بصفتنا باحثين وباحثات، وممارسين وممارسات في مجال القانون الدولي ودراسات الصراع والإبادة الجماعية، نجد أنفسنا مضطرين إلى دقّ ناقوس الخطر بشأن احتمال ارتكاب القوات الإسرائيلية جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. نحن لا نفعل ذلك باستخفاف، إذ ندرك ثقل هذه الجريمة؛ ولكن خطورة الوضع الحالي تتطلّبُ ذلك.
لقد أثار الوضع القائم في قطاع غزة نقاشات حول احتمال وقوع الإبادة الجماعية قبل حدوث التصعيد الحالي، أجرتها نقابة المحامين الوطنية في 2014، ومحكمة راسل حول فلسطين في 2014، ومركز الحقوق الدستورية في 2016. كما حذَّرَ مجتمع الباحثين والباحثات على مرّ السنين من أن حصار غزة قد يرقى إلى «مقدمة للإبادة الجماعية» أو «إبادة جماعية بطيئة الحركة». لوحظَ أيضاً انتشار اللغة العنصرية واللاإنسانية وخطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، في تحذير صدر في تموز (يوليو) 2014 عن مستشار الأمم المتحدة الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، والمستشار الخاص المعني بمسؤولية الحماية، رداً على سلوك إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين المحميين. كذلك أشار المستشاران الخاصان إلى أن أفراداً إسرائيليين نشروا رسائل تُجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتدعو إلى هدر دمهم، وأكَّدا مجدداً أن التحريض على ارتكاب جرائم فظيعة محظور بموجب القانون الدولي.
إن الهجوم العسكري الذي شنّته إسرائيل على قطاع غزة ابتداءً من 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، غير مسبوق من حيث الحجم والشدة والتداعيات على سكان القطاع. في أعقاب التوغل الذي شنّته الجماعات الفلسطينية المسلحة في اليوم نفسه، والذي شمل عدة هجمات إجرامية ضد المدنيين الإسرائيليين، تعرّضت غزة لقصف متواصل وعشوائي من قبل القوات الإسرائيلية. وخلال الفترة بين 7 تشرين الأول والساعة 9:00 من صباح 15 تشرين الأول، قُتل 2329 فلسطينياً وجُرح 9042، بما في ذلك أكثر من 724 طفلاً؛ كما طُمِست مساحات واسعة من الأحياء، واختفت عائلات بأكملها في جميع أنحاء قطاع غزة. علاوة على ذلك، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي بفرض «حصار شامل» على غزة، يمنع وصول إمدادات الوقود والكهرباء والمياه وغيرها من الضروريات الأساسية، القرارُ الذي أشار بحد ذاته إلى تكثيف حصار غير قانوني بالأصل، قد يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وتَحوُّله ليصبح هجوماً صريحاً ومُدمِّراً.
في وقت متأخر من 12 تشرين الأول، أصدرت السلطات الإسرائيلية أمراً لأكثر من 1.1 مليون فلسطيني في مدينة غزة وشمال القطاع بمغادرة منازلهم والفرار إلى الجنوب خلال 24 ساعة، علماً بأن ذلك سيكون مستحيلاً بالنسبة للكثيرين. وبالفعل، أفاد الفلسطينيون الذين بدأوا بالإخلاء جنوباً بأن مدنيين وسيارات إسعاف قد استهدفوا وأصيبوا جراء الغارات الجوية الإسرائيلية على «الطريق الآمن»، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 70 فلسطينياً كانوا يفرون بحثاً عن ملجأ. أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن «أوامر الإخلاء مقرونة بالحصار الشامل» تتعارض مع القانون الدولي الإنساني. هُجِّرَ قرابة نصف مليون فلسطيني، وقصفت القوات الإسرائيلية معبر رفح – طريق الخروج الوحيد الذي لا تسيطر عليه إسرائيل إلى مصر – عدة مرات. كذلك نشرت منظمة الصحة العالمية تحذيراً مفاده أن «إجبار أكثر من 2000 مريض على الانتقال إلى جنوب غزة، حيث تعمل المرافق الصحية بأقصى طاقتها، وليس لها القدرة على استيعاب الارتفاع الهائل في عدد المرضى، قد يكون بمثابة حكم بالإعدام».
بموازاة ذلك، تصاعدت وتيرة الاعتقالات وأعمال العنف والطرد والتدمير لمجتمعات فلسطينية بأكملها في الضفة الغربية المحتلة والقدس. وابتداءً من 7 تشرين الأول، قام مستوطنون إسرائيليون، بدعم من الجيش والشرطة، بمهاجمة مدنيين فلسطينيين وإطلاق النار عليهم من مسافة قريبة (كما هو موثق في قريتي التواني وقصرة)، واقتحموا المنازل واعتدوا على قاطنيها، الأمر الذي اضطر العديد من الجماعات الفلسطينية إلى ترك منازلها، ليدمّر المستوطنون ممتلكاتهم حال وصولهم إليها. في الفترة من 7 إلى 15 تشرين الأول، وثّقت مؤسسة الحق مقتل 55 فلسطينياً على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفة الغربية، وإصابة 1200 فلسطيني هناك.
تشير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ 7 تشرين الأول 2023 إلى أنه بالإضافة إلى عمليات القتل وتقييد الشروط الأساسية للحياة بحق الفلسطينيين في غزة، ثمة مؤشرات على أن الهجمات الإسرائيلية المستمرة والوشيكة على قطاع غزة تنفذ بنيّة ارتكاب إبادة جماعية. حتى اللغة التي تستخدمها الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية تعيد إنتاج خطاب واستعارات الإبادة الجماعية والتحريض عليها. أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 تشرين الأول: «إننا نحارب الحيوانات البشرية ونتصرف وفقاً لذلك». وأعلن في وقت لاحق أن إسرائيل تتجه نحو إجراء «رد واسع النطاق» وأنه «أزال كل القيود» المفروضة على القوات الإسرائيلية، مفيداً كذلك: «غزة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. سوف نقضي على كل شيء». وفي 10 تشرين الأول، وجّه الميجر غسان عليان، منسق أعمال الحكومة في المناطق، رسالة مباشرة إلى سكان غزة: «هكذا تُعامل الحيوانات البشرية. لن يكون هناك كهرباء ولا ماء، لن يكون هناك سوى الدمار. أردتم الجحيم، وسوف تحصلون على الجحيم». في اليوم نفسه، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري، مُعترِفاً بالطبيعة الوحشية والتدميرية المتعمدة لحملة القصف الإسرائيلية على غزة: «يتم التركيز على إلحاق الضرر وليس على الدقة».
منذ 2007 وإسرائيل تُعرِّف قطاع غزة بأكمله باعتباره «كياناً معادياً». في 7 تشرين الأول، صرّحَ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنّ سكان غزة سيدفعون «ثمناً هائلاً» بسبب تصرفات مقاتلي حماس، وأكّد أن إسرائيل ستشنّ هجوماً طويل الأمد، سيُحوِّلُ أجزاء من المراكز الحضرية المكتظة بالسكان في غزة إلى «أنقاض». كذلك شدَّدَ الرئيس الإسرائيلي على أن السلطات الإسرائيلية تعتبر جميع السكان الفلسطينيين في غزة مسؤولين عن أعمال الجماعات المسلحة، وبالتالي سوف يخضعون لعقاب جماعي واستخدام غير مُقيَّد للقوة: «إن الأمة بأكملها هي المسؤولة. ليس صحيحاً ما يقال حول عدم علم المدنيين أو تورطهم. هذا غير صحيح على الإطلاق». وقال وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي إسرائيل كاتس: «لقد أُمِرَ جميعُ السكان المدنيين في غزة بالمغادرة فوراً. سنربح. لن تصلهم قطرة ماء ولا بطارية واحدة حتى يرحلوا عن الدنيا».
ظهرت أدلة على التحريض على الإبادة الجماعية في الخطاب العام الإسرائيلي، تراوحت بين تصريحات من مسؤولين منتخبين – مثل نداء عضو الكنيست آرييل كالنر في 7 تشرين الأول: «الهدف واحد: النكبة! نكبة تطغى على نكبة 1948» – إلى تعليق لافتات عامة في المدن الإسرائيلية تدعو إلى «النصر»، الذي يعني «صفر سكان في غزة» و«إبادة غزة». على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، نقل المراسل الأمني ألون بن دافيد خطة الجيش الإسرائيلي لتدمير مدينة غزة، وجباليا، وبيت لاهيا، وبيت حانون. مثل هذه التصريحات ليست جديدة، ويتردد صداها في خطاب إسرائيلي أوسع يُظهِرُ نية القضاء على الشعب الفلسطيني وإبادته. في وقت سابق من العام، على سبيل المثال، وصف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش الفلسطينيين بـ «البغيضين» و«المثيرين للاشمئزاز»، وطالب بـ «محو» قرية حوارة الفلسطينية بالكامل.
في 12 تشرين الأول 2023، أدانَ فريق من المقررين الخاصين للأمم المتحدة «الهجمات العسكرية الإسرائيلية العشوائية ضد الشعب الفلسطيني المنهك في غزة، والذين يتجاوز عددهم أكثر من 2.3 مليون شخص، نصفهم تقريباً من الأطفال. لقد عاش [سكان غزة] تحت حصار غير قانوني لمدة 16 عاماً، وتعرّضوا إلى خمسة حروب وحشية لم تَجرِ محاسبة أحد عليها». وحذَّرَ خبراء الأمم المتحدة من أن «حجب الإمدادات الأساسية من غذاء وماء وكهرباء وأدوية، من شأنه أن يتسبب بحدوث أزمة إنسانية حادة في غزة، التي أصبح سكانها الآن مهددين بخطر المجاعة الذي لا مفر منه. التجويع المتعمد جريمة ضد الإنسانية». في 14 تشرين الأول 2023، حذَّرَ المقرر الخاص المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة من «تكرار لنكبة 1948 ونكسة 1967، على نطاق أوسع» بينما تُنفِّذُ إسرائيل «تطهيراً عرقياً جماعياً للفلسطينيين تحت ضباب الحرب».
يشكل الشعب الفلسطيني مجموعة وطنية لأغراض اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اتفاقية الإبادة الجماعية). ويشكل الفلسطينيون في قطاع غزة نسبة كبيرة من الشعب الفلسطيني، تستهدفهم إسرائيل لكونهم فلسطينيين. يبدو أن السكان الفلسطينيين في غزة يتعرضون حالياً للقتل على نطاق واسع على يد القوات والسلطات الإسرائيلية، بالإضافة إلى تعرضهم للأذية الجسدية والعقلية، والظروف المعيشية غير المواتية للحياة – على خلفية التصريحات الإسرائيلية التي تُشير إلى وجود نية للتدمير الجسدي للسكان.
تنصّ المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية على أن: «الإبادة الجماعية تعني أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه:
1- قتل أعضاء من الجماعة؛
2- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛
3- إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛
4- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛
5- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى».
جميع الدول مُلزمة قانوناً بالمبدأ القائل إن الإبادة الجماعية جريمة محظورة بموجب القانون الدولي. أكّدت محكمة العدل الدولية أن حظر الإبادة الجماعية قاعدة قطعية من قواعد القانون الدولي لا يجوز الانتقاص منها. وتنص الاتفاقية على أن الأفراد الذين يحاولون تنفيذ إبادة جماعية أو الذين يحرضون على تنفيذها «سوف يعاقبون، سواء كانوا حكاماً مسؤولين دستورياً، أو موظفين عموميين، أو أفراداً عاديين».
تنص المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها على ما يلي: «تُصادق الأطراف المتعاقدة على أن الإبادة الجماعية، سواء ارتُكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها». وأوضحت المحكمة الجنائية الدولية أن «التزام الدولة بالمنع، وواجب التحرك الموازي له، ينشآن في اللحظة التي تعلم، أو التي ينبغي عادةً أن تعلم، فيها الدولة بوجود خطر جدي بحصول إبادة جماعية. وبِدءاً من تلك اللحظة، وإذا كانت متاحةً للدولة وسائلُ يمكن أن يكون لها أثرٌ رادعٌ للمشتبه بإعدادهم لإبادة جماعية، أو لمن يتوافر فيهم ما يدعو إلى الاشتباه بأنهم يبيتون نية محددة (قصداً إجرامياً مشدداً)، توجَّبَ عليها استخدام هذه الوسائل حسبما تسمح به الظروف».
لقد حذّرت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية ومجموعات المجتمع المدني اليهودية وعلماء دراسات المحرقة والإبادة الجماعية وآخرون، من وقوع إبادة جماعية وشيكة ضد السكان الفلسطينيين في غزة. ونؤكد نحن أيضاً على وجود خطر جدي بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
يُناشد الموقعون أدناه جميع الدول إلى اتخاذ خطوات سريعة وملموسة وهادفة لمنع أعمال الإبادة الجماعية بشكل فردي وجماعي، بما يتماشى مع واجباتها القانونية لمنع جريمة الإبادة الجماعية. يجب على الدول حماية السكان الفلسطينيين، والتأكد من امتناع إسرائيل عن القيام بأي تحريض إضافي على الإبادة الجماعية وعن ارتكاب سلوك محظور بموجب المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية.
ينبغي على جميع الدول أن تتصرف فوراً بموجب المادة الثامنة، وأن تدعو الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. إننا نشير على وجه التحديد إلى دور الجمعية العامة هنا، نظراً لأن صلاحية مجلس الأمن تتعرض للتهديد من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (كلاهما من الأعضاء الدائمين الذين لديهم حق النقض) اللّتين تُرسلان قوات عسكرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لدعم إسرائيل.
نذكر هنا أن الجمعية العامة قد أدانت عام 1982 المذبحة التي اقتُرِفَت بحق المدنيين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا باعتبارها «عملاً من أعمال الإبادة الجماعية». ونلاحظ أيضاً أنّ لدولة فلسطين الحق، وفقاً للمادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية من أجل منع ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية.
وأخيراً، ندعو جميع هيئات الأمم المتحدة ذات الصلة، بما في ذلك مكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، فضلاً عن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إلى التدخل الفوري وإجراء التحقيقات اللازمة وإطلاق الإجراءات التحذيرية اللازمة لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية.