لم يكن عرضُ فيلم اصطياد أشباح للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني في برلين اعتيادياً وشبيهاً بأي أمسية سينمائية قد تقام في المدينة، بما رافقه من أجواء مشاهَدة في ظل تصاعد العنف وتوارد الأنباء المروعة من غزة. بدا نشاط حضور فيلم سينمائي فلسطيني، مع ارتداء الكثير من الحاضرين للكوفيات الفلسطينية، وكأنه فعل تواصل وإبداء موقف متصل بأنشطة التظاهر والمناصرة النشطة في أرجاء المدينة. يأتي ذلك مع استمرار الضغط في ألمانيا بشكل خاص على أشكال التعبير والتضامن مع القضية الفلسطينية ومحاصرتها، حتى أنّ كلمة مديرة صالة سينما ولف، مكان عرض الفيلم، ركّزت على ضرورة الانحياز لحرية التعبير في هذه الأوقات كدافع لعرض الفيلم، إذ تبدو إمكانية عرض فيلم فلسطيني ناقد لسياسات الاحتلال أمراً استثنائياً في مساحات الثقافة الألمانية اليوم.
افتَتح فيلم أنضوني الجزءَ البرليني من تظاهرة أيام فلسطين السينمائية، والتي نُظِّمت بشكل استثنائي هذا العام خارج الحدود الفلسطينية على شكل عروض بديلة في أكثر من 30 دولة حول العالم بعد أن أُلغيت العروض في فلسطين، مع اختيار تاريخ الافتتاح مرافقاً لذكرى وعد بلفور، وتوليفة من الأفلام التي تقدم بمجموعها سردية مضادة للسردية التي تمت محاولة فرضها منذ ذلك التاريخ، إذ تَعرِضُ تاريخ وواقع الحياة الفلسطينية في شتاتها وأرضها، ونضال أهلها اليومي والفاعل ضد محاولات المحو والإزاحة وتزييف التاريخ. جاء في بيان منظمي العرض على الموقع الرسمي للتظاهرة:
«بينما نتعرض للإبادة الجماعية في غزة، وتشوه وسائل إعلام عالمية الرواية الفلسطينية، وبمنهجية يحاول مسؤولون رسميون نزع سمات الإنسانية عن شعبنا، ومحو معاناته. وفي مهب ريح الغطرسة الاستعمارية، تُباح إبادة الشعب الفلسطيني، ويُختزل كل ما تطلعنا إليه منذ عام 1948.
في ظل جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في حق شعبنا في غزة، لن تُعقد أيام فلسطين السينمائية في فلسطين هذا العام، بل سنحمل قصتنا وصوتنا إلى ما وراء الحدود.
أصدقاؤنا وشركاؤنا حول العالم سيُنظِّمون عروضاً لأفلام من فلسطين وعن فلسطين، يصنعون من خلالها مساحة لتمثيلنا وإيصال الروايات القادمة من الفلسطينيين.
في ذكرى وعد بلفور، التي تصادف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر)، وحرصاً منا على إيصال الأصوات الفلسطينية، وبالدعم الصادق من أصدقائنا وشركائنا أفلامنا وأفلام سين نظّمنا أكثر من 90 عرضاً لفيلم فلسطيني حول العالم».
قدَّمَ برنامج العروض في برلين ثلاثة أفلام تنوعت فيها زوايا الطرح والأساليب، بين التسجيلي والروائي التخييلي، فإلى جانب فيلم اصطياد أشباح ضمَّ البرنامجُ كلاً من فيلمي خيوط السرد (2017) وحكاية الجواهر الثلاث (1995). الأول للمخرجة الفلسطينية اللبنانية كارول منصور، والذي عملت عليه برفقة الباحثة منى خالدي على جمع شهادات 12 امرأة فلسطينية من خلفيات وسيَر حياة مختلفة، يجمعهن التطريز الفلسطيني الذي كان حاضراً في مرحلة من حياة جميع السيدات على اختلاف النسخة التي عاشتها كل منهن من النكبة الفلسطينية؛ من النضال المسلح وحتى الوقوف على عتبات البيوت المسلوبة التي حلَّ فيها قادمون جدد، وأُسَرٌ تمزقت أوصالها مع تقطيع أوصال البقعة الجغرافية بحدود وإجراءات وأنظمة تأشيرات مجحفة. تحاول النساء في هذه العائلات إيجاد مصائر بديلة وحلولٍ للم شمل هذه العائلات قدر المستطاع. الفيلم الثاني، لميشيل خليفي يعود تاريخ إنتاجه إلى العام 1995، وهو فيلم روائي يتناول بشكل رمزي عناصر ثابتة في السيرة الفلسطينية، من النضال وكسر الحدود الزائفة والتشبث بالأرض معمّداً بالدم مقابل أفكار الرحيل، وذلك عبر قصة طفل وابن لمعتقل، يعيش في مخيم للاجئين في غزة أثناء انتفاضة الحجارة عام 1987، ورحلته للبحث عن جواهر مفقودة في قلادة ساعياً للسفر إلى أميركا الجنوبية تلبية لطلب فتاة أحبها.
صرح رمزي لذاكرة الاعتقال
في فيلم اصطياد أشباح الحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين 2017، يتلّمس رائد أنضوني خطوط ذاكرة معمّاة، ذاكرة مركز تحقيق المسكوبية في شمال القدس، الذي اقتيد إليه وهو ابن 19 عاماً «مطمّشاً» وغير قادر على رؤية تفاصيل المكان. في تلك العملية قهرٌ سيكولوجي وفيزيائي كما عبّر أنضوني في لقاء مُلتفَز. أصبحت هذه الذاكرة أشبه بشبح، يحاول هذا الفيلم الالتفاف عليها ومعاندة خيار الاستسلام لأسرها، بأن يعكس حركة المطاردة برفقة كاميرا التصوير ليصبح هو في موقع من يلاحقها حتى يتمكن من إعادة بنائها وتفكيكها.
تتوالى مشاهد الفيلم كقصة إطارية، فيلم داخل فيلم، وما نراه هو توثيق لتجهيزات التصوير وإعداد الفيلم الذي كان يفترض أن يكون فيلماً روائياً في بداية مراحل التفكير به، قبل أن ينتقل المخرج إلى خيار التوثيقي مع ما وفرته قصص وتفاعلات المشاركين الحقيقية من أصالة وإلهام. تبدأ المشاهد بمقابلات المخرج مع المستجيبين لإعلانٍ نشرهُ في جريدة، واستهدف معتقلين سابقين ممن يجيدون أعمال البناء والعمارة. تقدَّم أيضاً ممثلون وفنيون لم تنطبق عليهم الشروط ولكنهم تحمسوا للمشاركة في الفيلم، ووزِّعت بينهم أدوار ثلاثية المعتقل والسجان والمحقق، لتبدأ عملية تلمُّس خيوط الإبصار والرؤية بشكل جماعي داخل السرداب المعتم لذاكرة المعتقلين السابقين، والذين يتعاونون مع المخرج لتشييد ما يشبه صرحاً رمزياً لذاكرة الاعتقال وتجربتها، عبر بناء ديكورات الفيلم ومحاولة إعادة رسم المعتقل، منتزعين زاوية نظر وموقع سلطة الاعتقال.
عدا عن انتزاع السلطة على الذاكرة عبر إعادة البناء الإبداعية لمركز الاعتقال، تُمثل هذه العملية كذلك مقترحاً للتعامل مع صدمة خَلَّفتها هذه الذاكرة عبر الرجوع إليها، ونقلها إلى مساحة عيش اعتيادية تدور على هامشها، إلى جانب لحظات التعاون، شجارات ومشاحنات عمل يومية، ومكاشفات ولحظات عدوانية محمّلة بعنف متراكم. تنتقل الكاميرا بين المشاهد المكتوبة وبين ما هو خارج عن النص لتوثِّق هذه التفاعلات في لقطات مباشرة لمشاهد استعادة لحظات التحقيق بعنفها اللفظي والجسدي، وخياراتٍ بصرية أكثر خفراً وبُعداً عن التحديق المباشر في لحظات الانكسار التي يمر بها أحد المشاركين، كما في استرجاع أحد المعتقلين لقصة أخيه الذي كان معتقلاً معه في المركز نفسه، والتي يرويها لجمعٍ من فريق العمل وتتجنب الكاميرا التركيز عليه في لحظة كهذه، ليختار المخرج أخذ المشهد من زاوية منخفضة تُظهر أقدام الحاضرين فقط.
في مجمل المساحة المرئية من الفيلم هناك انحباسٌ في باطن الكيان المراد تفكيكه، المعتقل الذي تتجسد فيه سياسات منظومة القمع والتعمية، انحباسٌ مقصود، حتى يُتِمَّ الفيلم مقترحه الإبداعي في إجلاء الذاكرة، ومن ثم يفتح الباب للمرة الأولى على ضوء النهار وضجيج العالم الخارجي.
حتى تاريخ إنتاج الفيلم عام 2017 كان هناك مليون فلسطيني ممّن مروا على المعتقلات الإسرائيلية منذ عام 1948، وقد أتى خيار برمجته ضمن هذه الدورة من تظاهرة الأفلام السينمائية تفاعلاً مع الوقائع الحالية، التي عادت فيها قضية المعتقلين الفلسطينيين لتَصَدُّر التقارير إلى جانب الحرب المستمرة على غزة، مع ورود أنباء عن ظروف اعتقالٍ عنيفة وتعسفية لم تُشهد منذ العام 67، ومع تضاعف عدد المعتقلين منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) فقط إلى قرابة 11 ألف معتقل، واستلام الجيش في إسرائيل لإدارة السجون من بين قطاعات أخرى بذريعة الحرب، مع العلم أن لوكيشن تصوير فيلم اصطياد أشباح قد تحوَّلَ في أيام الحرب إلى مركز تَجمُّع للعمال الغزيين ممّن تقطعت بهم سبل العودة إلى غزة.