بعد مرور أكثر من شهرين على الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لا يمكننا تجنُّب النظر إلى تطورات المشهد في الضفة الغربية؛ تتعدد الانتهاكات ويختلف حجمها وتأثيرها، لكن الاحتلال واحد، احتلالٌ يوغل في كل ما هو فلسطيني أينما وُجِد. طوال هذه المدة، ما زلتُ أخرجُ بشكل يومي في رام الله إلى عملي بطبيعة الحال، وكذلك كي أحاولَ رصدَ الحالة العامة في الشارع. بعد شهرين، بدأت نظرات اليأس التي يحملها الناس تخترقني، فالأغاني الوطنية الحماسية التي كانت تصدح من مكبرات الصوت الضخمة توقفت، بعدما أثبتت عدم جدواها أمام اليأس وضيق الحال الذي أصبح أكبر من أن تُعزّيه أغنية وطنية. رائحة الدم العابرة للحدود، من الشمال إلى الجنوب، فاقت كل شيء. أصبح الصمت أكثر حضوراً في الشارع.
قتل لا يتوقف
تجريفٌ في البنية التحتية، قصفٌ بالطائرات المسيرة، اعتقالاتٌ مصحوبة بتنكيل وضرب مبرح، قنابلُ مسيلة للدموع، تفجيرٌ لأبواب المنازل، قناصون يعتلون أسطح البنايات وإطلاقٌ للرصاص الحي؛ هكذا يبدو المشهد اليومي في الضفة الغربية، تحديداً في ساعات ما بعد منتصف الليل. لم يظهر هذا المشهد فجأةً في السابع من أكتوبر، لكنه تضاعفَ وتوسَّعَ حتى أصبح سلوكاً يومياً، ينتهجه الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحامه مدن الضفة الغربية من وسطها إلى شمالها وصولاً إلى جنوبها.
منذ السابع من أكتوبر اعتقل الاحتلال الإسرائيلي قرابة 4400 فلسطيني وفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وأراضي 48 حسب هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعادةً ما تترافق هذه الاعتقالات مع طقوس استعمارية يُدركها كل بيت فلسطيني. تخيَّلوا معي؛ أنت نائم ليلاً وإذ بأصوات غريبة تحيط بمنزلك، إن كنت محظوظاً وصحوت سريعاً ستجد باب منزلك في مكانه، تفتحه لتجد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججة بالسلاح أمامك. وإن كان نومك ثقيلاً ستصحو مفزوعاً على صوت تفجير باب منزلك، وقوات الاحتلال أمامك تبحث عن أحد أفراد الأسرة، وغالباً دون سبب معروف للاعتقال، ولا يمكنك أن تسأل كيف ولماذا وإلى أين؟ هذه أسئلة تفقد معناها لحظة دخول قوات الاحتلال منزلك، يصحبها إدراك أن هذا المنزل لن يبقى على حاله، فجنود الاحتلال يحطمون ببساطة أي شيء يرونه أمامهم أثناء بحثهم بهمجية مفرطة عن لا شيء مُحدَّد. يبحثون في كل الزوايا والأماكن، وقد يحتجزون عائلتك في إحدى الغرف ويغلقون الباب عليهم لإجبارك على الاتصال بالشخص المطلوب حتى يُسلّم نفسه، كما يتعرضون بالضرب والاعتداء عليك وعلى أسرتك في الغالب، بالإضافة إلى عمليات سرقة ونهب تُميّز اقتحاماتهم الليلية، وهذا ما تدعمه شهادات حية عديدة هذه الأيام في قطاع غزة، حيث يقوم الجنود هناك بسرقة المنازل التي أُجبر أهلها على النزوح.
وشهدت الضفة الغربية على مدار العامين الماضيين حالة انتشار واسعة لبؤر المقاومة في جنين ونابلس وكذلك في طولكرم وأريحا، وقد استطاعت هذه البؤر أن تخلق شكلاً جديداً من المقاومة، يقودها شباب فلسطينيون في متوسط أعمارهم على امتداد محافظات الضفة الغربية. مع طوفان الأقصى كان هناك حالة من ترقب ما يمكن أن تُضيفه هذه المجموعات، رغم إدراك أنها مجموعات مسلحة متواضعة بقدراتها وإمكانياتها.
يتحدث كريم قرط، الباحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية – رام الله، عن ظاهرة المجموعات المسلحة في السنتين الأخيرتين وواقع دورها في الظروف الحالية: «يبدو أن هذه الظاهرة لم تستطع التوسع والتطور السريع بما يتوافق مع جملة التحديات المفروضة على الضفة الغربية، وأهمها مشروع الضم الفعلي الذي تزّعمته حكومة نتانياهو– سموتريتش – بن غفير، وذلك لعدة أسباب أهمها كثافة ملاحقة قوات الاحتلال لهذه الظاهرة واستهدافها في مهدها، وأيضاً الدور الذي لعبته السلطة الفلسطينية بأجهزتها الأمنية والمدنية في مواجهة هذه الظاهرة والحيلولة دون توسّعها. شهدنا قبيل العدوان على غزة عمليات استهداف ومواجهات متكررة بين عناصر في الأجهزة الأمنية والمقاومين في مختلف بؤر المقاومة، خاصة جنين وطولكرم ونابلس، هذا فضلاً عن اعتقال المقاومين ومحاولة تحييدهم عبر تقديم إغراءات وتسهيلات مالية ووظيفية في مؤسسات السلطة».
وقد ارتفعت حصيلة الشهداء الفلسطينيين بشكل كبير في محافظات الضفة الغربية المختلفة خلال الأيام القليلة الماضية، إذ وصل عدد الشهداء منذ السابع من أكتوبر حتى اللحظة إلى نحو 286 شهيداً، وهو رقم كبير خلال فترة شهرين إذا ما قورنَ بحصيلة الشهداء في الضفة الغربية على مدار العام الماضي، حيث بلغ العدد نحو 230 شهيداً على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين خلال العام كلّه.
سألنا الباحث كريم قرط عن السياسات التي ينتهجها الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية ومدى تأثيرها على الحالة الشعبية؛ يجيب: «سياسات الاحتلال قد تؤدي إلى نتائج عكسية، فالعدوان المتصاعد على الضفة الغربية الذي يترافق مع حرب نفسية شرسة وحصار اقتصادي له أهداف بعيدة المدى؛ وهي إحداث صدمة جماعية في الضفة تهدف إلى إعادة تشكيل وعي الناس وترهيبهم من عواقب المقاومة أو تأييدها. أيضاً تساهم الملاحقة المستمرة والاعتقالات الكثيفة للنشطاء والشخصيات القيادية في إفراغ الضفة من القوى القادرة على توجيه الشارع والتأثير فيه، كما أن تقسيم الضفة الغربية وعزلها عن بعضها يساهم في تقليل إمكانية حصول تحرك جماعي، وإلى جانب ذلك تلعب السلطة الفلسطينية دوراً في تهدئة الشارع في الضفة الغربية وذلك من خلال قمع المظاهرات وتوجيهها بما يتناسب مع سياسة السلطة. على سبيل المثال السلطة الفلسطينية اليوم تُسيّر دوام المدارس عن بعد، بهدف إخماد أي حراك من الممكن أن يقوده الطلاب».
يضيف كريم قرط: «هناك مؤشرات تدل على أن الضفة الغربية في ظروف معينة يمكن أن تنفجر، ومنها أن الاحتلال لم يستطع منع استقبال الأسرى المحرَّرين الذي تحوَّلَ إلى مواجهات عنيفة أثبتت للاحتلال أن سياسته ليست فعالة. ومع ذلك، مسألة انفجار الضفة تحتاج إلى كثير من العوامل المهيئة ومنها وجود قيادة قادرة على توجيه الشارع وتنظيم تحركاته».
لم يسلَم الأسرى المحرّرون ضمن صفقات تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال من الانتهاكات المتصاعدة في الضفة الغربية، حيث عقدت محكمة الصلح في حيفا يوم 11 كانون الأول (ديسمير) جلسة محاكمة غيابية للأسيرة المحررة فدوى حمادة، بدعوى أنها ارتكبت مخالفات خلال سنوات أسرها ضد إدارة وشرطة السجون ويجب محاسبتها. أيضاً لاحقَ الاحتلال الأسرى والأسيرات المحررين-ات، تحديداً الأطفال منهم، حيث نشر نواف السلايمة والد الأسير المقدسي المحرر الطفل أحمد السلايمة، أن أحمد مُنع من العودة إلى مدرسته حسب قرار أصدرته وزارة المعارف والبلدية التابعة للاحتلال في القدس.
منذ السابع من أكتوبر تتكرّر أسئلة حول مستقبل الضفة الغربية، وحول واقع ارتباطها بالعدوان على غزة، وهل من الممكن أن يكون هناك جبهة مقاومة في الضفة من شأنها أن تخفف الضغط على غزة؟ وهل من الممكن أن تنتهي الحرب في غزة وتبدأ في الضفة الغربية؟ كلها أسئلة تصحبها مخاوف بشأن مستقبل القضية الفلسطينية التي تتأرجح بين قيادة سياسية لا مبالية، وهدوء شعبي يمكن فهمه في عدة سياقات.
يقول قرط: «مستقبل الضفة الغربية سيتحدد بناءاً على نتائج المعركة في قطاع غزة، فهزيمة الاحتلال يمكن أن تؤدي إلى إجباره على تقديم تنازلات لطالما رفضها، وذلك نتيجة للضغط العالمي وإعادة إحياء القضية الفلسطينية والاتفاق شبه الكامل بين مختلف القوى الإقليمية والدولية على أن حلَّ الصراع يكمن في تنفيذ حل الدولتين. لكن هذا الأمر غير مؤكد الحدوث دون قيادة في الضفة قادرة على استثمار اللحظة والتصدي للمشروع الاستيطاني. بشكل عام، تشير سياسات الاحتلال في الضفة الغربية خلال العدوان إلى أن الاحتلال بدأ بتسريع تنفيذ مخطط الضمّ الفعلي والتهجير، ومن أهداف هذه السياسات العدوانية المتصاعدة أن تدفع الفلسطينيين للرحيل عن أرضهم تحت مسمى ’الهجرة الطوعية‘ التي ينادي سموتريتش بها، وهي فكرة صهيونية قديمة جديدة غير مقتصرة عليه. الخطير في موضوع الضفة أن صمت العالم والدول العربية والإقليمية عن الإبادة والمجازر في قطاع غزة قد يشكل إغراءاً للاحتلال لإعادة تطبيقها في الضفة الغربية، من خلال المستوطنين على الأقل، لتسريع عملية التهجير. لذلك من الضروري أن تكون هناك خطة مواجهة شاملة تفضي إلى إيقاف الإبادة في قطاع غزة وردع الاحتلال حتى لا تتكرر هذه الإبادة في الضفة».
خلال كتابة هذا المقال استهدفت طائرة مسيرة لقوات الاحتلال الإسرائيلي مجموعة من الشبان في مدينة جنين وقتلت خمسة منهم.
اقتصاد على حافة الانهيار
يضرب الاستعمار في عمق كل مناحي الحياة المتصلة بالإنسان وسلوكه اليومي. بعد حرب 1967 اعتمدت دولة الاحتلال بشكل أساسي على منهجيات اقتصادية تسعى لنزع الفلسطيني من أرضه، وتحويله إلى تابع يتحرك ضمن سيطرة اقتصادية إسرائيلية لا يقوى على الانفكاك من تبعيتها. وأبرز مظاهر هذه السيطرة الاقتصادية هي استيعاب العمالة الفلسطينية لصالح السوق الإسرائيلي، مع اعتماد رفع الأجور للعمالة داخل الخط الأخضر مقارنة بأجور العاملين في الضفة الغربية وقطاع غزة. جعلت هذه السياسات من العامل الفلسطيني مرتهناً للاقتصاد الإسرائيلي، وكل هذا وأكثر كان مقترناً بظروف معقدة تحد من الاستثمار في الأراضي الفلسطينية ومن إمكانية رفع أجرة العمال هناك بما يناسب الكلفة المعيشية اليومية.
حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر يبلغ 178 ألف عامل، وتبلغ فاتورة أجورهم شهرياً أكثر من 1.5 مليار شيكل (400 مليون دولار شهري). معظم هؤلاء العمال في بيوتهم اليوم، ولا توجد إحصاءات رسمية بشأن ما إذا كان هناك عمال لا يزالون داخل الخط الأخضر، أو ما إذا كان هناك قطاعات سُمح لبعض عمالها بالدخول، لكن المؤكد أن هذا الواقع يؤثر على اقتصاد الضفة الغربية بشكل كبير، خاصةً أن عمّال الخط الأخضر مُحرّك أساسي لاقتصاد الضفة الغربية.
في 10 كانون الأول (ديسمبر) صوّتَ الكابينيت (مجلس الحكومة الإسرائيلي الاقتصادي والاجتماعي) الذي يتزعمه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش ضد عودة العمال الفلسطينيين إلى العمل داخل الخط الأخضر، ورفع توصية للكابينيت الموسّع السياسي والأمني بعدم السماح بإدخال أي فلسطيني إلى سوق العمل داخل الخط الأخضر. اجتمعَ الكابينت السياسي الأمني لاحقاً وصوَّتَ غالبية وزرائه ضد عودة العمال، وذلك رغم التأكيدات بأن هناك حاجة فورية لآلاف العمال تحديداً في القطاع الزراعي.
يُشير هذا الواقع بشكل واضح إلى أن اليمين المتطرف الإسرائيلي هو صاحب القرار الحقيقي في واقع الضفة الغربية وارتباطاته مع دولة الاحتلال، ويشير أيضاً إلى أن الأمن حالياً له أولوية قصوى على الاقتصاد بالنسبة لإسرائيل، لكن استمرار هذا الحصار على الضفة الغربية متمثلاً في خنقها اقتصادياً وتقطيعها وعزلها قد ينبئ بانفجار أمني واجتماعي فيها.
لا يقتصر التحكم والسيطرة الاقتصادية على العمالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، بل يمتد ليصل إلى داخل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تسيطر إسرائيل على أموال المقاصّة الفلسطينية، أي عائدات الضرائب الفلسطينية، وهي الأموال التي تشكل مصدراً أساسياً لدفع رواتب الموظفين العموميين، حيث تقوم إسرائيل بتسديد أموال المقاصّة للسلطة الفلسطينية بشكل شهري والتي تشكل ثلثي ميزانية السلطة الفلسطينية، لتقوم الأخيرة بدفع رواتب 140 ألف موظف في القطاع العام وقرابة 53 ألف موظف متقاعد.
مع تصاعد الحرب على قطاع غزة، وتحديداً في 30 تشرين الأول (أكتوبر)، جمَّدَ وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أموال المقاصّة الفلسطينية بسبب عدم إدانة السلطة الفلسطينية لعملية طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر. ولاحقاً أمر وزير الدفاع يوآف غالانت بتحويل أموال المقاصّة إلى السلطة الفلسطينية منقوصة حصة غزة، لترفضَ السلطة استلام الأموال منقوصة. الضائقة المالية التي يعاني منها موظفو القطاع العام ليست جديدة، فخلال العامين الأخيرين أصبح موظفو القطاع العام يتقاضون رواتبهم بنسبة 80 بالمئة فقط.
تُقدَّر أموال المقاصّة الفلسطينية بأكثر من 750 مليون شيكل أي 190 مليون دولار شهرياً، وهي مُحرّك أساسي لاقتصاد الضفة الغربية إلى جانب العمالة الفلسطينية في الخط الأخضر، تحديداً في ظل تضرر القطاع الخاص الذي ينتهج حالياً سياسات تعتمد على تقليل عدد ساعات العمل، أو عدد الموظفين، أو حتى قيمة الرواتب المدفوعة في غالبية القطاعات.
سلطة فلسطينية غائبة
سيناريوهات عديدة تُطرح منذ أكثر من شهرين حول واقع السلطة الفلسطينية ككيان حاكم للضفة الغربية، ما هو دورها في إطار حرب الإبادة على غزة، وما هو مستقبلها؟
يقول الباحث كريم قرط حول مستقبل السلطة الفلسطينية: «يمكن القول إن المستوى الرسمي غائبٌ كلياً عن مجرى الأحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما زال يراهن على إمكانية حصوله على دور في مستقبل الضفة وغزة من خلال التساوق مع المشاريع الأميركية. لكن الواضح أن أميركا ودولة الاحتلال تريدان تغيير قيادة السلطة وإيجاد قيادة جديدة متواطئة تماماً مع مخططات الاحتلال. حديث بايدن المتكرر عن سلطة فلسطينية متجددة، وتكرار نتنياهو رفضه لأي دور للسلطة التي تُعلّم أبناءها ’الإرهاب‘ و’معاداة السامية‘ على حد وصفه، يشير إلى الرغبة الحقيقية لدى الاحتلال وأميركا بإحداث تغيير في قيادة السلطة وبنيتها».
نقلت تايمز أوف إسرائيل عن أحد مستشاري محمود عباس المقربين، محمود الهباش، تصريحاً مَفاده أن الرئيس عباس أدان حماس في كل مكالمة واجتماع عقده منذ السابع من أكتوبر، هذا عدا عن تصريحات لأحمد المجدلاني عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية قال فيها إن السلطة مستعدة لتولي المسؤولية في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب على غزة، وكل هذه التصريحات وأكثر لم تُشر ولو لمرة واحدة عن توجه لدى القيادة الفلسطينية مُمثَّلة في محمود عباس وحكومته بالتواصل مع حركة حماس، التي يخوض جناحها العسكري اليوم المعركة في قطاع غزة.
يقول قرط: «يبدو أن قيادة السلطة غير مدركة لمخططات الاحتلال، فحتى اللحظة لم يهاتف أي مسؤول في السلطة أي أحد من قيادات المقاومة، فضلاً عن عقد اجتماع قيادي كما درجت العادة. وهو ما يعني أن السلطة لا تضع في حساباتها تنسيق المواقف والخطط مع فصائل المقاومة لمواجهة مخططات الاحتلال، وهذا ما يُضعف الموقف الفلسطيني ويساهم في استفراد الاحتلال بقطاع غزة حالياً، ما قد يمكُّنه من الانتقال للاستفراد بالضفة في المرحلة القادمة».
واضحٌ للعيان أن السلطة الفلسطينية تحاول اليوم أن تستمد شرعية وجودها من منظمة التحرير الفلسطينية التي تعتبرها مرجعية للشعب الفلسطيني، لكن الواقع في الشارع الفلسطيني يُشير إلى أن هناك اعتقاداً واضحاً عند فئة كبيرة من الفلسطينيين بأن السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح في صف واحد منفصل تماماً عن واقع التحديات المفروضة على الفلسطينيين في الضفة الغربية، والواقع الذي فرضته الحرب على قطاع غزة، وهذا اعتقادٌ كان حاضراً أيضاً قبل 7 أكتوبر.
كانت السلطة الفلسطينية تسعى قبل الحرب إلى الهدوء، سواء على الصعيد الفلسطيني الداخلي أو على صعيد الاحتكاك مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث شهدت الفترة الماضية داخلياً عملاً جاداً يهدف إلى تحييد كل الخصوم والمنافسين داخل اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، ما كان يبدو أشبه بترتيب البيت الداخلي لمرحلة لاحقة غير واضحة الملامح.
يقول نضال فقهاء، وهو خبير في الشؤون السياسية: «نسبة القتل والدمار وحجم التهديد على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، بما في ذلك إمكانية تهجير جزء من سكان قطاع غزة، تجعل من أي موقف، سواء كان فلسطينياً رسمياً أو إقليمياً أو دولياً، دون مستوى الاستجابة المطلوبة لهذه الأخطار. السلطة الفلسطينية على الرغم من ضعفها إلا أنها تحاول أكثر من خلال القنوات الدبلوماسية في إطار اللجنة الوزارية المنبثقة عن اجتماع القمة العربية/ الإسلامية، وهذا بحد ذاته يمكن أن يعفي بعض الأطراف العربية الأخرى، لكن المطلوب من السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير أن تكون أكثر ضغطاً وحتى إزعاجاً على الصعيدين الإقليمي والدولي فيما يتعلق بوقف فوري لإطلاق النار».
حول المستقبل واحتمالية حصول أي اتفاق بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية يقول فقهاء: «لا أرى فرصة للشراكة السياسية على المدى المنظور، لأن ما لم يتم إدراكه على مدار 17 عاماً بالرغم من الدعم الإقليمي والمباركة الدولية نسبياً قد لا يكون متاحاً الآن. السيناريو الأمثل هو سلطة وطنية فلسطينية تتحمل المسؤولية عن الضفة وغزة وتقود إلى دولة فلسطينية مستقلة. لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار خطط إسرائيل الاستيطانية في الضفة، والأهم من ذلك ما سوف تنتهي عليه هذه الحرب، لأنه إذا حققت إسرائيل أهدافها في غزة بتهجير قسري للفلسطينيين سواء داخل القطاع أو خارجه فإن الضفة ستكون عرضة لخطر الاستيطان والضمّ، ما يهدد مشروع الدولة».
من المؤكد أن حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة لا يمكن فصلها عن واقع الضفة الغربية ومخططات الضمّ التي تسعى حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي إلى تنفيذها، والتي تُتَرجَم بشكل فعلي يومياً حتى ما قبل الحرب، وارتفعت كثافتها بعد 7 أكتوبر. صحيحٌ أن حرب الإبادة بشكل ما أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة عالمياً، وفتحت الباب أمام سيناريوهات حلّ «الصراع»، لكن يبقى أن هناك نقاشاً لا يمكننا إغفاله بشأن من سيكون اللاعب الفلسطيني الرئيسي في هذا المستقبل؛ هل سيكون شريكُ الخلاف اليوم هو شريكُ الحلّ مستقبلاً؟ أم أن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي لديها فرصٌ تلوح هنا وهناك؟