمر أو المستبد– محلها هو الهامش. ولا يسع المرء إلا أن يقول لا، ويتحدث عن صوت المقاومة، ﻷن فيه لغة مضادة. وبينما قد تشبه هذه اللغة لسان المستعمر بطريقة ما، فقد وجب عليه الخضوع للتحول. وقد تغير حقًا بلا رجعة. عندما تركتُ تلك المساحة الواقعية في الهامش، حملت في قلبي طريقة لمعرفة الواقع تؤكد بصورة مستمرة، ليس أولوية المقاومة فحسب، بل ضرورة وجود نوع من المقاومة مستدام بتذكر الماضي، والتي تتضمن إعادة جمع اﻷلسن المكسورة ومنح أنفسنا طرق للتحدث عن نزع الاستعمار عن عقولنا وذواتنا. قالت لي أمي ذات مرة بينما كنت أستعد للذهاب مجددًا إلى الجامعة التي يهيمن عليها ذوو البشرة البيضاء: «تستطيعين أخذ ما يقدمه البيض إليكِ، لكن ليس عليكِ أن تحبيهم». أعلم اﻵن بعد أن فهمت رموزها الثقافية أنها لم تقل لي أﻻ أحب بشرًا من أعراق أخرى، بل كانت تتحدث عن الاستعمار وحقيقة ما يعنيه أن يعلمك أولئك المهيمنين عليك ثقافة الهيمنة. كانت تصر على استعمال قوتي من أجل فصل المعرفة النافعة التي قد أحصلها من الجماعة المهيمنة، عن المشاركة في طرق المعرفة التي تقود إلى الاستلاب والاغتراب، بل إلى أسوأ من ذلك، أي إلى الاندماج والاستيعاب داخلهم. كانت تقول إنه ليس من الضروري أن أمنح نفسي لهم من أجل التعلم. حتى وإن لم تذهب أمي إلى تلك المؤسسات من قبل، فما زالت تعلم أنني ربما أواجه مرارًا مواقف حيث قد «أُخضَعُ للاختبار»، وأُجْبَرُ على الشعور أن الشرط الرئيسي لقبولي هناك قد يكون المشاركة في هذا النظام التبادلي، وذلك من أجل ضمان نجاحي و«تحققي». كانت تذكرني بضرورة المعارضة وتشجعني في نفس الوقت على عدم فقدان الرؤية الجذرية تلك التي شكلتها الهامشية.
إدراك الهامشية بصفتها موقفًا وموقعًا للمقاومة شيء حاسم للمقهورين والمسُتَغَلِّين والمُسَتَعَمرين. إذا نظرنا إلى الهامش كرمز يشير إلى حالة ألمنا وحرماننا، فسيخترق أساس ذواتنا بصورة مدمرة شعور مؤكد باليأس والعدمية العميقة. فليس هناك موقع أخطر على إبداع المرء وخياله من موقع اليأس الجماعي. هناك يصبح عقل المرء مُستَعَمرًا تمامًا، وهناك يفقد المرء الحرية التي يتوق إليها، ﻷن العقل الذي يقاوم الاستعمار حقًا إنما يناضل من أجل حرية التعبير. وربما لن يبدأ المرء نضاله هذا ضد المستعمر، بل قد يبدأ في عائلته المستعمرة ومجتمعه المفصول عنصريًا. أريد أن أشير إلى أنني لا أحاول إعادة رسم فكرة مساحة الهامشية بصورة رومانسية حيث يعيش المقهورون «أنقياء» بعيدًا عن قاهريهم. بل أريد أن أقول إن تلك الهوامش هي مواقع للقهر كما هي مواقع للمقاومة. وحيث أننا قادرون تمامًا على معرفة طبيعة ذلك القهر، فنحن نعرف جيدًا الهوامش بصفتها مواقع الحرمان، لكننا نلتزم الصمت أكثر عندما يأتي الحديث عن الهامش بصفته موقعًا للمقاومة، بل يتم إسكاتنا أكثر إذا تحدثنا عن الهامش بصفته موقعًا للمقاومة.
وأنا مجبرة على السكوت أثناء سنوات دراستي الجامعية، سمعت نفسي أتحدث عادةً بصوت المقاومة. لا أستطيع القول إن صوتي كان مرحبًا به ولا أستطيع القول إن حديثي كان مسموعًا بطريقة بدَّلت العلاقة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر. لكن ما لاحظته أن هؤلاء الباحثين، خصوصًا أغلب أولئك الذين يدعون أنفسهم مفكرين نقديين جذريين ومنظِّرات نسويات، يشتركون تمامًا اﻵن في تأسيس خطاب حول «اﻵخر». وقد جعلوني «آخر» هناك في تلك المساحة معهم، وأنا لم أكن «آخر» في تلك المساحة على الهامش وفي العالم المعزول عنصريًا الذي عشت فيه ماضيَّ وحاضري. لكنهم لم يلتقوني هناك في تلك المساحة، بل التقوني في المركز، واستقبلوني بصفتهم مُستَعمِرين. أنتظر لأتعلم مسار مقاومتهم، وكيف تسنى لهم التخلي عن سلطة التصرف كمُستَعمِر، أنتظرهم ليقدموا دليلًا وشهادة. يقولون إن الحديث عن التهميش والاختلاف تخطى جدال نحن وهُم، ويغفلون الحديث عن كيفية حدوث هذا التخطي، فهو في حقيقة الأمر استجابة للبعد الراديكالي لهامشيتي. هذه مساحة للمقاومة. هذه مساحة اخترتها أنا.
أنتظر توقفهم عن الحديث عن اﻵخر، التوقف حتى عن وصفهم لأهمية القدرة على الحديث عن الاختلاف. ليس مهم فحسب عن ماذا نتحدث، لكن كيف ولِم. هذا الحديث عن «اﻵخر» هو في الغالب قناع أيضًا، حديث قمعي يخفي ثغرات، وغيابات، ومساحة كانت لتسكنها كلماتنا لو كنا نتحدث، ولو كان هناك صمتًا، ولو كنا هناك. «نحن» مَن في الهامش، «نحن» الساكنون في مساحة الهامش باعتبارها موقعًا للمقاومة وليس للسيطرة. ادخل هذه المساحة. فذلك الحديث عن الآخر يفني أشياء ويمحوها. «لا حاجة لسماع صوتك حين أجيد الحديث عنك أفضل مما تستطيع أنت. لا حاجة لسماع صوتك، فقط أخبرني عن ألمك. أريد معرفة قصتك. وسأقصها عليك بطريقة جديدة. سأقصها عليك كأنني امتلكتها وأصبحت قصتي. بإعادة كتابتك أعيد كتابة نفسي. لكنني ما زلت المؤلف وأملك السلطة. لا زلت أنا المُستَعمِر، أنا المتحدث، وأنت بؤرة حديثي». لكننا نحييكم نحن المحرَّرون. نحن من في الهامش، نحن الساكنون في مساحة الهامش التي هي موقع للمقاومة وليس للسيطرة. ادخلوا هذه المساحة. هذا تدخل. أكتب إليكم وحديثي ينبع من مكان في الهوامش حيث أختلف عنكم وأرى الأمور بشكل آخر. الحديث من الهامش هو حديث مقاوم. أفتح كتابًا كُتب على ظهر غلافه «لن نبقى في الظلال مجددًا»، كتابًا يقترح إمكانية الحديث بصفتنا محررين. لكن من يتحدث ومن يصمت. من يقف في الظلال -الظلال في مدخل الباب، تلك المساحة التي تتمثل فيها صور النساء السود بلا صوت، تلك المساحة التي تُستخدم فيها كلماتنا لخدمة غيابنا ودعمه. فقط أصداء خافتة للاحتجاج. يُعاد كتابتنا. نحن «اﻵخر». نحن الهامش. من يتحدث ولمن. وأين نحدد موقعنا وموقع رفاقنا.
بعد إجبارِنا على السكوت، نخشى من أولئك الذين يتحدثون عنا وليس إلينا ومعنا. نعرف معنى أن يتم إسكاتُنا. ونعرف أن القوى التي تسعى لذلك -لأنهم لا يريدوننا أن نتحدث أبدًا- تختلف عن القوى التي تقول «تكلم، أخبرني قصتك»، لكن لا تتكلم بصوت المقاومة، بل تكلم من ذلك المكان في الهامش الذي يحمل علامة الحرمان والجرح والحنين غير المشبع. تحدث فقط عن ألمك.
هذا تدخل منا. هذه رسالة من ذلك المكان في الهامش الذي هو مكان للابتكار والقوة، مساحة احتواء نضمد فيها أنفسنا حيث نتحرك في تضامن لنمحو تصنيف مستعمِر/مستعمَر. الهامش باعتباره موقعًا للمقاومة. ادخلوا، ودعونا نلتقي هناك. ادخلوا هذه المساحة لنستقبلكم نحن المحرَّرون.