«كان الاستديو في جرمانا قريباً من طريق المطار، كان مُتاحاً أن يجد المرء مَشغلاً للعمل بمساحةٍ كبيرة بعقود تأجير غير محدودة الزمن. كان ذلك يجعل من المرسم بيتاً ثانياً».

يتحدث تمام عزام في البداية عن الاستديو واختلاف العلاقة به مع تبدل الأزمنة والأمكنة: «مع انتقالي إلى ألمانيا، في مدينة دلمنهورست في البداية، تأقلمتُ مع فكرة دمج الاستديو مع المنزل، أن يتحول إلى جزء منه، هي علاقة جيدة وصعبة في الوقت نفسه».

بعد تخرجه عام 2001 من كلية الفنون الجميلة في دمشق، عملَ تمام على مشروعه الفني بالإضافة إلى عمله كمصمم غرافيكي. أول معرض فردي له كان مع غاليري أتاسي 2007، وعملَ أيضاً مع أيام غاليري التي تأسست عام 2007، ثم انتقل من دمشق إلى دبي مع انتقال مقرّ الغاليري إلى هناك:

الغرافيك الذي برز في خياراتك الفنية؛ هل كان حاضراً منذ البداية؟

كنتُ أعتمد عليه في معيشتي حتى العام 2013، حين قررتُ أن أتخلى عنه في هذا السياق، أن أترك الكمبيوتر الذي كان مجال عملي منذ العام 2001 بعد تخرجي من الكلية. لم يكن خياراً سهلاً، ولكن كان عليَّ اتخاذه. شعرتُ أن الكمبيوتر أخذ حياتي مني وقد قضيت سنواتٍ أعمل في مجال التصميم الغرافيكي والطباعة.

لا زلتُ أعمل في مجال تصميم الأغلفة، وهو الأمر الوحيد المتبقي من تلك المرحلة حين كان التصميم هو مهنة لي، شَمَلت نواحٍ تجارية وكذلك خبراتٍ في المجال الإبداعي والثقافي، إذ تفرّغتُ في مرحلةٍ ما لطباعة الكتالوغات الفنية.

خلال السنوات العشر التي اشتغلتُ فيها كمصمم، كنت أحب تصميم الأغلفة، وما زال هذا هو الشيء الوحيد الذي أصممه باستخدام الكمبيوتر. كنتُ أعمل بأهداف ربحية مع شركات أدوية ومراكز ثقافية مثل غوته وغيرها. أوقفتُ هذا الآن، وتفرّغتُ للعمل في الإشراف على طباعة الكتالوغات الفنية.

أخذ الغرافيك جزءاً من حياتك، ولكنه أيضاً أثّرَ على هوية عملك الفنية، فهو جزءٌ من أكثر أعمالك شهرة في السنوات الماضية مثل سلسلة المتحف السوري، هل تُفكّر بالخروج منه كخيار فني أيضاً؟

دائماً ما أسعى إلى الخروج من أي مرحلة. في سوريا كنت منشغلاً بسلسلة «مجموعة الغسيل»، التي لم أَكُن لأظنّ أنني سأقطعها فجأة. كنت منشغلاً بها وكانت مرتبطة بقصة في حياتي الشخصية، لكن انطلاق الثورة غيّرَ كل شيء، بما يتضمن نظرتي إلى العمل الفني. لا شك أن أثر الثورة كان مختلفاً على كلٍّ منا، بالنسبة لي شهدتُ التغييرات على المستويين الشخصي والفني ولم يكن ذلك خياراً، وعندما انتهت هذه المرحلة فنياً، ترافق ذلك مع نهاية هذه السلسلة «المتحف السوري» بشكل دائم.

من مجموعة الغسيل. (2008)

رافقَت بعض أعمالك مرحلة وقضية سياسية منذ بدء الثورة السورية. إلى أي حدٍ تطغى هذه القضية وتفرض متطلباتها على الخيارات الفنية؟

لا أعتبر نفسي سياسياً في عملي، ولكنني معنيٌّ بالشأن السياسي بشكل يومي، فهذا الشأن السياسي أثَّرَ على كل نواحي حياتنا. ربما يتحدث الفني عن السياسي، ولكن السياسي لا يتحدث سوى عن خرابنا.

ربما كان خياراً للبعض أن يتجاوزَ هذا الشأنَ في عمله، ويُبقي على الخيارات الفنية شخصيةً جداً. بالنسبة لي، لقد أثّرَ عليَّ الشأن السوري، وعلى لوحتي وعملي الفني. بالمقابل، ساهمَ حضور القضية السورية في تسليط الضوء على فنون الثورة، وليس ذلك مرتبطاً بالضرورة بجودة الأعمال، لكن الزمن أحد عناصر الحُكمِ على جودة العمل الفني.

أنا اليوم في مرحلة فنية جديدة، لكن ذلك لا يعني أنني تركتُ الانشغال بالشأن السوري، بل إن شكلَ هذا الانشغال هو الذي اختلف.

هناك محاولة إعادة تشكيل، تشكيل بالمعنى الحرفي، للعناصر لتشغلَ الفراغ في المساحة والصورة التي تعمل عليها. ترافقَ ذلك مع فترة كنتَ أيضاً، ولا زلت، تُعيد تشكيل حياتك فيها مرة واثنتين وأكثر…

حتماً، محاولات إعادة تشكيل الحياة هذه تنعكس بأشكال مختلفة على العمل الفني، وإن كان الأثرُ بطيئاً. عندما وصلت إلى مدينة ديلمنهورست لأول مرة جلبتُ ألواناً لأعملَ بها على اللوحات، بعد أن كنتُ أعمل منذ عشر سنوات بالأبيض والأسود. المكان حفَّزَ لديَّ جُزءاً من الذاكرة. المدن الكبرى أيضاً لها أثرٌ مختلف، كأنها مرسمٌ بدورها. الحياة في برلين هي جزءٌ من الاستديو، جزءٌ من نقاشٍ فني، بما يدور فيها من تفاصيل، وأيضاً بما تحمل من احتمالات، لم أَكُن لأتخيَّلَ وجودها في زمن سابق عندما كنت أعيش في دمشق التي لم أتخيل أنني سأرحل عنها يوماً، أو عندما كنت طفلاً أحلم بمستقبل أكون فيه فناناً.

المتحف السوري – غوغان

كان الفن حلماً منذ أيام الطفولة؟ ربما عزز ذلك نشأتك في بيت تشغل فيه الثقافة دوراً مركزياً.

منذ وقتٍ مبكر جداً، كان هناك تأثير من والدي، المنشغل بالأدب، لدفعي باتجاه دراسة الفن. درست في كلية الفنون الجميلة في دمشق، التي كانت ربما محطة لبداية الطريق ولكن لم يكن لها الأثر الأكبر عَلَيّ. عرفتُ ذلك فيما بعد، حين اختبرتُ معنىً حقيقياً لتجربة تعليم فني على يد مروان قصاب باشي في ورشة مُكثَّفة على مدى شهر. اختبرتُ كيف كان أثر ساعات هذه الورشة – التي عدتُ للالتحاق بها مرة ثانية – أكبر من أثر أربع سنوات في كلية الفنون الجميلة. كانت تجربة حقيقية قلَبَت لديّ الموازين، وأعادتني إلى لحظة بداية فنية. لذلك، أعتبر أن مروان قصاب باشي هو الأكاديمية التي درستُ فيها. أنا لست طالباً عنده «بس هوي أستاذي»، إذ لديه الكثير من الطلاب الآخرين.

ما تشتغل عليه الآن في الاستديو، هل هو جزءٌ من مشروع قادم؟

ليس مشروعاً جديداً، وإنما متابعة لسياق سابق انشغلتُ فيه بالعمل وتجربة تقنيات ومشهدية جديدة مُنطلِقاً من الشكل الكلاسيكي للّوحة، المربع والمستطيل. لا زلتُ من محبي اللوحة بشكلها البسيط، والبناء ضمن هذه المساحة حتى يصل العمل إلى مرحلة مقنعة تتلاءم مع رؤية الفنان الذي يعمل عليها. أنا مشغول دائماً بالتكنيك وخياراته وتطويره بشكل مستمر، حتى وإن كانت الموضوعات نفسها قلقة وأفلتت مني في مراحل سابقة، حتى رسَوتُ على فكرة الطريق. اشتغلتُ عليها سابقاً ولا زلت أعمل عليها حتى اليوم. الآن هي بالنسبة إلي سكة، أعملُ على السكة، على المشوار الذي نخوضه، الذي يبدو وكأنَّ لا نهاية له. هي اقتراحاتٌ مختلفة أحياناً لنفس المكان، وأحياناً لأماكن مختلفة، فيها شيء من محاولة استرجاع الضوء الذي أعرفه وأفتقده، محاولة إضافته على هذا المكان الجديد الذي نبنيه. أحياناً أتقصَّدُ المجيء إلى المرسم لأركَّب لوناً وجدته في مكانٍ ما، وتترافق هذه المرحلة مع رغبةٍ لدي بجلب ألوانٍ من أماكن متفرقة إلى المرسم.

خيار الكولاج مستمر، كذلك هناك تركيز في هذه الأعمال على المنظور؟

يجذبني مشهد السهل والسماء. قَدِمتُ من منطقة سهلية، سهل حوران. كنتُ مُعتاداً على رؤية سهل ممتد تحت سماء. أحاول أحياناً استغلال مشهد طبيعي لأبني فيه مكاني الجديد، كجغرافيا جديدة للعمل الفني. أشعر أن لكل عمل فني جغرافيا تخصه، مترافقة بألوانها الخاصة وطيف المشاعر الذي تحركه في المتلقي الذي يقف قُبالة العمل الفني.

المدن المنسية (2019)

من الملفت رصد مواضيع أعمالك المختلفة مع كل مرحلة. في حياة قديمة محكومة بالرقابة والخوف، ركَّزتَ على ثيمة الغسيل المنشور، والتي تحمل جزءاً مخفياً من باطن الحياة، من المنزل، يُحمَل إلى الخارج، وذلك أشبه باختراق الجدران. وبعد الثورة ومن ثم الدمار، تَشكَّلَ لديك، قبالة صور الأحياء المدمرة، سؤالٌ ملحٌّ عن الفراغ الناجم عن الدمار وملئه.

ولا يزال. المكان الخاوي لا يزال يحمل بالنسبة لي معنىً كبيراً، بقسوته، وهو ذكرى القصص الباقية.

الآن مع لحظة الشتات، في مداها الأوسع، بتَّ منشغلاً بثيمة الطريق والمكان المحيط به؟

الاستقرار بالنسبة إلي ليس مرتبطاً بمكان الإقامة الفعلي، جغرافياً، وإنما هو أقرب إلى عملية السير نفسها. ليس الانتماء محدوداً بحدود المكان أيضاً.

نشهد اليوم تَجدُّدَ المظاهرات في مدينة السويداء، أي أسئلة وانطباعات تحفز لديك هذه اللحظة؟

تابعتُ مظاهرات السويداء كما ما تابعتُ كل مظاهرات سوريا. هناك ما هو مختلف اليوم، هناك من يتجرأ بعد على التظاهر بعد 13 عاماً. كل ما يحدث من سنة 2011 وحتى اليوم هو جزء من الثورة السورية في رأيي، والشعارات التي تُرفَع في السويداء تُثبت عدم وجود قطيعة مع لحظة 2011، والاختلافات هي جزءٌ من سوريا. أمرٌ مؤثرٌ بالتأكيد رؤية مظاهرات في شوارع السويداء التي أعرفها جيداً، التي عشت فيها 18 عاماً وكنت أزورها أسبوعياً حتى عندما كنت أقطن في دمشق. مع ذلك، حنيني هو سوري بالمجمل وليس مرتبطاً بالسويداء وحدها.