مقدمة

كانت تطلعات الحرية في العالم العربي على وشك أن تتحقق، و«كانت اللقمة في الفم» كما يقول المثل. ومع ذلك، ثمة قوة غامضة قضت على أحلامنا. بدا أن الأمواج انقلبت على مركبة النجاة، وكان الغرق مؤلماً للغاية. يبدو لنا اليوم أن الاستبداد عاد بوصفه النظام القياسي والافتراضي. بدت تلك القوة الغامضة متحالفة مع  المستبدين، إلى درجة أن البعض مال إلى تقديم تفسيرات ميتافيزيقية أو صوفية أو قيامية لها.

لكن العودة إلى التراث قد تفيدنا في تَبصُّر أحوالنا بشكل أفضل، ونعني هنا تراث عصر النهضة الإيطالي الذي ولدت فيه العلوم السياسية كما نعرفها. كتاب مؤرّخ الأفكار النيوزيلندي جون بوكوك اللحظة الميكافيلية يناقش بالتحديد دور الحظ والنصيب في الحياة السياسية. «القوة الغامضة» اسمها فورتونا، إلهة الحظ والفرصة عند الرومان، تَظهر صورتها وهي تمسك دولاب الحظ بيدها، فتُباركنا اليوم وتلعننا غداً بعشوائية تامة. فماذا نفعل؟ هل يمكننا السيطرة عليها، أو على الأقل ترويضها؟

هنا تأتي واحدة من أقدم الإجابات البشرية: الجمهورية، أي كيان سياسي يقوده أشخاص يفرضون الشكل على شخصية فورتونا الفوضوية وعديمة الشكل. إنها محاولة جادة للسيطرة على المصير الجماعي بعيداً عن الحظّ والتعسّف، ولعيش حياة تضمنُ أكبر قدر ممكن من حرية الاختيار. إنها دراسةٌ لـ «فورتونا» تلك، وسعيٌ لإيجاد طرق لترويضها بشكل جماعي. صندوق الأدوات الجمهوري واسع ومتنوع، ويشمل تنمية سماتٍ شخصية معينة قادرة على لجم فورتونا قد تُسمَّى مجتمعة «الفضائل المدنية»، و«الوعي الدستوري» أي إدراك الدور الكبير للقانون في تشكيل المجتمعات ، و«الرأسمال الاجتماعي» لتعزيز الثقة والروابط الجماعية بين الناس، والتناغم بين الأعراف الاجتماعية وسلوك الدولة، والاستثمار في المساحات والباحات العامة والمدنية، وإقامة توازن بين الواجبات والحقوق.

يمكن تلخيص الجمهورية بأنها «الكيان السياسي الذي يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الحرية». بكلمات أخرى، لا تعني الجمهورية تعظيم السعادة، ولا العدالة، ولا المساواة، ولا الثروة .. كما ترى النظريات النفعية الأخرى، بل إنّ المنفعة التي يحاول الجمهوريون تعظيمها هي الحرية، وينظر الجمهوريون إلى بقية الأمور على أنها آثار جانبية طبيعية وناتجة عن تطبيق هذا النموذج.

من المفكر الروماني القديم شيشرون (106 ق.م – 43 ق.م)، إلى مفكر عصر النهضة الأبرز مكيافيلي (1469-1527)، إلى فيلسوف عصر التنوير الفرنسي مونتسكيو (1689-1755)، لعبَ التيار الفكري الجمهوري دوراً أساسياً في مدّ السياسيّين المُصلحين بالأفكار والإجراءات. وبعد ركود طويل خلال القرنين الماضيين، قام كل من جون بوكوك (1924-2023) والبريطاني كوينتين سكينر (1940)، وصديقنا لهذا اليوم الأيرلندي فيليب بيتيت (1945) بإحياء هذا التيار ضمن حركة جديدة عُرِفَت في العلوم السياسية المعاصرة باسم الجمهورانية المحدّثة. أدناه مختصر لمقابلة طويلة مع فيليب بيتيت. 

بيتيت هو فيلسوف ومنظّر سياسي وأحد مجدّدي الفكر الجمهوري المعاصر. شغلَ منصب أستاذ في قسم الفلسفة والشؤون العامة في جامعة برينستون في الولايات المتحدة، ونشر العديد من المقالات والكتب حول مواضيع الحرية والديمقراطية ودور المؤسسات السياسية. يُعتبَر كتابه الجمهورانية: نظرية للحرية والحكومة مرجعاً أساسياً في الفكر الجمهوري المعاصر. تناولنا في المقابلة عدة مسائل، منها رأي فيليب بالربيع العربي، والتجربة التركية، ومفهومه الخاص عن الجمهورانية. كما تطرّقنا إلى أسئلة نظرية حول القواعد الفلسفية للجمهورية، ودور الأفراد والدولة والدين في الجمهورية. ولأنها امتدت لساعتين ونصف الساعة، فقد أعدنا كتابة وتلخيص النقط التي طرحها، مع تصرُّف في ترتيب النص المكتوب لربط الأفكار المتعلقة ببعضها.

ويمكن مشاهدة المقابلة الكاملة (بالإنكليزية) من خلال هذا الفيديو:

 

الحرية هي عدم الهيمنة وليس عدم التدخّل

الحرية أهم قيمة سياسية على الإطلاق. من هنا ينطلق فيليب بيتيت في فلسفته السياسية. وهو ما قد يُستغرَب قليلاً من فيلسوف يساري، في عصر أصبح التنظير حول الحرية من اختصاص اليمين المحافظ.

لا تكون الحرية بمجرد عدم الخضوع لتدخُّل الآخرين، بل بعدم الخضوع لقدرة الآخرين على التدخُّل بك من الأساس. فمجرّد قدرة سلطة على التدخُّل بك، حتى وإن لم تتدخَّل، هذا يعني أنك بلا حرية. لست حراً عندما يكون هناك شخص صاحب سلطة ويقرّر ألا يتدخَّل بك – لنقل لأنه يحبك، أو لأنك نجحت في تَملّقه وتحييد شره. تكون حراً حقاً عندما تكون محمياً وآمناً من تدخلات الآخرين.

يصطلح دعاة الفكرة الجمهورية على تعريف هذه الحرية بوصفها «غياب الهيمنة».

هذا يجعل بيتيت من أنصار الفكرة السلبية للحرية، أي الفكرة التي ترى أن الحرية هي غياب شيء ما. يتناقض هذا مع التصور الإيجابي للحرية، أي التصور القائل بأن الحرية هي تمكين الأفراد من أجل تحقيق مآربهم، وأيضاً مع بعض التصورات السلبية المنافسة، أي الحرية بمعنى «غياب التدخّل»، وقد ارتبط المعنى الأخير بالتيار الليبرالي.

ومن الأمثلة التي يستشهد بها فيليب مسرحية مشهورة لهنريك إبسن تدعى بيت الدمية، وهي تحكي عن زوج  اسمه تورفالد يعمل موظفاً في بنك في النرويج، وزوجته اسمها نورا. وبحكم القانون، يملك تورفالد كل القوة، يمكنه أن يأمر ويفرض ما تلبسه زوجته، وما إذا كانت ستذهب إلى المسرح أم لا، ومن ستلتقي، وما هي الكنيسة التي ستذهب إليها. هي فعلياً عبد له، حسب القانون. لكن تورفالد يحب نورا، وفي حين أنه يهيمن عليها لأنه يملك سلطة قانونية عليها، إلا أنه لا يمارس هذه السلطة. بل إنه يتمنى لو لم يكن يملك هذه السلطة، وهو يمنح نورا حرية التصرف كما تريد. وبالتالي فإن نورا لا تخضع للتدخُّل، أي هي من الناحية الليبرالية حرة، لكنها بالطبع تخضع للهيمنة، أي لإمكانية التعسّف، وهي من الناحية الجمهورية ليست حرة.

النزعة الجمهورية جزءٌ من طبيعة بشرية

يقول بيتيت أن إرث الفكر الجمهوري كبير وما يزال التأريخُ له جارياً. وصلت الجمهورانية ذروتها في نهايات القرن الثامن عشر، مع الثورتين الأميركية (1765-1783) والفرنسية (1789-1799). وقد كانت الأميركية بالذات ثورة جمهورية بعمق، حيث اعترض الأميركيون أساساً على فرض البرلمان الاستعماري البريطاني ضرائب عليهم. لم تكن الضرائب هذه ثقيلة أو مُضنية، لكن مجرد حضور سلطة من وراء البحار وقدرتها على فرض ضرائب عليهم – حتى آخر قرش يملكونه، إن شاءت – كان كافياً ليرى فيه الأميركيون حرماناً من الحرية. والمحزن أن هذا الفكر أخذ ينحسر بعد هاتين الثورتين مباشرة لمصلحة تيار فكري آخر يسمى اليوم «الليبرالية الكلاسيكية»، والتي ما لبثت أن غلبت النزعةَ الجمهورية.

يهتم فيليب بالحامل الطبيعي للقضية الجمهورية. فهو يبتعد هنا عن «الطليعة» اليسارية التي تقود المجتمع نحو الخلاص، أو عن النخبة الفكرية المتنورة القادرة على حل المشاكل وتحقيق الأهداف. يرى أن الجمهورية حالة شعبية كاملة، بل هي بديهة بيولوجية حول النوع البشري بغض النظر عن الثقافة أو العرق أو الدين أو الجغرافيا. فالمُشترَك بين البشر جميعاً رغبتهم بالاختيار ضمن مدى الخيارات التي تسمح لهم بالتمتع بالسيادة على خياراتهم. في عمق نفوسنا، وبشكل عابر للثقافات، نشعر بقلق وجفلة من فكرة حضور أشخاص فوق رؤوسنا يظنون أنهم يملكون الحق بتحديد أفعالنا وإخبارنا بما يجب علينا فعله وعدم فعله في حياتنا الشخصية. هذا هو الحامل الطبيعي الذي يجب التأكيد عليه.

بسؤاله أكثر عن تصميمه على التعريف السلبي للحرية، قال بيتيت إنَّ كلَّ ما يمكن للمجتمع أن يعطينا إياه كأفراد – من خلال العادات والقوانين الموجود فيه – هو الحماية، أي الأمان من عدوان الآخرين، وبالتالي مساحة شخصية نحتلها دون أن نختنق فيها بضغوط فوقية. بهذا الشكل، لكل واحد منا مساحة شخصية تُمكِّننا من التعاون والتقارب من موقع قوة. لكن في الوقت ذاته، علينا كأفراد – لا كجماعات – استخدام غياب الهيمنة المُعطى لنا لتحقيق أهدافنا الخاصة والتمتع بحرياتنا الشخصية. يرى بيتيت أن تحديات مثل محاربة الإدمان أو الارتقاء لقيم الإخلاص والزمالة والصداقة هي جوانب مرغوبة لحرية إيجابية فعلاً، لكنها تبقى إنجازات شخصية. ما يهتم به بيتيت هو التحديات الجماعية المتعلقة بالقانون والتكوين السياسي، والإجابة على هذه التحديات هي الحرص على أن يملك كل الأفراد كفايتهم من الحماية والأمان حتى يُتاح لكل منهم السعي لتحقيق حريته الإيجابية بشخصه. كما أن إبقاء المُثُل السياسية والاجتماعية بصيغة سالبة بهذا الشكل يقضي على حجة الحكومات بالتدخل في الحياة الشخصية للفرد. ما يستثنيه بيتيت من منطق «رفض الهيمنة» البحت هو أمورٌ مثل التعليم الإلزامي للأطفال، بشرط ألا يكون تلقيناً أو أدلجة، نظراً لكونه تسليحاً للفرد في وجه الهيمنة.

حاضرَ بيتيت في مختلف جامعات ومؤتمرات العالم، شرقاً وغرباً، ووجد الجميع يتفقون عليه في أهمية امتلاك الفرد لمساحة شخصية، يبقى فيها مُتفرِّداً بذاته، ويدرك أنها محمية بالقانون – وفي حالات أفضل، بالأعراف الاجتماعية أيضاً.

ثمن الحرية هو اليقظة الأبدية

كي يكتمل النموذج الجمهوري من وجهة نظر بيتيت، يجب أن تُصمَّم الحكومة بحيث يكون الشعب هو من يدفعها للعمل بشكل أفضل، أي أن وجود توتّر بين المشيئة الحكومية المتعسّفة ومطلب غياب الهيمنة على الأفراد يتطلّب أن يكون كلٌّ منا مواطناً فاعلاً يُبقي عينيه على الحكومة: سواءً بالانضمام إلى مؤسسة طوعية أو غير ربحية، أو لعب دور في نشر الأفكار، أو تحدي ومعارضة الحكومة بالأمور التي تستحق المعارضة، إلخ. أي على المواطن العادي أن يكون نشيطاً من أجل تأمين حريته.

على سبيل المثال، يُعاني العمال – حتى في الديمقراطيات المتقدمة – من اعتباط وتعسُّف في المعاملة. يرى بيتيت أنه، من أجل أن يتمتع الناس بـ«غياب الهيمنة» في مكان العمل، يجب أن يحق للموظفين المطرودين أن يمثلوا أمام لجنة تحكيم مستقلة في جلسة استماع. وقد تكون لجنة التحكيم مؤلفة من زملاء عمل ومدراء مختلفين، بحيث يمكن تحدي قرار رب العمل في طرد المطرودين إذا كان تعسفياً. ربما هم يستحقون الطرد، ومن الممكن طردهم تحت أي ظرف، لكن لا يجب على أي رب عمل أن يطردهم كما يريد بفرقعة أصابعه. كما لا يجب القبول ببعض البنود التقييدية في عقد العمل، مثل منع الانتقال إلى عمل آخر في القطاع نفسه مثلاً بعد مغادرة الوظيفة. وليس من الواقعي ترك الموضوع لطيبة قلب المدير. لذا من المهم جداً في أي ديمقراطية أن يُشكِّلَ العمال نقاباتهم، وأن يمتلكوا قوةً تُمكِّنهم من مناقشة أرباب عملهم وبناء ظروف جيدة للعاملين.

مطالب كهذه ستتغلغلُ في جمهور الناخبين، ثم ستؤثر على قرارات المحاكم، وتشكّل عدة مصادر ضغط على الحكومة ستدفعها لاعتناقها في نهاية المطاف، بما ينتهي إلى تثبيت الحقوق تحت ظلّ القانون.

يرى بيتيت أن ميل الحاكم للفساد هو من قوانين الطبيعة، بيد أن القانون الآخر يقول إن اليقظة هي سبيل النجاة من افتراس الحاكم الفاسد. من أراد أن يتمتع بالحرية، لا يجب أن يجلس مرتاحاً وينتظرها لتأتي إليه، فهي لن تأتي إليه. عليه أن يكون نشطاً وأن يلعب دوراً سياسياً ومدنياً من النوع الذي سيُؤمِّنُ الحرية. ولأن الناس تخاف المضي في هذا الطريق فرادى، فهم يحتاجون دوماً إلى «مجتمع» من الراغبين بالعمل معاً. لذلك فعلى المواطنين أن يسلكوا سلوكاً عمومياً لكي يتمتعوا بحريات خصوصية.

يعكس هذا الحكمة الجمهورية الكلاسيكية: «ثمن الحرية هو اليقظة الأبدية»، أي اليقظة في المساحات العامة والاستعداد للشروع بأفعال تتحدى الحكومة وانتقادها وتسليط الضوء عليها عندما تفشل بواجباتها. تتناظر هذه الحكمة مع صيغة سلبية لها: «كل سلطة مفسدة»، وعلى الصيغتان أن يُقرأا مع بعضهما.

الفصل بين السلطات في الدستور المختلط

«كل سلطة مفسدة»؛ هذا هو التنبيه الأقدم في الإرث الجمهوري.

يعود بيتيت بالسياسة إلى فهمها الكلاسيكي الأول، أي الجمهوري الروماني. وهو يتبنى الفكرة الجمهورية المحدّثة، أو ما يمكن تسميته «الجمهورانية الجديدة». 

سألناه عن التجربة التركية. وقد سلّمَ بأن تركيا ديمقراطية فعلاً، لكنه يُبدي قلقه من تقديم الديمقراطية التركية لقوة مركزية تسيطر عليها جماعة معينة أو فرد معين، أي الحزب أو الرئيس القوي. وهو فكرة حاضرة منذ أكثر من 2000 سنة في روما. لهذا لم تسمح الجمهورية الرومانية لشخص واحد فقط أن يملك السلطة أو يتفرّد بالحكم، بل جرى فصل واضح بين مجلس الشيوخ، الذي تتركز فيه السلطة التشريعية، ومجالس العوام، التي ضمت مواطنين رومانيين عاديين. كما كانت السلطة تتغير سنوياً، وعلى كامل مستويات الهرمية الوظيفية، وصولاً إلى القنصل الروماني وهو صاحب السلطة التنفيذية العليا التي تضاهي اليوم رئيس الدولة.

في المرحلة الجمهورية كان هناك دوماً قُنصلان في روما يضبطان ويُوازنان بعضهما. السعي لتحقيق مثل هذا التوازن سمةٌ طاغية في الإرث الجمهوراني، وهو يقتضي الحرص على عدم تَركُّز السلطة في يد شخص واحد أو جماعة واحدة، وكذلك إيجاد ضوابط وتوازنات داخلية على الدوام، وأخيراً تفعيل ديمقراطية من النوع الذي يُعطي الناس صوتاً ورأياً حقيقياً ومؤثراً بشأن ما تفعله الحكومة.

لهذا يعبر فيليب عن خيبة أمله من تراجع التجربة الديمقراطية، ليس فقط في تركيا، بل في هنغاريا وروسيا والهند، حيث تخضع كل هذه الدول لسلطة الرجل الواحد والمجموعة المحيطة به. وتحتها تأتي الأجهزة الحكومية، كالمحاكم، لتخضع لهذه السلطة بدلاً من ضبط تسلطها وقطع الطريق عليها. وتَحتهُما تعمل الأجهزة غير الحكومية، التي يتم تثبيطها واتهامها بالتعامل مع الأجانب بدلاً من احتضانها بوصفها جزءاً من الشعب.

هذه الأجهزة غير الحكومية، والتي يسميها بيتيت مجموعات المصلحة العامة، لها أهمية حيوية، فهي التي تُراقب ما يحصل في الحكومة، وهي التي تضمن إذاعة الأخبار والمعلومات المهمة، وتعمل على تحدي سلوك الفئة الحاكمة بما يضمن نزاهتها وانضباطها. يرى فيليب وجوب موازنة السلطة التنفيذية بمعارضة برلمانية تشريعية، مع وجود مفتش عام، ومدقق عام، ومكتب إحصاء مستقلّ يُصدر معلومات موضوعية لمُقارنتها بالمعلومات التي تفرضها وتتحكم بها السلطة.

إن الديمقراطية تعني، في الجوهر، وجود مراكز عديدة للسلطة، وأقنية عديدة للتأثير على الحكام. يسمي الجمهورانيون هذا النظام «الدستور المختلط»، أي خليطاً من مراكز السلطة التي تضبط وتوازن بعضها، وتنجح في عكس الرأي العام أمام أجهزة الحكومة دون الحاجة إلى حزب واحد أو شخص واحد في السلطة. الدستور المختلط مُصمَّم خصيصاً لحماية الناس أمام هيمنة المؤسسات العامة، أي هيمنة المتنفّذين القادرين على سنّ القوانين والسياسات الداخلية والدولية التي سيخضع الشعب لها.

وبالعودة إلى الحرية، تكمن أهمية الدستور المختلط في حماية الشعب من حرية التصرف واليد المطلقة، أي «القوة التعسّفية» التي تمارسها الشخصيات الحكومية متى استطاعت.

امتلاكٌ دائمٌ للكلام لمنع الطغيان

لدى سؤاله حول النسوية، وضعف الصوت النسوي في الأوساط الجمهورانية، لا يرى بيتيت شرخاً كبيراً ومفتوحاً بين الفكرتين الجمهورية والنسوية. بل دائماً ما وجد تلاقياً. النسويات «جمهوريات مجهولات»، بالنسبة لبيتيت، وهو يعتقد أن تحقيق الأهداف الجمهورية أهم من ادّعاء الانتماء الجمهوري، فلا أهمية لما يُلوّح المرء به من رايات انتماء.

من أمثلة التلاقي المفكرة البريطانية ماري وولستونكرافت (1759-1797)، والتي ركّز معاصروها في القرن الثامن عشر على حياتها الشخصية وعلاقاتها أكثر مما على كتاباتها، مما أبقاها مغمورة لوقت طويل. أما الآن فقد عادت كتاباتها عن قضايا النساء وحقوقهن إلى الواجهة مؤخراً، وصارت تُطبَع وتُدرَس من جديد. ومن الواضح لنا اليوم أن ماري تستخدم الأفكار الجمهورية الموجودة في عصرها من أجل دعم المرأة، وفكرتها كانت أن النساء – كالرجال – لا يجب أن يقبلنَ العيش تحت إرادات الآخرين التعسفية، مثل الزوج أو الأب أو أي شخص آخر. بل يجب أن يَكُنّ مواطنات متساويات في المساحات العامة.

يذكر فيليب مثالاً آخر من التاريخ، من بلده الأم أيرلندا. فقد انخرط الشعب الأيرلندي في ثورة جمهورية في نهايات القرن الثامن عشر، بالتزامن مع الثورة الفرنسية، وفي وجه الاستعمار البريطاني. فشلت تلك الثورة ودخلت أيرلندا قرناً مظلماً ومليئاً بالظلم، وعانت ما عانته من مجاعات وتفقير ومصادرة للأراضي والأملاك وغيرها. لربما كان أهم أسباب الفشل هو التجهيل الذي عانى منه الأيرلنديون. وبالرغم من الصورة القاتمة، بقي الدرس حاضراً كأمل. والدرس هو أن أي اقتصاد، ومهما كانت الحكومة مستبدة، بحاجة لمستوى أساسي من التعليم، أي قدرة عامة على القراءة والكتابة، وهو ما سيعني في النهاية تشجيع التواصل داخل الشعب عبر وسائل الطباعة والنشر والجرائد وتكنولوجيات الإعلام المختلفة. كانت أيرلندا في القرن الثامن عشر تفتقر لأي منتديات أو ملتقيات تسمح بنشوء شبكات تواصل وتبادل أفكار، لذلك بقيت لفترات متطاولة في عصرها المظلم.

إن وجود منتديات وملتقيات يعني حضور احتمالية دائمة لتحوُّل الأفكار إلى همسات معارضة في الخلفية، وصولاً إلى لحظة أو فرصة تقفز فيها تلك الأفكار إلى المقدمة وتبشّر بالتغيير. الربيع العربي كان إشارة لتلك الاحتمالية. لربما حدث بطريقة رومانسية وبطيبة خاطر، بدلاً من التفكير في التدرُّج والتراكم وتثبيت المكتسبات خطوة خطوة. لم تكن هناك فكرة محددة حول التحكم الديمقراطي للحكومة وكيفية تحقيقه، وعلى الأغلب كان هناك فكرة وحيدة فقط: كل ما تحتاجه هو الانتخابات. هذه هي النقطة التي اقتنصها ولعب عليها الشعبويون. لذلك يرى فيليب أن التركيز يجب أن ينصب على الأمور الأخرى التي تحتاجها الديمقراطية، كي لا تصبح ألعوبة: أمور مثل حكم القانون، والحماية ضد الفساد والمحسوبية، وفصل السلطات، ومشاركة السلطة ضمن دستور مختلط، وحضور صحافة حرة، ومصادر معلومات مستقلة. الافتراض بأن الحرية ستأتي بين ليلة وضحاها بعد الانتخابات كان افتراضاً خاطئاً ومُكلِفاً.

يرى فيليب أيضاً أن هناك نزعتين طاغيتين تُهدّدان الجمهوريات.

الأولى هي الشعبوية، والتي تختزل الديمقراطية بالانتخابات، وتدعو لوضع شخص واحد فقط على رأس السلطة ليمثل الشعب. وهذا خطير لأنه يُحتّم الهيمنة، أي يُقوِّضُ الحرية.

أما النزعة الثانية فهي النيوليبرالية، والتي تقول بأن كل ما نحتاجه في الوضع المثالي هو غياب كل تدخُّل، وبغض النظر عن القوة المُنفّذة للتدخُّل. فإن قلنا مثلاً إنَّ هناك سوقاً حرة، وإنَّ الناس يوقعون بإرادتهم على عقود توظيف وعقود خدمات، فإن كل شيء يحصل بعدها بين الموظف ورب العمل، أو بين مقدم الخدمة ومتلقيها، مقبول كجزء من العقد المتفق عليه، حتى لو كان عقد استعباد فعلياً. وهذا ما لا يقبله أي جمهوري.

الحرية العفوية والتغيير البطيء بعد الربيع العربي

كان الربيع العربي لحظة أمل كبيرة لبيتيت وأصدقائه، لكنه يعترف أن النتائج كانت مأساوية بالنسبة لكثيرين. ما يدعوه للمواساة هو أنها ذكرى حيّة لدى الناس، ستجعلهم يدركون أن بإمكانهم تغيير الأحوال، وأن الحياة ليست متصلّدة كالإسمنت، وأن الأخذ بزمام الأمور مُتاح في لحظات معينة. الربيع العربي درس مهم وسيبقى مهماً كتربة خصبة للأفكار، رغم أنه لم يأت بالتغييرات المُتوقّعة منه بين يوم وليلة. فقد أفسح المجال لكثير من الأفكار لتخترق المنطقة. وهو يؤكد من تجربته الشخصية أن بعض الشباب من الشرق الأوسط صاروا أكثر انفتاحاً على تصوّرات جديدة حول إعادة تنظيم مجتمعاتهم، وهم أميلُ إلى التشكيك بحقوق المتنفذين الحكوميين الذين يتمسكون بالسلطة دون الخضوع لطلبات الشعوب، كما أنهم يعتقدون ببديهية تداول السلطة وانبثاقها عن الانتخابات.

نحن جميعاً نريد غياب الهيمنة من حياتنا، من خصوصياتنا وعمومياتنا، والأساليب التي تُمكِّننا من الوصول إلى هذا النوع من الحرية هي غالباً التي ينشدها اليسار. بيتيت هنا لا يتحدث عن ثورة، بل عن التراكمية والتدريج المُنتظَم والمُستدام، فهذا الخط أقل دموية وأكثر استقراراً. هو يعترف بأنه معتدل في هذه النقطة، لكنه يقبل ببعض الاستثناءات الحذرة. فأحياناً تكون الثورة هي الطريقة الوحيدة، والتي ستكون كلفتها مع الأسف الكثير من الأرواح.

المشكلة التي تعاني منها الانتفاضات الشعبية العفوية والفجائية هي أنّه عندما تنحسر المظاهرات والحراكات السلمية، كما يحدث دائماً، ينفتح المجال للقلّة القليلة التي تملك سلاحاً ليصبحوا أصحاب القوة الحقيقية.

التغيير الحقيقي، الذي تنشده رؤية بيتيت، يأتي بالتقادم والتراكم، بنمو التنظيمات الأهلية قبل كل شيء، أي بنمو المؤسسات غير الربحية والتجمعات المدنية والطوعية المختلفة. قد تنمو هذه المؤسسات بشكل غير قانوني في البداية، وقد تكافح لاكتساب الاعتراف والاعتبار لاحقاً، وقد تحتاج إلى العمل على نشر أفكارها وتصوراتها. لكن هذه المؤسسات هي التي تبني القوة، وفي الوضع المثالي، أي في الديمقراطية، تبدأ بكسب موطئ القدم في السياسة، وتبدأ بالظهور كمُعارَضة ذات مصداقية. هذا النوع من التغيير هو الذي يفتح آفاق الاستقرار في المكاسب التي تَنتج عن التغيير.

الشرعية الانتخابية لا تكفي دون سجال دائم

يُذكّرنا فيليب بيتيت أن الديمقراطية الأولى، أي كما عرفتها أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، كانت تعني امتلاك أشخاص عاديين حصة معتبرة في السلطة، بحيث تكون الغلبة بين المتنفذين في الحكومة والعاديين في الشارع لمصلحة الأخيرين، وبما يمنع خضوع أحد لأحد. لم يؤمن اليونانيون بالانتخابات بذاتها، بل – يذكّرنا بيتيت – هم لم يعرفوا انتخابات تستحق الذكر.

تبدو الانتخابات في عصرنا إجابة مجتزأة عن السؤال الأهم، أي الطريقة التي تجعل الناس العاديين يمتلكون قوة كافية وشعوراً بأنهم ليسوا خاضعين للهيمنة أو للتعسّف الحكومي، أي أن لا تستطيع الحكومة إيذاءهم ولو أرادت. نعم، الانتخابات جزء مهم من الديمقراطية وأحد الضوابط التي يخضع لها أصحاب السلطة، بما يُمكِّنُ من تغيير الحاكم عندما لا يرى الشعب أنه يحقق مصالحه. لكن الخطأ الجسيم والشعبوي هو اعتبار أنّ الانتخابات هي كل شيء، ومنتهى الآمال والأحلام، ووسيلة نهائية لمنح الغلبة للشعب وللعاديين.

هذا التفكير يمنح الشعب فرصة يتيمة، في أوقات متباعدة زمنياً، لممارسة سلطتهم على حكامهم خلال موسم الانتخابات، بينما يجب أن تبقى هذه السلطة الشعبية قائمة خلال موسم الانتخابات وخارجه. وهو ما يعني تفعيل مجموعات المصلحة العامة القادرة على مناقشة أداء الحكومة، ومراقبة عملها، وتحدي المواقف التي لا يبدو أنها تصب في المصلحة العامة. فكأن المطلوب هو «سجال مُقونَن» دائم مع الحكومة. لهذا يتحدث فيليب عن العملية السجالية كثاني أهم مؤسسة في الدول الديمقراطية في الإطار الدستوري المختلط، وهي تعني وجود أشخاص قادرين وراغبين في مراقبة ومتابعة الحكومة ومعرفة ما يحصل في أروقتها، ومتجهّزين دائماً لإذاعة الأخبار عندما تذهب الأمور نحو الأسوأ، ومستعدين لإبقاء الحكومة متيقظة وحذرة باستمرار بحيث تبقى قلقة منهم.

ومن هنا فإن هناك شروطاً للديمقراطية والتمكين السياسي الحقيقي:

أولها المعلومات الصحيحة، فالمعلومات قوة، وفي حال غياب المَراجع الموثوقة للأخبار والإعلام المهني والمكاتب الإحصائية المستقلّة والتقارير الاقتصادية الموثوقة والمسؤولين الذين يمكن الاعتماد على كلامهم، يغدو الناس منزوعي السلاح ومكشوفي الظهر وخاضعين كلياً لرحمة الذين في السلطة.

وثانيها الحق في التجمُّع، فهو ما يسمح لهم بإعلان معارضتهم والقيام بسجال علني مع أجهزة السلطة.

ثالثاً، ثمة حاجة للمحاكم المستقلة عن الخط الحكومي، بحيث تُطبِّقُ هذه المحاكم القانون وتُفسّره بدون تحيّز، بما يسمح للناس برفع القضايا على المتنفّذين في السلطة، وتعطيهم المجال للفوز وتحقيق العدالة في حال استطاعوا تقديم حجّة متماسكة.

بهذا تتنوع أقنية الضغط على الحكومة ويتفعّل دور الشعب ومجموعات المصلحة العامة.

القِيَم غير المحسوسة ورأس المال الاجتماعي

شهدت الثورات والتغيرات الجمهورية في التاريخ فئات مختلفة شكلت طيفاً واسعاً: على قطبه الأول هناك جمهورانيون دينيون، بل ومتعصّبون دينياً، مثل قائد الجيش البرلماني البريطاني أوليفر كرومويل (1599-1658)، وفي القطب المقابل هناك جمهورانية لائكية لديها نظرة معادية للدين، كما اشتُهر عن الثورة الفرنسية. بيتيت يرى أن بريطانيا المعاصرة قد تكون من بين التجارب الجمهورية الأكثر إفادة لنا في الشرق الأوسط، أي حيث يحضر إرث ديني قوي ومتنوع. ففي بريطانيا، هناك دين رسمي للدولة وهو تحديداً المسيحية الأنجليكية، ويعني هذا أن على ملك بريطانيا التنازل عن عرشه إن تحوَّلَ إلى مذهب أو دين آخر. لكن بريطانيا تضمن حرية كاملة للممارسة الدينية في ظل القانون، رغم وجود بعض المعارضة من جانب فئات شعبية ضد اليهود أو المسلمين المتدينين. عندما تكون القوانين فعّالة، لن تكون معارضة الأديان مشكلة.

يرى الجمهورانيون، بمن فيهم بيتيت، أن على القوانين أن تأتي بالتناغم مع القيم غير المحسوسة المحلية، أي العادات والتقاليد وأواصر الثقة الموجودة اجتماعياً. في علاقة دينامية معقدة، تؤدي الجمهورية إلى ثقة اجتماعية أعلى، ولكن وجود قاعدة من الثقة أيضاً يؤدي إلى الجمهورية. يستشهد بيتيت بنيكولو مكيافيلي، المفكر الجمهوري الشهير من عصر النهضة . تحدَّثَ مكيافيلي عن هذه النقطة بالذات، تحديداً في كتابه الفلسفي الأهم نقاشات حول ليفي، حيث يقول إن القانون الجيد يحتاج إلى عادات وأعراف جيدة، والعكس صحيح، وإن الاثنين يتطوران معاً. فمثلاً، إن كانت هناك قوانين جيدة سيُساهم ذلك في توليد عادات جيدة، وإن كان هناك عادات جيدة سيُساهم ذلك في توليد قوانين جيدة.

بالطبع، القانون هنا تفرضه حكومة يتشارك الناس في التحكم بها، وذلك عبر نظامين: نظام انتخابي، ونظام سجالي، وبهذا يملك الناس حصصاً متساوية في هذا النظام تزيد كلما شاركوا أكثر في السجال والانتخاب. يمكنهم كلهم التصويت أو السجال، ويمكنهم محاكمة الحكومة، أو الانضمام إلى مجموعات مصلحة عامة، أو الاطلاع على المعلومات المنشورة حول ما تفعله الحكومة. في هذه المساحة الجمهورية، سيكون الناس ممتنين لما يتمتعون به بفضل القانون، وواعين بأن مصيرهم مرتبط بمصير الآخرين، فهم إن تمتعوا بشيء فهم يتمتعون به بمقدار ما يتمتع به الآخرون حولهم، حيث حرية الفرد مرتبطة بحرية الآخرين. لذلك، إذا شاهدوا شخصاً يتم اعتقاله بشكل تعسفي ويُرمى بالسجن، سيشعرون أنهم مهددون بالشيء نفسه، والدليل هو المعاملة التي يخضع لها هذا الآخر. يمكنهم الشعور بأنهم على أرض صلبة فقط إذا كان من حولهم واثقين من أنهم على أرض صلبة، بعيداً عن الهيمنة العامة والخاصة. هذه الثقافة تعزّز رأس المال الاجتماعي، أي ثقة الناس ببعضهم، ووعيهم بأنهم يعيشون معاً، وكثرة الروابط الناشئة بينهم. فلأن مصائرهم مترابطة، هم لا يعيشون في حالة خوف وشك من بعضهم البعض، مثل خوف أن يكتب الجار تقريراً أمنياً بجاره مثلاً.

المشكلة الأصعب هي عندما تغيب الثقة ويغيب القانون معاً. كيف نبني أرضاً صلبة من الصفر إذن؟ كيف نخلق مستقبلاً جديداً؟

تتحدث التقاليد الجمهورية عن ما يسمى «الفرصة»، أي اللحظة أو المناسبة التي يمكن أن يتنبه لها بعض من يتمتعون بالنباهة والقدرة القيادية. وبالتالي يشخّصونها على أنها لحظة عظيمة ومهمة ولن يأتي مثلها في الجيل الواحد، وهي اللحظة المناسبة للانتقال إلى حالة أفضل رغم الحالة السيئة الحالية. هذه اللحظة الاستثنائية، التي تنجلي فيها فكرة سياسية ما وتتشكل الفرصة الذهبية المواتية لها، تدفع القيادي النبيه إلى حشد العادات والأعراف المحلية التي يمكن تسخيرها في عملية الانتقال. الجواب لسؤالنا الصعب هو: دينامية معقدة تجمع بين القدرة على حشد العادات والأعراف، وامتلاك أهداف محددة وخيّرة، ونشوء فرص تساعد على تحقيق هذه الأهداف.

كابوس الديكتاتورية وكابوس الفوضى

في عالمنا اليوم، تملك الحكومات قوى عظيمة من ناحية معرفة الحياة الشخصية لمواطنيها، وذلك بفضل التجسّس وتوظيف التكنولوجيا الحديثة والتسليح وتَصلٍّب الفئات الحاكمة في الحكم في مختلف أصقاع العالم. في عالم كهذا، قد تغدو الأمور راكدة وساكنة جداً، وقد يغدو التملّص منها صعباً جداً.

هناك حالتان متطرّفتان، كما عودتنا السياسة:

الأولى هي تطرُّف الفوضى، وهي التي كانت تُرعب إيمانويل كانط، حيث كل شخص يعيش لنفسه و«كل مين إيدو لـ ألو». هذا عالمٌ يصبح فيه كل شيء «مسألة حياة أو موت»، ربما بسبب انهيار الحكومة نهائياً، أو بسبب كثرة الفصائل المُقتتلة وأمراء الحرب.

والتطرّف الآخر هو الديكتاتورية الشاملة، حيث هناك مصدر واحد للسلطة لا مجال للتعاطي معه بأي شكل عقلاني.

المعضلة في كلا الحالتين صعوبة التخلص منهما حالما تتحققان. من الصعب جداً الهروب من الفوضى، أي بناء مركز موحد للقيادة، ومن الصعب جداً الهروب من الديكتاتورية، أي تجاوز المقدار العالي من القوة الذي تتمتع به السلطة، سواءً القوة الأمنية والعسكرية والمالية أو القوة المعرفية مثل المعلومات والاستخبارات. ويرفض بيتيت فكرة التدخُّل العسكري الأجنبي بشكل عام، لكنه يذكر معياراً مهماً لتقييم أداء هذا التدخّل، فهو يرى أنه يمكن للتدخّل أن يكون نافعاً في حالة الفوضى كما حصل في كوسوفو، لكنه في حالة الديكتاتورية سيزيد الطين بلة كما حصل في العراق. وفي الحالة الثانية، يفضّل فيليب تجربة قاعدية ومدنية أكثر في سبيل التغيير.

يستشهد فيليب بتجربته مع أصدقائه الأكاديميين الروس، والذين يحاولون التعامل مع الحال التي وصلت إليها روسيا من تسلط وتقييد للحريات. يؤمن هؤلاء أن الحال لن تدوم، لأنهم ذاقوا شيئاً مختلفاً في التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، ولديهم الكثير من الأفكار والتواصل بين المجموعات المعارضة للحكومة. ولربما قد يؤدي هذا الالتقاء المحدود لانتشار الأفكار وتنامي السخط وبالتالي إحداث خرق كبير على مستوى السياسة. يؤكد بيتيت مِراراً على أهمية التواصل، أي المحافظة على شبكة من اللقاءات التي تُمكِّنُ الناس من التجهُّز لاقتناص الفرصة عندما تأتي، والمحافظة على الروح الجماعية حية دوماً.

وثمة دليل أنه بانتقال الدول نحو ديمقراطية حقيقية، أي ديمقراطية بقالب جمهوري تسمح بأقنية عدة لتحكُّم الشعب بالحكومة ومراقبته لها، ستكون احتمالية وقوع حرب أقل. لأن المواطنين العاديين سيملكون تأثيراً جدياً على حكوماتهم، وسيرفضُ معظم المواطنين العاديين الحرب، وفقط أقلية من الناس من سيرغبون بتعريض حياتهم أو حياة أولادهم لخطر الموت على جبهات الحرب. ومن هنا فإن الفكرة الجمهورية تصنع السلام على المدى الطويل.

الرأي العام في وجه الإعلام والإنترنت

ممّا يقلق بيتيت بشكل خاص تبعثُر الاصطلاحات السياسية وعدم انضباط اللغة في عالم اليوم. فمثلاً، كلمة «ليبرالية» في الولايات المتحدة صارت تعكس وجهة نظر اليساريين في مواجهة اليمينيين الذين يرتبط اسمهم بـ«الحزب الجمهوري». وهذا الحزب، بحسب بيتيت، هو أبعد ما يكون عن الفهم الجمهوري للسياسة. لذلك يُروِّجُ بيتيت لاصطلاح «الجمهورانية المحدّثة» (neo-republicanism) تلافياً للخلط بين أفكاره وتيارات مثل الحزب الجمهوري الأميركي.

يرى بيتيت أن مسألة الرأي العام والمساحات العامة ستكون المسألة الأكثر صعوبة في الخمسين سنة المقبلة.

المشكلة أن صعود السوشل ميديا، وانتشار التعبير أو الكلام مكتوم الهوية، يجعل الكلام رخيصاً، وغير مسؤول، ووافراً، وضخماً. وهذا بخلاف الكلام في العصور القديمة التي كان على الناس أن تكافح لامتلاكه فيها. لا أحد اليوم يعرف تماماً مع من يتكلم، ولا يترتب على أحد تحمُّل مسؤولية كلامه وآثاره. ولا يعرف الناس إلى أين يذهبون بحثاً عن المعلومات، فهم لا يستطيعون تقييم كل الآراء في الوقت نفسه نظراً لكثرتها على الإنترنت. لذا نراهم ينتكسون إلى الأصوات التي تشبههم والقريبة من قلوبهم مباشرة، وهكذا تتشكل «غرف الصدى»، أي فقاعات من الآراء التي لا يعرف بعضها بعضاً.

هذا الانقسام في الآراء عبر السوشل ميديا، تعكسه المنصات الإعلامية التقليدية التي أصبحت تستهدف جمهوراً مؤلفاً من شريحة مستقطبة معينة بدلاً من استهداف جمهور عمومي. القلق والخوف الحقيقي الذي يُعبّر عنه فيليب بيتيت هو أن عالم الإعلام يشهد تطوراً يجعل فكرة الرأي العام نفسها، أي الرأي المشترك لدى الجميع والمدعوم بالإرادة السياسية والرغبة في المعرفة، تبدأ بالترقق والانكماش. فقد بات الناس منقسمين إلى «فئات» في حالة «مقطعية» مدفوعة إلى التعارض والتدافع. هذا طبعاً أبرز أسباب صعود دونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهما في كلا الحالتين قراران شعبيان كارثيان.

والطريقة الوحيدة التي يراها بيتيت لحلّ الأزمة، أو على الأقل تلطيف أثرها، هو إدخال مؤسسات وإجراءات أكثر لمراقبة الكتابة على الإنترنت. مثلاً يجب إجبار مواقع الإنترنت على طلب الاسم الحقيقي للمستخدمين، بما يسمح للناس معرفة مع من يتكلمون ويزيل الخفاء عن وجه المتكلم. كما يدعو إلى تقييد الإعجابات إن كانت بلا تعليق أو تفسير معها.

أخيراً، يرى بيتيت في الاتحاد الأوروبي أملاً كبيراً، لأنه على الأقل ينشد قوننة التدخلات التلطيفية في سبيل إبقاء فكرة الرأي العام حية وبخير، فالرأي العام في جوهره من أهم الأفكار الجمهورانية.