ليس هناك أوفى من تعبير حيوان سياسي في الفرنسية لوصف رياض الترك الذي غاب عن عالمنا البارحة. التعبير الفرنسي يُقصَد به الثناء، تقدير الكفاءات السياسية لبعض القادة؛ ويمتزج فيه العيش للسياسة والتكرُّس لها، والتفاني في خدمة قضية عامة، والعناد والدأب، وتمييز السياسة عن غيرها من حقول مجاورة مثل الإيديولوجيا والدين والجماعة والمجتمع، على نحو لخَّصه الرجل مرة في عام 2005 بعبارة «قُبِّيض بقبيض»، وهو تعبيرٌ شعبيٌ عن التسديد وقت الاستلام. وقصد به في حينه أن المعارضة لا يجب أن تُعطي للنظام شيئاً دون أن تنال في مقابله شيئاً. عاش الرجل معظم حياته في مجتمع محروم من السياسة، لا تكاد تفيد الأهليات السياسية المحتملة لسكانه، وهذا مقابل زعيم طاغية واحد مؤلَّه، وضع رياض الترك في السجن لسبعة عشر عاماً وثمانية شهور بين عامي 1980 و1998، قبل أن يحبسه ابنه لعام وربع بين مطلع أيلول (سبتمبر) 2001، وأواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 2002.
بعد خروجه من السجن الثاني، وكان في الثانية والسبعين من عمره، ويحظى بشعبية واسعة، فاتحُه كثيرون في وجوب أن يترك العمل الحزبي المباشر وأن يتمثَّلَ دوره في مرجعية وطنية فوق حزبية أو مستقلة عن الأحزاب. رياض الترك، الذي يسمع ويُطنّش، سمعَ وطنّش. وأُقدِّرُ أن وراء ذلك تكوين الحيوان السياسي الذي يُدرك أن السياسة أولاً وقبل كل شيء موازين قوى، وأنه بدون تنظيم ليس هناك أمل بالتأثير على هذه الموازين. وقتها، في غير حديث له، وفي محاضرته في منتدى الأتاسي في 5 آب 2001، تكلّمَ على توازن الضعف بين النظام والمعارضة. كان يعرف المعارضة وضعفها جيداً، لكنه قدّرَ أن النظام متضعضع كذلك. لكن موازين المعارضة لم تثقل، وما كان مختلاً أقل صار مختلاً أكثر، ولم تنجح المساعي لبناء كتلة معارضة وازنة وجذرية في آن. ولعلّ رياض الترك لم يُسهّل الأمر على بعض الشركاء المحتملين، دون أن يكون سبب ذلك حصراً أن هؤلاء الشركاء لا يتحمّلون «الدعك» الذي كان هو متمرّساً في تحمّله.
عاشَ رياض الترك حياة نضال وتفانٍ، ولم يتوقع مكافأة من أي نوع. أراد تغيير سورية ديمقراطياً، ولم ينجح. وقد يكون أكثر ما آلمه هو اضطراره للخروج من البلد عام 2018، وقد كان في الثامنة والثمانين. خرج كي لا يموت متوارياً في الداخل و«يبتلي» رفاقه به. الرجل الذي توفيت شريكة حياته أسماء الفيصل في العام نفسه في كنف ابنتهما نسرين في كندا، مات في كنف ابنتهما الثانية خزامى قرب باريس. كانت الابنتان طفلتان وقت اعتُقل الأب عام 1980.
رياض الترك اعتُقلَ عام 1959 أيام الوحدة مع مصر، وتعرَّضَ لتعذيب خارق فقد على إثره السمع وكاد يفقد حياته، بل راجت وقتها شائعة أنه مات، وهذا بعد أن كان رفيقه فرج الله الحلو قد قُتل تحت التعذيب في الفترة نفسها، ما اضطر نظام الوحدة إلى إظهاره حياً في التلفزيون لنفي شائعة موته. سيقول رياض الترك لاحقاً إن كل ما عاشه بعد ذلك، أي كل ما بعد 29 عاماً من عمره، هو عُمْرٌ زائد.
بعد هزيمة حزيران 1967 كان الترك بين الشيوعيين السوريين الذين دعموا العمل الفدائي وعرضوا منزعاً استقلالياً حيال الاتحاد السوفييتي، وأظهروا ميولاً قومية عربية، وقت كان ذلك يعني اقتراباً أكثر من السياسي، وتعريفاً للنفس بالسياسي أكثر من الإيديولوجي. وحين انشقَّ الحزب الشيوعي السوري عام 1972 كان أكثرية أعضاء المكتب السياسي (5 من 7) وكتلة وازنة، وربما الأكبر من التنظيم، ضد كتلة الأمين العام خالد بكداش الذي بادر، ومعه عضو المكتب السياسي الآخر، يوسف فيصل، إلى إصدار بيان في 3 نيسان 1972 يتكلم على «زمرة تحريفية انتهازية مغامرة» يقودها رياض الترك… الترك كان بالفعل على رأس هذه الكتلة الكبيرة نسبياً والتي لم تتماسك، وبعد شهور قليلة عاد ثلاثة من خمسة من أعضاء المكتب السياسي إلى الحزب الأصلي المدعوم سوفييتياً، لكن كان اسم الحزب الشيوعي- المكتب السياسي قد التصق بالتشكيل الجديد.
لم تكن معارضة النظام نقطة خلافية وقتها، وكان المؤتمر الرابع للحزب عام 1974 لا يزال يتكلم على نظام وطني تقدمي. فقط بعد التدخل السوري في لبنان عام 1976 تحوَّلَ الحزب إلى معارضة تزداد جذرية للنظام، وتَعي نفسها كمعارضة ديمقراطية. يلتقي هنا تحول سياسي يتمثل في دكتاتورية تزداد عتواً، تحكم البلد منذ 6 سنوات وقتها؛ فترة تبقى رغم قصرها بمقاييس اليوم أطولَ فترة حكم متواصل لرئيس سوري بعد الاستقلال، أقول يلتقي بتحوُّل جيوسياسي يتمثّل في نصب نظام حافظ الاسد خطوط دفاعه خارج البلد، واندراجه في التركيبة الإقليمية الشرق أوسطية كدكتاتورية موثوقة تفي بالتزاماتها الدولية. منذ كان وزيراً للدفاع قبل عام 1970، كان حافظ الأسد قد منع قيام أي مقاومة فلسطينية مسلحة انطلاقاً من الجبهة السورية، رغم احتلال القنيطرة ومرتفعات الجولان ورغم مئات ألوف اللاجئين الفلسطينيين في البلد. ولذلك انتقلت المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد الأردن إلى لبنان الذي لا تحتل إسرائيل أرضاً منه، لا إلى البلد الأقرب، سورية.
كان شعار الحزب الشيوعي- المكتب السياسي هو: «تحرير، ديمقراطية شعبية، اشتراكية علمية، وحدة عربية»، وبعد المؤتمر الخامس عام 1979 صار «تحرير، ديمقراطية، اشتراكية، وحدة عربية»، وهو ما يشير إلى مزيج من المَنزَع الاستقلالي ومن تراجُع المُحدِّد الإيديولوجي في تعريف الحزب. المسألة الديمقراطية صارت مركزية في تعريف الحزب وتمييز سياسته. على أن اسم نشرة الحزب ظلَّ نضال الشعب، وهو اسم نشرة الحزب الشيوعي السوري قبل الانشقاق، ومعها رمز المنجل والمطرقة، وشعار «يا عمال العالم ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا!» وهو الصيغة المعدلة (أو قل «المُحرّفة» لينينياً) للشعار الماركسي «يا عمال العالم اتحدوا!»، وفي ذلك ما يقول إن الحزب كان في آنٍ شيوعياً ويتغير. وقد ظل ينازع على الشرعية الشيوعية لسنوات طويلة بعدها.
لكن ربما بفعل تجربته المُكوِّنة، أي الانشقاق، ورث الحزب الشيوعي- المكتب السياسي استعداداً انشقاقياً قوياً تكرَّرَ عدة مرات، ربما غذّته شخصية رياض الترك الصلبة والمُتصلّبة. بعد هذه المؤتمر بعام اعتُقِلَ أكثر أعضاء الحزب ومنهم الأمين الأول للجنته المركزية، رياض الترك نفسه، وسيتعرض مرة أخرى لتعذيب متوحش، كان رغم ذلك «سَلَطَة» قياساً إلى تعذيبه في فترة الوحدة، على ما قال هو نفسه لمحمد علي الأتاسي ولبنى حداد في فيلم ابن العم. وكان المعتقل الشيوعي الوحيد الذي لم يُحَل إلى محكمة أمن الدولة عام 1992، وظل حبيس زنزانة منفردة في فرع التحقيق العسكري حتى خروجه من السجن في أيام 1998. كان يوصف بأنه سجين لحساب القصر، أي لحافظ الأسد شخصياً. وقد أُفرِجَ عنه بتدخل من الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما زار حافظ الأسد باريس، واستطاعت جهات حقوقية وسياسية فرنسية إدخال هذا البند على جدول زيارته. أثناء الزيارة التقى مراسلو صحف فرنسية بحافظ الأسد وسألوه عن رياض الترك، فقال إن هذا طرده رفاقه الشيوعيون من حزبهم، وأن هؤلاء الرفاق داعمون للنظام (ونصف الجملة الثاني صحيح، وبقي صحيحاً بعد أن انشق حزب خالد بكداش وخرج منه حزب آخر يقوده يوسف فيصل نفسه، والحزبان في جبهة النظام الوطنية التقدمية حتى يوم الناس هذا). في المقابلة نفسها أنكر حافظ الأسد أنه يُعِّدُ ابنه بشار لوراثته. كان جميع السوريون يعرفون أن بشار سيكون وريث أبيه. وحده الأب لم يكن يعرف!
وبالمناسبة، سمعتُ من رياض الترك شخصياً أنه التقى حافظ الأسد مرة واحدة عام 1974، وكان ممّا قاله له: نحن شببنا عن الطوق! ويقرّ بأن حافظ الأسد رد عليه: لن تشبّوا عن الطوق تماماً حتى تستقلّوا عن موسكو!
عاد رياض الترك فوراً إلى العمل السياسي بعد خروجه من السجن كما يليق بكائن سياسي، وكان يريد إعادة بناء حزبه وتنشيط المعارضة إلى درجة دفعت المرحوم جمال الأتاسي، وكان على رأس التجمّع الوطني الديمقراطي؛ التحالف السياسي المعارض الذي تأسس عام 1979 و«لَبَدَ» منذ 1980، إلى التخوف من اندفاع صديقه الذي كان يقارب السبعين وقتها. بعد عامين تقريباً، وقبل حافظ الأسد بشهر أو أكثر قليلاً، رحل جمال الأتاسي، وجرى تأبينه في صالة سينما فندق الشام، وحضر التأبين مصطفى طلاس، وزير الدفاع المزمن وقتها. رياض الترك لم يتكلم في التأبين. تكلم الناطق باسم التجمع الوطني الديمقراطي حسن عبد العظيم، وشكر «العماد» مصطفى طلاس على حضور الحفل، فخرج رياض من الصالة غاضباً، وهو يتساءل بصوت مسموع: من هذا التافه حتى يُشكَر!
وقت توريث بشار قال رياض الترك في مقابلة معه إنه لن يصوت له، وإن بشار في غير ما حاجة إلى صوته. وفي محاضرته التي تعيد الجمهورية نشرها اليوم، تَقدَّمَ بخطة للمصالحة الوطنية كان يمكن أن تجنب البلد الكثير مما سيجري لاحقاً لولا غرور السلطة الأسدية وانعدام وطنيتها.
عام 2005 عقد الحزب الشيوعي- المكتب السياسي مؤتمراً تغيَّرَ فيه اسمه إلى حزب الشعب الديمقراطي السوري. ربما لم يجرِ نقاش كافٍ من أجل هذا التحوّل، ولعله بفعل ذلك عرض حزب الشعب الديمقراطي ضموراً فكرياً، لا يخفف منه ضمور فكري عام للمعارضة السورية غير الإسلامية (والإسلامية). كان التحول يقتضي بالعكس تنشيطاً أكبر للجبهة الفكرية. في الخامسة والسبعين من العمر، لم يكن رياض الترك هو الأمين الأول للحزب الجديد، لكنه كان عملياً مركز الثقل فيه. وهذا، إلى جانب استعداد انشقاقي مُكوِّن، تسبب في أزمات كان يمكن تجنبها. لقد تجسد في رياض الترك شخصياً الاستمرار السياسي بين الحزب الشيوعي المكتب السياسي وحزب الشعب الديمقراطي ووراثة الأخير للأول، ولم يكن هذا مُنصِفاً له، ولا لرفاق دربه القدامى الذين ابتعد أكثرهم بمرارات متفاوتة، ولا لأي من الحزبين.
قُبيل الثورة قال رياض الترك، بما عُرف عنه من قدرة على التكثيف، إن سورية لا يمكن أن تبقى مملكة للصمت، وحين انطلقت الثورة السورية، كان الرجل الثمانيني فيها ومنها منذ البداية وطوال الوقت.
ويبدو أن مراتب حزب الشعب توسعت في بداية الثورة، لكنه توسع تَحُدُّ منه بنية تنظيمية ونفسية- سياسية متصلبة.
في 7 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2013 اعتقلَ النظام القيادي في حزب الشعب الديمقراطي السورية فائق المير، الذي لا يُعلم مصيره منذ ذلك الحين. في فائق تتكثف جذرية حزب الشعب الديمقراطية وروحه الشعبية وتكوينه التراجيدي المتولد عن اصطدام المثالية بظروف سياسية لا إنسانية، هي التي سبق لرياض الترك أن قضى ما يقتربُ من 18 عاماً في زنزانة منفردة في مُنازعته لها.
برحيل ابن العم، على خلفية سنوات طويلة من التراجيديا السورية، ومن انقسام البلد، ومن عالم ازداد يأساً وتطرفاً على ما تشهد غزة طوال نحو ثلاثة أشهر، يمكن لعبارة «نحن شببنا عن الطوق» أن تكون وعداً بالاستمرار نعطيه لأنفسنا، وإعلان عزم من طرفنا على أن لا تطوينا تحت إبطها أي قوة كانت.