تنويه: تتضمن المراجعة توصيفاً لأحداث الفيلم.

بعد فترة انقطاع طويلة للمخرج ورسام الأنيمشن الأشهر هاياو ميازاكي الياباني، الذي أعلن عن تقاعده آخر مرة عام 2013 مع فيلم صعود الرياح بعد إعلانات شبيهة سبقته في الأعوام 2001 و1997، جاء فيلم الصبي ومالك الحزين. على الرغم من الخطوة المقصودة المتمثِّلة في عدم الترويج للفيلم الذي أُطلق في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) في العاصمة باريس – بعد أن كانت عروضه اليابانية الأولى في شهر تموز (يوليو) – اسم ميازاكي واستديو جيبلي كانا كفيلان بجذب محبات-ي أعماله وملء صالات السينما. استُلهمت فكرة العمل العامة من رواية وأنتم كيف تعيشون حياتكم؟ التي صدرت عام 1937. في غياب المواد الترويجية، انتظر المتفرجون-ات ما سيُعرض عليهم متسائلين عن مدى قرب هذا العمل من روح وعوالم الأفلام السابقة لميازاكي.

تدور قصة الفيلم حول صبي يدعى ماهيتو خسر والدته في حريق في المشفى إبان الحرب العالمية الثانية عام 1943. ينتقل الصبي مع والده من طوكيو التي يشهد دمارها – كما ميازاكي طفلاً – إلى القرية التي عاشت فيها والدته طفولتها. من خلال عيون ماهيتو الصغير، نتعرَّف لأول مرة على زوجة والده التي تشبه والدته شبهاً سيلعب دوراً مع تتابع أحداث الفيلم. أثناء غياب والده الذي يعمل في مصنع للطائرات، يقضي ماهيتو الحزين والغاضب أيامه في المنزل مع عدد من الجدات ومع زوجة أبيه التي تنتظر مولوداً قادماً. تتكثف تعاسة ماهيتو في كوابيس يتكرر فيها مشهد صراخ والدته محترقةً بنيران الانفجار. وحيداً خلال نزهاته في الطبيعة يكتشف منزلاً قديماً يمكن دخوله من خلال نفق ضيق شبه مسدود. كذلك، يجد نفسه في أكثر من موقف في مواجهة طائر مالك حزين غريب يبادره بسلوك عدواني. هذه الحوادث ومجموعة أخرى مشابهة تُصعِّد من حالة اغتراب ماهيتو عن واقعه الجديد، وغضبه إذ يتعمد إيذاء نفسه داخلاً بحمى تتكرر فيها سلسلة الكوابيس ذاتها. في مساحة بين الحلم واليقظة وبين الحياة والموت، يبدأ فصل جديد من رحلة الصبي، رحلة محمّلة بمقترحاتٍ للتعامل مع الفقدان والرحيل والوقائع القاسية. في العالم السحري الذي يحمل في جنباته شعوراً مستبطناً بالقلق، يقابل ماهيتو عدداً من الشخصيات والكائنات الخيالية التي تشكِّل بمجموعها عناصرَ من واقعٍ يسعى فيه لإيجاد التوازن الداخلي. بين شخصيات من الماضي وبين أموات أحياء، يدور ماهيتو في فلك كثيف بتأثيره وبعمق أبعاده، ضمن طبقات متعددة يلتقي فيها بحيوانات وطيور تحمل دلالات مختلفة، حيث يبحث في معنى الموت والخسارة ومعنى الشوق والمحبة والقبول. في ختام الرحلة تقود الشخصيات المتعددة ماهيتو نحو معارف تحمله على فهم ذاته وإدراك أهمية من حوله من الأحياء. 

يعالج العمل عدة موضوعات، من ذلك، أن فيلم الصبي ومالك الحزين يبدو عملاً نفسياً بقدر ما هو سياسي. يرصد تفاصيل ألم طفل فقد والدته بقدر ما يستطيع أن يحاكم العنف ويُظهر عبثيته وقهريَّته. تحمل شخصيات العمل، في العالم الموازي للواقع الذي يجد ماهيتو نفسه فيه، رمزية عالية تجمع معان وصوراً نفسية وذاتية بقدر ما هي مرتبطة بالعام، حيث الحرب المهولة بتأثيرها الجمعي. تجسيد الديكتوتارية ونزعات العنف فنياً يظهر في الفيلم عبر تجسيد طيور ملونة لجنرالات وجنود حرب، والتي تهدد سلام عالم الطفل الداخلي. في المقابل، يشكل لقاء ماهيتو بعمه الأكبر مرافقاً والدته بشخصيتها كطفلة صغيرة، محطةً تساعده على إيجاد السلام والأمان الداخلي ليستطيع تجاوز تروما الحرب والفقد. لذا يحتل الجانب النفسي مساحة خاصة، حيث يستمر تفصيل إصابة رأس ماهيتو بالظهور أثناء رحلته لإيجاد زوجة أبيه. أي يظل الجرح حاضراً، إلى أن يستطيع ماهيتو التأمل بأثر غضبه على ذاته وعلى من حوله، ليتحول ذلك التفصيل إلى رمز لرحلة التعافي النفسي وتحدياتها.

الخوض فنياً في مشاعر وأسئلة اليُتم والرغبة بالتعافي من الفقد ليس مهمة سهلة، وربما يشكل تحدياً أكبر لدى العمل على فيلم أنيمشن موجه للفئات الأصغر أيضاً، التحدي الذي لم يقيّد فيلم الأنيمشن، حيث لم يتجنب تقديم لحظة خسارة ماهيتو لوالدته منذ المشهد الأول، حين تستعر النار بالمشفى الذي يبدو أنه تعرض للقصف، وحين نرى ونسمع صراخ والدة ماهيتو تطلب النجدة وسط النيران بحسب ما تراءى لابنها الصغير. كذلك، لا يواري الفيلم العنف لحظة هجوم الطيور البيضاء الشرسة على حيوانات الوراورا اللطيفة والتهامها. تأتي هذه المشاهد القاسية دون أن تخرجنا من عالم الحلم الذي يضعنا فيه العمل، ودون أن يخسر جانبه الخيالي، ومع حفاظ الفيلم على روح مرحة ولحظات كوميدية وسط بحثه في موضوعات مؤلمة. 

تحضر الطبيعة في هذا الفيلم كما في معظم أعمال ميازاكي، كمساحة تنبض بالجمال والغموض. لكن على خلاف فيلم جاري توتورو وغيره من أفلامه المعروفة، لا تمنح الطبيعة السلام لماهيتو في بداية فيلم الصبي ومالك الحزين، بل يجد نفسه في مواجهة معها. هذه العدائية تجاه مالك الحزين والضفادع والأسماك بدايةً، تبين الغضب المعتمل في قلب الطفل الذي يسن سلاحاً ليحاربها. تتغير علاقة ماهيتو تدريجياً تجاه الطبيعة، حيث يساعده مالك الحزين في رحلته ليجد زوجة أبيه المفقودة. هنا، ومع وصول ماهيتو لفهم أعمق لتجربة الفقد، يصبح أكثر رقة مع الكائنات حوله. تُشابه قصة ماهيتو الذي خسر والدته قصة حياة ميازاكي، كاتب ومخرج العمل، والذي أهدى هذا الفيلم لحفيده في إشارة لحميمية ورمزية هذا العمل لصاحبه. 

رغم كوننا نعيش في عالم تسيطر فيه تكنولوجيا الأبعاد الثلاثية، إلا أن أنيميشن الصبي ومالك الحزين استطاع أن ينشر سحره بلمسته الوفية للأنيميشن الكلاسيكي. من اللافت في الفيلم طريقة إخراجه حيث كل مشهد هو لوحة فنية منفصلة تأسر المتابع-ة بجمالها وتفاصيلها الدقيقة. يأتي انعكاس النور على الأثاث في بعض اللقطات ليحاكي اللوحات الفنية الخلابة. عمِل 60 فنان-ة على رسم العمل باليد، ليمتد رسم 30 دقيقة على مدار ثلاث سنوات من الإنتاج. علاوة على ذلك، تشكل موسيقى العمل مادة تعزز جمالياته وهي من تأليف الملحن جو هيسايشي. في الإجابة على سؤال، إن كان يمتلك هذا العمل ذات الروح الخاصة بميازاكي، فهو كذلك، رغم كونه يتميز بلمسة من الحزن العميق والفخامة المبالغة بتقديم إطاراته الفنية، خاصة كونه من الأفلام ذات الميزانية الأعلى في تاريخ السينما اليابانية. 

مع كل جماليات العمل، إلا أن القصة بتفرعاتها تشكل تحدياً على التلقي من أول مرة، خاصة أنه موجّه للفئات الصغيرة عمرياً كما للبالغات-ين. خلال بحث ماهيتو عن والدته يقابل شخصيات تحاكي نفسها في الماضي، أي في عمر أصغر من العمر الذي يعرفها ماهيتو فيه، كما في حالة والدته، ما يضفي تعقيداً على القصة. حتى الحدث المحرك للعمل الذي يمضي فيه ماهيتو برحلته يشمل فعلين، فهو يبحث عن والدته وعن زوجة أبيه في ذات الوقت. في المقابل، يشكل هذا التحدي سبباً يدفع إلى العودة مرة أخرى للتمعن بالفيلم والاستمتاع بتفاصيله التي قد تغيب عن البال في المتابعة الأولى، شأن الأعمال التي تجذبنا لمتابعتها مرراً.