لم يكن الصراع بين عشائر عربية وقوات سوريا الديمقراطية ليُفاجئنا لو جاء في ظروف غير التي تمر بها سوريا اليوم: أي بعد سنوات من الصراع المُسلَّح في سوريا. ذلك أن الحساسيات الإثنية والقومية الموجودة في الجزيرة السورية وبين مختلف الإثنيات تعود لعقود من الزمن، وبالأخص بين كُرد الجزيرة وعرَبها. حساسيات سياسية، وديموغرافية وعرقية سابقة للانتفاضة السورية (2011) والانتفاضة الكردية (2004). فمنذ مشروع ما سُمي بـ«الحزام العربي» في أوائل الستينيات، وصولاً لانعكاسات الصراع خلف الحدود بين كُرد العراق والنظام العراقي والتمرد المسلح على الحدود الشرقية، تأسَّسَ الشِقاق في علاقة كرد وعرب الجزيرة السورية. كما عَمد النظام السوري إلى تعميق هذا الشقاق على مدى عقود، من خلال تعيين عناصر أمن وشرطة من عرب المنطقة في مناطق الكثافة الكردية، وتوطين سكان عرب في بيوت سكّانها كرد بعد استخلاصها منهم بحجج مختلفة.
كان هناك إذاً أرضية خصبة لتفاقم صراع أهلي دموي (كردي عربي) في الشمال الشرقي بُعيد بداية المعارك والتسليح في سوريا. لكن تأخُّر هذا الصراع، إن صح القول، يدعونا إلى التمهّل والتساؤل عن الخارطة الإقليمية للصراع قبل الخوض في استنتاجات من نوع «أن ثورة عربية اندلعت ضد حزب العمال». لماذا تنتفض العشائر الآن ضد قسد بوصفها سلطة كردية تحكم غالبية عربية في دير الزور؟ من الضروري القول هنا إن صعود حركة اجتماعية معارضة للإدارة الذاتية بصفتها سلطة مستبدة هو أمر ضروري ومحق، وهي بالفعل موجودة منذ سنوات وبعيدة عن الإستقطاب الإثني. السطور التالية لا تُشكِّك في وجود مطالب شعبية، إنما تحاول القول إن تصوير الصراع على أنه كردي عربي هو قراءة متسرّعة للمشهد من جهة، كما أنه يساهم في إشعال نار صراع دموي قد يتجاوز في بدائيته الصراعات التي عايشها السوريون خلال السنوات الماضية. هذه محاولة في تعقيد النقاش والأسئلة المطروحة حول ما يجري في دير الزور.
يحتوي القول إن ما يحدث الآن في دير الزور عبارةٌ عن انتفاضة عربية ضد قمع كردي على إشكالَين أساسيَين؛ الأول أنه لا يلتفت إلى الحراك الاحتجاجي على قسد العابر للإثنيات والسابق على ما يحدث الآن، والثاني أنه يُهمل السياق الإقليمي وحروب الوكالة التي تجري في منطقة شرق الفرات. بهذا المعنى، يستسهل هذا الطرح تبني الزاوية القومية على حساب الصورة الكاملة والأكثر تعقيداً لما يجري.
في الواقع، هذه ليست المرّة الأولى التي تشهد فيها مناطق خاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية) تظاهرات واحتجاجات للمطالبة بتحسين ظروف العيش، ضد الفساد، والتجنيد الإجباري وغيرها. ربما كانت المرة الآخيرة قبل أقل من عام، حيث خرجت مظاهرات في قرى عديدة من دير الزور بسبب تردي الوضع المعيشي وسياسات تغيير المناهج الدراسية والتجنيد الإجباري وغيرها، وقد قابلتها قسد بالعنف والتفريق أو بتهميش هذه المطالب في أقلّ تقدير. لم تلقَ أنباء هذه التظاهرات رواجاً واسعاً، وظلَّت حبيسة بعض المنصات الإخبارية السورية، كما كان الحال لسنوات طويلة. بالمقابل، تخرج أيضاً تظاهرات في مناطق الغالبية السكانية الكردية، تغلب عليها المطالب السياسية المتعلقة بالمشاركة في الحكم على المطالب الاقتصادية والمعيشية، بالإضافة إلى المطالبة بإلغاء التجنيد الإجباري وتجنيد القاصرات والقاصرين، وبمحاكمات عادلة لمرتكبي الجرائم من عناصر قسد مثل قتلة شُبان وشابات عامودا 2013.
إذن، الاحتجاج ضد قسد لا يقتصر على مكون بعينه في الجزيرة السورية، بل هناك موجات من الاحتجاجات المتكررة من أهالي المنطقة، كرداً وعرب، لم تتوقف منذ عشر سنوات، وتعود إلى الشارع بشكل متقطع ومتفرق. بل على العكس ربما، قد يكون الحراك السياسي في المناطق الكردية أعلى وتيرة بسبب الاستقطاب السياسي الكردي وحشد المجلس الوطني الكردي في مواجهة قسد ومطالب المشاركة بالحكم في المنطقة. هذا الاستقطاب يمكن تصنيفه بين يمين ويسار إلى حد كبير، وجَعَلَ الحراك خلال السنوات الماضية أكثر زخماً.
حقيقة الأمر أن قسد ليست ديمقراطية، وهذا الأمر ليس بمفاجأة: ليس فقط للعرب المتواجدين في المنطقة وإنما بالنسبة للكرد أيضاً. بخاصة أن مفاضلة المظلومية التي يتعرض لها كل من الكرد أو العرب قد تصب لصالح الكرد بعد إقصاء قوات سوريا الديمقراطية لكافة الحركات السياسية الكردية غير المتجانسة مع فكرها، واعتقال قادة سياسيين وخطف أبنائهم، والاستيلاء على ممتلكات سياسيين كرد، وقمع المظاهرات، علاوة على إنهائها للحراك الشبابي المرتبط بالانتفاضة السورية منذ 2013. بل يذهب رأي كردي سائد إلى أبعد من ذلك باتهام قوات سوريا الديمقراطية بتفضيلها للعرب على الكرد، وابتعادها عن «كرديتها». فبعد التفاؤل الذي ساد بتشكُّل كيان سياسي كردي في شمال شرق سوريا، على شاكلة العراق، توجَّهت سوريا الديمقراطية نحو خطاب أممي «أخوة الشعوب» ساعية لدمج مكونات عربية وآشورية وسريانية معها، الأمر الذي دفع بالرأي السائد إلى اتهام قسد بتزييف هذا التناغم وبالخروج عن «الأجندة الوطنية الكردستانية». عدم النظر إلى هذا كله، والتركيز فقط على الجانب القومي الكردي-العربي فيما يحدث الآن يبدو شبيهاً بوصف انتفاضة عام 2011 بكونها انتفاضة سنّية على النظام العلوي.
الشطر الآخر من هذا الرأي، يُغفل التطورات الإقليمية الحاصلة التي توحي بحرب وكالة في شرق الفرات. لا يخفى على أحد أن قسد قد حصرت حربها في المنطقة بتركيا وفصائل المعارضة المدعومة منها، ونأت بنفسها عن محاربة كل من النظام أو توابع إيران. كما أبقت قسد على حليفتها الرئيسية، الولايات المتحدة الأميركية، من خلال الحرب ضد داعش. ويبقى هنا السؤال ذو الإجابة الصعبة: هل استفادت قسد من الحرب ضد داعش أم تورطت بها؟ ربما أنَّ الإجابتين صحيحتان؟
لم يكن وجود قسد شرقي الفرات مرتبطاً بالتوسع الكردي على حساب المكون العربي، أو أن هذا ليس هو الدافع، وإنما الحرب ضد داعش برعاية التحالف، الذي لا يزال داعماً لقسد، وتراجُع قسد في ظل دفع تركيا لها بعيداً عن الحدود. بمعنى آخر، قسد تتواجد في المناطق التي تطلب منها الولايات المتحدة أن تكون متواجدة فيها، والتضارب الحقيقي اليوم هو بين حليفي أميركا؛ قسد وتركيا. جليٌّ استفادةُ تركيا من صراع بين عشائر عربية وقوات قسد، مع تمدد إيران في المنطقة، وعشائر نواف البشير التي لم تُخفِ تقاربها مع نظام الأسد. بالتالي، المعارك في شرق الفرات لها طابع جيوسياسي مهم ومعقد، وإن حَوت مطالب من أهل المنطقة، فهي مطالب يتشارك بها مواطنو عامودا والقامشلي أيضاً. لا يقتصر الموضوع على انتفاضة عربية ضد قسد الكردية. وإنما يتوجّبُ الوقوف للسؤال، من هو المستفيد الأول من تصاعد الصراع على الحدود الشرقية؟ ومن هي الأطراف الفاعلة في تلك المنطقة؟
المفارقة أن قسد نجحت في خفض أو تجنب صراع أهلي قَبَلي، رغم ادعائها عدم وجوده من الأساس. أتّفقُ هنا مع ما ورد في مقال قاسم البصري في الجمهورية عن محاولات قسد لكنس مشاكلها تحت الطاولة. بيد أن المقال نسب الأحداث الأخيرة إلى الاستيلاء الكردي على قسد مُحذّراً من تنامي خطاب شوفيني ضد الكرد سببه عنف قسد، ولكن علينا أن نتذكر أنه قبل قسد كان هناك خطابات شوفينية عديدة ضد الكرد منذ عقود، ووصلت أشدها خلال سنوات الحرب. حقيقة الأمر أن الشوفينية والعنصرية المتبادلة بين الكرد والعرب تكاد تكون مثل الدجاجة والبيضة مؤخراً، ونَسبُ ذلك إلى قسد أو البحث عن مصدر واحد له لا يمكن أن يكون أمراً دقيقاً. هذا لا يعني إخراج قسد من النقاش، وإنما تَذكُّر أن هناك معادلتين: الأولى مطالب سياسية ضد الإدارة الذاتية يشترك فيها جميع سكان المنطقة بمنأى عن أي صراع إثني؛ والثانية هو البعد الجيوسياسي للنفوذ في شرق الفرات. وفي هذه الحالة يكون أطراف الصراع خارج أسوار جغرافية الجزيرة السورية ومشكلاتها المحلية. ذلك يدحض أن يكون الصراع الحالي أساسه صراعاً عربياً-كردياً بدأ على الأرض وتنامى، إنما هو حراك نفوذ سياسي مرتبط بمصالح إقليمية في شرق الفرات قد ينعكس وينفجر على شكل صراع محلي مرتبط بتكوين الجزيرة السورية والتطورات في السنوات الأخيرة.
أخيراً، فإن قراءة تجربة الإدارة الذاتية سيكون ضرورياً أيضاً في قراءة المشهد اليوم. لا يَخفى الإعجاب لدى كثير من التيارات السياسية إقليمياً وعالمياً بتجربة الإدارة الذاتية، سواء كان عن طريق قدرتها على تأمين ظروف عيش أفضل من مناطق النظام والمعارضة، أو من خلال جذب تيارات يسارية عالمية، أو حماية النساء إلى حد معقول، أو حتى تقسيم هرمية السلطة وكسب الناس أهلية أكبر. (مع الأخذ بعين الاعتبار أن التطبيق غير النظرية على كل حال). لكن الإعجاب بهذه التجربة، والتفكير في تطبيقها على مناطق أخرى في سوريا، يدفعنا إلى التفكير في مدى القدرة على تطبيق ذلك في مناطق دير الزور، منفصلة عن الحسكة. وبالتالي تمكين العشائر من إدارة نفسها بنفسها. وهنا نعود للسؤال: هل المشكلة في كردية قسد، أم في إيديولوجية قسد وشموليتها؟ وهل فعلاً من المفيد بمكان العودة إلى حكم العشيرة؟
تأويل ما يحصل في مدينة دير الزور، شرق سوريا، بأنها انتفاضة عشائر عربية ضد الحكم الكردي، قد يكون تبسيطاً لما يجري. وذلك ليس بسبب عدم أحقية انتفاضة من هذا النوع بالضرورة، وإنما بسبب تعقيدات ومستويات أكبر للصراع المحلي وصراع النفوذ الإقليمي في المنطقة. مع الاعتراف بأحقية أبناء المنطقة ككل، كرداً وعرباً في الاحتجاج والانتفاض ضد سياسات قسد الشمولية والأحادية. من المُنتِج التفكير في طبقات الصراع المتعددة في المنطقة، والتفكير في مفاصل تجربة الإدارة الذاتية، التي تحتاج ربما إلى ملف منفصل للدراسة والتقييم كمشروع وليس فقط ممارسات وكوارث كوادر قسد.